أصدقائي الأعزاء متابعي موقع قصص 26 يسعدني أن أقدم لكم الفصل السابع عشر من رواية فى قلبى أنثى عبرية بقلم دكتورة خولة حمدى وهي رواية واقعية إجتماعية ممزوجة بالحب وأيضا تتسم بالكثير من الأحداث والمواقف المتشابكة التي ستنال اعجابك بالتأكيد فتابع معنا.
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل السابع عشر
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى |
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل السابع عشر
هب أحمد من مقعده فجأة، واقترب من سرير ندى دون ان يتوقف عن الترتيل.رآه جورج ينحني إلى جانبها ويرفع صوته بالقراءة. حلق فيه للحظات،
ثم تَرَك الكتاب الذي بين يديه، وانطلق إلى خارج الغرفة.
لم يكن قد أدرك ما يحصل بالضبط، لكنه سارع بمناداة الممرضة.
حين عاد برفقتها، بعد دقيقتين، كان احمد قد عاد إلى الجلوس في إطراق هادئ.
هتف جورج في لهفة:
تحركت... اليس كذلك؟
لكن قبل أن يجيبه احمد، قالت الممرضة في خيبة:
لا تغيير يذكر, جميع المؤشرات تفيد بأنها لا تزال في غيبوبتها!
التفتت إلى أحمد متسائلة:
هل أنت وا ثق من انها تحركت؟
غرق احمد في صمت ذاهل. ، ظل يسترجع ما حصل منذ لحظات قليلة.
لا يمكنه ان يجزم بأنها فتحت عينيها ونظرت إليه، فهو بات يرى الكثير من التهيؤات منذ مكوثه إلى جانبها في المستشفى.
يراها في كل مرة تبتسم إليه أو تناديه.
أمله في ان تفتح عينيها قريبا يجعله يرى الخيال حقيقة.
لكن شيئا ما جعله يعتقد بأن ما حصل هذه المرة لم يكن خيالا!
كانت هناك، تسمعه وتنصت إليه. ، شيء ما جعله يقترب منها ويقرء لها.
لكن ذلك الشيء لم يدم سوى ثواني معدودة، فقد بعدها إحساسه ب وجودها بقربه...
وعاد الفراغ يعم الغرفة.
- ربما... كنت أتخيل!
قال ذلك في حزن وهو يشيح بوجهه ليخفي دمعة كادت تتجاوز رموشه.
كانت تلك حالتها منذ ثلاثة أيام، بعد ان عثر عليها فاقدة الوعي.
منذ ذلك الحين وهو يتناوب مع جورج وميشال وسونيا على رعايتها والسهر إلى جانبها، علها تستيقظ في ساعة من ساعات الليل أو النهار.
كانت الفيضانات قد غمرت الشوارع بشكل غير مسبوق.
سقط العديد من الضحايا بسبب ارتفاع مستوى الماء وجرفه لكل ما يعتري طريقه.
البلدة في حالة حداد مستمرة، وعمليات الإنقاذ تواصلت لمدة يومين بعد العاصفة,,, كأن الأمطار تآمرت مع القوات الإسرائيلية في إثارة الرعب في قلب السكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
مياه من كل جانب.
يحملها التيار بلا مقاومة منها، كأنها خرقة بالية تتلاعب بها الأمواج.
تمالكت نفسها واستعادت ارتكاز قدميها المتعبتين على الأرض الصلبة.
لا يمكن أن تَغرق في بركة قليلة العمق، هكذا فكرت مهونة الأمر، لكن المشهد من حولها يوحي بالعكس! سيارات عائمة وتجهيزات منزلية تطفو.
المياه تجرف كل شيء معها.
سارت باتجاه اقرب بناء إليها، وتعلقت بوتد تدلى من إحدى النوافذ لتلتقط أنفاسها.
هدأت الأمطار وأصبحت رذاذا خفيفا آخذا في التناقص. لكن البلدة كانت قد أخذت نصيبها من الماء بما يكفي لسنوات مقبلة!
هكذا حدثت نفسها وهي تتقدم بصعوبة ملتصقة بالجدار. تسير بخطى حذرة حتى لا تفقد توازنها.
كان هناك عدد قليل من الأشخاص في الشارع العائم.
رفعت نظراتها إلى السماء المظلمة، فرأت أعدادا من الأشباح المنتصبة فوق أسطح المنازل، ترقب بعيون جزعة ما آلت إليه حال المدينة,
حولت بصرها إلى الجانب الآخر، فوقعت عيناها على بناء قد تهدمت واجهته وسال التراب أنهارا
هالها المشهد واقشعر جسدها ، وسرعان ما قفزت دسورة اخرى إلى مخيلتها:
مشهد الدمار الذي رأته على شاشة التلفاز قبل خروجها, وبسرعة استعادت حبل أفكارها، وخرجت الصرخة من شفتيها هذه المرة في مرارة:
ريما
فتحت عينيها مجددا وهي تشعر بصداع شديد.
كان نفس الديكور الأبيض لا يزال يحيط بها.
استطاعت أن تحرك أطرافها هذه المرة. استندت على مرفقها بصعوبة لترفع رأسها.
كانت رؤيتها أفضل أيضا ، يمكنها ان تميز الأشياء والألوان.
رأت شخصين يجلسان قبالة سريرها على كرسيين متجاورين.
الشخصان الأقرب إلى قلبها.
كان جورج يرتدي ثوبه الكنسي ويمسك بكتابه المقدس بيده اليسرى ويقرء فيه.
أما يده اليمنى فقد استقرت فوق كتف احمد، الذي عكف يرتل القرآن والدموع تسيل على وجهه في خشوع هادئ.
كأن كلا منهما يستمد الشجاعة من الآخر.
تسمرت في مكانها مذهولة, وبسرعة هاجت المشاعر في نفسها، وتجمعت العبرات في عينيها هي الأخرى.
ومعى أولى شهقاتها المكتومة، انتبه إليها الرجلان.
هب إليها جورج واحتضنها في حنان وهو لا يكاد يصدق عينيه. في حين وقف أحمد على قيد خطوات منهما، يتأمل وجهها الشاحب، ولسانه يلهج بعبارات الحمد والشكر. -
كيف تشعرين يا صغيرتي؟
تحسست وجهها بكفيها وهي تقول بصوت واهن:
متعبة
انتبهت إلى أنبوب السائل المغذي الموصول بذراعها ، فهتفت وإحساسها بالضياع لا يفارقها:
أين أنا ؟، ما الذي حصل؟
تنهد جورج وهو يجلس إلى جوارها على جانب السرير، وقال في حزن:
' أنت في المستشفى يا صغيرتي... ، حمدا للرب على سلامتك!
منذ متى؟
منذ أربعة أيام...
تمتمت في عدم استيعاب: أربعة أيام؟
وكأنما تذكرت سبب ضياعها وتعبها، فهتفت في قلق:
وريما ؟، كيف حالها ؟، هل رجعت؟
تبادل جورج وأحمد نظرات حائرة، ثم استرد كل منهما نظراته المحملة بالأسى.
اضافت ندى في خوف:
كان هناك الكثير من الماء، بحثت عنها في كل مكان... لكنني لم اجدها!
السيارات مقلوبة، والمباني مهدمة... لكن ذلك المبنى لم تهدمه العاصفة!
كانت تلك القذائف الصهيونية أليس كذلك؟
كانت تبحث في وجه محدثيها عن إجابات شافية، لكنها لم تجد سوى الإعراض والإطراق.
شدت على ذراع جورج بكل ما تحمل من قوة، وهي تطارده بنظراتها المتوسلة:
ريما بخير... أليس كذلك؟
ولما لم تجد جوابا، تحوَّل نداؤها إلى بكاء هستيري، يقطع نياط القلبي.
حاول جورج تهدئتها بشتى الحيل، لكنها استعرت في النحيب حتى دخلت الممرضة. عاينتها بوجه متجهم، ثم أعطتها حقنة مهدئة، جعلتها تسترخي.
إنها منهارة.., لكن الأعضاء الحيوية في حال مستقرة.
يجب أن ترتاح بعض الوقت قبل ان تسترد عافيتها.
غادرت الممرضة المكان، بعد أن جعلت ندى تستلقي على السرير في استكانة وضعف، كانت نظراتها شاخصة إلى الفراغ، وملامح وجهها تشي بالحزن العميق
ظلت تهمس بصوت شبه مسموع في مناجاة يائسة:
ريما ، لا تذهبي أرجوك لا تتركيني...
سأحميك من كل شر، سأكون معك دائما... فقط عودي!
اقترب احمد في هدو، وجلس على الكرسي القريب.
انحنى إلى الأمام وهمس بصوت عميق صاف:
' أصغي إلي يا ندى,.,
ريما استشهدت. ، ريما لم تمت، لكنها حية ترزق عند الله... لكننا لا ندرك ذلك!
لقد فازت بأقصى ما يتمناه كل مسلم. ، إنها سعيدة الآن,.. فكوني سعيدة لسعادتها!
سكنت شفتاها عن الحركة ، ثم استدارت إليه ببطء،
هناك في أعماق ذاكرتها، كانت ترقد كلمات ريما عن الشهادة، وأملها من البقاء في لبنان.
هل نالت ما تمنته حقا
سالت العبرات على وجنتيها في صمت،
وتدحرجت على جانبي وجهها لتستقر على سطح الوسادة البيضاء.
همست وعيناها تائهتان في بياض السقف المشوب بصفرة بمفعول الرطوبة:
أحمد... ماذا كنت تقرأ في المرة الماضية؟
تراجع في ذهول وهو لا يكاد يصدق.
كانت مستيقظة حينها!، كانت تصغي إلى قراءته!
همس بصوت حاني بَلَّلَته الدموع اللتي لم يستطع مقاومتها:
سورة الدخان...
اقرأها لي الآن... أرجوك...
فتحت نافذة غرفتها ، واستنشقت نسيم الأصيل العليل.
كان الطقس في الخارج يحمل على التفاؤل والانشراح.
ابتسمت وهي تعود إلى مكتبها. أخذت تقلب في كتبها، تبحث عما يمكنها أن تأخذ ليرافقها في رحلتها.
أشرق وجهها حين وجدت ضالتها ، وابتسمت في ظفر.
وضعت الكتاب الذي وقع عليه اختيارها في حقيبة يدها، وراحت تتفقد محتويات حقيبة سفرها.
كل شيء على ما يرام تقريبا-
فتحت الدرج لتخرج اوراق هويتها وجواز سفرها .
لكنها توقفت فجأة حين وقعت عيناها على ظرف في قاع الدرج.
وضعت أوراقها جانبها وامتدت يدها في شيء من الحنين لتخرج الظرف.
تأملته في حزن، وبعد تردد قصير، فتحته لتخرج محتوياته
وتنشرها على المكتب أمامها.
التمعت العبرات في عينيها وهي تمد أصابعها لتلمس الوجوه
التي كانت تبتسم على الصور.
آه ايها الغوالي!
ابتسمت وهي تطالع صورة لريما، وهي تبتسم ببراءة طفولية.
ولم تتمالك نفسها ؛ أن رفعت الصورة إلى فمها لتلثمها في شوق
تلك الفتاة الصغيرة تركت في حياتها أثرا عظيما، ولعلها تدين لها بأعظم تطور حصل فيها رغم قصر المدة التي عرفتها خلالها،
إلا انها كانت كافية للتعلم منها الكثير والكثير.
مرت خمس سنوات كاملة على تلك الحادثة.
لكنها لا تزال تذكر تفاصيل دقيقة عنها، كأنها كانت بالأمس...
رحمك الله يا ريما.
أخذتها الصور إلى عالم الذكريات البعيدة
ارتجفت أناملها حين وقعت عيناها على صور ميشال وسط عائلته الصغيرة.
ضمت الصورة إلى صدرها في حب وصدرها يطلق التنهيدة وراء الأخرى.
لماذا تركتني ياميشال؟، من يساندني الآن غيرك؟، من يمسح دمعتي ويطيب خاطري ويدافع عني؟، لقد كنت لي خير اخ,.
لكنني قصرت في حقك كثيرا . لا عذر لي في ذلك!
أخيرا كانت هناك صورة جيرج وهويرفع كريستينا الصغيرة بين ذراعيه ويبتسم إلى العدسة.
بابا جورج، انت أبي الحقيقي الذي شعرت باليتم من بعده.
أشك ان أبا في العالم قد يحب أولاده كما أحببتني. رحمك الله وطيب مثواك.
جمعتها مع صور ريما وأعادتها إلى الظرف.
وقبل ان تعيدها إلى مكانها في الدرج، عادت لتسحب من الظرف الكبير ظرفا آخر، يحوي مجموعة أخرى من الصور.
لم تكن قد نسيتها ، لكنها كانت تخشى اللقاء مجددا.
مسحت أصابعها على المغلف وهي تقرء الكلمات القليلة التي كتبت فوقه بخط مزخرف.
كانت صور حفل خطوبتها الأولى.
لم تستطع التخلص منها ابدا.
لا تزال تحتفظ بها بين صورها الخاصة، في درجها المقفل. اخرجتها واحدة واحدة، وراحت تتأملها في بطء، كأنها تملأعينيها منها. تنهدت وهي تطالع الصور للمرة الثانية. ربما آن الأوان لكي تتخلص منها.
أليس من حق زوجها المستقبلي أن تكون مشاعرها خالصة له وحده؟
عليها ان تحسم أمرها بشأن ذكرياتها ، لتعيش حا ضرها مطمئنة البال
ورغم العبرات التي أغشت بصرها ، أخذت أصابعها تمزق الصور إلى قطع صغيرة دون رحمة.
كانت قد قضت على عدد منها حين سمعت طرقاتى باب غرفتها.
-تفضل...
قالت ذلك وهي تلقي بالصور والقطع الممزقة جميعا في الدرج، وتمسح عينيها بكم ثوبها. اطلت سونيا وهي تقول بابتسامة دافئة:
سماح تنتظرك في غرفة الجلوس
هزت رأسها شاكرة، وقامت لاستقبال ضيفتها.
تلقتها سماح بذراعين مفتوحين وعانقتها بحرارة.
قبلتها ندى بنفس الحرارة، ثم تخلصت من ذراعيها لتحتضن الطفلة ذات السنوات الثلاث التي وقفت تضم دميتها في خجل.
كيف حالك يا ريما؟
همهمت الصغيرة بصوتها الرقيق وهي تأرجح دميتها بين ذراعيها:
الحمد لله...
ضمتها ندى من جديد، ثم اجلستها فوق رجليها، تلاعبها في حب.
راقبتها سماح للحظات ثم قالت في عتاب:
إذن تسافرين مجددا...
التفتت إليها ندى وهي تقول مطمئنة :لا تقلقي، لن أغيب طويلا، بضعة شهور في تونس لزيارة الأهل لا أكثر،
ثم أعود لأستقر هنا .
تعلمين ان حسان لن يسمح بتأخير الزفاف أكثر!
ابتسمت سماح، ثم اطرقت وفي عينيها نظرة حزينة عكست الخاطر الذي مر ببالها.
لم تلبس ندى وقد أدركت مغزى سكوتها.
فقد كانت هي الأخرى لا تزال تصارع الذكريات اللتي عملتها بها الصور منذ لحظات.
رفعت سماح رأسها وهي تقول في حنو:
تعلمين كم كنت أود ان أراك زوجة لأخي... لكن القدر يأبى ذلك. تأكدي من أنني سأكون سعيدة لسعادتك. وحسان في مكانة أحمد، ويبقى أخي أيضا...
تعانق كفاهما بقوة وألفة، ثم استطردت سماح معتذرة:
يجب أن أستأذن الآن...
أتركك لتنهي تجهيزاتك قبل موعد الطائرة.
كما أن ايهم ينتظرني في الخارج!
هزت ندى رأسها في تفهم وهمست في تأثر:
شكرا لمجيئك...
تعلمين ما تعنيه لي زيارتك!، بلغي سلامي إلى خالتي سعاد...
كان بودها أن تزورك بنفسها وتهنئك... لكن المرض أقعدها.
اشاحت ندى بوجهها لتخفي العبرات التي باتت على أعتاب رموشها
تعلم كل ذلك... ، تعلم كم كانت السنوات الأخيرة قاسية على الجميع.
آه لو
انحنت لتقبل ريما الصغيرة مرة اخرى، ثم رافقت ضيفتها إلى المخرج وكلتاهما تقاوم الدموع التي استثارتها الذكرى.
عادت إلى غرفتها وحواسها في ارتباك شديد.
طافت بين حوائجها ، تشغل نفسها بأي شيء ، لتمنع تفكيرها من التسلل إلى الصور من جديد.
لكنها لم تستطع المقاومة كثيرا .
كانت الكلمات القليلة التي تبادلتها مع سماح قد أيقظت كل ما جاهدت لتدفنه في اعماق نفسها. فتحت الدرج، ومدت يدها من جديد لاستخراج الظرف.
لكنها توقفت فجأة حين وقعت عيناها على الصورة التي علت كومة الصور المبعثرة.
كانت صورته، منذ خمس سنوات أو اكثر، وابتسامة ملائكية عريضة تملأ وجهه. احست بانقباض شديد في صدرها، فارتمت على الكرسي في إعياء.
اغمضت عينيها لبضع ثوان، وأخذت نفسا عميقا.
ما زال ضيق التنفس هذا يعاودها بين الفترة والأخرى.
منذ مرضها ورقدها في المستشفى قبل خمس سنوات خلت.
جاءها صوت والدتها عبر الباب نصف المفتوح: - ندى,,. أنت جاهزة؟ سنغادر حالا...
لم تتحرك لبضع ثوان اخرى.
إنها أحسن حالا الآن.
وقفت لتسوي حجابها أمام المرآة، تتفقد أوراق سفرها للمرة الألف.
لكن حين ثارت: باتجاه الباب لتغادر الغرفة،
امتدت يدها دون تردد لتلتقط الصورة التي قطعت أنفاسها منذ حين، وأخفتها في حقيبة يدها... دون أن تعيد النظر إليها...
جلس على طرف السرير في الغرفة الخالية، وسرحت نظراته في الفراغ
كانت ملامحه قد تغيرت في الأيام القليلة الماضية، وظهرت على وجهه بوادر الشيخوخة المبكرة
غارت عيناه وشحبت سحنته، مع زحف خطوط التجاعيد
على جبينه وزاويتي فمه من شدة العبوس.
كان يدخل إلى غرفتها كل يوم ليمكث فيها لبعض الوقت...
فقد ظلت غرفتها، حتى بعد رحيلها.
كان لديه أمل خفي بأن تعد إليها يوما وإن طال الأمد !
لكن ها هي حقيبتها قد عادت دونها. أخذ يجيب بعينيه أرجاء الغرفة مسترجعا الذكريات السعيدة التي جمعته بها , ذكريات طفولتها الضائعة في غمار الآلام، ويجتر الحزن الذي سكن في صدره منذ وصله نعيها.,.
بل منذ فارقت عيناه وجهها أمام بوابة الرحيل في المطار!
جن جنونه حين وصله الخبر. لم يستطع أن يصدق أنها لن تدخل عليه ثانية.
لن تهتف باسمه مجددا بلكنتها العربية المحببة.
لن يتفقد صندوق البريد بنفس اللهفة بعد اليوم...
فما عاد ينتظر رسائلها المحملة بعبارات الحب والشوق والعتاب.
فقد ابنته الكبرى إلى الأبد، وهي غاضبة منه.
تأخر في مصالحتها حتى فات الأوان.
كم كان قاسيا معها ومع نفسه.
كم كان غبيا وأنانيا حين ارسلها إلى هناك إلى حتفها!
لو كان يعلم أن الموت يترصدها هناك، لما كان ابعد عينيه عنها للحظة.
كان ليحرسها ويرعاها ويحميها من كل ما يخيفها ويحزنها ويقلقها
كان يحميها حتى من زوجته تانيا ومن كل العالم!
كان قد عاد منذ يومين من لبنان. سافر ليجمع حاجياتها القليلة، وآخر ما تبقى من آثارها في هذه الدنيا ، وصول الصندوق الذي حوى أشلاء جسدها.
أصر على أن تدفن في تونس إلى جوار والدتها.
كان واثقا من أن ذلك سيسعدها ويخفف عنها غربة الموت...
تنهد وهو يتذكر اللحظات الأخيرة وهو يودع جثمانها قبل أن يواريه التراب.
لم يتحمل النظر إلى بقاياها.
فمجرد التفكير في فظاعة ما حصل معها يدمي قلبه ويحفر الَّوعة في نفسه.
لكنه بكى طويلا فوق الصندوق المغلق حتى جفت مآقيه.
كان كل عائلتها. لكنه نبذها من عائلته
كان كافلها والوصي عليها، لكنه لم يكن بمستوى الأمانة، ولم يحافظ عليها , لم يقم بواجبه تجاهها، فضلا عن إكرامها !
أخفى وجهه بين كفيه يبكي، يتباكى.
لكن العبرات أبت أن تطفئ نار عذابه، وتغسل وجهه الكالح.
سيدفع ثمن إجرامه في حقها طويلا... وها قد بدأ.
دقت ساعة الحائط بنسق بطيء مألوف، معلنة عن مرور ساعة أخرى.
أخذت ندى تعد الدقات بذهن غائب.
إنها الساعة العاشرة.
لم تكن قد غادرت سريرها بعد، لكنها مستيقظة منذ سا عات طويلة. بل ربما لم تنم من الليل إلا قليلا.
كانت الحركة فاترة في الخارج.
لم يعد في البيت الكثير من مظاهر الحياة، فليس فيه من سكان غيرها ووالدتها
جورج يغادر في الصباح الباكر ولا يعود إلا ساعة العشاء.
لتظل سونيا تروح وتجيء في خطوات رتيبة بين المطبخ وغرفة الجلوس.
سمعت صرير باب غرفتها وهويفتح ووقع خطوات تتقدم.
ندى عزيزتي... لقد جهزت طعام الفطور.
اغمضت عينيها وسحبت اللحاف لتغطي وجهها في ضجر، وقالت بصوت ذابل:
لا أريد... لا شهية لدي!
إقتربت سونيا من سريرها ، ومسحت على رأسها في حنان وإشفاق:
عليكي أن تحاولي يا عزيزتي. انظري إلى شكلك! لقد نحفت بدرجة كبيرة وغاب لونك! يجب أن تتناولي طعامك، وتلتزمي بتعليمات الطبيب...
ابعدت اللحاف عن وجهها وهي تتنهد، ثم قامت في تكاسل.
كانت قد استعادت صحتها تقريبا بعد الحادث الأليم. لكن نفسيتها لا تزال متعبة. ابتسمت سونيا وهي تراها تجلس في سريرها وتجمع شعرها،
قالت في حنو: - سأسبقك إلى المطبخ... لا تتأخري!
هزت ندى رأسها دون أن تتكلم. شيعت والدتها بنظراتها حتى اختفت
ثم وقفت لتبدء يومها، تغيبت عن كليتها لشهر كامل، وكان يجب عليها ان
تنتظم في دراستها من جديد حتى لا تفوت الفصل الأول من السنة.
لكنها كانت قد فقدت الكثير.
فقدت الرغبة في المواصلة. وفقدت قدرا من وزنها.
صارت تفكر كثيرا وتسرح كثيرا , توقفت عن القراءة والبحث واستسلمت للهواجس.
ريما كانت تعلمها وتنافسها.
توضح لها ما يغيب عنها أو ما يغلق عليها في اللغة العربية،
وتشرح لها وجهة نظرها الفطرية البريئة.
وجودها إلى جانبها كان يعطيها الكثير من العزم والحماس، ليس فيما يخص الدين والتعرف إلى الإسلام فحسب.,,
بل في كل مجالات الحياة، كينونتها القصيرة المضطربة اعطتها دروسا لا تحصى ولا تعد.
دسبرها على قدرها القاسي الذي يئمها مرة واثنتين وثلاثة، وقادها إلى ترك دراستها والعمل في الخدمة المنزلية في سن صغيرة.
ابتسامتها الصافية التي تسدل الستار على ألامها العميقة، وخاصة إيمانها الذي لا يتزعزع وسوخ عقيدتها... كل ذلك كان يصفعها بشدة، ويجعل قلبها ينقبض وينتفض في صدرها حسرة وألما على الصغيرة المفقدة
لن أنساك يا ريما لن أنساك
ستظل ذكراك محفورة في قلبي ما حييت.
سأكون انا عائلتك التي تذكرك وإن محيتي من ذاكرة العالم بأسره.
فتحت خزانة ملابسها لترتدي ثوبها الأسود الذي لم تلبس غيره منذ اسابيع، حدادا على الفقيدة.
لم تكن قد احتفظت منها سوى بوشاح رأس وبضع صور التقطتها خلال فترة إقامتها معها ، كان وشاحها المفضل، ذا لون أبيض تتخلله زهور منقوشة بخيط فضِّي.
حين جاء وصيُّها ليتسلم حاجياتها، أخفته تحت وسادتها , من حقها أن تحتفظ بشيء يحمل رائحتها الزكية.
تناولت إفطارها دون حماس، وتناولت حقيبة كراساتها وخرجت,
فراغ، فراغ فظيع يسيطر على حياتها.
لا شيء عوض غياب ريما
لكن ليس ذلك كل ما يقلقها ويحيرها. حتى أحمد لم يعد يظهر كثيرا.
لازمها طوال فترة إقامتها في المستشفى.
ثم قَلَّت زياراته بعد انتقالها إلى البيت,
اطمأن إلى أنها تجاوزت الأزمة وعاد إلى حياته ومشاغله الخاصة التي لا تعلم عنها الشيء الكثير.
دراسته في صيدا كانت تغطي على نشاطاته التي يجهل أفراد عائلته كل شيء عنها.
ولا احد يعلم ما الذي يملأ أوقاته هناك بالليل والنهار.
نفسها منقبضة هذا اليوم بل هي تزداد انقباضا كل يوم عن سابقه.
كأنها تخشى خبرا قاتلا بين الفينة والأخرى، حتى إنها باتت تعيشه.
سارت على مهل عبر الآزقة والشوارع.
لم يتبق الكثير من أثار الكارثة الطبيعية والعسكرية التي ألمت بالمدينة الشهر الماضي.
ابتلعت الأرض الماء والدماء وعادت الحياة إلى وتيرتها.
عادت ضحكات الأطفال ترن في ثنايا الطرقات.
عادت اصوات الباعة تعلو في سوق الحي بشتى أسماء المعروضات
محت الأيام المتعاقبة الساعات المظلمة من ذاكرة المدينة، ومسحت نعمة النسيان الألم عن ثناياها.
عادت المدينة إلى سالف عهدها. لكن ريما لم تعد.
*********************
إلي هنا ينتهي الفصل السابع عشر من رواية فى قلبى انثي عبرية بقلم خولة حمدى
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع أيضاً: جميع فصول رواية جمعتنا صدفة بقلم هنا عمرو
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من روايات حب
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا