أصدقائي الأعزاء متابعي موقع قصص 26 يسعدني أن أقدم لكم الفصل الرابع والعشرون من رواية فى قلبى أنثى عبرية بقلم دكتورة خولة حمدى وهي رواية واقعية إجتماعية ممزوجة بالحب وأيضا تتسم بالكثير من الأحداث والمواقف المتشابكة التي ستنال اعجابك بالتأكيد فتابع معنا.
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل الرابع والعشرون
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى |
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل الرابع والعشرون
كيف سارت الأمور؟أجاب سالم في ثقة:
لقد دبرت لها مكانا لتسكنه، لا داعي للقلق.
حسنا، سأوافيك بالخبر حين تنتهي من تحضير أوراق السفر.
إلى اللقاء.
استوقف سالم مخاطبه بسرعة:
-لحظة، لحظة!
-ماذا هناك؟
سأل في مزيج من الفضول والحيرة:
-ما الذي دفع سونيا إلى إرسال ندى إلى هنا ؟، هل جد هناك شيء؟،
أجاب محدثه بلهجة جافة:
لاصلاحية لي بإعطاءمثل هذه التفاصيل. ما أنا إلا وسيط!
تنهد سالم في تسليم وهو يقول:
حسن... فليكن كذلك إذن.
من الجهة الأخرى للخط، تنهد إيميل وهويعيد الهاتف إلى دانا.
هل انتهينا من هذه الحكاية؟
هزت دانا رأسها وهي تقول بامتنان:
آسفة عزيزي لأنني أقحمتك في مشاكلنا العائلية، لكنني لم أكن أقوى على محادثته بنفسي! بعد كل هذه السنين، لا يمكنني أن أعود نفسي على تقبل كونه والدي
لكن في هذه الظروف العصيبة، ليس هناك مفر من الاتصال به، على الأقل حتى تتحسن حال أمي، أو تعود ندى إلى رشدها
لا احد من العائلة هنا يمكنه أن يستقبل ندى أو يهتم لأمرها، لذلك فمن يسمي نفسه والدها هو الأولى بتحمل مسؤوليتها لبعض الوقت
هز إيميل رأسه متفهما، وهو يداعب صغيره في المهد: -
هل الأوراق جاهزة؟ -
أحضرت جوازها وجميع اوراقها الشخصية، مع بعض حاجياتها الخاصة من منزل العائلة دون أن تعلم أمي.
لم يبق علينا إلا شراء تذكرة السفر...
سأقتطع ثمنها لاحقا من نصيبها مما تركه بابا جورج وميشال، ظروفنا المادية لا تسمح بتوزيع الصدقات...
متى تتصلين بها ؟
بعد الحجز للرحلة مباشرة.
لا داعي لإخبارها الآن.
ثم اضافت وهي تسرح بنظراتها إلى الفراغ:
على أية حال، لا يمكنها الاعتراض، سيكون ذلك أفضل من تسوُّلها السكن واللقمة من عائلة خطيبها السابق!
غدا، رحلتها ستكون يوم غد !
لم تصدق أذنيها حين اتصلت دانا منذ يومين تعلمها بموعد السفر.
سرها أن دانا فكرت فيها وفي حل لمشكلتها.
لم تكن يوما على وفاق تام مع دانا، ولم تكونا صديقتين بما للكلمة من معنى.
لكنها شقيقتها الوحيدة، وقد ربطتهما أشياء كثيرة في الماضي.
دانا حزنت بصدقعند وفاة ميشال وجورج
مع غياب صلة الدم بينهما... لذلك من الطبيعي! أن تفكر في شقيقتها، لحمها ودمها!
هكذا فكرت ندى، قبل أن تفكر في خطة الرحيل إلى تونس نفسها.
لكنها في نهاية المطاف لم تجد سببا يدعوها للرفض.
والدها الذي اختفى عن ناظريها منذ طفولتها المبكرة يدعوها لقضاء بعض الوقت معه.
لماذا يدعوها الآن بعد كل هذا الوقت؟، ربما لأنه علم بإسلامها! وهو مسلم وعائلته كذلك...
لا بد أنهم سيرحبون بمسلمة أكثر من يهودية، لذلك جاءت الدعوة في هذا الوقت بالتحديد.
ام هل تكون سونيا قد اتصلت به سعيا للخلاص منها إلى الأبد
لم يكن بإمكانها الجزم...
لكنها لم ترفض.
كانت تقوم بتمشيط شعرها أمام المرآة، حين اقتربت سماح لتجلس قربها.
لمحتها بطرف عينيها وهي تحرك أصابعها في توتر، كأنها تَوَد محادثتها في أمر ما، قالت دون أن تلتفت إليها وهي تواصل تمرير المشط ببطء بين خصلاتها
ما الأمريا سماح؟
هتفت سماح دفعة واحدة دون تردد :
هل أنت واثقة من رغبتك في السفر إلى تونس، لست مضطرة إلى الرحيل، يمكنك البقاء بيننا دائما.
ثم أنك لا تعرفين أحدا هناك، حتى والدك لم يسبق لك ان رأيته منذ انفصال والديك!
تنهدت ندى وقالت مبتسمة:
يا عزيزتي... بما أن الفرصة قد سنحت اخيرا للقاء والدي، فلماذا أرفضها؟
هل تعودين فيما بعد؟، لن تبقي هناك طويلا، أليس كذلك؟، التفتت إليها ندى وهي تضع المشط جانبا:
لست أدري بعد...
ربما يطيب لي البقاء هناك إن عاملتني زوجة أبي جيدا.
كما أنهم مسلمون يا سماح! يعني لا خوف علي بينهم.
عبست سماح، ثم قالت بعد صمت قصير:
وماذا عن طلب حسان؟، أنت لم تردي عليه بعد!
ترددت ندى لوهلة، لكنها سرعان ما أشاحت بوجهها وهي ترد في لا مبالاة:
ألم يقل إنه يريد الزواج منِّي حتى يحميني من والدتي؟، ها أنا سأذهب إلى جوار والدي، وليس هناك من يمكنه حمايتي أكثر منه.
أليس كذلك؟
لذلك لا داعي للقلق علي بعد الآن.
احتضنتها سماح، ضمتها إلى صدرها وهي تهمس في حزن:
كنت أتمنى ان تتزوجي حسان وتظلي بيننا دائما، كيف يمكنني أن أسافر إليك في تونس؟
احتضنتها ندى بدورها وهي تقول مداعبة:
وفري ثمن التذكرة واشتري دمى كثيرة لريما.
لنقل إنها هدية من خالتها ندى.
سرحت عبرات سماح على خديها وهي تتمتم في اختناق:
-وماذا لو كان ولدا؟
لم تجب ندى، فقد كانت هي الأخرى قد أغرقت في البكاء.
حملت ندى حقيبتها الصغيرة التي تضم الحاجيات القليلة التي اقتنَتها صحبة سماح في الأيام الماضية.
ألقت نظرة وداع أخيرة على الغرفة الغالية التي ضمتها في وقت ضياعها وتشردها، ثم اغلقت الباب خلفها.
هل تراها تعود مجددا إلى هذا المكان؟، لم تكن تدري كيف ستكون رحلتها ، وأين سينتهي بها المطاف.
كانت سماح والخالة سعاد تنتظرانها في الممر وفي عيونهما آثار البكاء
بادرتها الخالة سعاد وهي تحتضنها :
هل تغادريننا هكذا يا ابنتي؟ هل سيهتمون بك جيدا في تونس؟
سأكون مع أبي يا خالتي,.. وأهله هناك مسلمون، لا خوفا علي إن شاء الله...
إهتمي بنفسك جيدا، بطعامك وشرابك... لا تخنجي وحدك، فأنت في ارض غريبة وقد تتوهين.
غطي نفسك جيدا في الليل ولا تهملي هندامك...
ولا تنسي أن تتصلي بنا وطمننينا عنك...
ابتسمت ندى وهي تهز رأسها موافقة.
كانت تتمنى ان تكون والدتها من يوصيها تلك الوصايا، لكن قذر الله وما شاء فعل.
قاطعت سماح عناقهما وهي تستعجلها:
هيا يا ندى، ستتأخرين عن الرحلة.
يجب أن نغادرالآن!
انصاعت ندى في شيء من الحسرة. ستفتقد دفء الخالة سعاد وحلاوة شايها.
ستفتقد دفء هذه العائلة وحرارة المشاعر الندية عندها.
لكن لا خيار لديها الآن غير المضي في طريقها .
تبعت سماح إلى الباب الخارجي، حيث وقفت السيارة التي ستقلها إلى موقف الحافلات، ومن ثم تركب الحافلة إلى بيروت ومطارها الدولي.
دانا قالت إنها ستنتظرها عند المحطة لتسلمها جواز سفرها وتذكرة الطائرة.
لم ترد أن تأتي إلى هنا، فهي لم تحب أحمد او عائلته يوما.
ما إن تجاوزت الباب حتى لمحت أيهم قحسان يقفان في الانتظار, استدارت إلى سماح وهمست في انزعاج:
-ما الذي يفعله حسان هنا ؟، اجابت سماح بصوت هامس هي الأخرى:
سيارة أيهم معطلة، لذلك فإن حسان سيقلنا بسيارته.
لماذا جاء بنفسه؟، كان عليه ان يكتفي بإعارة سيارته لأيهم!
هزت سماح كتفيها في لا مبالاة، لكن ندى توقفت في إصرار:
سأستقل سيارة أجرة
دفعتها سماح إلى الأمام وهي تهمس:
كفى تذمرا، هيا، سنتأخر على الرحلة...
ثم اضافت بصوت عال وهي تخاطب الرجلين:
نحن جاهزتان... نأسف على التأخير...
ركبت ندى في المقعد الخلفي حذو سماح في شيء من التوتر.
لم تكن تريد أن ترى حسان
تحس بالحرج تجاهه بعد رفضها لطلبه.
ظلت مطرقة طوال الرحلة بالسيارة
لم تستطع ان تشاركهم أحديثهم المسلية التي كانت تهدف بالأساس إلى التسرية عنها، وتخفيف وطأة الفراق عليها.
حاولت أن تبدد توترها بالفرجة على البنايات والشوارع، لكن تركيزها كان مشوشا وحالتها النفسية بعيدة عن الاسترخاء,,, لم تنتبه إلى ان سماح الجالسة إلى جوارها لم تكن في أفضل حالاتها الصحية.
كانت قد انقطعت عن مشاركتهم الأحاديث وغاصت في مقعدها ممسكة بطنها.
فجأة جاءها صوتها وهي تهتف بصوت واهن:
توقف أرجوك... توقف...
التفت إليها ايهم في قلق:
ماذا هناك؟
قالت وهي تضغط بكفها على جبينها:
أحس بدوار شديد، ورغبة في التقيؤ!
ضغط حسان على المكابح ليوقف السيارة على جانب الطريق، في حين سارع ايهم بالنزول ليساعد زوجته على الخروج من السيارة-
همت ندى بالنزول بدورها ، لكن صوت حسان استوقفها فجأة: '
ندى، هلا بقيت في السيارة للحظة؟
التفتت إليه في استغراب وتوجس، لم يكن قد وجه الخطاب إليها منذ فترة.
منذ تقدم إليها بطلب الخطبة.
حتى في هذا الصباح، رغم تظاهره بالمرح وتبادله الحديث مع أيهم وسماح طوال الطريق، إلا أنه لم يخاطبها هي بالذات.
لا شك انه يشعر بالحرج مثلها تماما.
كان ينظر أمامه، لم يحاول حتى أن يتطلع إليها عبر المرأة العاكسة.
تكلم بهدوءوحياء، تحس باضطرابه وتوتره:
انتظرت هذه الفرصة لأتحدث إليك...
ربما لو تركتك تسافرين دون أن أقول ما في نفسي، لكنت ندمت على ذلك كثيرا.
أعلم أنك تمرين بظروف صعبة، وأن موضوع الزواج ليس من أولوياتك.
سافري إلى والدك وغيري الجو... تحرري من كل القيود والضغوط، وحين تستقر حالتك النفسية، فكري في طلبي مجددا... أرجوك.
فوجئت بكلماته التي لم تتوقعها.
رغم رفضها طلبه للارتباط، ها هو يجدده مرة أخرى.
أضاف بعد صمت قصير، كأنه يرد على تساؤلات في نفسها:
ربما اخطأت بالتقدم في مثل هذه الظروف، ففهمتني بشكل خاطئ...
لم أتقدم إليك شفقة او عطفا.
لكن الأحداث التي مررت بها في الفترة الماضية جعلتني أفكر بأنك في حاجة إلي... مثلما انا في حاجة إليك.
لذلك، أرجوك فكري في الأمر جيدا خلال رحلتك إلى تونس، فإنني سأنتظر ردك.
لم تستطع أن تفكر او ترد ، ولم يسعفها الوقت لتفكر في كلمات تقولها، فقد جاءها صوت سماح وهي تقترب من السيارة:
آه... لم أكن أعتقد ان معدتي لا تتحمل الرحلات بالسيارة.
أجابها أيهم وهو يساعدها على الصعود:
إنه الحمل يا عزيزتي,.. بنيتك تصبح أكثر هشاشة وتأثرا بالعوامل الخارجية.
تناولت ندى كافها، وأعانتها على الاسترخاء في مقعدها وهي تقول:
لم يكن عليك أن تكلفي نفسك عناء الرحلة
كان بإمكاني أن اركب سيارة اجرة.
هزت سماح رأسها نافية:
لا تقولي هذا... أنت مثل أختي وأكثر!
بعد ثوان، كانت السيارة تتحرك من جديد.
لكن ندى لم تستطع ان تطرد عنها كلمات حسان التي ظلت تتردد في أذنيها في إصرار.
وقف جاكوب في المطار يطالع ساعته في توتر، مر نصف ساعة منذ أعلنت المضيفة وصول الرحلة القادمة من لبنان، وها هو ينتظر برفقة سالم ظهور ندى عبر بوابة الخروج.
كان يمسك بيده صورة لها التقطتها اخته راشيل في حفل خطبة شقيقتها دانا.
لم تكن الصورة شديدة الوضوح، لكنه ميز ملامح الفتاة...
كانت هي بعينها التي رآها حين سافر إلى قانا ليستعيد حاجيات ريما.
يمكنه ان يتعرف إليها بسهولة.
كان يشك في أن سالم سيتعرف عليها ، وهو الذي لم يرها منذ سنوات طويلة
كان كلاهما يتفرسى في وجوه الوافدين من البوابة في ترقب.
فجأة تسمر جاكوب مكانه مصعوقا
أخذ يحدق في الفتاة التي ظهرت ضمن المسافرين ودقات قلبه تتسارع بشكل مجنونا
ريما؟
كانت تلبس جلبابا أسود واسعا مثل الجلابيب التي تحب ريما أن تلبسها عند ذهابها لدرس الدين يوم الجمعة، وتضع على رأسها وشاحا مألوفا.
إنه الوشاح نفسه الذي اشتراه لريما حين قررت أن تلبس الحجاب الإسلامي!
لا يزال يذكر ذلك اليوم، ويذكر فرحة الصغيرة وهي تجربه.
اضطربت أنفاسه وهو يتابع الفتاة التي أخذت تتلفت في حيرة، بحثا عمن يستقبلها.
لكن لا.., ريما كانت اكثر ضألة منها.
ثم، ريما غادرت هذا العالم منذ ما يزيد على السنوات الثلاث.
أغمض عينيه لثوان ليستعيد هدوؤه، ثم فتحهما من جديد.
لم يكن سالم قد انتبه إلى الفتاة.
أومأ إليه جاكوب وهو يشير إليها برأسه:
أليست هذه ابنتك؟
التفت إليها سالم، ثم سرعان ما استدار إلى جاكوب ضاحكا:
هل تمازحني؟، الا ترى أنها تلبس الحجاب الإسلامي؟، ابنتي نشأت على اليهودية مثل أمها!
لكن جاكوب لم يقتنع. إن لم تكن ريما، فهوواثق من أنها تلبس وشاح ريما
نظر إلى الصورة مجددا، ثم إلى الفتاة. إنها هي لا ريب في ذلك.
مد الصورة إلى سالم ودفعه في اتجاهها: - اذهب واستقبل ابندك... إنها هي دون شك!
ردد سالم بصره بين الصورة والفتاة في استغراب
لم يكن قد استوعب الأمر حين لاحظ أن الفتاة قد توقفت ترقبه.
هل كانت تشبهه؟، ليس متأكدا، لكنه أحَس بانجذاب غريب نحوها.
تقدم في اتجاهها في تردد:
- ندى؟
تجمعت العبرات في عيني الفتاة التي بدت ضائعة ومُشَتَّتَة:
-بابا؟
لم يتمالك نفسه أن هب ليعانقها في حرارة.
ابنته التي لم يرها منذ ما يزيد على السبعة عشر عاما !
وقف جاكوب غير بعيد عنهما يرقب في تأثر بالغ لقاء الفتاة بوالدها
لم يكن يظن أن سالم قادر على إظهار هذا القدر من العاطفة.
تخيل أنه يعانق ريما، ابنته البكر التي لم ينجبها.
كان يريد أن يقحم نفسه بينهما ويمطر الفتاة بكل الأسئلة التي تراوده عن ريما.
كيف كانت حياتها في لبنان، وكيف عاشت أيامها الأخيرة...
هل كانت سعيدة؟
لكنه أجل دوره إلى حين ينتهي سالم من استقصاءه لأحوال ابنتيه وكل ما جد في حياتهما.
تنحى جانبا، وأخرج سيجارة من جيب معطفه الداخلي.
التدخين ممنوع في فضاء المطار.
لاعب لفافة التبغ بين أصابعه دون أن يشعلها.
منذ متى بدء يدخن؟، ليس متأكدا.
كان ذلك بعد رحيل ريما إلى لبنان.
انتبه فجأة إلى غرابة ما رآه للتو.
الفتاة التي ظنها يهودية كانت ترتدي الحجاب الإسلامي
كانت مفاجأة لم يتوقعها، وسانم لم يبدُ على علم بالأمر أيضا.
هل سيغير ذلك من مخطط إقامتها عنده؟، ربما غير إسلامها موقف زوجة سانم؟
مرت دقائق طويلة، قبل أن يعود أدراجه إلى حيث ترك سالم وابنته.
نظرت ندى إلى الرجل الغريب في تساؤل.
كانت واثقة من انها رأته في السابق.
كان شكله مألوفا إلى درجة غريبة.
لكنها لا تذكر ملابسات اللقاء.
ازدرد سالم ريقه وقال:
- ندى صغيرتي... لا يمكنني أن أستقبلك الآن في منزلي، فزوجتي لم تتقبل بعد فكرة قدوم ابنتي من زوجتي الأولى للإقامة بيننا
لذلك فإنك ستذهبين مع عمك جاكوب الآن.
إنه رجل طيب وسيعاملك جيدا.
في هذه الأثناء سأعمل جاهدا على إقناع زوجتي باستضافتك.
ما رأيك؟
تسمرت مكانها في ذهول.
الآن تذكر اين رأت العم جاكوب
إنه بذاته وصي ريما الذي جاء إلى منزلهم منذ ثلاث سنوات!
يال عجائب الأقدار!
لم تتصور أن تلتقيه مجددا ، فضلا على أن تكون ضيفته.
لكن لماذا تذهب إلى منزله الآن؟، لماذا لا يمكنها أن تكون مع والدها الذي انتظرت طويلا فرصة اللقاء به؟
هل غادرت منزل أحبابها في لبنان لتقيم مع غرباء؟
ثم، أليس جاكوب وعائلته من اليهود؟، يا الله..
عضت على شفتها السفلى في غيظ، تمالكت نفسها بصعوبة.
لا يمكنها الاعتراض وهي في بلد غريب، لا تعرف أحدا من أهله غير هذين الرجلين اللذين تعتبر أحدهما والدها.
يقول إنه سيقنع زوجته باستقبالها.
ربما لن يطول الأمر بالفعل...
ربما رفضت في البداية لأنها ظنتها يهودية، وربما وافق جاكوب على استقبالها لنفس السبب ايضا.
بادرته بلهجة متوسلة:
-بابا، انا مسلمة...، ألا ترى؟
كان سالم قد لاحظ ذلك في شيء من الدهشة والفرح. لا شك انه قد سر لأسلامها
لكن إعتراض زوجته كان قاطعا وغير مشروط
لا تريد أثرا لحياته السابقة في حياة عائلتها
ردد بصره بينها وبين جاكوب في حيرة، لكن جاكوب أجاب مطمئنا وهو يحطم السيجارة بين أصابعه:
-لن يغير ذلك من اتفاقنا شيئا...
ابتسم سالم وهو يربت كتف ندى:
- ألا ترين.., كل شيء على ما يرام.
اذهبي الآن مع عمك جاكوب، وسآتي لأخذك قريبا
«اخي في الله أحمد،
وصلت اليوم إلى تونس.
تصور، أنا الآن في غرفة ريما !
لم أتخيل أبدا أن أحط في هذا المكان حال قدومي إلى مسقط رأسي، ان أقضي ليلتي الأولى في غرفة أختي وحبيبتي التي قاسمتني سريري لمدة شهور.
إحساس غريب بألفة غير متوقعة غمرني حال ما وقعت عيناي على أشياء ريما القديمة التي لم تتحرك من مكانها , لعل الله سخر لي هذه الأسباب ليخفف عني غربتي.
ريما ...
أذكرها كما لو أنني لقيتها بالأمس.
لطالما راقبتها سرا وهي تلعب في الحديقة قبل اختفاء راشيل، ثم وهي تكد في عمل البيت كسندريلا صغيرة.
كانا متقاربتين في السن، لكني ولدت ناضجة وبقيت كذلك...
أما ريما فكان فيها طبع الأطفال وحلو دلالهم، رغم مكابرتها.
كان يمكنها أن تضحك ملء شدقيها رغم قسوة الحياة عليها ، وتلهو كل ما سنحت الفرصة لتنسى هموما هاجمتها قبل أوانها.
أما أنا، فإنني أحمل ذاكرتي على كفي.
تلك اللعنة ظلت ترافقني...
لعلني لم أرزق نعمة النسيان مثل كل البشر.
رغم أنني لا اقرء أبدا في المذكرات التي أكتبها منذ صغري، إلا ان الصور تعاودني كل ما عن لها الأمر، بكل تفاصيلها.
لذلك تتراءى لي صورة ريما الآن بنفس الوضوح، رغم مرور كل ذلك الوقت.
أتخيلها الآن في فضاء هذه الغرفة، أكاد اراها رأي العين، تتحرك بنفس الحيوية والعفوية
لطالما راقبت الحياة من خلالها، لكن ذلك لم يحرمني الانغماس في حياة كثيفة المشاعر والأحداث
الآن، رحلت ريما,. ولم تعد الحياة التي كنت أراقبها سوى ذكريات.))
تعالت طرقات على باب الغرفة.
تركت أوراقها ووقفت لتفتح.
كان ولد صغير لم يتجاوز الثامنة يقف أمامها.
نظرت إليه في تساؤل، فمد إليها كفه مصافحا وهو يقول في ثقة تتجاوز سنه بكثير:
مرحبا، أنا باسكال، وأنت ما اسمك؟، صافحته في مرح، ثم اوسعت المدخل لتتركه يدلف إلى الغرفة.
- اسمي ندى. كم عمرك يا باسكال؟
ثماني سنوات.
وأنت؟، أجابته وقد اتسعت ابتسامتها:
أنا أكبر منك بكثير. اثنان وعشرون سنة!
اشار باسكال إلى حجابها وهو يقول:
أنت مسلمة، أليس كذلك؟، هزت رأسها موافقة، فأضاف:
ريما كانت مسلمة أيضا، وتلبس ثيابا مثل ثيابك.
لذلك طردتها أمي من بيتنا!
حدقت فيه في دهشة، فاستطرد في لباقة لم تعهدها لدى الأطفال:
لكن لا تخافي، لن تطردك أيضا.
أبي يبدو أكثر ثقة في نفسه هذه المرة وقد صمم على بقائك معنا.
لذلك جئت لأرحب بك
لم أكن لأفعل ذلك لو قالت امي إنك ستغادرين. كنت سأضيع وقتي هباءا!
لم تكن قد تجاوزت صدمتها حين أضاف ببراءة:
-لماذا أتيت للعيش معنا؟، ريما كانت دون عائلة، وكان أبي قد رباها منذ كانت صغيرة.
لكنك كبيرة، هل تحتاجين أيضا إلى من يهتم بك؟
قبل أن ترد ندى، ظهرت من فتحة الباب ذراع شدت باسكال من أذنه، وجذبته إلى الخارج.
تأوه الولد في ألم، في حين ظهرت فتاة تكبره بسنوات قليلة عند الباب.
نهرت باسكال بلهجة حادة:
توقف عن الثرثرة عديمة الجدوى!
ثم التفتت إلى ندى وحيتها بأدب ثم قالت:
آسفة على الإزعاج.
إنه لا يزال صغيرا... لا يدرك جيدا ما يقوله.
حيتها مجددا، ثم أخذت اخاها وانصرفت.
تابعتهما ندى في دهشة شديدة.
كانا طفلين مدهشين حقا.
لكن ما قاله باسكال عن ريما كان كل ما يشغل ذهنها في تلك الآونة
زوجة جاكوب طردتها لأنها مسلمة؟، لذلك سافرت إلى لبنان، لأنه لا عائلة لها في تونس!
مسكينة ريما, تخلى عنها الشخص الذي رباها منذ صغرها والذي اعتبرته كل عائلتها.
لا شك أنها تألمت كثيرا ، كتمت في صدرها كل ذلك.
لم تكن تذكر جاكوب إلا بكل خير.
ظلت تحتفظ له بذكرى طيبة طوال الوقت.
جلست إلى المكتب مجددا ، وأخذت القلم لتواصل رسالتها , لكنها غصت فجأة.
سقط القلم من يدها.
أخفت رأسها بين ذراعيها واستسلمت لنوبة بكاء حادة.
أيقنت فجأة أن حالتها اليوم لا تختلف كثيرا عن الحالة التي عاشتها ريما منذ سنوات.
كانت ترثي لحال ريما ... واليوم من ذا الذي يرثي لحالها؟
غادرت لبنان كما غادرت ريما تونس، فرارا بدينها.
فرت لأنه لا عائلة تؤويها هناك او تقبلها كما هي.
جاءت إلى هنا وهي تعتقد بأنها ستجد سندا جديدا في والدها.
لكنها توقن الآن بأن والدها لم يطلب مجيئها كما توقعت.
فكيف يمكنه أن يطلبها ثم يكل لصديقه اليهودي مهمة استقبالها؟
هل كانت والدتها من سعى إلى ترحيلها؟، أم تراها دانا هي التي فكرت بحل بمفردها ؟
أيا كانت الأسباب والملابسات، فهي بالتأكيد ضيف غير مرغوب فيه في منزل كل أفراده من الغرباء. ،
أخذت تكتب والحزن يمزق نياط قلبها :
أنت تعلم، اليهود مثل كل البشر، فهم ليسوا شياطين في نهاية الأمر-
اشخاص عاديون، لديهم قضاياهم التي تشغلهم.
المشكلة ليست في وجودهم في حد ذاته، إنما في القضايا التي يدافع عنها قسم كبير منهم، والطريقة المتبعة في ذلك.
أوقن بأنه ليس هنالك عرق شرير» بالفطرة او في المطلق.
حين أنظر في تاريخ الأشخاص المقربين مني، أرى نوعا من القسوة البالغة التي تبدو شرا» للوهلة الأولى.
أمي تخلت عن والدي وعن وطنها كله من أجل قضية عادلة في نظرها.
حرمتنا أنا ودانا من الأب والأرض والعائلة، وهي تظن نفسها ثحسن صنعا.
ثم طردتني من البيت شر طردة، مرة ثم ثانية، لأنني بالنسبة إليها قد خنت» العهد ومسحت الأرض بجهودها طوال سنوات في تربيتي.
جاكوب، تخلى عن ريما رغم حبه الشديد لها، حين أصبحت تمثل تهديدا لأمان عائلته واستقرارها, تانيا، لم تحب ريما يوما ولا أظنها ستحبني أو تحب أي إنسان مسلم على الإطلاق !
شقيقتي دانا، لم نجلس سويا كأختين منذ زمن، حتى أيام الحداد على بابا جورج وميشال رحمهم الله، كانت تبدو فيها متباعدة.
لا تطيق أن تخرج معي إلى أي مكان لخجلها من حجابي.
لكنني أتساءل أيضا، ماذا لو تحولت سماح مثلا حفظها الله من كل شر- إلى المسيحية أو أي دين آخر؟، كيف كانت لتعاملها خالتي سعاد؟
أشك في أن أي ام مسلمة قد ترضا بذلك لأولادها أو تقبلهم تحت سقفها بعد ارتدادهم.
لا أقول هذا لأدافع عن أهلي الذين جحدوني، بل لأن هذا أمر واقع.
لن أذهب بعيدا
ها هو والدي المسلم يقيم على بعد بضعة شوارع من هنا
هل تراه يفكر في او يسأل عني؟
أوا ليس تخليه عني أيضا شرا؟
وهل يختلف في ذلك عن أمي وشقيقتي؟، بل الدهى
لو كنت ظللت على اليهودية لكنت تفهمت دوافعه، لكن وقد أصبحت مسلمة، فأي مبرر يسكت به ضميره لامتناعه عن رؤيتي أو الاهتمام لأمري؟
هل يطمئن لوجودي بين اليهود؟
لا أجد له عذرا واحدا يا احمد.
هل تعلم، كنت أظن أن العتب يقع على أمي فقط لأنها أبعدتنا، لكنني. أتساءل الآن إن كان الأمر سيختلف لو الننا بقينا هنا في تونس.
أحست بآلام في ظهرها وذراعيها ، تململت وحركت أطرافها.
لم تكن وضعيتها مريحة. فتحت عينيها ببطء ورفعت رأسها.
أحست بالغطاء الذي كان ينسدل على كتفيها ينزاح ويسقط أرضا.
تلفتت حولها في ذعر.
أين انا؟
كان النعاس قد غلبها وهي تجلس إلى المكتب.
لا تدري كم مضى عليها من الوقت .
كانت الغرفة قد غرقت في الظلام، إلا من ضوء ضئيل.
انحنت لتلتقط الغطاء.
من ذا الذي اهتم بتغطيتها ؟، ما إن خطت باتجاه السرير، حتى لمحت صينية الطعام التي كانت على المنضدة.
لقد أحضروا لها طعامها أيضا
كان الطبق قد برد.
لا شك انها نامت لوقت طويل.
كانت تحس ببعض الصداع، آه، لم تُصَلِّي العشاء بعد.
فتحت باب الغرفة في حذر.
من أين الحمام؟، كان ضوء خافت ينبعث من إحدى الغرف.
ستجد طريقها هكذا,.. تقدمت في الممر محاذرة إحداث أي صوت.
لا شك أن أهل البيت نيام في مثل هذه الساعة.
توقفت أمام الغرفة التي انبعث منها الضوء.
كان الباب نصف مفتوح، وعلى الأريكة القريبة كان هناك عدد من الصور المبعثرة والأوراق المتناثرة.
هُيِّئ لها أنها ترى شكل ريما على إحدى الصور.
دفعها الفضول للاقتراب.
كانت صور ريما بالفعل!
تأملت بعضها ثم تناولت إحدى الأوراق، كانت رسائل تبدأ كلها ببابا يعقوب))...
ريما كانت تنادي العم جاكوب هكذا , لا شك أنها رسائل كتبتها ريما لجاكوب خلال إقامتها في لبنان.
كانت الرسائل كثيرة.
لا شك أن علاقتهما كانت مميزة حتى تكتب إليه بهذه الكثرة.
تريدين فنجانا من القهوة؟
التفتت في فزع حين جاءها الصوتي من خلفها.
كان جا كوب يقف مبتسما وهو يحمل في يده إبريق قهوة، يتصاعد البخار الحار منه.
همهمت في اعتذار:
أنا آسفة، لم أرد التطفل.
صب القهوة وناولها الفنجان، ثم أشار إلى الصور وهو يقول في حنين باد:
تعرفين ريما؟، كانت النور الذي يعطي لحياتي معناها.
كانت أغلى من أولادي...
لكنني في لحظة ضعف واختلال، تخليت عنها بكل إرادتي,,.
كان يبتسم في مرارة، وهو يجمع الرسائل التي يحفظ نصوصها عن ظهر قلب.
احترمت ندى صمته، وأطرقت دون أن تلمس الفنجان الساخن أمامها.
استأنف بعد صمت قصير:
كنت أريد أن اسألك عنها، وعما كانت عليه حياتها في لبنان...
في رسائلها تقول إن كل شيء كان على ما يرام، وإنها حظيت بكل الرعاية والعناية.
لا تتذمر أبدا.
لم تتذمر يوما من معاملة زوجتي القاسية حين كانت بيننا...
لذلك اشك بأنها قد تتذمر من صعوبة الحياة هناك...
لم تعلق ندى.
لم ترد أن تؤكد مخاوفه بشأن ما عانته ريما في غربتها.
لن يفيد ذلك بشيء عدا ان يزيد من إحساسه بالذنب.
لم يحاول جاكوب أن يلح في السؤال.
بدا أنه يخاطب نفسه وهو يستطرد:
كانت تقول دائما إنها تحبُنَيّ ...
وتدعو لي بالهداية. كنت أريد أن أخبرها كم احبها وآخذها بين ذراعي.
لكن الحواجز التي وضعها دينها بيننا حالت دون ذلك.
لم أرد على واحدة من رسائلها.
لم أستجب لتوسلاتها وهي ترجوني أن أبقيها هنا...
فقدتها هكذا، بكل بساطة... دون أن أحرك ساكنا.
ازدادت ابتسامته شحوبا ، وسحنته تجهما.
حاولت ندى أن تتكلم، لكن الكلمات لم تسعفها. لم تدرِ كيف يمكنها أن تخفف عنه.
لكنها نطقت أخيرا في شيء من الارتباك:
رغم كل شيء... ريما كانت تحتفظ بذكرى جميلة عنك. كانت تذكرك بكل خير
استدار إليها كأنه انتبه للتو لوجودها في الغرفة.
ثم ابتسم في امتنان.
حين عادت ندى إلى غرفة ريما، كانت قد اتخذت قرارا.
قدرها ساقها إلى هنا...
لذلك لا يمكنها أن ترحل دون أن تترك أثرا او تحدث فرقا.
ستكون هديتها الأخيرة لريما.
لشد ما دعت بالهداية للأب الذي رباها.
كم ستكون فرحتها كبيرة حين تلقاه في الجنة!
ابتسمت وهي تتمدد على السرير، وتضع خطوات مخططها.
لقد تركت أحبتها يرحلون دون أن تقوم بمحاولات جدية لدعوتهم إلى الإسلام.
لن تترك أحبة ريما يرحلون على دينهم دون أن تبذل قصارى جهدها
ستكن تلك مهمتها من الآن فصاعدا
لم تعترض تانيا حين طلبت منها ندى أن تصحبها سارا إلى السوق.
لم تكن العلاقة بينهما جيدة بمعنى الكلمة، لكنها لم تضايقها ولم تعاملها بجفاء.
برود خفيف يطغى على تصرفاتها تجاهها.
لا يمكنها أن تلومها ، بل تشكرها لأنها لم تتصنع الود.
على الأقل فإن ذلك يجنبها وصفها بالمداهنة أو القاسية.
يمكنها اعتبار موقفها ضربا من اللامبالاة، وذلك يناسبها.
*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الرابع والعشرون من رواية فى قلبى انثي عبرية بقلم خولة حمدى
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع أيضاً: جميع فصول رواية جمعتنا صدفة بقلم هنا عمرو
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من روايات حب
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا