أصدقائي الأعزاء متابعي موقع قصص 26 يسعدني أن أقدم لكم الفصل السابع والعشرون من رواية فى قلبى أنثى عبرية بقلم دكتورة خولة حمدى وهي رواية واقعية إجتماعية ممزوجة بالحب وأيضا تتسم بالكثير من الأحداث والمواقف المتشابكة التي ستنال اعجابك بالتأكيد فتابع معنا.
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل السابع والعشرون
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى |
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل السابع والعشرون
أتمت سارا وردها القرآني اليومي باكرا, تقرأ ما تيسر قبل المغادرة إلى دروسها الخاصة.تحب أن تبدء يومها بتلاوة الكلمات المباركة التي تستبشر بها وتشعرها بالانشراح طوال اليوم.
لم يخفى التغيير المفاجئ في طبعها على كل من حولها , صارت اكثر انطلاقا ومرحا، هي التي لم تعرف للطفولة طعما قبل ذلك الوقت.
الارتياح النفسي اللا مسبوق الذي ملأ وجدانها، صار يفعم حياتها بهجة.
احست بنوع من الوحدة منذ رحيل ندى، لكنها سرعان ما تماسكت واستعادت نسقها.
لكنه نسق مختلف طبع بالتغييرات التي طرأت في حياتها
لم يكن لديها أصدقاء من قبل، ولم يكن لديها أحد تحدثه بأفكارها وأسرارها...
ربما لأن طبعها كان شفافا، لم تكن لديها أسرار، او أحاديث خاصة مثل كل البنات.
لكن بعد كل التحولات التي عرفتها، صارت حياتها مزدوجة. حياة ظا هرة يرا ها المحيطين بها... وحياة خفية تنفرد بها في غرفتها.
كانت تحتاج إلى من يشاركها حياتها الخاصة تلك بشكل أوبآخر.
ولم يكن لديها سوى ندى.
رغم المسافة التي فرقت بينهما، إلا أنها حاولت الحفاظ على خيوط التواصل بينهما
كانت تتصل بها هاتفيا كل ما سنحت الفرصة وتكتفي بمكالمات قصيرة حتى لا تثير شكوك والديها
تستمد منها الشجاعة وتحدثها باكتشافاتها الجديدة.
وكان الاكتشاف الأكثر تأثيرا في حياتها، هو أنها لا تزال طفلة في نظر الإسلام.
لشد ما فرحت حين علمت أنها لن تحاسب على معتقداتها السابقة، لأنها لم تبلغ سن التكليف بعد.
احتفلت بذلك في غرفتها واوقدت الشموع على قطعة كعك بسيطة. ستبدأ حياة نقية يرضى عنها الله.
في ذلك اليوم، وقفت أمام المرآة تتأمل وجهها للحظات. على حين غرة، طرأ ببالها طارئ غريب.
ودون تردد، جذبت اللحاف الذي يغطي سريرها ووضعته على رأسها.
وقفت تطالع شكلها الجديد في فضول لذيذ.
لم تكن والدتها ترتدي الحجاب اليهودي، بل تكتفي بقبعة انيقة لا تغطي كل شعرها.
ولم تكن هي قد جربت أي غطاء رأس من قبل.
لذلك فإن تجربة الحجاب كانت جديدة بالنسبة إليها.
لفت اللحاف على جسدها وجعلته يظهر كالعباءة.
يذكرها بالسفساري، ذلك اللحاف التقليدي الحريري الذي كانت تلبسه النساء في تونس في العقود الماضية، ويوشك أن يصبح حكرا على العجائز.
يلففن به أجسادهن ورؤوسهن فلا يظهر إلا جزء من وجوههن او عيونهن فقط.
إنها في الحادية عشرة من عمرها، وقد تمر لمرحلة التكليف في أي وقت.
سيكون عليها أن تلبس الحجاب
لبسته، دارت أمام المرآة مجددا تعاين زيها المرتجل.
في تلك اللحظة، تعالت طرقات على باب غرفتها، وقبل أن تتحرك من مكانها، كان الباب يفتح ويظهر وجه والدها مناديا :
سارا عزيزتي.
هل ارتديت ثياب المدرسة؟
تسمر في مكانه للحظات وهو يراها على ذلك الشكل الغريب.
تأملها في دهشة، وفي ثوان قليلة عاد شريط ذاكرته إلى الوراء.
تذكر حديثها مع ندى عن الحجاب، فتسارعت دقات قلبه في عصبية وتوتر.
سألها في قلق:
سارا ، ما الذي تفعلينه باللحاف على رأسك؟، هل كل شيء على ما يرام؟
امتقع وجه الصغيرة، وتجمدت ملامح وجهها , هل كشف أمرها؟، ازدردت ريقها بصعوبة وحاولت أن تبتسم.
لا يمكنه أن يكتشف إسلامها لمجرد أنها وضعت لحافا على رأسها
أجابت مدارية ارتباكها :
لا شيء بابا...
كنت فقط أقلد النساء اللواتي يلبسن السفساري في الشوارع... سأغير ثيابي حالا.
ابتسم جاكوب في ارباك هو الآخر، وقال وقد ذهب قلقه:
دعي عنك هذا الآن... تناولي إفطارك قبل الخروج...
ابتعد عن غرفتها وأفكار غريبة تلح عليه، صارت تصرفات سارا تفاجؤه كثيرا في الفترة الأخيرة
تانيا هي الأخرى لاحظت التغيير الذي طرأ عليها.
لكنه كان تغييرا إيجابيا في معظمه.
كان قلقا في السابق للجفاف الذي يغلب على طبعها...
لذلك لا يمكنه أن يتذمر وهو يراها أكثر مرحا وطفولة
كبرت قبل اوانها، وها هي الآن تتدارك ما فاتها. لكن تغيرها تزامن مع زيارة ندى، وتواصل بعد رحيلها ،وهو قلقا بشأن ذلك
لمح الفتاة تخرج من غرفتها وتتجه إلى المطبخ لتناول وجبة الفطور.
تبعها بنظرات مرتابة.
هل كانت مرتبكة، ام هيئ له، هل يعطي للأمر أهمية أكثر مما يستحق؟
يتمنى ذلك.
سار في اتجاه الغرفة التي غادرتها سارا للتو.
هل يحاول التجسس عليها؟، إنها ابنته ومن حقه أن يراقب تصرفاتها، ويحميها من المخاطر التي تجهل ما لها من أبعاد.
أجال بصره في المكان.
كانت الفتاة مريبة كعادتها.0 .
كل شيء في مكانه. سارا طفلة مثالية من حيث النظام والترتيب.
لا يمكنها أن تخفي شيئا مريبا هنا.
تانيا تشرف على التنظيف بصفة يومية ويمكنها اكتشاف أي شيء قد تفكر سارا في إخفائه.
ما الذي يبحث عنه بالضبط؟، ليست لديه أدنى فكرة.
قلب الأوراق التي فوق المكتب.
ربما كانت تكتب مذكرات أو ما شابهها.
استسلم بعد دقائق قليلة. سارا ليست من النوع الذي يترك أدلة خلفه، كما أنها لم تكن يوما مولعة بالكتابة.
الكتب التي فوق مكتبها كلها كتب علمية ودراسية لا غبار عليها.
ماذا لو أخفت شيئا في حقيبتها المدرسية؟، هذه الحقيبة لا تفارقها طوال النهار، وتانيا لا تفتش محفظتها بل تترك لها ترتيب أدواتها وتجهيز موادها الدراسية.
مد يده في اتجاه الحقيبة.
كان قد فتح القفل الخارجي حين جاءه صوت سارا من خلفه:
-بابا... سنغادر الآن حالا...
رفع رأسه في ارتباك
تقدمت سارا في ثبات وتناولت حقيبتها وقالت:
- سنسبقك إلى السيارة.
هز رأسه موافقا دون أن يتكلم.
ما الذي فكرت فيه سارا حين رأته في غرفتها؟، ماذا تراها تقول وهو الذي رباهم على الثقة المتبادلة؟
لا شك أنها ستستاء إن علمت بتفتيشه لأغراضها
ابتعدت سارا وهي تحتضن حقيبتها.
أوف... كان ذلك وشيكا .
دخلت في الوقت المناسب لتنقذ ما أمكنها إنقاذه.
عليها ان تكون اكثر حذرا في المستقبل.
فهناك، في قاع حقيبتها، كان يرقد كنزها الثمين.
كتاب القرآن الذي اهدتها إياه ندى قبل رحيلها.
عليها أن تجد مكانا جديدا لإخفائه، فوالدها قد بدء يشك في أمرها
في قرية صغيرة قرب بلدة الخيام الجنوبية، وقف شاب في مقتبل العمر وسط ارض ممتدة الأطراف، يسترد أنفاسه.
مد جذعه في ألم ومسح بظهر كفه حبيبات العرق التي كست جبينه.
كانت ذقنه الكثيفة الطويلة تغطي نصف وجهه، في حين كادت الخرقة التي ربطها على رأسه تغطي نصفه الآخر.
لم تدم استراحته سوى دقيقتين اثنتين، ثم اخذ معوله مجددا ، وراح يهوي بها على قطع الحجارة ليحولها إلى حصى صغيرة.
كان مزارعو المنطقة قد حشدوا كل جهدهم واستجمعوا قواهم لإعادة إحياء الأراضي المسترجعة من الاحتلال الإسرائيلي بعد رحيله عن الخيام
انهمك عدد منهم في تسوية الأرض وتنظيفها، استعدادا لزراعتها بعد سنوات من الإهمال.
كانت المعاول ترتفع في الهواء فترتفع معها أصوات المزارعين في غناء شعبي محبب، ثم تهوي مجددا لترتطم بالأرض بقوة، في نسق متكرر.
حين سمع نداء يعلن استراحة الغداء، توقفت أصوات الغناء والمعاول دفعة واحدة وانسحب الجميع إلى المساحة المعشوشبة...
انسحبوا جميعا ، لكن الشاب ذا اللحية الكثيفة توقف في مكانه.
جلس على الأرض حيث كان يعمل.
ثم تمدد على ظهره ووضع كفيه خلف رأسه.
رفع بصره إلى السماء ، تجولت عيناه بين السحب، ثم أغمض عينيه في إرهاق.
جون! ألا تتناول الغداء؟
كان رجلٌ مسن قد اقترب منه وجلس على الأرض بجانبه
سمع الشاب النداء، لكنه لم يرد على الفور، نعم، هو ذاك الاسم الذي يعرف به هنا.
اسم غريب بالنسبة إليه.
لم يتعود عليه بعد، رغم مرور اكثر من سنتين على حمله له.
لم يكن يحتك كثيرا بالناس هنا، لذلك لم تكن هناك مناسبات كثيرة ليسمع النداء باسمه الجديد.
فتح عينيه ببطء، امتدت ذراعه إلى جانبه وأخذت اصابعه تعبث بالتراب.
الأرض..
الأرض هي ملاذه الوحيد الذي يجد فيه نفسه، ويحقق من خلاله كيانه.
مذ جاء إلى هنا وهو يعمل في فلاحتها، مثل معظم سكان القرية
الرجل المسن أهداه سقفا يأويه فلم يمانع...
لم تكن أمامه خيارات كثيرة.
أجاب أخيرا وهو يستقيم جالسا:
شكرا لك يا أبتي.
تناول فطيرة الخبز التي وزعت على العمال، قضم منها بشراهة ثم إبتلع جرعة كبيرة من قنينة الماء.
وجبة جافة، تعود عليها. لم يكن يحتاج إلى أكثر منها ليواصل حياته الرتيبة.
قاطع الشيخ وجبته وهو يقول في هدوء:
إلى متى ستستمر في العمل هنا ؟
ابتسم جونى وهو يطالعه بنظرة جانبية:
هل مللت صحبتي يا شيخنا؟
رفع الرجل حاجبيه في استهجان وهز رأسه نافيا :
ليس الأمركذلك يا ولدي، فمن غيرك يؤنس وحدتي بعد أن تقدم بي العمر...
تمهل وهو يتناول قطعة من الفطيرة ويمضغها ببطء، ثم استطرد:
لكن حياتك ليست هنا
ربما كان هناك من ينتظرك في مكان آخر من أرض الله الواسعة.
اختفت الابتسامة من على شفتي جون، بت نظراته مجددا, هل هناك من ينتظره في مكان ما ؟
لكن أين؟، لا يريد أن يفكر في ذلك الآن.
لشد ما يشعره التفكير بالعجز. نفخى كفيه وهب واقفا.
هتف وهو ينحني ليمسك بمقبض معوله، دون ان ينظر إلى مخاطبه:
نتحدث لاحقا...
الأرض تنادي...
ثم ابتعد بخطوات واسعة... كأنه يفر من أفكاره.
فتح جاكوب عينيه فزعا.
تلفت حوله وهو يلهث.
كان الظلام دامسا من حوله
سمع تنفس تانيا العميق والمنتظم إلى جواره.
آه... كان مجرد حلم. نفس الحلم المتكرر الذي أصبح يراه في الفترة الأخيرة.
ريما زارته في المنام.
كانت تمد إليه يديها في تضرع وتناديه بابا.
لكنه كان عاجزا عن فهم ما تطلبه.
لا يدري ما الذي تريده منه.
تماما كما كان عاجزا حين رحلت عنه دون رجعة.
أخفى وجهه بين كفيه للحظات، ثم غادر الغرفة.
سار في هدوء باتجاه المطبخ متلمسا طريقه عبر الظلام
لم يكن يريد فتح الأنوار حتى لا يزعج النيام
فتح الثلاجة وأخرج زجاجة ماء باردة ليفرغ نصفها في جوفه في جرعة واحدة.
تنهد وهو يحس بالحرارة التي التهبت بداخله تتلاشى بفعل الماء البارد.
فجأة، سمع خطوات في الممر.
هل تكون تانيا قد انتبهت إلى غيابه واستيقظت؟
أغلق الثلاجة ثم سار بخطوات هادئة.
لمح سارا قبل أن تتوارى خلف باب غرفتها بثوان قليلة، كانت قادمة من الحمام.
انتظر للحظات، لكن الضوء الخافت القادم من الشق تحت بابها لم يختفي
ما الذي تفعله هذه الفتاة في مثل هذا الوقت؟
سارا فتاة منظمة جدا من حيث مواعيد نومها ودراستها.
أخذت الأفكار السوداء تتسرب إلى عقله رويدا رويدا ، وعاودته الشكوك التي راودته منذ ايام
هل تخفي سارا عن والديها شيئا ما؟، انتظر لبضع دقائق اخرى وهو يفكر فيما يجب عليه فعله.
أخذ يذرع المطبخ جيئة وذهابا في حيرة وقلق. ثم قرر أن يتصرف‘
تقدم على أطراف اصابعه.
عاوده تأنيب الضمير وهو يفاجئ نفسه على وشك التجسس على ابنته للمرة الثانية.
لكنه لم يتراجع.
أقنع نفسه بأنه لا يملك خيارا آخر.
وقف أمام الباب وأصغى باهتمام.
سمع تمتمة خافتة لا تكاد تميز, ما الذي تقرأه في مثل هذا الوقت، مد يده في اتجاه قبضة الباب.
لا، لا يمكنه إلقاء نظرة عن قرب.
لا شك أن صوت صرير الباب سيثير انتباهها.
انحنى في حذر وحاول أن يطل من ثقب المفتاح.
أجال نظره ليبحث عن موضع سارا من الغرفة.
وما إن وقع بصره عليها حتى اتسعت عيناه دهشة وذعرا.
تراجع إلى خلفه وتماسك في اللحظة الأخيرة قبل أن يصطدم بالجدار خلفه.
لا شك أن صوت الارتطام كان ليشعرها بوجوده.
وضع كفه على صدره ليسيطر على تنفسه وعلى انفعالاته المضطربة.
كان يحس برأسه تلتهب ويكاد الدخان يتصاعد منها.
لا يدري كيف منع نفسه من اقتحام غرفتها وتعنيفها.
تطلب منه الأمر طاقة خرافية ليمسك عن اندفاعه المجنون.
مرت برأسه صور من الماضي.
صور ريما وهي تجلس في غرفتها في جوف الليل، في نفس الوضعية التي رأى فيها سارا الآن.
نعم... سارا كانت تجلس على الأرض وهي تغطي رأسها باللحاف...
اللحاف الذي أنكرت علاقتها به منذ أيام، وتقرأ في كتاب...
لا مجال للشك.
كان واثقا من أنه كان كتاب قرآن.
سارا تقرأ في كتب القرآن.
لم يستطع أن يستوعب الأمر، وهو يسير باتجاه غرفته.
دس جسده تحت الغطاء في هدوء وهو يحاذر إيقاظ تانيا.
لكنه لم يستطع ان يغمض عينيه وقد طار النعاص عن جفونه بالكامل...
استيقظ جون باكرا في ذلك الصباح.
كان عمله في الحقل يتطلب منه الاستيقاظ باكرا كل يوم، لكنه هذه المرة كان مبكرا أكثر من العادة.
أوى إلى فراشه باكرا في الليلة الماضية أيضا.
ولى العجوز ظهره وتظاهر بالنعاس.
لكن عقله ظل يعمل باستمرار والأفكار تعج في رأسه عجا.
منذ سنتين وهو يحس بالضياع والوحدة والألم.
ألم داخلي مضنٍ يدمي قلبه في كل لحظة، مع كل نبضة
استسلم للنسق الرتيب لحياته المملة الخاوية.
لم يستطع أن يصنع لنفسه هوية جديدة تعوض القديمة التي جهل عنها كل شيء.
اكتفى بانتمائه للأرض.
شغل نفسه بها عن كل شيء ، وتجاهل الأصوات التي تضج بداخله.
اختار حل الهروب لفترة طويلة.
لكن تفكيره في تلك الليلة اتخذ مسارا جديدا...
غادر سريره الأرضي في هدوء، وسار باتجاه الخزانة الوحيدة في المسكن الصغير المتواضع.
كانت هناك صرة قديمة في أعماق الخزانة. تحوي كل ما يربطه بحياته القديمة.
الحاجيات التي كان يلبسها حين وجده العجوز فاقدا للوعي في الأحراش.
يذكر جيدا ذلك اليوم، حين استيقظ والفراغ يملأ رأسه.
لم يجد صعوبة في التواصل مع الرجل، يبدو أنه احتفظ بكل ملكاته العقلية.
لكن حين سأله من يكون وما الذي يفعله في الغابات، لم يجد ردا.
حدثه الشيخ عن الأحداث التي تشغل البلاد... تحرير الجنوب وتدمير معتقل الخيام.
فكر للحظات بأنه قد يكون من المعتقلين القدامى، فقد ذاكرته وهو يفر من السجن...
لكن جسده لم يكن يحمل أيا من علامات التعذيب المفترضة.
حين أعياه التفكير والتخمين، ترك الأمر برمته خلفه
كان عليه أن يجد وسيلة للعيش. صار البحث عن هويته مسألة ثانوية أمام أولويات الحياة البدائية.
تفقد الورقات النقدية التي دأب على جمعها وتخبئتها بين ثيابه.
الآن صار يملك ما يكفي من المال ليبدأ رحلة البحث عن ماضيه.
الآن أصبح بإمكانه أن يغادر هذه البلدة النائية ويختلط بالناس
عليه أن يذهب إلى حيس يمكن أن يتعرف عليه أحد
إلى حيث تكمن ذاكرته.
جمع حاجياته القليلة في صمت وهدوء شديدين.
يحاول ألا يوقظ الشيخ الذي يرقد في نفس الغرفة.
توقف على عتبة الباب في تردد.
لا يمكنه أن يغادر هكذا، دون أن يودع الرجل الذي أواه واهتم به طوال الفترة الماضية، ويشكره كما يجب, لكنه لا يريد أن يضعف الآن، وقد اتخذ قراره اخيرا.
سيعد,.. سيعد بالتأكيد بعد أن يسترد ذاكرته وماضيه
سيعد ليوفيه أجره.
كان يهم بفتح الباب حين جاءه صوت هادئ من خلفه:
-هل تظن أنك ستغادر هكذا؟
التفت جون مرتبكا.
كانت العبرات تملء عينيه.
وقف العجوز وتقدم نحوه: -
كنت أعلم ان هذه اللحظة ستأتي لا محالة. لذلك لن أمنعك من الرحيل...
عانقه جون في حرارة، ولم ينطق بكلمة واحدة. لم يكن قادرا على التصرف في موقف كهذا، ولم يكن عقله يستحضر الكلمات المناسبة.
تمتم بكلمات شكر متداخلة وهو يصافحه بقوة.
-انتظر...
هتف الرجل وهو يتركه للحظات.
عاد وهو يشد قبضته على حلية ما.
كان صليبا فضيا قديما، هو كل الثروة التي يملكها العجوز.
حاول جون أن يرفض ويمتنع، لكن الرجل شده بإءصرار من ذراعه، ثم جعله ينحني ليمرر السلسلة المعدنية حول عنقه.
قال وعيناه مغرورقتان بالدموع:
- فليحفظك الرب... رافقتك السلامة يا بني.
حين تسللت خيوط الفجر الأولى من خلف تلال الخيام الممتدة، كان جون قد ابتعد عن القرية مسافة كافية لينسى كل ما عاشه فيها ، ويركز على ما ينتظره في اماكن أخرى، لم يكتشفها بعد.
لم يتوقف جاكوب عن التفكير منذ أيام
لم يعد قادرا على التركيز في العمل او في أي شيء آخر.
يحس بالتوتر كل ما دخل المنزل.
يفكر في لقائه بسارا ، وفي كيفية التعامل معها.
لم يستطع أن يتحدث إلى تانيا بالأمر. ربما لأنه أحس أن تدخلها سيزيد الطين بلة.
ليس لانعدام ثقته فيها ، ولكن لخوفه من ردة فعلها , هو كان قادرا على استيعاب الأمر وكبح غضبه، لكنه يشك في أن تانيا ستكون قادرة على ذلك.
^ولا يريد أن يتسرع.
الوضعية حساسة للغاية.
سارا ليست طفلة عادية، بل هي طفلة ذكية جدا وواعية
لا يمكن أن يكون إسلامها مبنيا على نزوة عابرة.
لا شك أنها فكرت مليا ووذنت القرار جيدا قبل ان تقدم عليه.
لذلك فإن الردع والغضب والتهديد لا يمكن ان يجديا معها.
لن تكون النتيجة إلا اتساع الهوة بينها وبين والديها وقطع كل سبل التواصل الممكنة.
منذ أيام وهو يبحث عن الطريقة المناسبة لمواجهتها.
طريقة لا تجرح كبرياءه كأب، ولا تهين ابنته التي طالما وضع لأفكارها وأرائها اعتبارا.
لكنه كان في حاجة إلى تفسير لما حصل أكثر من أي شيء آخر.
كيف تسلم سارا التي لم تقتنع يوما إلا بالمسائل التي تجد لها تفسيرا علميا؟
ما طلب منها شيئا او ناقشها في أمر إلا وكانت الحجة سلاحها، فكيف تنتهي إلى الإسلام؟
خرج من مكتبه عند منتصف النهار, سار بلا اتجاه، يتسكع في الشوارع العتيقة.
انتبه حين انتهت به قدماه أمام الجامع الكبير.
توقف في تردد وتوتر.
ما الذي جاء به إلى هنا؟
هل جاء يبحث عن ردود شافية؟، فكر أنه لن يفهم تفكير سارا إلا بعد أن يفهم الإسلام.
وحين يفهم تفكيرها ، يمكنه أن يساعدها على إيجاد طريقها.
كان يوم جمعة. انتظر لدقائق طويلة قبل أن يرى المصلين يغادروا المسجد أفواجا.
انتهت صلاة الجمعة. أخذ نفسا عميقا، ثم شق طريقه في اتجاه قاعة الصلاة
سيقابل الإمام اليوم، سيطرح عليه كل ما برأسه من اسئلة
وليرى كيف ستكون النتيجة
حين تجاوز عتبة الصحن انتابه شعور غريب، كأنه يحقق رغبة دفينة لازمته منذ زمن طويل
كأنه يتذرع بمشكلة سارا ليشفي الفضول الذي نشأ داخله حين كان يناقش ندى ويجادلها.
بل ربما كان يسكن في ركن قصي من قلبه منذ كان يرافق ريما إلى درسها الأسبوعي.
لم يستطع جاكوب أن يعود إلى المنزل ذلك المساء.
غادر المصنع في اتجاه منزل والديه القديم.
كان المنزل خاليا ومهملا منذ سنوات. لكنه أصبح يقصده كلما أراد الاختلاء بنفسه بعيدا عن كل المؤثرات الخارجية.
كثرت زياراته في الفترة الأخيرة، مع الأفكار الجديدة التي تشغل تفكيره باستمرار.
أصبح يفضل الابتعاد عن تانيا التي قد تكتشف امره من نظرة واحدة.
يأتي هنا لقضاء ساعة او ساعتين، ثم يعود إلى البيت وقد رسم على وجهه قناع اللا مبالاة والانشراح.
تكررت زياراته لإمام الجامع في الأسابيع الماضية, اقتنى نسخة من كتاب القرآن، احتفظ بها في منزل والديه.
يقرأ فيها بضع صفحات في كل مرة، ثم يبحث عن التفسير ويفكر في التأويل.
وكلما أمعن في التفكير، أحس بتغيير غريب يغزو كيانه.
كانت نظرته إلى الأمور تتغير، وفكرته عن الإسلام تتحول.
حتى أصبح الموضوع يسيطر على عقله ويشغل قسما كبيرا من اهتمامه.
لم ينتبه في البداية إلى عمق تأثره بما قرأه من القرآن وما تعلمه من الإمام...
حتى فاجأ نفسه ذلك المساء وهو يفكر في الجنة والنار والحساب والعقاب.
كان يفكر في الأمر بصفة جدية للمرة الأولى، فتلك المعتقدات غير موجودة في الديانة اليهودية، بل يعتبرونها أفكارا إنجيلية)) دخيلة لا أساس لها من الصحة.
لكنه بات يعتقد أنه من غير المعقول أن يخلق الإنسان عبثا ويموت عبثا دون أن يحاسب على ما اقترفته يداه أو يثاب على عباداته.
لا يمكن ان يكون مصيره العدم
توقف في منتصف الطريق وهو يكاد لا يصدق نفسه.
كان مضطربا، متوترا.
لا يمكنه أن يواجه عائلته وهو على مثل هذه الحا لة.
يحتاج إلى بعض الهدوء والتركيز...
وهكذا وجد نفسه يغير مساره في اتجاه المنزل القديم.
جلس على الأرض، في الظلام الحالك.
يحس بتعب وإرهاق شديدين من التفكير.
كيف وصل إلى هذه المرحلة دون أن يشعر؟، يحتاج إلى وقفة جادة مع نفسه حتى يستوعب التطورات الجديدة.
حسنا، فليضع نقاط تقييم لوضعه الحالي.
هل وجد الإجابات الكافية لتساؤلاته القديمة؟، الصورة أوضح بكثير الآن.
لم يجد تفسيرا عقليا مقنعا لكل شيء، لكنه اقتنع بمعظم الإجابات وتقبلها
أمى القسم المتبقي فهو يدخل في مجال الغيبيات التي تعد من الأعمدة القارة في كل ديانة
هل وجد تناقضات وخرافات سخيفة في الإسلام؟، ربما كانت تلك هي المفاجأة الكبرى التي اكتشفها خلال دراسته للإسلام.
تناسق تام وتوافق مع المعطيات التاريخية والاجتماعية، بل إشارات علمية غير مسبوقة تتماشى مع المعلومات الحديثة.
في المقابل، كيف أصبح موقفه من التوراة؟
خجل من نفسه، وهو يتذكر المرة الأخيرة التي مسك فيها الكتاب المقدس بين يديه.
مضى زمن طويل على ذلك.
بقدر الفضول الذي أصبح يجده في قراءة القرآن، بقدر الملل والانزعاج الذي يشعر به حين يراجع نصوصه الدينية القديمة.
أين هو الآن؟، هل بات مقتنعا بالإسلام؟، هل وجد في الإسلام المعتقد المقنع والكامل في آن؟
لا يمكنه أن ينكر.
لا يمكنه أن يهرب.
لا مفر من الإقرار بما وصل إليه.
لكن لا يمكنه أن يسلم بهذه السهولة.
لا يزال الخيار غير وارد بالمرة بالنسبة إليه. لا يمكنه أن يتخيل النتائج المحتملة لقرار مثل هذا.
كيف ستكونحياته العائلية
كيف سيتصرف مع تانيا؟، حياته كلها ستنقلب رأسا على عقب.
لا يمكن.., لا يمكن ! ! كيف تجرأ على مجرد التفكير في هذا ؟
نفض عن رأسه الأفكار المخيفة. لكنه لا يزال في حيرة من أمره.
كيف يمكنه أن يتجاهل ما عرفه واقتنع به؟، هل يمكنه ان يستعيد حياة عادية متوازنة وينسى فترة البحث والشكوك هذه؟
وما الذي سيفعله مع سارا ؟، هل يتركها تواصل الطريق الذي جبن عن سلكه؟
وضع رأسه بين كفيه في حيرة وضياع.
لماذا لا يستطيع أن يقرر؟
آه,.. كم كانت حياته مستقرة وهادئة قبل أن يدخل نفسه في هذه المعمعة.
هل يضع اللوم على فضوله الآن؟، هل يندم لأنه بحث عن الحقيقة؟، كان يجب أن يجد الراحة والاطمئنان في نهاية المطاف.
كان يجب أن يكون أفضل حالا
لماذا لا يجد الطمأنينة النفسية التي لاحظها على ابنته سارا؟، ربما لأن سارا لا تضع اعتبارا لنظرة المجتمع ولا تخاف من حكم الآخرين عليها.
لكنه هو، يشعر بالقيود الطائفية والعائلية تكبله
لا حياة ليهودي دون اعتبار لطائفته ومجموعته، وماذا لو لم يعد يهوديا؟، لن يقبله احد، سيصبح وحيدا في عائلته، تانيا قد تطلب الطلاق. سيفقد كل شيء...
كل شيء.
أشعل شمعة على المنضدة.
كانت الكهرباء مقطوعة في المنزل المهجور. ظل يراقب نورها في سهوم وشحوب
الهدوء يخيم على المكان.
لا شيء سوى حفيف الأوراق التي يحركها نسيم المساء البارد في صحن الدار
كان قد أطفأ هاتفه الجوال حتى لا تتصل به تانيا
ليس مستعد الى مواجهتها في الوقت الحالي.
تطلع عبر زجاج النافذة المغلق إلى السماء. تحركت شفتاه بشكل لا إرادي.
يا الله، يا رب السماوات. أيا كنت، وكيفما كنت,.. دلني على الخيار الصواب. أرني الطريق الصحيح.
ارشدني إلى حيث أجدك. اريد آية واضحة. اريد إشارة صريحة تخرجني من حيرتي وضياعي.
انتظر لدقائق طويلة ان يحصل شيء ما.
أي شيء يمكنه أن يقربه من الخيار الأفضل.
لكن عبثا لم يتغير شيء من سكون المكان.
ابتسم في سخرية.
هل كان ينتظر معجزة؟، ومن يكون هو حتى يبعث الله إليه باشارة خاصة؟
عض على شفتيه في يأس، وقاوم الدموع التي تكاد تطل من عتبات عينيه.
تناول كتاب القرآن الذي وضعه إلى جانبه.
تنهد وهو يهم بإخفائه في المكان المعتاد.
لكن قبل أن ينصرف، أحس برغبة مفاجأة بالقراءة فيه للمرة الأخيرة.
نعم، ربما كان هذا آخر عهده بالبحث عن حقيقة الإسلام.
من الآن فصاعدا سيعد إلى حياته، وعائلته، وطائفته. سينسى الشكوك والأوهام ويتشبث بالواقع
نعم سينسى... كل شيء.
فتح الكتاب بصفة عشوأئية، وقرأ الآيات الأولى في الصفحة:
{او تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين
أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كره فأكون من المحسنين
بلى قد جاءتك آياتي فكذبت دبها واستكبرت وكنت من الكافرين
صعق وهو يعيد قراءة الآيات مرة أخرى، ثم لمرات أخرى.
ومرة إثر مرة تزايد إحساسه بأنها تخاطبه هو دون غيره.
هو الذي كان ينتظر آية من الله ليهديه، وحين لم تحصل المعجزة تراجع واستسلم.
هو الذي عاين الدلائل والحجج لفترة طويلة، ثم رفضها وتجاهلها مستكبرا... وكان من الكافرين.
تخيل الكلمات على لسانه يوم يرى العذاب (لو أن لي كَرَّة فأكون من المحسنين).
انهار على الأرض وقد ذهبت قواه.
لا يا الله، لا أريد أن أكون ممن يندمون بعد فوات الأوان.
لا أريد أن أتحسر على تضييعي لهذه الفرصة للنجاة.
اللهم إني اشهد أن لا إله غيرك، وأن محمدا عبدك ورسولك...
وترك العنان لدموعه، تغسل ما مضى من ذنوبه.
*********************
إلي هنا ينتهي الفصل السابع والعشرون من رواية فى قلبى انثي عبرية بقلم خولة حمدى
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع أيضاً: جميع فصول رواية جمعتنا صدفة بقلم هنا عمرو
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من روايات حب
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا