أصدقائي الأعزاء متابعي موقع قصص 26 يسعدني أن أقدم لكم الفصل الحادى والعشرون من رواية فى قلبى أنثى عبرية بقلم دكتورة خولة حمدى وهي رواية واقعية إجتماعية ممزوجة بالحب وأيضا تتسم بالكثير من الأحداث والمواقف المتشابكة التي ستنال اعجابك بالتأكيد فتابع معنا.
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل الحادى والعشرون
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى |
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل الحادى والعشرون
عزيزي أحمد،لا يمكنك أن تتصور كم الجامعة واسعة، وفيها من الأقسام
لكن الشيء الأكثر إثارة هو الجنسيات المختلفة هنا ، كأن شعوب الأرض كلها أرسلت سفراءها لتمثيلها في الجامعة!
صينيون وهند وأفارقة وآخرون من مختلف الجنسيات الأوروبية.
مزيج لا يصدق من الألوان والأصول المختلفة .
صحيح ان لبنان فيها من التنوع العرقي والديني الكثير، لكننا على الأقل نتكلم لغة واحدة، ولا نجد صعوبة في التواصل.
من حسن حظي أنني أجيد الفرنسية وأتكلمها بطلاقة، لكن ذلك ليس حال جميع الطلاب...
حتى أنابيلَّا جارتي في السكن تجد بعض الصعوبات، وقد وجدتني في مناسبات كثيرة ألعب دور المترجم، لأساعدها على قضاء بعض الحاجات.
الجامعة فيها تخصصات كثيرة وعدد الطلبة كبير أيضا.
هذا ليس غريبا على جامعة بمثل هذه الشهرة، قاعات الدرس رائعة من حيث التهيئة والتجهيز، والمدرجات تتسع لمئات الطلبة.
تعرفت إلى بعض الطالبات في درس الفلسفة...
واحدة من رومانيا ، والأخرى من ارمينيا.
وقد تناولنا طعام الغداء معا، لكنني لم أتناول سوى الخضروات، فليس من السهل هنا إيجاد المطاعم التي تصنع طعاما يحترم الشعائر اليهودية!
أتممت تجهيز شقتي الصغيرة.
اشتريت مفارش وستائر، وغيرت ورق الجدران،
حتى اترك في المكان بصمتي الخاصة، وأحس بأنني في منزلي حقا
أنابيلَّا ساعدتني في الأشغال، وقد امضينا وقتا ممتعا
هي فتاة طيبة جدا...
بريئة وعفوية مثل طفلة صغيرة.
عائلتها تسكن إيطاليا، وهي تسافر إليهم مرة كل شهر.
الرحلة طويلة بالقطار من باريس إلى ميلانو.
لكنها تعودت اكثر مني على السفر، فقد درست من قبل في روما بعيدا عن عائلتها .
الحياة المستقلة ليست سهلة أبدا.
علي الآن أن أهتم بكل شيء بنفسبي دون إرشاد من أحد.
التفكير في المشتريات وحاجيات البيت، والمعاملات الإدارية والفواتير...
علي أن أتعود على كل هذا.
حقا أفتقد أمي
رغم أنني جئت إلى هنا فرارا من حصارها وتحكمها في حياتي، إلا أنني اعترف بأنها كانت حريصة على راحتي.
اكتشفت كم انا وحيدة وضائعة دونها
أفتقدك جدا ايضا.
أكثر من أي وقت مضى.
لذلك سأكتب إليك كل يوم، عسى أن تصلك رسائلي يوما ما.
أريد أن أشاركك كل لحظات حياتي الجديدة.
لا تقلق... لن يفوتك منها شيء»
سمعت طرقات خفيفة على بابها .
إنها أنابيلَّا دون شك.
اتفقتا على الذهاب للتسوق معا.
-لحظة, أنا قادمة
اعادت قراءة رسالتها بسرعة، ثم وضعتها في الظرف.
ترددت للحظات وهي تمسك القلم. عليها ان تضع عنوانا على الظرف، لا يمكنها أن ترسله إلى منزل احمد
لا تريد ان تنكأ جراح والديه التي لم تندمل بعد.
ولا يمكنها ان تدع رسالتها تقع بين يدي احد غيره-.-
إلى أين ترسلها إذن؟، ليتها تعرف أين يكون!
- ندى--- ألم تجهزي بعد؟
كانت انابيلَّا تستعجلها.
نعم... وجدتها ، وبكل ثقة، خطت العنوان...
عنوان منزل الضيعة.
منزل الأحلام الوردية...
حيث كان يفكر أحمد بالاستقرار بعد الزواج وإنشاء مشروعه الخاص.
لن يذهب أحد إلى هناك في مثل هذا الوقت من السنة، كما النه لا أحد يهتم بتفقد صندوق البريد، فالعائلة لا تتلقى مراسلات هناك
ستكون الرسالة محفوظة، إلى ان يأتي صاحب المنزل.
وضعت الرسالة في حقيبتها ، وجرت لتفتح لأنابيلَّا وقد انشرحت أساريرها ...
عزيزي أحمد،
متعبة جدا انا اليوم. الضغط الدراسي بدأ يعلو رويدا رويدا ...
وعلي البدء في التحضير للبحث النهائي.
استعرت بعض المراجع من المكتبة العامة، وسأشرع في العمل عليها قريبا.
المكتبة أيضا مدهشة، فضاء واسع، حيث رفوف الكتب التي تعلو إلى السقف تحيط بك من كل جانب
لم استطع تضييع الفرصة والمغادرة دون المرور بقسم الكتب الدينية والعقائدية.
تصور أنني وجدت تفسيرا للقرآن باللغة الفرنسية!، كنت قد; تركت كتاب التفسير الذي أهديتني إياه في لبنان، وكتاب التفسير هذا سيفيدني بالتأكيد.
ما زلت أواظب على القراءة اليومية التي وعدتك بها..، لكنني مللت القراءة دون فهم.
ربما علي أن أهتم بما يقول القرآن اكثر، فمهما قرأت من كتب التحليل والمقارنة، فإنها لن تكون اكثر دقة من القرآن نفسه.
لغتي العربية جيدة نوعا ما، لكنها ليست كافية لفهم الآيات القرانية.
أنابيلَّا اكتشفت القرآن لدي في زيارتها الأخيرة.
كنت أخبرتها بأنني يهودية، لذلك فقد فوجئت برؤية الكتاب فوق مكتبي.
لم أرد أن أقص عليها حكايتي، لذلك اكتفيت بالقول بأنني أهتم بدراسة الكتب السماوية.
هي تدين بالمسيحية لكنها بدت مهتمة أيضا بالتعرف إلى الديانات الأخرى.
كانت قد طلبت مني بضع مرات بأن أحدثها عن التوراة، وعن تقاليدنا وعاداتنا الدينية...
تذكرني ببابا جورج وتسامحه منقطع النظير.
البارحة تحدثنا كثيرا عن الإسلام.
كانت لديها أسئلة كثيرة وقد حاولت مساعدتها بما أعلم.
لكنني لم أكن املك الإجابات الشافية في معظم الأحيان رغم كل ما قرأته!، ربما كان ذلك السبب الأساسي لاهتمامي بفهم القرآن.
أنابيلَّا لا تفهم العربية، أما أنا فبلى، وهذا يعد نقطة إيجابية يجب علي استغلالها.
من المعالم الحضارية المعروفة في باريس، جامع باريس الكبير، وهو يقع على بعد بضعة شوارع من مكان سكني.
لم أكن قد مررت بجواره من قبل، لكن أنابيلَّا طلبت مني ان أصحبها لزيارته.
قررنا الذهاب يوم غد الجمعة. وسيكون اكتشافا لي أيضا! فرغم كثرة المساجد والجوامع في لبنان، فإنني لم أجرؤ على دخول أحدها.
المرة الوحيدة التي رأيت فيها صلاة المسلمين الجماعية، كانت في منزل الضيعة...
وكنت أنت من يصلي.
هل تذكر؟، حدثتني فيما بعد عن صلاتكم وشعائرها.
ثم رأيت ريما تصلي مرات عدة في البيت.
والآن سأذهب أخيرا لزيارة مكان العبادة، الأمر أسهل بكثير هنا.
فالجامع الكبير يعتبر معلما أثريا يدخله السياح باختلاف انتماءاتهم الدينية والعقائدية.
سأحدثك عن هذه الزيارة بتفاصيلها في رسالة الغد...))
خطت ندى في اتجاه مدخل الجامع وإحساس غريب بالألفة يراودها ، كأن اقترابها من مكان العبادة يقربها من العزيز الغائب...
على الأقل من عالمه.
شدت انابيلا على ذراعها ، وهي تشير إلى الحديقة الخلابة التي تتوسط فناء الجامع، وهتف: هل يمكننا أن نلتقط بعض الصور هنا ؟
اشارت إليها ندى بخفض صوتها وهمست:
دعينا أولا نقم بجولة في المكان دون أن نجذب الآنظار إلينا...
عبرتا الحديقة الأمامية، وهما تجيلان النظر حولهما في فضول ممزوج باءعجاب.
لم تكن الزخرفة العربية الإسلامية غريبة على ندى، فقد سبق لها أن رأت بعض المعالم في لبنان.
لكن الفن المعماري لا يفتأ يثير إعجابها على الدوام.
كان الجامع هادئا والحركة خفيفة في الممرات
خطرت ببال ندى فكرة حين رأت لافتة تشير إلى مكان الوضوء الخاص بالنساء.
أشارت إلى أنابيلا وهي تتقدمها:
تعالي من هنا، سأعلمك شيئا!
نزلتا سويا الدرج اللولبي الذي يقود إلى قاعة الد في المستوى تحت الأرضي.
بدات ندى بنزع حذائها، وكشف ذراعيها، وأنابيلا تفعل مثلها في اهتمام. قالت ندى موضحة:
سأعلمك الوضوء على طريقة المسلمين.,.
وهي عملية التطهر قبل أداء الصلاة...
كانت فخورة لأنها تعرف شيئا جديدا عن أنابيلا، وستعلمها إياه كما علمتها ريما.
بدات تغسل اطرافها على مهل، وتشرح القواعد، وأنابيلا تقلدها في مرح طفولي.
حين فرغتا، قالت ندى وهي تكرر جملة سمعتها يوما من أحمد:
الوضوء واجب قبل دخول قاعة الصلاة في المسجد، وضروري قبل الصلاة...
كانتا قد اقتربتا من الفناء، حين تناهى إليهما صوت الإمام وهو يرفع صوته بالأذان...
إنه النداء إلى الصلاة. تقدمت انابيلَّا نحو القاعة التي صدر عنها الصوت وهي تسأل ندى:
- هل هي الصلاة؟
لم يكن بوسع ندى أن تفيدها بشأن ذلك، فقد كانت المرة الأولى اللتي تدخل فيها إلى الجامع هي الأخرى.
لكنها شدتها من ذراعها حتى لا تتوغل إلى الداخل، فقد عهدتها متسرعة ومتهورة، والصلاة ليست مسرحا للفرجة، ولا يجب عليهما إزعاج المصلين.
لكن أنابيلَّا شدتها معها لتجد نفسها أمام الباب المفتوح على مصراعيه والمؤدي إلى قاعة كبيرة مفروشة بالزرابي، وتتدلى من سقفها الثرريات الضخمة ذات الأشكال الجذابة.
كان هناك عدد قليل من الزوار بالداخل، وبدا ان الصلاة لم تبدأ بعد،
فلم تترددا في الدخول، وهما تتأملان تنسيق المكان وديكوره المميز
كانت ندى تقدم توضيحات لمرافقتها حول فن المعمار الإسلامي، حين رأت سيدة في متوسط العمر ترتدي الحجاب الإسلامي ، وتشير إليهما بالخروج ,
ارتبكت الفتاتان وتوجهتا على الفور إلى المخرج لتغادرا.
تملك ندى الخوف، هل يبدو عليهما أنهما ليستا مسلمتين؟، ما الخطأ؟، هل ظهرت نجمة داوود على صدرها؟،
لكنها أخفتها بعناية...
تحسستها من تحت المعطف. لا، لا تظهر، حثت الخطى وهي تقطع الفناء بسرعة، وقد تملكها خوف رهيب.
يجب ان تغادر المكان على الفور، فهي تعرف أنه يغفر للمسيحية ولا يغفر لها.
لكن صوتا أنثويا ينادي بالفرنسية جاءهما من الخلف:
ءيا أهل الكتاب! يا أهل الكتاب! تعاليا!
توقفت أنابيلَّا استجابة للنداء، لكن ندى ظلت على توجسها, أهل الكتاب؟، كيف عرفت المرأة ذلك؟، مصيبة!!!
تبادلت ندى وأنابيلَّا نظرات تشاور.
لكن إلحاح المرأة جعلهما تستجيبان للنداء ، وتمضيان باتجاهها على استحياء.
اشارت إليهما المرأة بنزع احذيتهما حين دخول القاعة وهي تبتسم. ثم دعتهما إلى الداخل...
ارتبكت ندى وهي تنفذ الأمر في إذعان.
كانت تعلم أن المسلمين ينزعون أحذيتهم للصلاة، لكنها لم تعلم أن عليها نزعها عند دخول القاعة، فهما كانتا في الفناء بأحذيتهما، ولم يطلب منهما أحد نزعها...
لذلك فإنها تصورت ان الأحذية تنزع للصلاة لا غير.
تبعتاها إلى الداخل في صمت متوجس.
كان المصلون قد بدو في التوافد، وأخذوا تلقائيا في الانتظام على شكل صفوف متوازية ملتفتين إلى اتجاه واحد
كان مكان صلاة النساء منفصلا عن مكان صلاة الرجال، عن طريق ستارة ممتدة إلى آخر القاعة.
رفعت المرأة طرف الستارة، فتجلت أمام الفتاتين صفوفن أخرى من المصليات... نظرت ندى في استغراب.
كيف تصلي النساء في قاعة منفصلة
هي تذكر ان سماح والسيدة سعاد كانتا تصليان خلف احمد وبقية الرجال مباشرة ذاك اليوم!
ولم تمضي سوى لحظات حتى ارتفع صوت المؤذن، معلنا بداية الصلاة.
قادتهما المرأة إلى نهاية القاعة وطلبت منهما الجلوس في صمت وعدم لمس كتب القرآن او المرور أمام المصلين، ثم سارعت بالانضمام إلى الصف الأخير وشرعت في الصلاة.
لبثت الفتاتان للحظات مشدودتين إلى المشهد، تطالعان صفوف المصلين المنتظمة المتزاحمة الخاشعة في صمت ثقيل.
وما لبث صوت الإمام أن ارتفع في همهمة جديدة، ميزت فيها ندى التكبير، ثم انحنى المصلون جميعا في حركه واحدة راكعين.
تمتمت أنابيلَّا متسائلة في خفوت:
هل صلاتهم صامتة؟
ابتسمت ندى وهي تنحني نحوها، وتقول هامسة حتى لا يصل صوتها إلى المصليات:
صلاة المسلمين مختلفة عن صلاة النصارى التي تؤدى بصوت مرتفع وبطريقة غنائية، لكنها قريبة من صلاة اليهى.
فعندنا أيضا يردد المصلي مقاطع من الكتاب المقدس بصوت خافت، او في داخله، دون ان يجهر بها
عادت ندى وأنابيلَّا لمتابعة المشهد في فضول وانجذاب.
وما إن أعلن الإمام نهاية الصلاة، حتى دبت الحركةة في المكان، وارتفعت الأصوات بالحديث.
توجهت المرأة التي سبق وتحدثت إلى ندى ومرافقتها إليهما مبتسمة، وطلبت منهما انتظارها، وما لبثت أن عادت وهي تحمل إبريق شاي.
جلست إلى جوارهما وملأت كأسين، قدمتهما إليهما وهي تقول:
أهلا بكما...
من عادتنا أن نقدم الشاي لعابري السبيل وضيوف الجامع، وأنتما اليوم ضيفتان لدينا.
رشفت ندى رشفة من كأسها في امتنان، وهي تحمد الله لأنها لم تسألهما عن ديانتهما.
كانت النسوة من حولهن قد تفرقن في مجموعات صغيرة، بعضهن يقرء في القرآن، والبعض الآخر يتبادلن الأحاديث... في حين قامت بعضهن بتوزيع التمر.
اغتنمت أنابيلَّا الفرصة وأخذت تطرح الأسئلة التي خامرتها وهي تشاهد الصلاة:
لماذا أنتم مزدحمون والفناء واسع؟
شرحت المرأة بسعة صدر
نحن نزدحم لنكون معا ...
فالصلاة جماعية، والجماعة تعني ان نكون كالبنيان المرصوص، متلاحمين
لا نترك فرجة يتسلل منها الشيطان ويفسد صلاتنا.
وتلك ميزة الصلاة في المسجد...
وإلا فليبق كل منا في بيته ويؤد صلاته منفردا !
تزايدت دهشة أنابيلَّا وهي تسأل مجددا :
ولماذا بقينا نحن في الخلف، في حين تقدمتم جميعا إلى الأمام؟
نحن نقف في الأمام حتى نكون أقرب من الإمام الذي يقود الصلاة، وحتى لا يمر أحد بين الصفوف، أو أمام المصلين.
لو كنا تركنا مساحة في الأمام، فإن من يصل متأخرا سيمر أمام الباقين ويشوش تركيزهم.
أما حين نكون في الأمام، فإن القادم سيتخذ مكانه في الصف الأخير، دون أن يزعج غيره... ويترك المجال لمن سيأتي بعده...
فالمسألة تنظيمية. هزت أنابيلَّا رأسها في إعجاب وقالت مبتسمة:
حقيقة... الإسلام فيه كل شيء، إذا كانت صلاتكم بمثل هذا النظام، فلا شك أنكم تلتزمون بالصف في أعمالكم ، وتركبون الحافلات بشكل منظم، كي تتركوا المجال لمن يركب بعدكم!
إنه لشيء مدهش حقا
ابتسمت المرأة ولم تعلق، أما ندى فقد انفجرت ضاحكة.
هتفت انابيلا في احتجاج:
- هل قلت شيئا خطأ؟، هزت ندى رأسها نافية وهي تقول: ،لا أبدا...
شكرتا المرأة، واعتذرتا لتنهيا الزيارة.
خرجت ندى وقد شغل كلام أنابيلَّا تفكيرها.
تعلم جيدا الن الحال في البلاد العربية ليس كذلك أبدا. لكن المبدأ في حد ذاته بدا مهما.
ما قالته أنابيلا صحيح... أو بالأحرى، كان يجب أن تترك قواعد الصلاة الجماعية أثرا في الحياة الاجتماعية للمسلمين.
تذكرت حينها كلمات قالها أحمد
«لا تجعلي المسلمين ينفرونك من الإسلام، فتطبيقهم لتعاليمه متفاوت...
لكن انظري في خلق رسول الإسلام، وحده ضمن كل البشر خلقه القرآن».
كانت أنابيلّا تجرها من مكان إلى آخر طوال العطلة الأسبوعية.
في كل مرة تنتقي معلما باريسيا جديدا ، وتأخذها في جولة استكشافية.
تعترف أنها لم تكن لتقوم بكل تلك الزيارات لو كانت بمفردها.
ومع أن الوجهات لم تكن بالضرورة تناسب ميولاتها في كل مرة، فإنها على الأقل تخرجها من اجواء الدراسة الخانقة وجدران غرفتها الضيقة
تجاوزت البوابة الخارجية لمتحف اللوفر» الشهير في فتور.
لم تكن المتاحف تستهويها كثيرا ، بل لعلها تصيبها بالملل أكثر من اي شيء آخر. لوحات، تماثيل، أوان خزفية، قطع نقدية قديمة...
كل ذلك كان يحلو لأنابيلا، تلميذة جامعة الفنون التشكيلية، ويشد انتباهها, كانت تتوقف عند كل قطعة وتهتف بمرح طفولي كل ما اكتشفت تفاصيل تبدو لها مثيرة.
تبعتها ندى عبر الردهات من قاعة إلى أخرى وهي تجر قدميها وثجيل نظراتها في غير تركيذ.
استيقظ اهتمامها حين عبرت المدخل المؤدي إلى قاعة مصر القديمة. استقبلها التمثال المصور لأبي الهول بشموخه المتعالي، وارتسمت على شفتيها ابتسامة وهي
ترى عددا من الزوار يقفون منتظرين دورهم لالتقاط صورة معه، مع ان إشارة منع التصوير كانت تتصدر البوابة!
وهالها أن وجدت أنابيلّا تلقي إليها بألة التصوير الخاصة بها، وتسادع باتخاذ موقفها بين المنتظرين وهي تبتسم في رجاء.
تنهدت ندى وهي تنظر إلى آلة التصوير بين يديها.
ثم تقدمت خطوات، لا يزال أمامها بعض الوقت حتى يحين دور صديقتها
قادتها قدماها باتجاه الممر على يسار القاعة الذي يفضي إلى درج عريض يؤدي بدوره إلى قاعة سفلية متصلة بالقاعة الأولى.
نزلت الدرجات على مهل وقد نسيت أنابيلا تقريبا .
تبعت تيار الوافدين في استسلام، وهناك في الأسفل، استوقفتها مجموعة من التوابيت الخشبية المرصوفة خلف زجاج سميك، بزخرفتها الدقيقة الملونة.
كانت تعد لحماية المومياوات الفرعونية.
في اقصى القاعة كان هناك صندوق زجاجي آخر تَبَدَّت خلفه مومياء مستلقية على ظهرها ، وقد شبكت ذراعيها فوق صدرها , اتجهت نحوها في اهتمام، وهي تعتصر ذاكرتها محاولة استعادة صورة قديمة.
كأنها قد سمعت شيئا بشأن هذه المومياء في الماضي، لكنها لا تذكر أين ومتى.
وقفت أمام الجسد المحنط المحاط بلفافات قماشية بيضاء، استحال لونها إلى الأصفر الباهت.
قرأت اللافتة التي علقت عند رأس المومياء...
عن عملية التحنيط وحفظ الخلايا البشرية من التلف.
أخذت تسترجع الكلمات اللتي قرأتها منذ أشهر...
المومياء التي وجدت سليمة مكتملة دون كل المومياوات الفرعونية.
هل كانت لرمسيس الثاني؟ ليست متأكدة.
كانت السلطات الفرنسية قد استقدمتها من مصر لإجراء تحاليل مكثفة حول وسيلة حفظها وأسباب الوفاة وما إلى ذلك.
هناك شيء ما غريب اكتشفه الطاقم الطبي الذي أشرف على التحاليل...
ما هو؟، أه نعم... اكتشف أن الفرعون صاحب الممياء قد مات غريقا
! نعم، هوذاك! في تلك اللحظة استعادت الصورة كاملة.
كانت قد قرأت ذلك في كتاب الدكتور الجراح موريس بوكي.
كان هو ضمن الفريق الطبي الذي اشرف على تشريح المومياء.
لكنها قرأت له كتابا واحدا... التوراة والقرآن والعلم، كان قد تحدث عن ذلك في الفصل الخاص بالإعجاز العلمي في القرآن.
تسمرت في مكانها للحظات وهي تجمع كل تلك الأفكار وتعكسها على المومياء الماثلة أمامها , هل ذكر ذلك في القرآن حقا ؟
حين قرأت الكتاب، لم تحاول البحث عن الدلائل في القرآن، فهي حينها لم تكن قد شرعت في محاولة فهم النصوص القرآنية.
لكن الآن، يمكنها التثبت بنفسها. انتبهت حين أحست بكف تربت كتفها.
التفتت فزعة لتجد أنابيلَّا تطالعها في استياء...
ابتسمت في اعتذار وهي تعيد إليها ألة التصوير.
لقد فوتت عليها فرصة التقاط صورة مع أبي الهول.
- هل شدتك هذه المومياء؟ ،ابتسمي...
سأخذ لكي صورة معها، وقبل ان تعلق ندى، أضاء كاشف ألة التصوير، والتقطت الصورة.
ربما أخذت أنابيلَّا بذلك ثأرها.
ظلت المومياء تشغل تفكيرها، حتى أنهت جولتها وعادت إلى غرفتها, اعتذرت من انابيلا التي عرضت عليها تناول وجبة العشاء سويا، وأغلقت على نفسها الباب.
أين اختفى ذلك الكتاب؟، تذكر أنها لمحته في مكان ما هنا .
آه، ها هو، سارعت بالبحث في الفهرس وفتحت الصفحة الخاصة بقصة الفرعون.
أين هي الآية التي تحدث عنها؟، ها هي.
فتحت القرآن بسرعة، دون أن تفكر في طقوس الطهارة المعتادة.
لا تملك الوقت لذلك الآن.
بحثت عن الآية على عجل.
حين وصلت إلى الصفحة، وقفت مشدوهة:
{: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) }
كانت الآية في غاية الوضوح. عادت إلى الكتاب لتقرأ التفسير.
العلماء والمؤرخون اقروا بأن الفرعون المقصود في قصة النبي موسى هو صاحب المومياء الموجودة في المتحف.
الفرعون الذي طارد بني إسرائيل إلى اليم، فانفلق الماء بمعجزة إلهية ليعبر موسى وبنو إسرائيل، ثم غمرت المياه الطريق لتبتلع فرعون وجنوده...
الفرعون مرنْبِداح، خليفة رمسيس الثاني.
{: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً}
المومياء ظلت على حالها ، محفوظة لدرجة مدهشة طيلة خمسة آلاف سنة، ولم تشرع في التأكل إلا حين تم الكشف عنها في بداية القرن العشرين، ىرغم الحماية المتوفرة في المتحف، إلا أن ذلك لم يمنع حالها من السير نحو الأسوأ.
كان ذلك شيئا لا يصدق، عادت إلى الكتاب تستزيد التوضيحات.
كان يذكر وجوها عديدة أخرى من الإعجاز العلمي في القرآن...
عن الكواكب والنجوم، وعن مراحل تكون الجنين في بطن امه، وعن أشياء كثيرة أخرى.
راحت تقرء فصول الكتاب باللغة الفرنسية، ثم تعود إلى النص العربي الأصلي، ثم إلى التفسير الفرنسي للقرآن.
كانت هناك اختلافات في التأويل في بعض المواضع، لكن الالتقاءات كانت كافية لتذهلها وتمتعها في آن!
{أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)
كانت تلك الآية ماثلة بين عينيها على الدوام, تزعجها وتحيرها، تستفذها وتؤرقها في أحيان كثيرة.
ولم يعد بإمكانها التراجع عن الطريق التي توغلت فيها أكثر من اللازم.
قرأت القرآن مرات ومرات، وكانت في كل مرة تزداد فهما لكلماته البليغة.
قرأته بتمعن منذ البداية، تحلل وتفسر.
عادت وحيدة إلى مسجد باريس الكبير مرات، تقابل الأئمة وتستفسر.
كانت المعاني تتسلل إلى قلبها وعقلها رويدا رويدا ، وروحها تتشربها جرعة جرعة.
اقتنعت بالإعجاز العلمي دون شكوك، ثم تفكرت
{أفا تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }
فتعمقت أكثر، حتى لا تتوقف عند الجانب العلمي، وتكتشف بلاغة اللغة العربية وحلاوتها.
وكل ما توغلت في قراءتها وفهمها، تصدعت الدروع التي حصنت بها عقيدتها طوال طفولتها وبداية شبابها وأخذت في التداعي.
كانت الآيات القرآنية تعيدها إلى ذكريات نقاشاتها المحتدمة مع أحمد وتؤيد إجاباته على أسئلتها المستفزة...
لماذا يهاجمنا القرآن؟
- نحن لا نهاجم احدا ، والقرآن لا يهاجمكم. هل سمعت بأحد يهان من اليهوب في القرون السابقة؟
تغذت العنصرية ضد اليهود من أسباب مختلفة ، ولم يكن القرآن سببا فيها.
هل كان هتلر يقرأ القرآن ليكره اليهود والسود والعرب وكل من ليسو! جنسا أريا؟
هل نحن من فرضنا على اليهود الخروج من بيت المقدس منذ مئات السنين، وهل أخرجناكم عندما عشتم في أراضينا معنا؟ اسألي جدك او جدتك...
تكونت النقمة على اليهود من حركات اجتماعية وواقع سياسي محدد...
ثم اضاف بعد هنيهة:
- ولكن عداءنا للصهاينة قائم لا جدال فيه، لأنهم يصرون على اتباع منهج اليهود القدامى الذي يدينه القرآن بوضوح،
أنا لا أخفي عليك الأمر.
وإليك الأسباب...))
ثم طفق يعدد لها الأسباب, ولم تكن تعلم ايا منها
أحست بالجهل المدقع في قرارة نفسها. وها هي الآيات التي تقرؤها بين يديها تشهد على ذلك:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
(75)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
(76)
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }
{قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
{أوَ كل ما عاهدوا عهدا نبذه فريقا منهم بل أكثرهم لا يؤمنون}
عاد صوت أحمد يرن في أذنيها وهي تعاين الآيات في شغف:
«- كما أن الكلام ليس واردا على اليهود فقط، بل على كل من طغى وعاث فسادا في الأرض أيا كان
ألم يذكر القرآن أنه عاقب فرعون وجعلكم من أعزاء القوم باتباعكم موسى عليه السلام؟، هل في هذا إهانة؟
بل هو العكس تماما ،
فقد حفظ لكم تاريخكم وأراكم أنكم كنتم من عباده الصالحين، وممن أكرمهم بأنبيائه...»
{يابني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين }
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (62)
وتتالت المشاهد أمام عينيها.. عن الجهاد في الإسلام والغزوات، وقصة عيسى بن مريم، والبعث والعقاب والجزاء..
الأسئلة التي طالما راودتها الشكوك حولها، لشد ما راوغت احمد بشأنها، وتفننت في إيجاد السغرات في تحليلاته وتأويلاته.
لكنها وهي تمسك المصحف بين يديها، تحس بصدق ما تقرا.
تحس بعمق وقوة لم تعهدهما في التوراة أو في العهد القديم, ولم يخفى عليها أنها آخذة في التغير...
بل هي قد تغيرت من الداخل دون أن تشعر.
وحين قرأت في إحدى لياليها المسهدة آية سورة الحديد، بصوت خافت متهدج:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ? وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ
أعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون }
انتابتها نوبة بكاء عنيفة، جعلت جسدها النحيل يهتز بقوة.
تركت المصحف لبضع دقائق، واغمضت عينيها تحاول تمالك نفسها
لم تعد تسيطر على التحولات التي تحدث بداخلها.
وضعت كفها على صدرها لتوقف دقات قلبها المتسارعة، وصوت في رأسها يردد في إصرار:
ألم يأن؟ الم يأن...؟ يحثها على الإجابة.
عادت إلى قراءتها لتطرد الأفكار الغريبة التي تلح عليها...
تقرأ دون تركيز، فقط لتخمد ثورة قلبها.
لكنها حين وصلت إلى الآية:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس; لعلهم يتفكرون؛ ،
أطلقت صرخة مكتومة، وانهارت ساجدة على الأرض
كان الجبل الذي بداخلها قد انهار خاشعا ، متصدعا من خشية الله !
{وقالوا لن يدخل الجَنَّةِ إلا من كان هودا أو نصارى قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الحادى والعشرون من رواية فى قلبى انثي عبرية بقلم خولة حمدى
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع أيضاً: جميع فصول رواية جمعتنا صدفة بقلم هنا عمرو
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من روايات حب
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا