قصص القرآن l يونس في بطن الحوت
قصص القرآن - يا أهلَ القرآن - هي جزء من مواعظِ الفرقان، التي أمرَنا الله جلا وعلا أن نوردها القلوب؛
﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].
نقف - إخوة الإيمان - مع نبأٍ من أنباء الغيب، ومدرسةٍ من مدارس النبوة المصطفاة.
مع قصَّة قصيرة من قصص القرآن في حلقاتها، مليئة بعظاتها؛ ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
نقف مع خبر الرسول الكريم، والرجل الصالِح ذي النون، صاحب الحوت، يونس ابن متى - عليه السلام - ارْتضاه ربُّه واجتباه، فخصه بالنبوة، وفوقها الرسالة؛ ﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الصافات: 139].
قال بعض العلماء: لم يُنسبْ نبيٌّ إلى أمِّه إلا عيسى ابن مريم، ويونس ابن متى.
أرسله ربُّه - تعالى - إلى قرية نِينَوى، وهي مدينة بالعِراق، كانت عاصمةً للدولة الآشورية، ولها شهرتُها التاريخيَّة، وهي اليومَ أطلالٌ وآثار، تقع على الضفة اليُسرى لنهر دجْلة.
كان عددُ أهل هذه القرية مائة ألف أو يزيدون، عبدوا الأصنام، وتعلَّقوا بالأموات والخُرافات، فقام فيهم يونس - عليه السلام - مبلغًا رسالة ربه، ومجددًا لمعالِم التوحيد التي اندرستْ، رغَّبهم نوال ربهم إنْ تابوا ووحَّدوا، وأنذرهم عقابَه وبأسه إن كفروا وأشركوا، ولبث فيهم ناصحًا مصلحًا ما شاء الله له أن يلبث.
فما كان موقف قومه إلا الإعراضَ والجفاء، والصد والاستعصاء، ولشدَّة يقينه بدعوته، وعِظَم تشبُّعه بها؛ غضب على قومه وغاضبهم، فخَرج من ديارهم، وقد بَلَغ به الحنقُ منهم مبلغه؛ ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾، فارَقَ يونسُ ابن متى قريتَه نينوى ، قبل أن يُؤذنَ له من ربه.
استعجل يونس ابن متى - عليه السلام - الخروجَ من ديار قومه، وكان يظنُّ أن ربَّه لن يضيِّق عليه بسبب هذا الخروج؛ ﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ [الأنبياء: 87].
مضى العبد الصالح، ميمِّمًا وجهه شطر البحر، وهو لا يدري عن المصير الذي ينتظره، والبلاء الذي يتحيَّنه، وحين وَصَل شاطئ البحر، وَجَد سفينةً قد ضاقتْ بأهلها، فركب مع من ركب؛ ﴿ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [الصافات: 140].
أقلعتْ تلك السفينةُ المتواضعة بأمْر ربِّها، وسارتْ في عُرْض البحر، حتى إذا توسَّطت البحر، تلاطمتْ بها الأمواج، وتقاذفتْها الرِّياح، فاضطربت السفينة ومادتْ، ومالتْ براكبيها وماجتْ، وظنَّ أهلُ السفينة أنه قد أُحيط بهم، وتيقَّنوا أنهم على شفا مَهْلَكة ومتلَفة .
في هذه الحال المفجعة، والساعة المهولة، اجتمع أهلُ السفينة وتشاوروا، ثم قرَّروا: أنه لا بدَّ من التضحية ببعض أفراد السفينة، حتى يخفَّ الحمل عليها؛ لينجوَ من بقي بعد ذلك؛ فهلاك البعض أهون من هلاك الجميع.
واختاروا طريقة عادلة لمن سيكون ضحيةً في البحر، فوضعوا قرعةً بينهم، والكل يرجو ألاَّ يكون هو.
اقترعوا، وسقطت القرعة على النبيِّ الكريم، الذي خرج مغاضبًا، وظنَّ أن ربَّه لن يضيِّق عليه، فأُعيدت القرعة ثانية، فوقعتْ عليه، ثم أعيدت ثالثة، فكان هو هو صاحب القرعة ؛ قال تعالى: ﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴾؛ أي: من المغلوبين في القرعة.
عندها ، لم يكن بُدٌّ من إلقاء النبي الكريم وسطَ لجَّة البحر، وتقدَّم يونس بن متى إلى البحر الهائج، ليستقبل برُوحه هذا المصيرَ المجهول، واحتمالاتِ الهلاك المنتظَرة.
إنَّه مصير ليس له مخرج، إلا من يكشف السوء، ويُفرِّج الكرب - سبحانه وتعالى.
سقط العبد الصالح في وسط البحر، وقد تعالتْ أمواجُه، وأظلم ماؤه؛ من بُعْد قعره، فابتلعه البحر الهائج المائج، ولم ينتظر طويلاً حتى كان الابتلاع الآخر مِن حوت البحر؛ ﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ ؛ أي: أتى فِعلاً يُلام عليه، وهو خروجه بغير إذنِ ربه.
الْتقم الحوت نبيَّ الله يونسَ، ومرَّ النبي الكريم بين فكي الحوت، ثم إلى جوفه، فكانتِ احتمالات الهلكة مضاعفةً متيقَّنة؛ فلا نور هناك ولا هواء، ولا طعام ولا ماء ، إنها – وربِّي - كرباتٌ في كربات، وظلماتٌ في ظلمات.
هنا تذكَّر هذا النبيُّ الصالح أن له ربًّا يسمع النداء، ويغيث الكرب، فهتف واستغاث بكلمات مِن قلبه قبل لسانه؛ إذ نادى وهو مكظوم، ردَّد - عليه الصلاة والسلام -: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87].
إنها كلمة التوحيد والعبودية، والتعظيم والاعتراف؛ لا إله إلا أنت، إفراد وإقرار بالعبودية للواحد القهار؛ فهو - سبحانه - الملِك الحق، لا ربَّ غيرُه، ولا معبود سواه، فأعظم ما يُنادي به العبدُ ربَّه، ويتقرَّب إلى بابه، اعتقادُه واعترافه باستحقاق العبودية لله – سبحانه.
ثم نزَّه العبدُ الصالِح ربَّه، وعظَّمه وقدَّسه، فقال: سبحانك، ثم تواضع لربه، واعترف بخطئه وتقصيره واستعجاله: إني كنت من الظالمين، فاجتمعت في هذه الكلمة المختصَرة أسبابُ إجابة الدعاء؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دعوة ذي النون، إذ دعا وهو في بطن الحوت: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، فإنه لم يَدْعُ بها رجل مسلِم في شيء قط إلا استجاب الله له))؛ رواه الإمام أحمد والترمذي وصحَّحه الألباني.
وبعدَ زفرات التعظيم، ولهجات الاعتراف، والجأر بالدُّعاء والشكاية، كانتْ معية الله، ورحمة الله مع عبْده المكروب الملهوف.
فهذا النِّداء في جوف البحار، سَمِعَه مَن وَسِعَ سمعُه الأصوات، وهذه الحال المكروبة، رآها عالِمُ الخفيات، يعلم ما في البر وما في البحر، وما تسقط مِن ورقة إلا يعلمها، ولا حبَّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
هنا، وبأمرٍ من الله - جل جلالُه - الذي يدبِّر الكون بيْن الكاف والنون، توقَّفتْ عواملُ الهلاك لنبي الله - تعالى - فشاء الله تعالى أن يعيشَ يونس بن متى في بطن الحوت، كما يعيش الجنين في رَحِم أمه.
ومكث يونس - عليه السلام - أمدًا في هذا المكان المظلِم، فقيل: مكث في بطن الحوت أربعين يومًا، وقيل: عشرين يومًا، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: الْتقمه الحوت ضحًى، ولفظه عشاءً، وكلها أقوال واجتهادات لا يعضدها نصٌّ صحيح، لكن - والعلم عند الله - أنَّه مكث في بطن الحوت مدة ليست بالقصيرة، بدليل تغيُّر جسمِه وبدنه، حين خرج من بطن الحوت.
بقي الرجل الصالح في كربته يسبّح ويناجي ويدْعو، فأدركتْه نعمةٌ من ربِّه ورحمة، فلفظه الحوت في مكان قفْرٍ خالٍ من الأشجار؛ ﴿ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ﴾ [القلم: 49].
خرج يونس ابن متى من بطن الحوت يلهج بالحمد والثناء، قد كَتَبَ الله له حياةً جديدة، خرَج من بطن الحوت، وحالُه غير الحال التي دخل عليها، خرَج وقد اعتلَّت صحتُه، وتغيَّر بدنه، ورقَّ جلده؛ ﴿ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 145].
قال ابن مسعود: خرج كهيئة الفَرْخ، ليس عليه ريش.
ثم توالتْ نِعمُ الله ولطفُه على عبده، فأنبَتَ الله عندَه شجرةً من يقطين، شجرة القَرْع، فكان ورقُ تلك الشجرة غطاءً ناعمًا يظلل جسمَه، ويَقيه حرَّ الشمس، وجفافَ الهواء، حتى إذا رجعتْ إليه صحتُه، وعادتْ له عافيته، رجع إلى قومه الذين تركهم مغاضبًا لهم، وعاد يتمِّم مهمَّتَه الأولى، فدعاهم ودعاهم، فآمنوا كلُّهم أجمعون، فكانتْ عودته ودعوته بركةً عليهم ونجاة لهم، وكان أهل نينوى هم الأمَّةَ الوحيدة من أمم الأرض التي آمنتْ بنبيِّها دون أن يتخلَّف أحد منها؛ ﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [الصافات: 147، 148].
وكان إيمانهم ذاك سببًا في كشف العذاب عنهم؛ ﴿ فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [يونس: 98].
فهذه قصة من قصص القران لنبي من انبياء الله مليئة بالعبر والمواعظ كما قال تعالي ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176].
اقرأ ايضا : قصص القرآن l انواع قصص القرآن الكريم وفوائده
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا