أصدقائي الأعزاء متابعي موقع قصص 26 يسعدني أن أقدم لكم الفصل الثانى عشر من رواية فى قلبى أنثى عبرية بقلم دكتورة خولة حمدى وهي رواية واقعية إجتماعية ممزوجة بالحب وأيضا تتسم بالكثير من الأحداث والمواقف المتشابكة التي ستنال اعجابك بالتأكيد فتابع معنا.
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل الثانى عشر
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى |
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل الثانى عشر
على الفور سمعت حركة في الداخل وحفيف ثياب، قبل ان يفتح الباب.حدقت في ريما في حيرة وزهول.
لم يكن بإمكانها توقع السبب الذي حدا بالطفلة إلى سجن نفسها في المطبخ في تلك الساعة المتأخرة.
لكن ريما لم تمهلها حتى تفكر وتستنتج، بل رمت نفسها بين احضانها في حركة مفاجئة. ودون سابق إنظار، عادت الدموع لتتخذ مجراها على وجنتيها،
وهي تردد بصوت يقطع نياط القلوب:
- أريد بابا يعقوب... خذيني إلى بابا يعقوب... !أرجوكِ
جلست راشيل في غرفة الانتظار الملحقة بالعيادة وهي في حيرة وقلق.
حين فتحت ريما باب المطبخ وارتمت في حضنها وجدتها ملتهبة، وعرق بارد يتصبب من وجهها.
حاولت إسعافها ببعض مخفضات الحرارة والمقويات، فقد كان شحوبها شديدا ...
ولما رأت أن حالتها لم تتحسن في الصباح، سارعت بإعلام زوجها وأخذا ها إلى العيادة.
خرجت الطبيبة من قسم الفحوصات وفي عينيها نظرة استياء.
هبت إليها راشيل وسألتها في لهفة: - هل هي بخير؟ ،مما تشكو؟
تفرست الطبيبة للحظات في وجهها القلق، ثم القت نظرة عابرة على الرجل الذي كان يتابع الحركة دون أن يبرح مقعده، وقالت في تساؤل:
-هل أنت والدتها؟
هزت را شيل رأسها نافية وقالت بسرعة:
والدتها متوفاة... أنا أرعاها...
في تلك اللحظة خرجت ريما من قاعة الفحوصات وهي تتعثرفي خطواتها من تأثير الحمى.
تنهدت الطبيبة وهي تقول مخاطبة راشيل:
هل من الممكن ان أتحدث إليك على انفراد؟
رددت راشيل بصرها بين ريما والطبيبة، ثم قالت مخاطبة الصغيرة:
انتظريني هنا يا عزيزتي... سأعود حالا...
لم تجب ريما، لكن عينيها اتجهتا تلقائيا إلى الرجل الجالس في قاعة الانتظار، وقد بدا عليه التوتر.
كان بدوره يطالعها في ارتباك ظاهر.
اتخذت مقعدا بعيدا عنه وأطرقت برأسها لتتقي نظراته، وهي تحمد الله لأنهما لم يكونا بمفردهما في القاعة.
فقد كان هناك عدد قليل من المرضى الذين ينتظرون دورهم للكشف.
كانت لا تزال تحس بالدوار، وإن كانت قد انتبهت قليلا بعد أن تناولت الدواء
الذي ساعدها حتى تتمالك نفسها.
-ماذا قالت الطبيبة؟
قال ذلك في اضطراب ما إن رأى زوجته تخرج من مكتب الفحوصات بوجه مكفهر.
نظرت إليه راشيل في حزن باد، وقد تجمعت العبرات في عينيها، ثم قالت بصوت مرتجف من التأثر:
حالتها النفسية متعبة جدا، الطبيبة تقول إنها تعرضت للضرب الشديد...
انسحبت الدماء من وجهه، وأيقن أن أمره قد كشف، لكنه قال مراوغا:
الفتاة تكذب بالتأكيد!، من ذا الذي قد يتعرض لها بسوء؟، إنها لا تغادر المنزل بتاتا!
ابتلعت را شيل لعابها بصعوبة وهي تتابع وعيناها تغوصان في عينيه، تحاول سبر أغواره: - الطبيبة وجدت آثارا حديثة لضرب موجع... جروح وإصابات!
رد في انفعال ونفاد صبر: - ما هذا الهراء
نكست راشيل رأسها وسارت في اتجاه ريما أخذت كفها بين يديها وأعادتها إلى السيارة.
لم تبرح مخيلتها صورته وهويضرب باب غرفتها يكاد يحطمه. رأت فيه وحشا حقيقي كانت وثقة من أنه هو من اعتدى عليها بالضرب.
وهو يدرك جيدا أنها تعلم الآن.
لكن ما الفائدة؟ لا يمكنها ان تواجهه او تعاتبه. هو الرجل... وهو دائما على حق حتى إن كان يعتدي بالعنف
الشديد على صبية يتيمة لا حول لها ولا قوة.
جلس جاكوب إلى مكتبه في معمل الخياطة الصغير ، وهو يعيد الحسابات للمرة الثانية.
عقد حاجبيه في استغراب.
أرباح هذا الشهر فاقت توقعاته وتجاوزت المستوا المعتاد بكثير!، ربما لأنه أصبح يقضي معظم وقته في المعمل، ويباشر العمل بنفسه، فسرى حماسه في نفوس العاملات حتى ضاعفن جهودهن.
تنهد وهو يغلق الدفتر ويعيده إلى الدرج.
منذ أسابيع لم يعد يطيق البقاء في المنزل.
تانيا والأطفال عادوا إليه. لكن هو كان قد فقد بهجة حياته وروحها.
،فقد ابنته الأولى التي كانت تملأ فراغه وتشاركه احلى أوقاته.
أصبح أكثر كأبة منذ رحيلها. المنزل لم يعد سوى فندق، يعود إليه في المساء لتناول وجبة سريعة صامتة، ثم يخلد إلى النوم من شدة التعب.
نظرات تانيا الجامدة تتفحصه في كل مرة، ثم تشيح عنه متجاهلة احتجاجه الصامت
كأنها تعلن أنه لا مجال إلى إعادة ريما.
هو نفسه لم يكن يطمع أو يفكر في إعادتها.
ريما التي باتت تسكن خياله هي ريما الطفلة. ريما الصغيرة التي تستقبله بذراعين مفتوحين وتتعلق بعنقه.
تعانقه وتركب على ظهره، ثم تصاحبه في جولة عبر السوق.
تلك هي ريما التي يتمنى عودتها. ، اما الأخرى التي تتغطى عنه وتلف عباءتها حولها حين يقترب منها...
فلا يمكنه أن يحتمل وجودها إلى جانبه.
انتبه من افكاره على صوت طرقات على باب المكتب. رفع رأسه فرأى إحدى العاملات تقف أمامه.
سيدي... هناك كمية من ملابس الأطفال لم يتم تسليمها. ،صاحب المحل اعتذر وأعاد البضاعة...
تطلع إليها في قلق وهو يهب واقفا:
هل من عيب في بضاعتنا؟
لا يا سيدي...
لم يطل تفكير جاكوب كثيرا، بل قال على الفور وقد سنحت نظراته إلى الفراغ، ووجه ريما البريء ماثل بين يديه;
- خذيها ووزعيها على الأطفال المحتاجين والعائلات الفقيرة... العودة المدرسية قريبة...
أطرقت إليه العاملة في دهشة. فهي تعمل مع جاكوب وولده منذ سنوات طويلة، ولكنها لم تر من احدهما بادرة مماثلة من قبل. فاليهود بصفة عامة يتصفون بالبخل والشح الشديدين، إلا مع ابناء عقيدتهم.
يكنزون المال ويضنون به على غيرهم، ولا مكان عندهم للصدقات والتكافل الاجتماعي!
هزت رأسها علامة الإيجاب وغادرت المكتب مهرولة قبل ان يغير صاحب المعمل رأيه. لم تقدر ان تتمالك نفسها، فسارعت إلى زميلاتها تخبرهن بالأمر الغريب الذي شهدته منذ قليل.
اما جاكوب، فلبث في المكتب لبعض الوقت بعد، ثم قام من مكانه متثاقلا بعد أن اوصى المسؤولة عن خط الإنتاج بإقفال المعمل جيدا بعد مغادرة الفتيات.
لم يكن في نفسه رغبة في العودة إلى البيت.
فقد صار يرجئ ذلك إلى ساعة متأخرة. سار على غير هدى عبر طرقات المدينة العتيقة.
توقف عند المقهى الشعبي وأخذ يتفرز في وجوه الجالسين عله يجد من ضمنهم ضالته، لكنه سرعان ما الشاح بوجهه واسترسل في مشيه بعد أن خاب أمله...
لا يدري لماذا كان يبحث عن سالم في إلحاح.
صارت تلك عادته منذ أيام، يمر بالمقهى ويراقب مرتاديه.
لكن الرجل كان قد اختفى. وتلك هي سيرته القديمة... يظهر لوقت قصير، ثم يعود إلى الاختفاء.
منذ رحيل ريما ، أصبح يحس بقاسم مشترك بينه وبين الرجل.
أو ربما أحس بمعاناته حين ابتعدت عنه ابنته هو الآخر.
كان في حاجة إلى مشاركة همومه مع شخص يقدرها حق قدرها، لأنه جربها وخبرها لسنوات طوال.
انتبه من افكاره حين وصل إلى باب المنزل.
كانت قدماه قد قادته إلى هناك بلا وعي منه.
تنهد، ثم وضع المفتاح في القفل، ليدخل إلى عالمه الكئيب... دون ريما.
حين دخل جاكوب كانت تانيا تجلس مع الطفلين، تراجع لهما دروسهما.
ألقى التحية في برود، ثم توجه إلى التلفاز. رفعت تانيا إليه عينيها للحظات ثم عادت إلى طفليها وهي تكاد تنفجر من الغيظ. سيطرت على نفسها بصعوبة حتى تجيب عن سؤال باسكال بهدوء ثم سنحت افكارها لبعض الوقت.
كانت قادرة على أي شيء ، شيء من أجل مصلحة أبنائها ، فهم كل ما يهمها ويشغل تفكيرها؛ وحماية دينهم من أية شائبة تبقى الأولوية المطلقة،
ذلك فإنها لم تتردد لحظة واحدة وهي تتحدى زوجها وتضعه في تلك الوضعية الحرجة،
وتجبره على إخراج ريما من المنزل... ولا يمكنها أن تندم على ما قامت به، لأنها موقنة من كونها فعلت الصواب لحماية عائلتها.
لكن جاكوب متغير من ناحيتها منذ تلك اللحظة. لم يكن يشبه اغلب الرجال في عائلتها الذين يقسون على زوجاتهن ولا يحترمون آراءهن،
بل هو من النوع الهادئ المسالم ،كما أنهما تزوجا بعد أن جمعتهما مشاعر عميقة وصادقة
يحز في نفسها كثيرا أن تصل العلاقة بينهما لى هذه الدرجة من التجاهل واللا مبالا
أسابيع على رحيل ريما وعادت الحياة اليومية إلى نفس النسق الروتيني. لكن جدار البرود لا يزال قائما بينهما.
لم يتنازل أي منهما أو يبادر إلى مصالحة الآخر،
فلكل منهما كبرياؤه العنيدة التي لا تقبل الرضوخ!
أخذ باسكال يتململ على كرسيه في ضيق، وهو يفكر في حل التمرين الذي بين يديه.
لم يكن بارعا مثل شقيقته سارا في اللغات، كما أنه أصبح سريع الملل بعد أن أصبح يشارك والده في بعض الألعاب
أغلق الكتاب قفز ليجلس إلى جانب ابيه وهو يقول: -
ألن نذهب إلى الشاطئ هذا الأسبوع؟
قبل أن يجيب جاكوب، كانت تانيا قد قالت إليه في غضب:
- باسكال! كم من مرة قلت لك: لن يكون هناك لعب قبل أن تنهي فروضك كلها!
كانت بوادر التمرد قد ظهرت على الصغير الذي بالكاد بلغ سنته الخامسة، فقال محتجا: -
إنها ليست فروضي! المعلمة لم تطلب منا كل ذلك. ،بل تمارينها سهلة وأنتهي منها بسرعة!
حبست تانيا أنفاسها محاولة السيطرة على أعصابها التي أصبحت مشدودة للغاية في الفترة الأخيرة. كانت تعتمد أسلوب الحسم منذ البداية مع طفليها، لأنها تتوق إلى مستقبل باهر ينتظرهما كطفلين نابغين. لكن من الضروري أن يحب الطفل العلم ويقبل عليه حتى تثمر طريقتها، وإلا فإن النتيجة ستكون عكسية حين يحصل الإكراه.
كانت لا تزال تفكر في التصرف المناسب، حين رفعت سارا رأسها عن كتابها وهي تقول في سخرية لا تناسب سنها:
ألم أقُل لك إنه طفل.. . وسيظل طفلا!
حدجها باسكال بنظرة غاضبة، لكن يبد اأنه لم يعد يهتم كثيرا بتعليقات شقيقته اللاذعة، لأنه التفت إلى والده الذي لم يكن قد رد عليه بعد، وأعاد على مسمعه
السؤال:
هل نذهب إلى الشاطئ غدا؟ مللت من الدروس والفروض! ليس هنالك غيرها طوال النهار!!
احتضن جاكوب ولده في حنان وهو يقول مطمئنا:
نعم يا عزيزي... نذهب إلى الشاطئ إن شئت...
أطلق باسكال صيحة مرحة، وعانق أباه في سرور، لكن تانيا التي كانت تتابع الموقف بصمت،هتفت في
لهجة حازمة:
حتى تستحق نزهة الغد، عليك إتمام فروضك!
التفت باسكال إلى والده مستنجدا ،
فأومأ جاكوب برأسه مؤيدا للقرار.
انصاع الولد ووقف مكرها ليعود إلى كتابه، في حين ابتسمت سارا في تهكم وهي تقلب الصفحة ببطء.
قامت تانيا على الفور وقالت لجاكوب وهي تمر بجانبه متجهة إلى غرفتها: - أريد أن اتحدث إليك قليلا لو سمحت
تبعها بنظراته في تساؤل، ثم أغلق التلفاز وسار خلفها.
كانت تجلس على السرير وهي تهز ساقها في عصبية، وقد عقدت ذراعيها امام صدرها، وما إن رأته يدخل حتى التفتت إليه في غضب: - ما الذي تفعله بالضبط؟
هل تريد إفساد تربيتي للأطفال؟ أنت تدلل باسكال كثيرا وتبعده عن الطريق الذي رسمتها له.
أرأيت كيف صار قليل التركيز كثير الملل؟ منذ عودته على اللهو والخروج ومستواه في تأخر مستمر
لم يعد يستوعب الدروس التي أعطيها له، بل اصبح ينسى ما تعلمه الاسبوع الماضي!
هل يعجبك هذا؟
كان جاكوب قد وصل إلى درجة عالية من عدم التحمُّل.
منذ سنوات وهو يجاريها في مخططاتها بخصوص الأطفال، لأنه يدرك حرصها على تعليمهم وتنمية مداركهم العقلية.
لكنه دفع ثمن ذلك بتخليه عن دوره كأب. والأطفال أيضا كبروا بسرعة ولم يعرفو المرح الذي يعيشه الأطفال في سنهم.
فهل يعد تقربه من ابنه باسكال ذنبا ؟ وهل لعبه معه وخروجه برفقته بضع مرات في الأسبوع إفساد لتربيته؟
نظر إليها غير مصدق ثم قال محاولا السيطرة على اعصابه:
-تانيا... أنا لم اعارضك أبدا في كل ما فعلتيه مع الأطفال. لكن من حقي أن أشارك في تربيتهم... فهم ابنائي مثلما هم ابناؤك! فلنحاول أن نصنع بعض التوازن، فنعطهم من الترفيه مثلما ندفعهم إلى التعلم.
ألا ترين كيف أصبح باسكال يضيق بالدروس اللتي تفرضينها عليه؟ أم انك من فرد حماسك تنسين أنه طفل
سكتت تانيا للحظات في توتر ثم قالت في عصبية زائدة:
هل تتهمنِي الآن بأنني لم أحسن تربية الأطفال وأخل بتوازنهم النفسي؟
تنهد وهو يقول مهيا:
أعلم أنك تبلين بلاء حسنا، والنتيجة مبهرة حقا ولا يختلف عليها اثنان
لكن كما نكون الجانب العقلي والفكري، علينا أن نعطي الجانب العاطفي والروحي أهميته!
قاطعته في احتجاج:
إنهما يحفظان الكتاب المقدس، ولديهما دروس منظمة في العقيدة؛
نعم، طبعا... لكنني أتحدث عن العاطفة تجاه العائلة، ،تجاه الأبوين ،سارا لا أحس ابدا بأنها ابنتي
انا أحبها كثيرا ، لكنني أجد أن المشاعر لديها متجمدة...
كأنها ليست طفلة تحتاج إلى الحنان والرعاية
أطرقت تانيا برأسها وهي تفكر. ربما لم يكن ذلك غائبا عنها، لكنها أصبحت تسابق الزمن، والطموح يدفعها. تضع كل آمالها على سارى تريد ان تصنع منها معجزة القرن، وتدفعها للتألق في سماء العلم. حينها لن يلومها أحد، بل سيفخر بها الجميع. جاكوب نفسه سيكون أكثرهم فخرا ، وحينها سيشكرها على كل الحزم والصرامة اللذين اعتمدتهما في تربيتها لابنتها.
باسكال طفل نابغ هو الآخر، لكن بمستوى أقل.
لن يضرها أن تترك له مساحة من الحرية، فسارا هي رهانها الحقيقي! فسارا تسير بدقة كما يجب، ولم يعد لأحد القدرة على السيطرة عليها أو توجيهها ، لأنها أحبت مسار حياتها بشدة، وغدت أكثر لهفة من والدتها لتحصيل العلم والنبوغ فيه!
ابتسمت عند هذه الفكرة وهي تقول:
حسنا يا عزيزي... يمكنك أن تأخذ باسكال للتنزه حين تشاء... لكن لا تكثر من تدليله!
فوجئ جاكوب بتغيرها غير المتوقع، وتابعها بنظراته وهي تتجه إلى باب الغرفة لتعود إلى الطفلين. توقفت تانيا فجأة والتفتت إليه وقد تذكرت شيئا ما:
نسيت أن أخبرك... أختك راشيل اتصلت مرات عديدة اليوم.
تريد أن تتحدث إليك في أمر مهم؛
قال في لهفة وقلق: هل ذكرت السبب؟، هل للأمر علاقة بريما ؟، استاءت تانيا من لهفته، لكنها قالت في برود:
لم أسألها!
توجه جاكوب مباشرة إلى الهاتف، أفكار كثيرة تدور في رأسه. هل ريما بخير؟
كون رقن راشيل في عجلة، وانتظر في نفاد صبر وهو يستمع إلى ;رنين الهاتف من الجانب الآخر للخط.
وما هي إلا لحظات حتى جاءه صوت رقيق، طفولي ناعم رن في أذنه رغم المسافات:
-ريما؟ هتف ما إن وصله صوتها في انفعال. وعلى الجانب الآخر، تلعثمت الفتاة وفرت الدموع إلى عينيها دون استئذان. تذكرت آخر لحظة بينهما لحظة الوداع القاسية:
بابا يعقوب؟
كيف حالك يا صغيرتي؟ أنت بخير؟
هزت رأسها وهي تمسح وجهها بكم عباءتها كانت مشاعر كثيرة تختلط في نفسها.
مشاعر الشوق والفرح لأنه سأل عنها أخيرا واهتم لأمرها ، ومشاعر العتاب واللوم لأنه تخلى عنها ورماها في هذه الأرض الغريبة. اخرجها صوت را شيل التي جاءت حين سمعت صوت رنين الهاتف:
من المتصل يا ريما ؟ هتفت من بين دموعها:
إنه بابا يعقوب؛
هرعت إليها راشيل وا خذت منها السماعة وهي تقول: أعطني إياه؟ جاكوب، أريدك في امر مهم!
تنفد جاكوب بقوة، وقد بلغ منه التأثرمبلغا عظيما بعد أن سمع صوت ريما الحزين، وأدرك مدى قسوته عليها. أما ريما، فإنها وقفت إلى جانب راشيل وهي تطالعها بعيون متوسلة، كأنها ترجوها أن تعيد إليها سماعة الهاتف.
لكن راشيل ابتسمت وهي تقول في حنو:
ريما عزيزتي... هلا ذهبت إلى غرفتك؟ أريد أن اتحدث إلى جاكوب قليلا.
فلم يكن منها إلا ان نكست رأسها، وجذبت قدميها في إحباط إلى غرفتها
منذ خطبتها إلى أحمد وهي تعيش حالة اضطراب مزمنة...
اضطراب بين عواطفها وتعلقها بذلك الشخص الهادئ، الحاني، دائم الابتسام، الرقيق في معاملته، الشهم في تصرفاته...
وتمسكها بدينها وعقيدتها!، وهو لم يكن أقل منها تمسكا بإيمانه وإسلامه!
كانت قد عقدت العزم على محاولة إقناعه وشده إلى الطريق الذي تراه الأصوب والأفضل، لكنه ليس أقل صلابة منها ولا أهون حجة...
نقاشاتهما بدأت تتخذ منحى خطيرا ، وهي لا تنوي أن تخسر المعركة بهذه السهولة
الله يعلم كم تحب ان تعذبه بأسئلتها المعقدة.
كانت تجد متعة لا توصف وهي تراه يبحث ويتلوى في كل اتجاه ليجد الجواب الذي يفحمها.
كانت تريد أن تكون حاضرة في حياته طول الوقت، ولو كان ذلك عن طريق الدين، وكان ذلك يسعده أيضا.
بالنسبة إلى احمد، فطالما اجتمعا على طاعة الله، فسيجتمعان إلى الأبد، في الدنيا والآخرة ،وتلك اللقاءات كانت تبدو له مثل بوابة إلى جنان الخلد.
في حواراتهما المحتدمة، كانت مشاركة طرف ثالث من افراد العائلة واجبة. أوضح لها احمد منذ البداية أن الشريعة الإسلامية تنص على تحريم الخلوة بين رجل وامرأة، حتى لو كان الأمر لتدارسا العلم. لذلك لم يكن يسمح للشخص الثالث بالانصراف أبدا.
في البداية، لم يكن احد يرغب في الاستماع إليه يتحدث عن دينه، بل يحاولون التدخل.
لكن احمد كان صارما في هذه النقطة.
لا أحد يحق له أن يطرح الأسئلة غير ندى. كانت النقاشات بينه وبين زوجته المستقبلية، لذلك فإن اهتمامه
يجب أن يكون موجها إليها وحدها.
وحين كان أحد افراد عائلتها يصر على طرح سؤال ما، فإنه يلتفت إلى ندى طالبا رأيها. إن كا نت في حاجة إلى الجوا ب، فإنه يرد. أما إن لم تجد للسئال أهمية أو إن كان لديها جواب عنه، فإنه يعتذر من السائل ويقترح عليه أن يحدثه في الأمر مرة أخرى حين يتوفر لديه الوقت.
كان يدرك أنإجازته الصيفية ستنتهي قريبا، وستصبح زياراته إلى قانا متباعدة وأكثر ندرة، فيحاول ان يستغل كل لحظة يمكنه فيها التواصل مع ندى لتكون لها وحدها.
بتلك الطريقة، فرض على الحضور حصة أشبه بدروس المحاضرات. يستمعون ويرجؤون أسئلتهم لما بعد.
وكان قد أحسن عملا بفرض تلك القاعدة قبل أن يغوص في مقارنات بين الكتب المقدسة.
كان أحمد يحاول أن يثبت لندى ولجميع الحاضرين -الذين تزايد عددهم مع تقدم اللقاءات- أن كتابهم المقدس
قد وقع تحريفه، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يقام دين استنادا عليه،
حاولت أن تحتج وتفند ادعاءاته، لكن حججه كانت قوية ومحيرة ،جعلتها تفكر في الأمر لأيام، لتبحث عن ردود مقنعة تصد بها هجومه.
فهي على تدينها، لا تملك إجابات جاهزة على كل اتهاماته، ومعارفها الدينية لا تتجاوز ما تعلمته من الكتب، وعن كبار العائلة، وهي لم تصل حد التمكن. هكذا أقنعت نفسها.
فالتوراة -والعهد القديم بصفة عامة- كان ينتقل شفويا من جيل إلى آخر، منذ خمسة آلاف سنة، ولم تقع كتابته وحفظه إلا في وقت متأخر. ولما لم يكن هناك عدد كبير من الأشخاص يحفظون الكتاب، فقد كان من السهل
على رجال الدين أن يحرفوه ويغيروا محتواه، دون أن يلومهم على ذلك أحدا، سواء كان ذلك نسيانا أو خطءا... أو بنية مبيتة وبدوافع مغرضة.))
ودعم كلماته بالآية القرآنية:
{من الذين هاذوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنى ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع ونظرنا لكانا خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}.
هنا، حاولت دانا أن تحتج، لكن إشارة أحمد أوقفتها لتذكرها بقواعد اللعبة. ثم واصل:
- «رجال الدين اليهود كانو يقولون كلاما مشابها للتوراة مع إضافات وتحويرات وتغيير لترتيب الكلمات،
بحيث ينقلب المعنى تماما فليس الحال اختلافا في النسخ، كما هو الحال مع العهد الجديد» أو الأناجيل
لدى النصرانيين، بل هو تحريف أصيل، تناقله الناس وأقروه حتى تم تدوينه وحفظه.
وحتى بالنسخ القديمة التي قد تكون حافظت على المعاني الأصلية، فإنه ما يعثر على أحدها حتى تحبس عن الأنظار
بدعوى أنها جزء من التاريخ الذي يخشى عليه من التلف!
وذلك على خلاف القرآن تماما، إذ توجد منه نسخة واحدة في كل بقاع الأرض، إضافة إلى كونه ذون في وقت مبكر وتم جمعه بعد سنوات قليلة من وفاة رسول الإسلام...))
تلك الكلمات بحق الإنجيل كانت مرضية لجورج الذي استمع بصمت وهو يهز رأسه.
أما النقطة الثانية فهي أن التوراة فنزلت باللغة الآرامية التي بات استعمالها قليلا في عصرنا الحاضر ثم وقعت ترجمتها إلى شتى لغات العالم المتداولة.
ومن البديهي ان النص المترجم لا يحافظ على معاني النص الأصلي بأمانة مهما تحرى المترجم الدقة... فالنص الأصلي يبقى قابلا للتأويل والتحليل، وقد تكون عباراته تحتمل معاني متعددة، الحرفية منها والمجازية أو الرمزية...
لكن النص المترجم يصير جامدا لأن المترجم يسبغ عليه رؤيته وتأويله، فيختار من المعاني المتعددة المعنى الأقرب إلى فهمه،
أو إلى مآربه الخاصة، او ما يناسب الظروف السياسية والاجتماعية للفترة الزمنية.
وإن كانت الكلمة تئول بمعنى معين منذ قرون، فإنها تحتمل معاني جديدة في وقتنا الحاضر.
كما أن ناقلي النصوص ومترجميها كانوا يضيفون تفسيراتهم وتحليلاتهم على الحاشية، فكان من السهل أن يختلط النص الأصلي بها...
أما القرآن، فهو موجود بنسخته الأصلية باللغة العربية اللتي لا تزال تكد الأولى ومفهومة جيدا إلى يومنا هذا، مما يتيح لأين من كان فرصة الاطلاع عليه والنظر فيه بنفسه.))
ثم تلى الآية القرآنية ؛{إنا نحن نذلنا الذكر وإنى له لحافظون }
- خلافا إلى ذلك، فإن العهد القديم لا يحتوي على التوراة وحدها -وهي الكتاب المقدس الذي نزل على موسى عليه السلام-، بل يضُمون إليه أجزاء أخرى.
فالعهد القديم أو التاناخ يحتوي -إضافة إلى التوراة اللتي تمثل الأسفار أو الكتب) الخمسة الاولى المسماة بأسفار موسى-، على واحد وعشرين سفرا إضافيا، لا تعدو الن تكون سوى مؤلفات تاريخية، كتبت بأيدي البشر، مكملة للتوراة
فكيف يمكن أن نضمن صحتها وسلامتها من الدس والتزوير؟))
لم يكن يغيب عن أحمد ان جميع الحاضرين من اليهود
هم إناث، بمعنى أن ايا منهن لم تمسك الكتاب المقدس بين يديها يوما، بسبب نظرية النجاسة الأبدية للمرأة عند اليهود!
إنما أكتفين في تعليمهن بنصوص محددة تتناول في الدروس الدينية.
لذلك فإن حججهن كانت تبقيهن مصدومات في أغلب الاحيان، أو ممتعضات في أهونها
أدركت ندى حينها انها لم تتسلح بالشكل الكافي لتواجهه.
استلقت ريما على فرا شها وهي تحدق في سقف الغرفة
لم تستطع النوم بعد مكالمة جاكوب المسائية.
هل سيسترجعها؟ ،هل اتصل يطلب عودتها ؟، لم تكن متأكدة من ذلك،
فراشيل لم تأت لتبسرها بعد أن انهت المكالمة، بل دخلت إلى غرفتها على الفور.
ولدقائق طويلة، سمعت صوتها وصوت زوجها يتعاليان في كلمات غير مفهومة، لم تصلها منها سوى الهمهمة...
لكن الحوار لم يكن هادئا البتة!، تسمرت في مكانها حين سمعت صوت باب الغرفة وهو ينفتح بعنف ثم يغلَق بعصبية...
استويت جالسة وهي تضع كفها على صدرها في توجس. ،تناهى إليها وقع الخطوات الثقيلة على الممر. كانت تبتعد في اتجاه الصالة.
تنهدت في ارتياح وهي تعود لتستلقي.
لم تعد تعرف طعم النوم الهادئ الذي كانت تنعم به في بيت جاكوب.
بل صارت تستيقظ مرات عديدة في الليلة الواحدة، وهي تلهث من شدة الانفعال.
فالذئب؛
-كانت قد أطلقت على زوج مضيفتها هذا الاسم-، لم يكتف بتنغيص أوقات نهارها حين يتواجد في المنزل، بل صار يتسلل إلى أحلامها، ويفسدها عليها بالكوابيس المزعجة، التي يلعب دور البطل فيها...
لكن ما اسهدها في تلك الليلة لم يكن الذئب وضرباته الموجعة.
بل تفكيرها في مصيرها بعد تلك المكالمة الغامضة.
أعادت إليها كلمات جاكوب القليلة الأمل.
لم تكن كلماته ما أثر بها،، بقدر ما هي نبرة صوته ولهجته الحانية بل لهفته واشتياقه حين سمع صوتها.
عاد بابا يعقوب القديم الذي يحبها ويخاف عليها .
ظلت تستعيد لحظات طفولتها السعيدة، والصور تطفو حولها وتتهادى مبددة ظلام الغرفة ومرسلة دفئا هادئا إلى أوصالها .
انتبهت من احلامها على صوت الأذان الخافت الذي يصل إليها من مسجد الحي المجاور
كانت الساعات قد مرت متوالية دون أن تشعر بانسيابها، وقد أخذتها الذكريات الجميلة.
قامت بتثاقل وهي لم تنم لحظة واحدة.
تذكرت ليلتها الأولى في هذا المكان، هل ترى رحلتها فيه قد انتهت؟
سارت في ممرات المنزل المظلمة.
توضأت ثم وقفت إلى سجادتها في سكينة.
أنهت صلاتها ، ثم جلست تناجي الله في سرها وأهدابها المتعبة تكاد تطبق على عينيها...
-ريما... عزيزتي...
انتبهت فجأة. فتحت عينيها في ذعر.
كانت مستلقية على السجادة.
أخذها النعاس وهي في تلك الوضعية، فنامت في مكانها، بعد الن أنهكها التعب والأرق.
تلفتت حولها حتى استقرت عيناها على راشيل اللتي كانت تجلس القرفصاء بجانبها ، وتطالعها بنفس النظرة الحانية:
لماذا تنامين على الأرض؟
كان الصباح قد حان، وتسللت أشعة الشمس إلى الغرفة.
لملمت ريما نفسها بسرعة، ووقفت وهي تطوي سجادتها
تمتمت في ارباك:
كنت أصلي... و...
ابتسمت راشيل في تفهم وهي تقول:
حسنا يا صغيرتي. لا بأس...
ثم تغير صوتها وهي تقول في لهجة غريبة:
اجمعي أغراضك وجهزي حقيبتك، فبعد الفطور سنغادر...
تعلقت عينا الفتاة بوجه مخاطبتها،تبحث فيها عن توضيحات أكبر تؤكد آمالها وأحلامها، لكن راشيل لم تزد كلمة واحدة، واكتفت بابتسامتها الحزينة الباهتة.
قالت وهي تغادر الغرفة:
لا تتأخري... الفطور سيكون جاهذا خلال دقائق!
عادت لتلتفت مرة أخرى:
لا تنسي دواءك!
ظلت ريما واقفة في وسط الغرفة في حيرة، وهي لا تزال تمسك السجادة بين يديها.
لم تدري ما الذي يجب عليها فعله.
هل تقفز من الفرح لأنها ستغادر هذا المنزل اخيرا؟، وأي شيء يعنيه إعداد الحقيبة ما عدا السفر؟
لكن... هل ستكون الوجهة التي تتمناها وتنتظرها ؟،
شخصت نظرات ريما إلى الأمام وهي تتطلع إلى ما تخفيه الطريق، التي انطلقت عبرها السيارة، في نهايتها .
كانت راشيل تجلس امام عجلة القيادة في صمت.
لكن التوتر والقلق كانا باديين على محياها، لم تجرؤ ريما على سؤالها ، رغم أن لهفتها قد بلغت حدا كبيرا.
كانت خائفة من الإجابة.
فراشيل لم تطمئنها بكلمة واحدة منذ مكالمة جاكوب وهي تختصر الكلام
وتكتفي بالضروري دون أن تتطرق إلى الموضوع الذي يشغلها.
لم تكن واثقة مما ينتظرها، مع أن الأمل داعبها لبعض الوقت .
لكنها كانت راضية مستسلمة. أخذت تتفحص الطريق محاولة التعرف على معالمها.
هل عبرت هذه الشوارع من قبل حين جاءت من المطار؟
لم تكن واثقة بل بدا انها تكتشف المباني المحيطة بها للمرة الأولى!
عقدت حاجبيها في قلق وحيرة.
إن لم تكن راشيل ستأخذها إلى المطار، فإلى أين تذهبان في هذا الصباح؟
لماذا طلبت منها جمع حاجياتها وحزم حقيبتها؟، لم تكن في ذهنها إجابة شافية،
لكن بعض الشكوك بدأت تراودها
-وصلنا!
انتبهت ريما على صوت راشيل وهي توقف السيارة فى أحد الشوارع السكنية. تلفتت حولها في حيرة. لم تبتعدا
كثيرا عن المنزل، فالرحلة لم تتجاوز مدتها ربع الساعة. ظلت تحدق ضها في ترقب وقلق.
نزلت را شيل وفتحت صندوق السيارة لثخرج حقيبة ريما. تابعتها بعينيها
دون ان تقوى على النزول... هل هذه هي وجهتهما؟
أين تكونان؟، اقتربت منها راشيل وهي تبتسم محاولة تهدئتها:
- هيا يا عزيزتي... ، لقد وصلنا !
سأتركك بعض الوقت عند أصدقاء لي. لديهم بنتان في سن قريبة من سنك... سترتاحين بينهم!
تسمرت ريما مكانها وهي تطالع راشيل بنظرات ذاهلة.
لم يكن بوسعها أن تستوعب ما تطلبه منها.
هل ستتخلى عنها هي الأخرى؟
حين غادرت منزل جاكوب لتقيم مع راشيل كان عزاؤها الوحيد ثقتها براشيل واطمئنانها إليها.
*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الثانى عشر من رواية فى قلبى انثي عبرية بقلم خولة حمدى
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع أيضاً: جميع فصول رواية جمعتنا صدفة بقلم هنا عمرو
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من روايات حب
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا