قصة بيت من لحم (الجزء الثانى)
فى التدوينة السابقة فى موقع قصص 26 سردنا لكم الجزء الاول من قصة قصيرة بعنوان بيت من لحم
واليكم اليوم الجزء الثانى
النور.
نافذة من نور ساطع.
عيني لا تحتمل . النور قريب. بيني وبينه فقط الشارع. مجرد عرض الشارع غير
العريض . دائرة المئذنة في مستوى
النافذة.. فركت عيني أتطلع.
نظرة واحدة جذبتني كالعاصفة العاتية من قاع الغفوة إلى قمة اليقظة. لا
شيء كان ينبهني إلا استغاثني الأولى . انتباهي هذه المرة انتباه آخر.. انتباه
مرعوب.. أنا أمام شيء مروع.
الغرفة بها سرير خشبي مرتفع .. ماذا غيره هناك؟ لا أعرف.
على السرير ترقد امرأة بيضاء. شاهقة البياض، ممدودة بطولها وقد أحنت
ساقة، ولا شيء عليها سوى قميص نوم لا يكاد يكفي لإخفاء نصفها الأعلى
أول مرة في حياتي أرى - فجأة - هذا الكم الهائل من جسد امراة. أفقت لأجد
نفسي في منتصف السلم هاربة.. هابطة ألهث.. ومن أقصى الرعب اندفعت إلى أقصى الغضب.
أنا في شرك
أنا الذي جاء يطرد من هنا الشيطان، وتضاءلت طموحاته حتى أصبحت مجرد أن
يبعد فقط عن نفسه الشيطان.. وعن أوكاره وتنكراته؟ أجد نفسي هذا الفجر في الشرك..
تماما في الشرك؟ أنا الذي أردت هزيمته في الناس أجري خوفا من أن يهزمني في نفسي؟
ولكن عذري یا شیطان أنك كنت تعرف أين كنت أنا ولم أكن أعلم أنا من أنت،
ولا أين أنت؟. وكم نقشوا على قلوبنا الأخطاء عنك حتى ارتسمت في أذهاننا دائما
رجلا.. بشعة، ولم يفكروا أن يقرنوك بالجمال مرة، مع أنك لا يحلو لك التربص إلا
محاطة بالجمال، وإلا على هيئة ست، وإلا في أكثر الأماكن نعومة وإمتاعأ، وفي أحلى
البسمات، بل أحيانا في النكتة.. في أروعها تنصب الشباك.
عدت.
ما رأيته محوته من ذاكرتي كأن لم يكن في عقلي أطفات نور النافذة، وألغيت
الحجرة والشارع والبيت.. بل الحي كله أنغيته. فلتكن حربا اذن ولتندحر.
یارب!
استنكرت أن أكون قائلها.. ما هكذا تعودتها وتعودتني. بعد التسابيح
الخاشعة فجاة أطلقها حادة مدببة لا نهاية لطولها، تقطع في
ومضة كل ما بين الأرض والسماء لتصل اليه في الملأ الأعلى . من أعماقي
تخرج وإلى السماء تصعد، مستحيلة من شيء أرضي إلى کائن سماوي. أطلقها قوية لتحمل كل
ضعف البشر، كل عجزهم ومحدوديتهم تستغيث بالقادر اللامحدود.
هذه المرة خرجت همسة، لهاثاء مكبلة بالعجز، لا لتصل إلى السماء وإنما
لتهاوى من فوق المئذنة وعلى الأرض تموت.
خائف أنا.. أنا خائفا لا من الشيطان خائف.. من نفسي أخاف؟ من نفسي أجل.
كم مرة ضبطتها من شكوى المحرومات أو الفاسقات تصغي بانتباه واندماج أكثر مما يجب.
كم مرة ضبطت داخل نظرتي شعاعأ من حب استطلاع مرة، ومن تلمظ الجائع الصائم الراغب
في الطعام مرة
یا رب!
أعني .. نعم أنا أعرف.. أحببتك نقيأ كالماء الصافي، وحيدا.. كأنك خلقتني
وحدي. أعرف أني كان لابد أن أمتحن. أعرف أني لو نجحت فسأعرف أني أخيرة بالقبول
جدير.. وسأجعله يا ربي امتحانا صعبا.
لن أهرب . ساضاعف الاغراء .
سأنظر
وسأعاود النظر.
سأرتكب الذنب الأصغر
ليتعاظم انتصاري على الذنب الأكبر . نظرت.
هي الي لي» بالتمام. هي الشيطان كاملا غير منقوص . فالاغراء فيها كامل
غير منقوص. نائمة هي تتقلب... جسدها فائر يغلي، وعلى الفراش وفي دفعات يتدفق. هذا
صدرها. هذا شعرها يسيح وعلى موجات يغطي الصدر، والبطن.. وينحسر، وتتقلب! |
يا رب.
مستغیث، صرخت. لیست استغاثة ارض لملا أعلى، ولا ناطقة بلسان ضعف البشر.
هي استغاثتي أنا. كنت قد بدأت أغرق. أواصل النظر لا عن رغبة في المجابهة وتصعيب
الامتحان، وإنما عن عجز أن أكف عن النظر. قتل الانسان ما أكفره
ما أكفرني حين تصورت أني وحدي أقهر الشيطان. وحدك أنت لا شيء. وحدك أنك
أضعف من دابة ، وبالناس وبالله وبما فيك منه أنت الأقوى.
یا ربا راجية مستسلمة دامعة أطلقتها. الشيطان استولى على بصري وعلى جسد
ولي لي، سمره،
وبكل قواه يجذب ومن بصري يريد أن يخلع روحي من جذورها، احس حقيقة بالجذور
تتخلخل.
لم أكن أعرف أني بهذا الضعف. یا رب!
یا سميعي ولا مجيب سواك . يا مدرك عجزي وأنت القوة . يا مانح العبد
الارادة . يا أنت الذي تعلم ما بي . رحماك .. يا رب.
یا رب!
إن كان بصري قد ضاع فلازلت أمتلك الصوت والحنجرة... بغیر ان اسمع نفسي
استغيث وأترجي. أنا انتهيت.. فقط ألهج بكل قواي أعتصر العمر كله وأطلقه مخلص
صادقة. أرعبتني المفاجأة وأذهلني ما اكتشفته في اللحظة الحاسمة من تفاهة ما كنت
أسميه قوتي . بإيمان أصبح وجها لوجه في قبضة الشيطان، بإدراك أن هذه معركة العمر بها
أوجد أو بها أمحی. انطلقت بصوتي أقاتل.. الصوت سلاحي، والصوت أنا، والصوت كل ما
تبقى في من ذاتي، والصوت أملي الذي لا أمل سواه .. أن أعود أنا.
ولم يعد أذانا ما اقوله. لم يعد الكلام المنغم المحفوظ. كنت استغيث حقيقة
وأعرف أن لا مغيث لي سواه، ومنه وحده ولما أعانيه أطلب الغوث.
یا ربا
هل يرضيك أن نسقط؟ هل يرضيك أن نأثم؟. هل يرضيك أن يتلبسنا الشيطان
ويسود؟ أغثني يا إلهي ! أدركنيا ساعدني ! أنا في الهاوية.. من ينتشلني سواك؟
أكان لا بد با لي لي، أن تظلي تتقلبين حتى ينحسر القميص إلى أعلى، ويتبدى
جسدك تحت وهج الضوء الساطع أبيض يكاد من بياضه يضيء، عارية تماما، ملتوية في
الفراش، ناشرة أطرافه، قابضها؟ أي حجيم كان في داخلكا لا يطفئه عري ولا نجر ولا
برودة الدنيا كلها! |
وكل هذا في النور الساطع . أكان لا بد يا ولي لي» أن تضيئي النور؟!
لم يبدأ
الناس يستيقظون لأن صوته العالي أقلق منامهم.. فلا أحد يذكر أنه تنبه من نومه
المخدر ضجرة من الأذان المرتفع الذي أيقظه من أحلى منامة. الحقيقة كان الواحد منهم
يستيقظ على شعور أن ثمة شيئا جميلا رائعا يحدث حوله ولابد من اليقظة للتمتع به.
كان الصوت قد استحال إلى عطر نفاذ الیف امتلا به جو الحجرة وراح يتسرب إلى أنفه
النائم، وبرقة زائدة يتسلل إلى خياشيمه تسلط ممتعة، يستيقظ من شدة متعته دافئا
ملتاعة عميقة حنونة.. يسري کالموسيقى الهفهافة المعطرة. يبدأ النائم يعتقد أنه
حلم، ولكنه بعد حين يدرك أنه لا يحلم وأنه استيقظ ومع ذلك لا يزال ينتشي بالصوت
الذي يأتيه حقيقة.. لا شك فيها.
یا رب! |
كم مرة قيلت، كم مرة تلونت وتنوعت وطالت.. ورقت! کم من المعاني قيلت فيها
وبها، كم استعطفت، کم استنجدت، کم غضبت، كم امتعضت، كم تدللت، كم دمعت وابتسمت...
کم جاءت وكأنها آخر الأنفاس، وكم جاءت وكأنها أول علامة حياة ، كم صدرت عن طفل وعن
رجل وعن خاطىء وعن مستغفر.. وعن تائب وعن مؤمل وعن يائس وعن معلق بين اليأس
والأمل.
كلمة.. ولكنها أيقظت الحي كله. حتى من لم تفلح في إيقاظه أيقظه من
استيقظ. في أسرتهم وفي أماكن نومهم راحوا يستمعون. ثم وكأنما أصبح للكلمة قوة جذب
استخرجتهم من رقدتهم وغادروا بيوتهم بشعور غريب، يشيع في صدورهم لأول مرة شعور
طازج محير لم يألفوه أبدأ، شعور وكأنهم أصبحوا قرباء جدة من الله وأن الله غير
غاضب وأنه رحيم اليف، شعور يملؤهم على الفور بالسعادة ، إذ في أعقابه يحسون أنهم
وكأنما اكتشفوها للتو يحبون الله ، وأن الله يحبهم وأنه جد قريب لم يبق بينهم
وبينه سوی
خطوة.
وفي الجامع تلاقت الوجوه .. غارقة لا تزال بماء الإفاقة والوضوء. ولأنهم
لم يعتادوا التلاقي في زمن كهذا ومكان كهذا فقد
أحسوا أنهم وكأنما يتعارفون حالا، واليوم فقط يبدؤون. صامتين مذهولين
بالنشوة جلسوا يمتصون بأذانهم رحيق الأذان.. يستعذبونه، يختزنونه في أنفسهم كما
يختزن غذاء الروح ليوم تجوع فيه الروح |
وتحول الجامع إلى مظاهرة. وغادروا مبنى الجامع إلى الخارج اليصيروا إلى
المئذنة والشيخ عبد العال أقرب .. الكلمة تنطلق منه فتكاد بما تحتويه تنير حجب
الظلام. يتطلعون، يتأكدون أن من يؤذن حقيقة من البشر وأنه بالتأكيد نفس الشيخ عبد
العال، فالحق أن ما يسمعونه كان صوتا لا يمت إلى البشر ولا إلى الأرض وإنما هو
قادم مباشرة من السماء.
بل ومن فرط ماسكروا نشوة لم يفطنوا أن الشيخ عبد العال هبط من المئذنة
دون أن يؤدي الأذان الشرعي، شاحبا ممصوصا كمن نزف الحياة .. صوتا ومقاومة هبط.
اندفعوا يحيطونه، بإشارة أوقف الاندفاع. من فوره اتجه إلى القبلة ونوى الصلاة.
أجل. نويت الصلاة . أنا الآن أهل لها؟
أهل لها فقد
انتصرت.. بشائر النصر بدأت حين عدت أمتلك بصري. حين استيقظت الي لي من نومها على
صوتي المدوي المجلجل، وفي الفراش جلست... مبعثرة جلست نفس جلسة أمها على العتبة.
نحوي سددت البصر مدهوشة.. مذهولة .. ثم مستمتعة بدأت ترنو. أعتصر نفسي أنا.. أهرب
منها وأتلوى.. وهي أيضأ تتلوى. أتلوى أنا احتراقا وتمزقة وألمة.. وتتلوى هي جذلا.
حتى قامت تنظر من النافذة، وحينذاك تحولت ببصري واصبح ملكي وعاد الي الوعي، وجدت
نفسي حطام بشر، . بقايا حياة .
رفعت عيني إلى السماء ولم أنطق، فقط ملات بصري بنظرة شکر. أحسست أن شيئا
لي قد حدث .. لم أعد أنا. كان في خزين ایمان قوي ذهب.. قذفت به کله في اتون
المعركة.
منتصرة مبطن. مجرحة. قلت الصلاة بلسم الجراح . استقبلت القبلة ونويت .
***
ظل السجود قائمة ومستمرة حتى ملأت الشمس الحديثة صحن الجامع. نام البعض،
وشخر آخرون، وسرح كل منهم في ملكوته وعالمه، والحجة قائمة وموجودة .. هم في انتظار
تكبيرة الشيخ . فوجئوا مرة بضحك هائل غريب.. خشن... عرفوه للتو. هو معزة الأفيونجي
الذي كثيرا ما تطرده امرأته ويتخذ المسجد منزلا ومقاما . ضحك استمر حتى نفذ كل ما
لدى صاحبه من مخزونه لسنوات طوال مقبلة، وجاء بعده كلام.. كلام فارغ صحيح ولكنه
جاء .. شوفوا الناس المساطيل اللي ساجدة وبتصلي من غير إمام.
منتصرة هبطت.. مجرحا قلت الصلاة بلسم الجراح.. استقبلت القبلة ونويت..
فتحت عيني .. كانت الي لي، في منتصف القبلة نائمة، عارية ، مبعثرة، مفتحة، يتموج
شعرها على جسدها وينحسر، عفوك يا الهي ! فلقد أخفيت عنك الحقيقة.. الشيطان انتصرا
وبينما الجميع ساجدون كالقطيع بعد طول ضلالة، كنت قد تسللت عبر النافذة
الملاصقة للقبلة، وفي لمح البصر كنت أدق غرفة الدور الثاني السطوح في البيت
المقابل. لي لي، وقد لفت نفسها بملاءة السرير تفتح. بابتسامة مرعوبة قلت لها وانا
افك ازرار الكاكولة الأعلى:
. جئت أعلمك الصلاة . انزلقت الملاءة عنها، فضمتها بقوة وهي تستدير
توليني الظهر
وتقول:
. أنا اشتريت الأسطوانة الانجليزي اللي بتعلم الصلاة. لقيتني أفهمها
أكتر. متأسفة .
وأطفأت النور.
أكان لا بد يا دلي لي، أن تضيئي النور؟ |
لمزيد من القصص القصيرة من هنا
للكاتب يوسف أدريس
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا