أصدقائي الأعزاء متابعي موقع قصص 26 يسعدني أن أقدم لكم الفصل السادس والعشرون من رواية فى قلبى أنثى عبرية بقلم دكتورة خولة حمدى وهي رواية واقعية إجتماعية ممزوجة بالحب وأيضا تتسم بالكثير من الأحداث والمواقف المتشابكة التي ستنال اعجابك بالتأكيد فتابع معنا.
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل السادس والعشرون
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى |
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل السادس والعشرون
دخلت سارا غرفتها ذلك المساء مبكرة.كانت في حاجة إلى الاختلاء بنفسها لبعض الوقت.
منذ فترة وهي تواظب على الجلسات التعليمية مع ندى، ثم تواصل القراءة والبحث بنفسها
كانت والدتها قد علمتها اليهودية منذ صغرها ، وأغمضت عينيها عن بقية الديانات.
لم تحاول الاعتراض، لكن حين شرعت في التفكير في المسائل الروحية بدأت تراودها أسئلة كثيرة.
كانت بتفكيرها الذي يفوق سنها تتوقف عند تناقضات كثيرة في دينها. وكانت تانيا تقول إن الدين لايخضع للعقل، وإن عليها أن تترك التفكير العلمي جانبا حين يتعلق الأمر بالمعتقد
سلمت بذلك في البداية، لكنها لم تكن لتمنع نفسها من الضحك والسخرية أمام بعض النصوص التي بدت لها في منتهى التناقض.
اقتنعت لفترة بأن الديانات كلها على نفس المستوى من السخافة. وقررت على صغر سنها بأنها ستؤمن بدين العقل لا غير.
ثم صادف أن سمعت عن الإسلام وما ورد فيه من إشارات علمية، فدفعها الفضول للبحث في الأمر.
لكنها فوجئت بتانيا تقف في وجهها وتمنعها من الإمعان في التقصي.
لم تدر ما السر وراء معارضة والدتها لبحثها، وهي مشجعتها الأولى على الأبحاث العلمية.
أحست بأن في الأمر لغزا ما. ولم يكن ذلك إلا ليزيد من فضولها.
حين جاءت ندى للإقامة في البيت، وجدت الفرصة سانحة لتواصل بحوثها السرية.
قرأت الكثير والكثير. حاولت أن تجد تناقضات او نقائص في النصوص القرآنية,..
لكنها كل ما توقفت عند شبهة من الشبهات، وجدت في التفاسير ما يوضح الصورة، على عكس ما رأته حال تحليلها للتوراة والأناجيل...
فتفاسيرها لم تكن سوى محاولات يائسة للتلفيق والإيهام، نتيجتها من المضحك المبكي.
استمرت في دراستها لأشهر، وهي تزداد اهتماما يوما بعد يوم
قرأت عن سيرة النبي محمد، ثم عن زوجاته وأصحابه. صارت تُلِم بالكثير. ما الخطوة التالية؟ ما الذي تريد معرفته بعد عن هذا الدين؟
خرجت من غرفتها ، واقتربت من غرفة ندى في هدوء.
طرقت الباب ثم دخلت كعادتها.
نظرت ندى إليها في استغراب.
كان وجهها متغيرا , جلست على طرف السرير في صمت، ثم سألتها :
أريد أن أعرف.. لماذا نزل الدين الإسلامي في شبه الجزيرة العربية ولم ينزل على بُنَيّ إسرائيل مثل كل الأنبياء السابقين؟
قالت ندى في ثقة:
حين ظهر الإسلام، كانت شبه الجزيرة العربية من أكثر بقاع الأرض تخلفا.
لم يكن أهلها يمتلكون الثروات، ولم تكن تجمعهم مملكة قوية مثل إمبراطورية الفرس أو الرومان، بل كانوا مجرد قبائل متفرقة تجمعها العصبية القبلية،
تتناحر فيما بينها وتعيش من التجارة ورعي الأغنام.
لذلك فإن خروج نبي من هذه الأرض، كان معجزة في حد ذاته!
وتحول القبائل المتناحرة إلى أمة موحدة تتبع رجلا واحدا ، ثم تطورها من الضعف إلى القوة وانتشار دعوتها إلى شتى اصقاع الأرض، كان إنجازا عظيما...
اما بنو إسرائيل، فقد عاقبهم الله على قتلهم السابق لأنبيائهم بأن جعل خاتم الأنبياء من أمة أخرى...
هزت سارا رأسها في تفهم.
لم يكن الجواب يخفى عليها ، وربما كان بإمكانها تقديم بعض الإضافات.
صارت تعلم ما يكفي عن الإسلام. لكنها باتت تماطل وتؤجل الخطوة التالية.
ساد الصمت للحظات قبل أن تحسم أمرها :
حسنا.., ما الذي علي فعله الآن لأصبح مسلمة؟
حدقت فيها ندى في عدم تصديق، ثم تمتمت في ارباك وتلعثم:
هل... هل أنت متأكدة؟، نظرت إليها سارا في إصرار :
قولي قبل أن أغير رأيي!
اخي في الله أحمد،
لا يمكنني تصديق ما حصل اليوم.
سارا الصغيرة جاءت إلى غرفتي وأعلنت إسلامها
لم تكن مترددة أو خائفة، بل واثقة من قرارها.
لكنها تتوجس خيفة من ردة فعل والدتها
ذكرتني بنفسي منذ زمن غير بعيد.
ستضطر إلى إخفاء إسلامها لبعض الوقت، حتى تجد الفرصة المناسبة.
لكنها صغيرة السن، لم تبلغ الحادية عشرة من عمرها بعد.
اعلم أنها ذات ذكاء فائق وعقل واسع المدارك.
لكنني أخشى عليها مما ستلقاه من محيطها
كنت قد بنيت خطتي على إسلامها كخطوة اولى
لكنني لا أدري إن كانت ستتحمل ما قد تلقاه من أزى...
كان الله في عونها.
لا يمكنك أن تتصور كم أنا سعيدة اليوم.
ظننت ان سعادتي بإسلامي لا يمكن ان تضاهيها سعادة اخرى.
لكنني اكتشفت اليوم معنى السعادة بنجاة شخص آخر من النار.
تذكرت الحادثة التي قرأت عنها في كتاب السيرة، حين علم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بأن صبيا يهوديا يحتضر، فذهب إليه ودعاه إلى الإسلام وهو على فراش الموت
فأسلم الولد قبل ان يلفظ أنفاسه الأخيرة...
فخرج نبي الرحمة فرحا مستبشرا وقال:
الحمد لله الذي أنقذه على يدي من النار.
يا الله! النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) فرح بإسلام صبي يهودي! وهو الذي غفر الله له وبشره بمقام رفيع في الجنة.
فكيف لا أفرح أنا الأمة الفقيرة المثقلة بماض مليء بالكفر والعصيان؟
الحمد لله.,. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولى ان هدانا الله.
الحمد لله على نعمة الإسلام. الحمد لله على إسلام سارا.
ولتعلم أن ثواب إسلامها يصلك كاملا وريما
فلولاكما لما كنت هنا، ولما كان ما كان...
فهنيئا لنا جميعا
تحاملت سونيا على نفسها، وجرت قدميها عبر الممر حتى وصلت إلى غرفة ندى.
توقفت أمام الباب الموصد. أدارت المقبض ودفعت الدفة ببطء.
كانت الغرفة غارقة في الظلام.
أغلقت نافذتها بنفسها وأسدلت الستائر منذ طردت ندى من المنزل.
خطت إلى الداخل في تعثر. الأشهر القليلة الماضية تركت في وجهها وجسدها آثارا أبلغ من أثار السنين.
كأنها شابت فجأة وازدادت عشر سنين إضافية.
جلست على طرف السرير في وهن. إحساس عام بالإعياء يجتاح جسدها.
أصبحت مفاصلها تؤلمها مع كل حركه...
لم يعد هنالكة غيرها في هذا البيت.
تقضي يومها متنقلة بين السرير والمقعد، وبين المقعد والسرير. فقدت حياتها كل بهجتها، فما عادت تنظم اللقاءات الاجتماعية ولا الأمسيات الثقافية.
تفرقت رقيقاتها ولم تجد أحدا إلى جوارها في حزنها.
بعد رحيل جورج وطردها لندى، صارت الساكنة الوحيدة لمنزل العائلة الكبير.
دانا مشغولة بعملها وطفلها. تزورها مرة في الأسبوع لتهتم بقضاء حاجاتها وشراء ما يلزمها من مؤونة.
لكنها لم تكن في حاجة إلى الطعام. شهيتها قليلة. لا تأكل إلا شيئا يسيرا يسد رمقها ، ويكفيها لتواصل حياتها الجافة
دانا لم تكن يوما حانية أو عطوفة.
طبعها جاف كوالدتها.
آه ندى كانت القلب النابض بالحياة في هذا البيت.
كانت هي من يملأه بهجة. كانت لديها طريقتها الخاصة ورؤيتها الخاصة التي تعطي للأشياء معاني جديدة.
كانت... نعم، كانت...
إعتادت عيناها على الظلام، حتى ما عادت تحتاج إلى نور المصباح لتجد طريقها بين قطع الأثاث.
تحاملت على نفسها من جديد وسارت باتجاه المكتب.
كثيرا ما كانت تجلس هنا، بعد رحيل ندى.
تعلم أن ابنتها مولعة بكتابة أفكارها وخواطرها...
لكنها كانت تخفيها عنها جميعها.
ندى كانت تخافها. وهي كانت تتغافل وتتظاهر بجهل كل شيء عن مذكراتها.
وجدت الكثير منها هنا ... كل منها تحكي مشاعرها وأحاسيسها .
تحكي مشاهد من حياة المراهقة البريئة والنبيهة في آن التي كانت.
كأنها ترى بعينيها الآن صورا من الماضي. ريما وأحمد كانا بطلي روايتها.
كان عليها أن تدرك ما لهذين الشخصين من تأثير عليها منذ البداية.
لكنها انتظرت إلى أن فات الأوان...
جمعت الصور المبعثرة وأعادتها إلى الدرج.
اين تراها تكون الآن يا ترى؟، انقطعت عنها أخبارها منذ أشهر...
كم مر عليها من الوقت وهي في وحدتها تلك؟، لا يمكنها أن تجزم.
فكل الأيام أصبحت متشابهة وخالية من المعنى...
خالية من الحياة
لكنه وقت طويل بالتأكيد
انتبهت إلى اختفاء أوراق ندى الشخصية وبعض حاجياتها.
لا شك ان دانا ساعدت أختها على إيجاد مكان يؤويها، إنها مرتاحة من هذا الجانب.
تعلم أن ندى في مكان آمن وتحظى بالرعاية اللازمة.
هل تهتم لأمرها؟ حتى وإن كانت قد غضبت عليها ومقتتها لبعض الوقت ، فهي تبقى ابنتها وفلذة كبدها.
حتى إن صارت عدوة لدينها، فهي لا تستطيع منع نفسها من التفكير فيها والخوف عليها والاشتياق إليها...
لكن، لا يمكنها أبدا أبدا أن تسامحها اوتستقبلها مجددا في بيتها...
فما فعلته جريمة لا تغتفر، ورغم مرور كل هذا الوقت، فهي ليست مستعدة لتقبل تغيرها...
احست بألم مفاجئ في الجزء الأيمن العلوي من البطن.
ضغطت بكفها على مكان الألم.
منذ فترة وهي تحس بتدهور صحتها، لم تأكل شيئا منذ الصباح، لكنها تشعر بالغثيان.
تزايدت الآلام وأصبحت تملأ كل بطنها.
تأوهت بصوت خافت.
لن يسمع أحد آهاتها وشكواها. وضعت رأسها على المكتب لتكتم صرخة متعبة.
الآلام تجتاح جسدها وتملأ جوارحها.
حاولت أن تقف.
عليها أن تصل إلى الهاتف.
دانا... إني أموت... دانا... لكن ساقيها لم تقدرا على حملها.
تهاوى جسدها على بعد خطوات من المكتب... بلا حراك.
سارت ندى في شوارع الحارة الكبيرة بعقل سارح.
تعودت على هذه المدينة وأحبتها.
هذه هي المدينة التي ولدت فيها. هنا التقى والدها بوالدتها، وهنا عاشت سنواتها الأولى، قبل أن ترحل إلى لبنان.
ربما كان لديها أقارب خلف ابواب البيوت المغلقة، أعمام وعمات وأبناء عم
وخالات وأخوال أيضا لا تدري اين مساكنهم.
ربما كانت لها عائلة كبيرة العدد. لكنها لم تحاول أن تعرف.
كانت قد انتهت من درسها الخصوصي للغة الفرنسية.
طالبتها طفلة في الخامسة عشرة من عمرها من عائلة مسلمة.
أصبحت تجمعهما صداقة جميلة.
رغم صغر سنها ، كانت تبادلها الأحاديث المسلية وتجعلها تستمتع بالدرس بدعاباتها الطريفة.
على الأقل، لديها صديقة هنا...
للحظة مرت بذهنها صور ريما، سماح، انابيلا. وصديقات أخريات من ايام الكلية.
ابتسمت في حزن ثم تنهدت.
صور من الماضي.
حين وصلت إلى المنزل، لم تكن تانيا قد عادت من عملها , أصبحت نظراتها إليها مؤخرا أقرب إلى الوعيد منها إلى التودد.
أغلقت باب غرفتها واستلقت على السرير. يشغلها أمر سارا مؤخرا.
الطفلة تعلمت الوضوء والصلاة وصارت تواظب عليها.
تأتي إلى غرفتها لتصلي خلسة.
تقرء القرآن باستمرار... ولا تجد صعوبة تذكر في حفظه.
تفوقت بسرعة على معلمتها. نابغة... إنها نابغة حقا.
جاكوب لم يعلم بعد بإسلام ابنته، لكنه لم يعد يخفي اهتمامه بالإسلام.
وهي لا يمكنها أن تخفي فرحها بهذا التطور.
الخطة تسير على أحسن ما يرام... بشرط ألا تعلم تانيا بشيء من ذلك، فهي وحدها قادرة على تدمير كل ما انجزته في الفترة الماضية مع جاكوب
حسنا، إلى العمل الآن.
كانت قد أحضرت بعض الكتب من المكتبة لتبحث في أسئلة جديدة طرحها جاكوب.
ماذا عن عذاب القبر؟
فتحت الدرج لتخرج أوراقها.
انتبهت إلى هاتفها المحمول الذي يرقد في الدرج.
كان مغلقا على الدوام. تفتحه من حين إلى آخر لعلها تجد رسالة أو اتصالا من سماح.
لا أحد يتصل بها غيرها.
تنهدت وهي تضغط على زر التشغيل. انتظرت حتى تضيء الشاشة وتظهر الايكونات الالكترونية.
رسالة صوتية
كونت رقم جهاز الرد الآلي الخاص بها وانتظرت أن يصلها صوت المتصل.
فوجئت حين جاءها صوت دانا .
كانت لهجتها باكية، كأنها على وشك الانهيار .
صوتها أشبه بالصراخ والعويل.
تسارعت دقات قلبها في ارتياع.
لم يكن الصوت واضحا , ضغطت بعصبية على أزرار الهاتف لتستمع إلى الرسالة مرة أخرى.
بعد لحظات، أحست بخدر في كفها وسقط الجهاز إلى جانبها.
غير معقول... غير معقول... ما الذي عليها فعله؟، والدتها في المستشفى، في حالة خطرة.
دانا كانت في حالة سيئة من الجزع.
الأمر خطير دون شك
سارعت بتكوين رقم دانا. لكن رصيدها لم يكن كافيا لإجراء مكالمة دولية.
أخذت تذرع الغرفة جيائة وذهابا في ارتباك ولوعة.
ما الذي حصل لوالدتها؟، هل هي بخير؟ ما الذي تفعله هنا؟، يجب أن تكون هناك، في المستشفى جانبها
عادت إلى الهاتف. تثبتت من تاريخ الاتصال...
كان ذلك منذ ثلاثة أيام! يا إلهي... كيف غفلت عن الهاتف كل هذا الوقت؟
ما الذي يمكن أن يكون قد حصل؟
خرجت من غرفتها لا تلوي على شيء.
يجب أن تجري اتصالا.
عليها أن تتصل بدانا.
لم تستعمل هاتف المنزل من قبل، لكن الأمر عاجل وتانيا لن تلومها على ذلك.
كونت رقم دانا وانتظرت لثوان ثقيلة طويلة وهي تستمع إلى الرنين من الطرف الآخر, اخيرا جاءها صوت دانا، خاملا ناعسا كأنها خلال النوم:
من معي؟
نسيت أن هناك فارق ثلاث ساعات في التوقيت بين تونس ولببنان.
ودانا تعودت على النوم باكرا.
هذه أنا يا دانا...
ندى.
آسفة على إيقاظك من النوم، لكنني لم أرى رسالتك إلا الآن.
أخبريني، هل أمي بخير؟
-آه... ندى. أمي أجرت عملية جراحية لاستئصال المرارة.
وهي لا تزال في المستشفا لالتهاب في كبدها.
لكن مرحلة الخطر قد مرت...حالتها آخذة في الاستقرار
تنهدت حين وصلتها الأخبار المطمئنة.
مرت اللحظات الحرجة، وهي ستتعافى بالتأكيد
وضعت سماعة الهاتف، ثم سارت إلى غرفتها تفكر.
والدتها نجت من الموت، لكنها لا تدري إن كانت صحتها ستتحسن وتعود إلى سالف عهدها
لا تدري إن كانت ستعيش طويلا. لا احد يدري متى تحين ساعته. لا أحد.
ريما، جورج> ميشال، ماري كريستينا وجابريال، كلهم رحلوا فجأة ودون سابق إنذار.
لم تضع احمد في القائمة.
لا تريد أن تصدق أنه قد رحل مثل الآخرين.
لا.,, لا تريد أن يتكرر ذلك مجددا , لا تريد أن ترحل أمها ،وشقيقتها وهي لم تحاول معهما بعد.
مكانها ليس هنا. مكانها هناك، إلى جانب عائلتها الحقيقية.
لقد فعلت ما بوسعها هنا.
يمكنها الآن أن تترك جاكوب يواصل الطريق بمفرده.
تحس بأن المسافة التي تفصله عن الإسلام لم تعد كبيرة...
وسارا ستكون عونا له بالتأكيد.
نعم، هذا ما عليها فعله. كانت قد جمعت ثمن التذكرة إلى لبنان من عملها.
اجتهدت كثيرا في الفترة الماضية ولم تدخر جهدا ، كأنها قد علمت باقتراب هذه اللحظة... لحظة العودة.
اخي في الله أحمد،
وصلت اليوم إلى لبنان
ياه، مر وقت طويل... لا تدري كم اشتقت لهذه الأرض.
أكتب إليك الآن من المستشفى.
والدتي نائمة تحت المخدر، تستيقظ لأوقات بسيطة في اليوم لأن آلامها شديدة.
منذ ساعتين وأنا أنتظر أن تفتح عينيها.
دعوت لها كثيرا في أثناء سفري.
أعلم أن دعاء المسافر مستجاب.
دعوت أيضا بأن أراك قريبا، فقد إشتقت إليك،كثيرا
توقفت قليلا عن الكتابة.
كانت دموعها تنذر بانحدار قريب.
هاجت عواطفها حين دخلت غرفة المستشفى، وليس لها غير أحمد تشكو إليه وتبثه لواعج قلبها.
سونيا القويه ممدة على السرير بلا حراك... لا حول لها ولا قوة.
كيف استفحل الداء في جسدها في هذه الفترة القصيرة؟، لم تكن تشكو من شيء قبل رحيل الأحباب.
هل تراه الحزن ما فعل بها هذا؟، لم يهتز لها رمش حين طردتها ، هي، لحمها ودمها.
فهل كان جورج وميشال أقرب إلى وجدانها؟، زادت تلك الأفكار من شجنها.
فتركت لمشاعرها العنان. تركت العبرات تسيل على وجنتيها في صمت.
الطبيب يقول إن حالتها آخذة في الاستقرار، لكنها تحتاج إلى متابعة مستمرة.
كان قد طلب بقاءها في المستشفى لأنها تقيم بمفردها ولا تجد من يهتم بها ويرعاها.
الحمد لله أنني عدت في الوقت المناسب لأكون إلى جانبها.
قال أيضا إن علامات المرض لا تظهر إلا عند خمسين بالمائة من المصابين، لذلك لم تفطن والدتي إليه في وقت مبكر.
لكن أمل شفائها لا يزال قائما.
بنيتها جيدة وجسدها قادر على المقاومة.
لكنني أخشا الأسوؤ... فهناك احتمال ان يتحول المرض إلى إصابة سرطانية.
أدعو الله الا يحصل ذلك، وأن تستعيد عافيتها في أقرب وقت...))
رفعت عينيها فجأة.
أحست بحركة قربها, لمحت كف سونيا تتحرك ببطء فوق اللحاف.
فتحت عينيها؟، سارعت إليها في لهفة واحتضنت يدها بين كفيها في حرارة.
نسيت كل ما بينهما من عداوة ومشكلات.
المرأة التي أمامها هي والدتها. المرأة التي وضعتها وأرضعتها وربتها واعتنت بها.
كل الاعتبارات الأخرى كانت بلا قيمة في تلك اللحظة.
التقت عيناهما.
عيون متعبة، تحكي ما مر بكليهما في الشهور التي افترقتا خلالها، انفرجت شفتا سونيا اخيرا لتهمس في وهن:
- حبيبتي ندى... أنت هنا...
لم تنتظر ندى أكثر. انحنت على جسدها النحيل تحتضنه. قبلت جبينها ووجهها وكفيها.
لا تريد منها اعتذارات.
يكفي أنها استقبلتها وقبلت وجودها إلى جانبها.
حبيبتي))، كلمة افتقدتها طويلا.
كانت البلسم لجراحها العميقة.
همست وهي تضغط على ذراعها في حنان:
كيف تشعرين الآن؟
ردت سونيا في تأثر، وعيناها لا تفارقان وجهها:
اشتقت إليك... سامحيني يا ابنتي,,,
كانت فترة رقادها على فراش المرض كافية لتعيد حساباتها وتفكر في كل ما فعلته بابنتها.
والآن، الآن فقط وهي تراها أمام عينيها، ادركت أنها تحبها أكثر من الماضي، وتحتاجها إلى جانبها.
ادركت كم ظلمتها، ظلمت نفسها حين عاملتها بتلك القسوة وطردتها.
هزت ندى رأسها نافية وقالت من بين شهقاتها:
-لا عليك...
أين كنت كل هذا الوقت؟، كيف كانت حياتك؟
ترددت للحظات.
إذن والدتها لم تكن تعلم شيئا عن سفرها إلى تونس
لا داعي لاسترجاع الآلام الآن.
ها هي قد عادت مجددا ، وها هي قرب والدتها كأن شيئا لم يكن.
أجابت في هدوء وهي تلف الغطاء حولها :
كنت في مكان آمن... ليس هناك ما يدعوك للقلق.
المهم أنني الآن هنا... إلى جانبك.
ابتسمت سونيا ابتسامة واهنة، ثم استرخت مجددا.
استندت ندى على طرف السرير دون أن تترك كفها.
راقبتها في صمت وهي تستغرق في النوم من جديد
عمها إحساس بالارتياح والطمأنينة.
رغم الملابسات الحزينة التي تلف لقاءهما ، إلا أنها كانت سعيدة.
هالها الوضع الذي وجدت عليه منزل العائلة حين دخلته بعد شهور من الغياب.
بدا لها أن علامات الحزن واليأس ظهرت حتى على قطع الأثاث، وتركت بصماتها على الجدران والنوافذ.
تكاد تجزم بأن للحزن رائحة.
هي تلك الرائحة الندية للغرف المغلقة التي لم تصلها أشعة الشمس منذ أمد
وللحزن لون...
هو لون طبقة الغبار الرمادية التي غطت كل مكان وكل مساحة من فضاء البيت.
عادت إلى بيتها.
إلى غرفتها.
إلى عالمها.
فتحت خزانتها، حيث تركت: كل حاجياتها القديمة وقسما كبيرا من ذكرياتها
كل شيء كان في مكانه، كما تركته
مكتبها، أوراقها، سريرها...
كل شيء كان في انتظار عودتها, مسحت الغبار المتراكم وأعادت الحياة إلى كل قطعة من ماضيها, بسرعة، استلمت مهامها الجديدة.
سارعت تفتح النوافذ لتهوية الغرف.
شنت حملة تطهير وتنظيف على كل ركن وكل زاوية.
كانت قد عزمت على البدء من جديد.
سيكون غدها خيرا من أمسها... هكذا قررت.
أصبحت تقضي وقتها بين البيت والمستشفى
تعد الطعام لوالدتها في الصباح، ثم تجلس إلى جوارها تسامرها أو تقرأ لها كتابا.
تحاول تسليتها دون أن تترك المسائل التي تفرقهما تطفو على السطح، وتعكر مزاجيهما.
وفي المساء ، تنضم إليهما دانا بعد خروجها من عملها، فتجلسان مثل الزمن الخالي... كأن شيئا لم يكن.
كان قد مضى اسبوعان على عودة ندى من تونس، وأيامها تمر رتيبة على نفس النسق.
لكنها في ذلك الصباح، أحست بتغيير في تعابير والدتها.
كانت تطالعها من طرف خفي وهي تقرأ في كتابها
بدت مشغولة الفكر سارحة بعض الشيء.
توقفت ندى عن القراءة وانتظرت للحظات.
لم يبد على سونيا أنها إنتبهت إلى توقفها.
لم تكن مركزة في الاستماع إليها.
وضعت ندى الكتاب جانبا واقتربت من السرير.
مسحت على شعرها في حنان وهمست:
أنت لا تستمعين إلي... ما الذي يشغلك اليوم؟
رفعت إليها سونيا عينين مغرورقتين بالدموع ولم تتكلم.
فزعت ندى وهتفت في خوف:
-ماذا هناك؟ هل تتألمين؟
هزت سونيا رأسها نافية، ثم قالت في ضعف:
أفكر في حياتي الماضية.. وفي المستقبل.
أشياء كثيرة أريد أن أفعلها,,, لكن الموت قد يأتي في أية لحظة.
حاولت ندى أن تقاطعها، لكن سونيا واصلت بلهجة حازمة:
يؤلمني ما وصلت إليه عائلتنا. ما وصلنا إليه أنا وأنت...
اريد ان يجتمع شمل عائلتنا من جديد، ونعود إلى سالف الوفاق بيننا.
أريد أن أرحل مرتاحة البال والضمير... أن يكون كل شيء واضحا في ذهني، أن أعرف إن كنت اخطأت...
وأن أجد الإجابة لتساؤلات كثيرة معلقة. لكن ذلك لن يكون ممكنا ونحن نتجنب الموضوع الذي يشغل كلينا.
اطرقت ندى في صمت. لا تدري إلى أين سيسوقها هذا النقاش, لم تكن تجربتها الأخيرة بالهينة.
لكن سونيا فاجأتها وهي تواصل:
لذلك فقد قررت أن أستمع إليك وأعطيك فرصة لتشرحي لي,
نظرت إليها ندى في دهشة وعدم تصديق.
فأضافت في لهجة جادة:
حدثيني عن الإسلام...
وقف حسان أمام غرفة المستشفى، وهو يحمل باقة ورود حمراء.
تطلب منه الأمر جهدا كبيرا حتى يستجمع شجاعته ويأتي إلى هنا بنفسه.
صدته مرة ثم ثانية، لكنه لم ييأس.
لن يدع اعتبارات مثل الكرامة تجعله يستسلم.
ما زال أمله قائما بأنها قد تنتهي بالاستجابة لنداء قلبه.
ظل يتابع أخبارها عن بعد طوال الفترة الماضية.
كان يستقي معلوماته من سماح.
فرح حين بلغه خبر عودتها.
انتظر لأسابيع آملا أن تسمح له الفرصة برؤيتها، لكنها بدت مشغولة بالكامل.
لم تكن تزور سماح أو تخرج إلى أي مكان. تقضي معظم وقتها في المستشفى.
إن لم تأت إليه، فعليه أن يذهب إليها , تردد للحظات. اخذ نفسا عميقا، ثم رفع يده ليطرق الباب برفق.
لم يطل انتظاره سوى ثانيتين، جاءه إثرهما الإذن بالدخول.
دفع الباب ببطء. ألقى التحية وأطرق في حرج حين واجهته نظرات المرأتين المستغربة.
كانت ندى قد جلست قرب السرير تقرأ كعادتها
فوجئت وهي ترى حسان أمامها.
وقفت ندى في ارتباك حين رأته يقف على بعد خطوات، كأنه يخشى التوغل في الغرفة.
توجهت إليه وأخذت منه باقة الورود، وهي تقول في همس:
-شكرا لقدومك
ما كان ينبغي ان تتعب نفسك.
ثم التفتت إلى سونيا وهي تقول بصوت أوضح:
أمي، هذا حسان... صديق أحمد... تذكرينه؟
مر زمن طويل مذ نطقت باسم أحمد بصوت عال للمرة الأخيرة.
الا زال هذا الاسم يثير فيها مشاعر كامنة؟، هزت سونيا رأسها متفهمة، وشكرته بصوت خافت.
كانت ندى متوترة.
لم تحاول التفكير في طلبه مجددا بعد كل المستجدات الأخيرة في حياتها .
مع أنها كانت مستعدة في وقت ما مضى للارتباط به، إلا أنها نسيت الأمر برمته في خضم اهتماماتها الجديدة.
ولم يكن حسان أقل منها اضطرابا
كانت الزيارة قصيرة. سأل حسان عن أحوال ندى واطمأن على صحة والدتها، ثم اعتذر للمغادرة.
رافقته ندى إلى خارج الغرفة وهي تفكر فيما ستقوله.
عليها أن تقول شيئا ما ردا على طلبه الأخير قبل سفرها. لا يمكنها الن تتجاهل أكثر من ذلك وقد جاءها بنفسه.
سبقها حسان بخطوات، ثم توقف.
التفت إليها بسرعة وقد حسم أمره:
-ندى...
لكنها قاطعته بصوت حازم، كانت قد انتهت إلى قرار هي الأخرى:
لقد فكرت كثيرا في طلبك...
بترت العبارات على شفتيه. سكت منتظرا أن تستطرد. قالت ندى وهي تزن كلماتها:
لا يمكنني ان افكر في الارتباط الآن. علي أن أستعيد حياتي أولا وأعيد ترتيب أولوياتي.
رعاية والدتي ثم تدارك ما فاتني من دروس في الجامعة... وخاصة; ترميم ما تحطم بداخلي...
بادرها على الفور:
فليكن.., سأكون إلى جانبك خطوة بخطوة
هزت رأسها رافضة:
هذه رحلتي الخاصة، وعلي أن أخوضها بمفردي وأنجح في تخطي عقباتها.
حين أستعيد توازني وتستقر نفسيتي وأقف على قدمي مجددا... حينها قد أفكر في الارتباط.
لذلك، من غير المجدي أن تفكر في أكثر مما فعلت...
قاطعها بقوة:
ولكنني أريدك أنت، لذلك سأنتظرك ما استلزم ذلك.
قالت محذرة:
لكن ذلك قد يطول... ستة أشهر، سنة، سنتين وربما اكثر...
طالعها في إصرار وهو يشد على قبضته:
خذي ما يلزمك من الوقت،. سأكون بانتظارك!
أرادت أن تبتسم، أن تشكره... لكن العبرات كانت ردها الوحيد..
*********************
إلي هنا ينتهي الفصل السادس والعشرون من رواية فى قلبى انثي عبرية بقلم خولة حمدى
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع أيضاً: جميع فصول رواية جمعتنا صدفة بقلم هنا عمرو
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من روايات حب
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا