أصدقائي الأعزاء متابعي موقع قصص 26 يسعدني أن أقدم لكم الفصل الثامن والعشرون من رواية فى قلبى أنثى عبرية بقلم دكتورة خولة حمدى وهي رواية واقعية إجتماعية ممزوجة بالحب وأيضا تتسم بالكثير من الأحداث والمواقف المتشابكة التي ستنال اعجابك بالتأكيد فتابع معنا.
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل الثامن والعشرون
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى |
رواية فى قلبى انثي عبرية - خولة حمدى - الفصل الثامن والعشرون
وقفت ندى على سطح البطاح العائم في البحر الأبيض المتوسط.شدت قامتها وهي تستقبل النسيم الذي هب باردا من الشمال، وابتسمت وهي تسرح بنظراتها إلى الأفق البعيد
هذه زيارتها الثانية لتونس، وإلى جزيرة جربة بالذات
بعد رحلتها الغريبة منذ سنتين، ها هي تعود في ظروف مغايرة تماما
كل شيء من حولها تغير... كل شيء ، حتى نفسيتها ومشاعرها ونمط حياتها.
ولا يمكنها ان تخفي فرحتها بهذا التغيير الجميل.
تبادلت مع سونيا نظرات منشرحة, هتفت والدتها وهي تشير إلى سطح الماء:
- انظري.., نوارس بيضاء!
تابعت ندى في مرح حركة الطيور، ورمت باتجاهها بذور اليقطين الجاف والمملح التي كانت تتناولها، ثم شاركت سونيا إشاراتها العفوية الساذجة وهي تنادي النوارس لتقترب.
سونيا .
كم بدت متألقة في تلك الرحلة.
كأنها لم تصارع المرض لأكثر من سنة، حتى صرعته.
مَرَّتا معا بوقت عصيب.
تحملت ندى معها آلامها وهي تتابع في صبر وثبات حصص العلاج الكيميائي الذي كان يمتص رونقها ونصاعتها
وخرجت علاقتهما منتصرة من تلك المحنة.
كانت فسحة تحاور وتواصل اضطرارية.., وغير مأمولة.
استمرت في هدوء معظم الأحيان، وفي تشنج وهستيريا في أحيان قليلة.
لم يكن قبول التغيير سهلا.
أدركت ندى مبكرا ان والدتها باتت مقتنعة بالإسلام، أدركت ذلك بقلبها ومن خلال نظرات سونيا الشفافة التي تفضح أمرها.
لكنها لم تكن ترضى بالتنازل بسهولة.
هكذا هي سونيا، طبعها لم يتغير.
تكابر إلى آخر لحظة.
تطلب الأمر منها وقتا طويلا حتى تعلن إسلامها .
كان يلزمها الكثير من الجهد لتتخطى الحواجز النفسية التي شإيدتها تربيتها اليهودية المتشددة.
تعالى صوت رنين هاتفها المحمول.
تطلعت إلى الرقم المحلي الذي ظهر على الشاشة، ثم أجابت:
- السلام عليكم...
اتسعت الابتسامة لتملأ وجهها حين وصلها صوت تانيا.
بدت هادئة وأكثر اطمئنانا.
من المؤكد ان ذلك يرجع بالأساس إلى عودتها الحديثة إلى عش الزوجية.
عاشت العائلة فترات رهيبة بعد أن أعلن جاكوب إسلامه.
انهارت العلاقة بينهما بشكل كامل، وتركت تانيا المنزل لمدة طويلة.
كان سارا وباسكال أكثر الأطراف تضررا من النزاع بين والديهما.
لكن خيار الطلاق لم يكن واردا.
فالطلاق عند اليهود بيد الرجل وحده، ومتى وقع فلا يمكن التراجع عنه، أو الزواج مجددا من الطليقة.
لذلك قرر جاكوب أن يتركها تفكر لفترة.
كان مستعدا للانتظار مهما طال الأمد, لم يكن يريد أن يتسرع ويخسرها إلى الأبد
بعد أشهر من العذاب والتمزق، عادت المفاوضات بينهما من جديد، ورضيت تانيا بفتح باب النقاش...
عادت إذن إلى بيتها ووافقت على بعض التنازلات لحماية مستقبل العائلة وتجنب التشتت النهائي.
كان وضعا غريبا وغير مريح.
صارا مثل صديقين يعيشان تحت سقف واحد، ويحاول كل منهما فهم الآخر وإقناعه بوجهة نظره.
لم يدر أحد كم يمكن ان تدوم تلك الهدنة وعلامى ستسفر.
ولعل اكثر من طرف كان يرقب تلك التجربة عن كثب، لأنها تعد سابقة من نوعها في البلدة الصغيرة.
لذلك، فقد كان وقع الخبر عنيفا حين اعلنت تانيا إسلامها أخيرا.
نعم إنهم يسلمون
المعجزة تحصل، اليهود يدخل الإسلام!
يهود آخرون أسلموا في وقت سابق، لكنهم ينتمون إلى فئة غير متدينة أو ملتزمة.
رجال أسلموا شكليا ليتزوجوا من حبيباتهم، ونساء اسلمن لرفضهن المغادرة إلى إسرائيل.
لكن إسلام عن اقتناع؟ وبالجملة أيضا ، فهذا أمر منقطع النظير في مجتمع اليهود الضيق والمغلق.
كان خبر عودة السلام الذي تلقته ندى من سارا السبب الأساسي لزيارتها إلى تونس
سونيا كانت لا تزال متذبذبة وقلقة
لعل مواجهة أهلها وطائفتها بالتغيير الذي حل بها هي أكبر همومها،
فأرادت ندى ان تختصر عليها الأمر.
اقنعتها بأن رحلتها إلى تونس ستعجل بشفائها الجسدي، لكنها كانت ترمي إلى شفاء روحها بعد أن تقف وجها إلى وجه مع مخاوفها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن وضعية تانيا الجديدة كانت شديدة الشبه بوضعيتها.
وما تحتاجه المرأتان في ذلك التوقيت، هو لقاء تطرحان فيه شكوكهما وتتبادلان الأفكار، فربما يصنع ذلك فارقا بالنسبة إلى كليهما.
-نحن الآن على البطاح... نعبر المضيق.
نصف ساعة ونصل
ردت تانيا في ارتياح:
ممتاز... سنكون في انتظاركم إن شاء الله.
هتفت قبل أن تنهي المكالمة:
هل اتصلت سارا بكم؟
اتصلت البارحة وتحسرت كثيرا لأنها لن تكون معنا في استقبالك
كان الله في عونها في غربتها...
كانت سارا قد سافرت منذ أسبوعين إلى الولايات المتحدة في إطار البعثة العلمية للطلبة المتفوقين.
ظل جاكوب يؤجل الرحلة سنة بعد سنة خوفا عليها، رغم إصرار اللجنة العلمية الأمريكية.
ولم تزده المشاكل العائلية إلا تمسكا ببقائها حتى لا تزداد نفسيتها تدهورا وهي بعيدة عن عائلتها.
لكن الآن، وبعد ان استقرت الأوضاع نسبيا ، سمح لها بالسفر.
تنهدت ندى في ارتياح وهي تعيد هاتفها إلى حقيبتها الصغيرة.
يا الله ما ارحمك
لم تسافر سارا وهي يهودية، بل وهي مسلمة لترفع راية الإسلام?
أسعدها ذلك الخاطر، وجعلها تستبشر بخيرا كثير
تدافع الخلق في سوق صيدا المركزية في لغط، وارتفع صراخ الباعة عبر الأزقة الضيقة ليختلط بأزيز العربات المتدافعة فوق الطريق المُبَلَّط، وصوت الإذاعة المحلية الصادر عن بعض المحلات.
اختلطت روائح التوابل المكومة في أكياسها القماشية الخشنة برائحة الأرض التي التصقت بقايا ترابها بخضروات اقتلعت من منابتها منذ سويعات قليلة.
في وسط الزحام وقف بائع شاب ينادي بصوت جهوري على بضاعته المكونة من حبات بطاطس وجزر ولفت، جمعها بنفسه صباح ذلك اليوم من قطعة الأرض التي يعمل فيها.
تطلع إلى ساعته في قلق.
لم يبقى سوى نصف ساعة على موعد القداس
يجب ان ينتهي من هذه البضاعة ويقصد الكنيسة القريبة للصلاة.
عاد يصرخ من جديد وقد خفض السعر إلى درجة مغرية, يريد الانتهاء في أسرع وقت.
حين استيقظ من غيبوبته، وجد نفسه في قرية جل سكانها من المسيحيين.
علموه دينهم واعتبروه واحدا منهم، فاعتبر نفسه نصرانيا مثلهم.
أحيانا كان يتساءل...
هل كان يدين بالمسيحية في حياته السابقة؟، لكنه لم يعطي الأمر قسطا كبيرا من التفكير.
كان لديه ما يكفيه من الهموم، وإن كانت الصلاة في كنيسة القرية الصغيرة الهادئة تريحه.
لم يكن شكل الصلاة ذاتها ما يعنيه، لكنه كان يلوذ بالمناجاة كل ما ضاق صدره وكبر كدره.
في دقائق قليلة، كان ما معه من الخضار قد نفد.
جمع حوائجه على عجل، ودفع العربة ليركنها في مكان ظليل حتى يفرغ من صلاته.
فجأة إستوقفه نداء من ورائه، وكف تستقر على كتفه:
-أحمد؟
ترك ما في يده واستدار ببطء ليواجه صاحب النداء,
أحمد؟
كان للاسم وقع غريب على أذنيه.
تفرس أحدهما في الآخر للحظات قبل أن يهتف الرجل مجددا في عدم تصديق:
-أنت احمد؟
ثم أضاف وهو يصعد النظر في وجهه وهامته:
ما الذي فعل بك هذا ؟، أين كنت طوال هذا الوقت يا رجل؟
تسارعت نبضاته وهو يبادل مخاطبه نظرات حائرة، ثم قال في شيء من التردد:
هل تعرفني؟
ظهرت علامات الشك في وجه الرجل الذي أنزل ذراعه في حرج، ثم قال:
ألست أحمد ال ...) طالب كلية الزراعة؟، كنا نقيم في نفس السكن الجامعي...
ثم اشار بإصبعه في اتجاه ما خلفه.
تبع جون إشارته في تطلع وتساؤل؛
فأضاف الرجل موضحا:
السكن الجامعي للذكور. على بعد شارعين من هنا.
حين لم يجد استجابة من جون، هز كتفيه وهو يهم بالابتعاد.
في تلك اللحظة، استفاق جون من دهشته
وتشبث بذراع الرجل في إلحاح وهو يهتف:
أنت تعرفني إذن؟، هل تعرف عائلتي؟، اخبرني من أكون؟
تراجع الرجل في ذعر، وأخذ يحدق في وجه جون الذي كسته اللحية، وتركت السنوات عليه علاماتها القاسية.
هل يكون قد جن؟
حين لم يجد منه جون ردا قال في رجاء:
خذني إلى السكن الجامعي...
تقدمه الرجل وهو يتلفت خلفه في شك وحذر، متوجسا من ردود فعل احمد الغريبة.
ترك جون حاجياته وراءه دون تردد، وتبع الرجل وقد حداه أمل كبير.
هل يجد اخيرا من يوصله إلى عائلته؟، هل يجد هناك ما يدله على ماضيه؟
دخلت تانيا تحمل طبق الحلويات والمشروبات الباردة
وقالت وابتسامة حفية على شفتيها :
- كيف كانت الرحلة؟، أرجو أن تكونا قد الستمتعتما
استرسلت سونيا تتحدث عن الطائرة والقطار والحافلة والبطاح، كأنها تسافر للمرة الأولى...
في حين اكتفت ندى بابتسامة حالمة.
لم تكن تانيا تحبها في السابق، كان بينهما نوع من العداء الصامت.
كانت تدرك أنها السبب في اندلاع الشرارة الأولى التي حولت صفو العائلة الهادئة إلى فوضى،
لوقت طويل كانت تتفهم استياء تانيا وامتعاضها, فما مرت به جراء تدخلها لم يكن هينا, لكنها حتما ممتنة لها الآن اكثر من أي شخص آخر.
ارتفع رنين هاتفها، فاعتذرت من السيدتين وخرجت للردهة لترد على الاتصال
كان عليها ان تطمئن الجماعة في لبنان على وصولهما سالمتين، لكنها غفلت.
حين ضغطت على زر الرد جاءها صوت حسان وهو يهتف في انفعال:
ندى... لن تصدقي الخبر!
خيرا إن شاء الله!
أحمد يا ندى... احمد عاد!
للحظات، نسيت سونيا وتانيا في الغرفة المجاورة وكل ما يشغل بالها حتى تلك اللحظة، لأن الأرض توقفت عن الدوران... او هكذا هيئ لندى.
توقف إحساسها بكل شيء من حولها ، وأحاط بها الفراغ من كل جانب ممتصا كل الطاقة في داخلها وفي الأشياء.
توقف دماغها عن التفكير. وظلت جملة واحدة تتكرر في رأسها دون توقف، كالأسطوانة المشروخة، وحواجز كثيرة في نظامها الداخلي المعقد تحول دون استشفاف معناها.
أحمد عاد. أحمد عاد. احمد عاد...
بعد لحظات من السكون التام، همست في تبلد :
-ماذا؟
هتف حسان مجددا ليوقظها:
- ما بك يا ندى؟ أقول لك إن أحمد قد عاد أخيرا !
كانت علامات السعادة واضحة في صوته.
أليس رفيق الشباب وزميل الكفاح؟
تمالكت نفسها بصعوبة. لا تدري من اين استمدت القوة لتهمس بصوت مخنوق:
-هل هو بخير؟
نعم، إنه بصحة جيدة... لكنه فاقد للذاكرة
رددت في عدم استيعاب:
فاقد للذاكرة؟
لم أره بعد، لكن أيهم قال إنه لا يذكر شيئا عن ماضيه.
ذكرياته لا تزال مشوشة
اغلقت الخط واتكأت على الجدار خلفها
انزلق جسدها ببطء مع الضعف الذي انتاب ركبتيها فجلست على الأرض، وقد سيطر عليها الذهول.
هل كان ذلك حلما؟، اخرجها من ذهولها صوت الباب الخارجي يفتح وباسكال يقفز في اتجاهها بعد أن أفلت كف والده:
إنها ندى!
هل كل شيء على ما يرام؟
بادرها جاكوب في قلق وهو يهرع إليها
التفتت إليه وهي لا تزال تحت وقع الصدمة:
هه؟
استندت على الجدار حتى استقامت واقفة، ثم أضافت وقد استعادت شيئا من تركيذها:
آسفة... كل شيء على ما يرام... لا تقلق
هلا أخبرت والدتي بأنني سأغادر قبلها؟
وقبل أن يستوضح جاكوب، كانت قد جرت إلى باب الخروج بكل الطاقة التي تبقت في ساقيها، لا تلوي على شيءء
عدل الطبيب نظارته فوق أنفه، وهو ينهمك في كتابة الوصفة الطبية.
هتف الحاج أبو احمد في لهفة وهو يتابع حركاته;
بشر يا دكتور
هل هناك أمل في استرجاعه لذاكرته؟
رفع الطبيب رأسه وهو يعقد حاجبيه في تفكير، ثم كأنه قد تذكر أنه يخاطب عائلة المريض، رسم ابتسامة على شفتيه وهو يقول مطمئنا:
يبدو أنه تعرض لإصابة في الرأس تسببت في فقدانه للذاكرة...
وابتعاده طوال السنوات الماضية عن عائلته ومحيطه لم يكن عاملا مساعدا أبدا.
لكن بما أنه الآن قد وجد مكانه أخيرا، فأتوقع أن يحصل تحسن في الفترة المقبلة إن شاء الله...
شد أبو أحمد على ذراعه في امتنان، ثم التفت في حب إلى ابنه الذي كان لا يزال مستلقيا على سرير المعاينة.
تأمل وجهه وعينيه المغمضتين في شوق جارف.
يا الله ، كم دعا الله في جوف الليل والناس نيام لكي يرد له ولده سليما معافى...
وها هو الآن أمام عينيه. سليم الجسد... عليل النفس.
أحمد... هيا بنا...
تردد الاسم في رأسه للحظات.
كلما سمعه، بدا له مألوفا اكثر.
هل هذا هو اسمه؟، رغم؛ أنه لم يكن متأكدا في قرارة نفسه، لكن إحساسا غريبا بالارتياح غزاه وهو يسمع هذا الرجل المسن يناديه.
أحمد... اسم مختلف عن جون. اسم يلامس قلبه ويحرك ذرات دماغه النائمة.
مرت ثوان طويلة قبل ان يقرر فتح عينيه.
نهض من متكئه في بطء.
تطلع إلى الرجل في نظرة خاطفة، ثم أطرق وهو يتمتم:
- هل انتهت الجلسة؟
كان بوده أن يطيل النظر والتحديق، ان يملأ عينيه من وجهه الهادئ والمريح-
لكنه كان ينقبض كلما تذكر أنه لم يذكر شيئا بعد، حتى بعد أن التقى بالأشخاص الذين يحسبهم أفراد عائلته، وعاد إلى الغرفة التي يقولون إنها كانت غرفته.
وضع أبو أحمد ذراعه حول كتفي ابنه، وقاده إلى خارج العيادة.
كان يريد تحسس وجوده بيديه، ليستيقن من أنه لا يشهد حلما سرعان ما يتبخر مثل كل احلام المنام واليقظة التي رآها طوال رحلة البحث المضنية.
استسلم أحمد وترك لوالده قيادته عبر طرقات المدينة العتيقة.
كان الرجل يحدثه عن المدينة كمن يقود سائحا.
يشير إلى المباني التي يميل طلاؤها إلى الاصفرار ويشرح... هذه هي السوق المغطاة، وتلك هي البلدية، وهذا مركز البريد.
ثم يروي بعض الطرائف. كان يتكلم دون توقف كأنه يريد إنهاء مخزون الكلام الذي حبسه في صدره لفترة طويلة، في حين يكتفي أحمد بهز رأسه في صمت.
كان ينظر إلى الطريق أمامه في شرود.
ويفكر. متى سيتذكر كل شيء؟
انتبه فجأة حين وقف والده وتوقف عن الكلام.
حين التفت إليه، اصطدم بعينيه الدامعتين ونظراته الحانية.
تسمر في مكانه وهو يرى الرجل يجهش بالبكاء دون سابق إنظار.
كلهم بكوا حين رأوه للمرة الأولى... والداه وشقيقته وزوجها.
حتى الصغيرة ريما جلست في حضنه بوداعة.
لكنه لم يستطع أن يبادلهم المشاعر بمثلها.
بكى فيما بعد، حين أصبح وحيدا بين جدران الغرفة التي خصصت له.
بكى لأنه لا يزال وحيدا حتى بعد أن وجد عائلته.
بكى لأنه لم يذكر شيئا
لكن وهو يقف الآن أمام الكهل الدامع في الطريق الصاخبة، لم يتمالك نفسه.
ارتمى بين ذراعيه واحتضنه بحرارة.
ترك دموعه تسيل على وجهه أمام دهشة الرجل الذي لم يتوقع اندفاعه بذلك الشكل.
كان بحاجة إلى هذا الحضن الدافئ حتى يخرج من وحدته الباردة التي جمدت مشاعره وصنعت حواجز بينه وبين ماضيه.
ابتعد عنه والده بعد بضع ثوان وعلامات التأثر واضحة في وجهه
تأمله مجددا في حنان، ثم همس بعد تردد قصير:
- بُنَيّ ... هل تأتي معي إلى الصلاة؟
نظر إليه في عدم استيعاب:
-الصلاة؟
هز أبو احمد رأسه مؤكدا وهو يشير إلى المبنى الذي وقفا أمامه.
لم يكن احمد قد انتبه إلى أنهما وصلا إلى مسجد المدينة العتيقة الصغير.
كانت الصومعة المنقوشة ترتفع إلى عنان السماء وتتجاوز كل المباني المجاورة.
ردد بصره في حيرة بين المبنى ووجه والده المليء بالرجاء,
الآن فقط فهم سبب دموع الرجل في هذه اللحظة بالذات.
تسللت كفه إلى الموضع الذي استقرت عليه عينا الرجل.
أمسك الصليب الفضي بين أنامله في ارتباك، ثم سأله وهو يحس بالضياع:
هل كنت أصلي من قبل؟
هز أبو احمد رأسه في حماس وهو يقول مشجعا :
طبعا! بل كنت مواظبا على الصلاة في المسجد...
وكنت أفخر بالتزامك الديني كثيرا...
كان أبو احمد يتمنى منذ اللحظة الأولى التي رأى فيها الصليب حول عنق ولده، ان ينقض عليه ويقتلعه ثم يحطمه إلى أشلاء.
لكنه تماسك بصعوبة خوف أن يصدمه ويبعده عنهم نهائيا، وهم لم يسترجعوه بعد.
حز في نفسه أن ابنه لم يصلي فرضا واحدا منذ دخل البيت من يومين...
بل لعله لم يصلي نهائيا طوال السنوات الأربع المنصرمة.
لبث أحمد مسمرا في مكانه.
لم يستطع أن يتخذ خطوة واحدة.
كان جون القديم يصارع احمد الغريب في داخله.
سؤال يعذبه بقوة:
من انا؟،
هل يمكنه ان يعود إلى مسار أحمد الذي لم يعرفه، ام يتابع طريق جون الذي تعود عليه؟
فجأة، تعالى صوت الأذان يعلن دخول وقت الصلاة.
رفع رأسه وهو يصغي إلى النداء.
لم يكن يسمعه للمرة الأولى، فقد مر بمساجد كثيرة طوال السنتين الماضيتين اللتين قضاهما سائحا بين المدن والقرى بحثا عن هويته
كان يعلم أنه النداء لصلاة المسلمين، لكنه في هذه المرة بالذات، أحس بالنداء يخاطبه.. هو، هذا الشخص المجرد من الهوية.
لم يكن جون، ولم يكن احمد الذي تحرك باتجاه بوابة المسجد.
كان شخصا جديدا لم تكتمل هويته بعد...
جلس حسان وعدد من رفاقه في غرفة الجلوس في منزل عائلة أحمد.
اجتمعوا اليوم بعد أن سرى الخبر بعودة أحمد بسرعة خيالية.
بعضهم جاء خصيصا من صيدا ، والبعض الآخر كان من سكان قانا والقرى المجاورة لها.
علت أصواتهم في مزيج من الحماس واللهفة.
أحمد الذي يئس الجميع من نجاته عاد أخيرا.
معجزة عودته بعد غياب طويل ملأتهم بشرا وفرحا.
حين فتح الباب انقطعت الأحاديث وخيم عليهم صمت مفاجئ، كأن على رؤوسهم الطير.
هبوا جميعا واقفين وأعينهم تتطلع إلى القادم في شوق.
دلف اليهم ودعا مرافقه إلى الدخول.
تقدم أحمد في وجل، ثم رفع عينيه ببطء.
وقف عند الباب يتفرس في وجوههم في فضول وأمل، كأنه يبحث عن إجابات معلقة.
مرت ثوان من الصمت والترقب، لكن علامات الخيبة عادت لترتسم على وجوه الجميع، حين أشاح أحمد بوجهه وهو يدعوهم إلى الجلوس...
لم يتعرف على أحد منهم.
رغم المرارة التي ملأت حلقه، تقدم ليصافحهم واحدا واحدا في امتنان لمجيئهم لكن حين وصل إلى حسان، لم يتمالك هذا الأخير نفسه وعانقه في حرارة وحب.
فوجئ أحمد بحركته، لكنه استسلم لعناقه وهو يتساءل عن هذا الشعور الغريب بالألفة الذي داهمه
جلس قبالتهم، وأخذ يستمع إلى كل منهم في انتباه.
كلهم يحتفظون بذكريات كثيرة عنه.
كلهم رووا طرائف ومواقف جمعتهم في الماضي... في الجامعة، في الحي، في التدريب وحتى في ساحة المواجهة.
استمع في صبر وأهل.
يتعرف في صمت على الشخص الذي كانه.
الشخص الذي لم يعد يشبهه او يذكره.
كان ينصت في شغف في البداية وكله رجاء بأن تعيد إليه أحاديثهم بعض الصور...
لكن حين توالت الدقائق مشيلة ثقيلة، تضاءل أمله وبدأ يشعر بالملل.
لم يكن مللا من أحاديثهم...
لكنه ملل من ذاكرته اللتي أبت أن تتفاعل مع حكايات الماضي.
وجد نفسه يقف فجأة معتذرا ويغادر الغرفة مسرعا.
لا فائدة.
أحمد لم يعد هو نفسه يا ندى
-لم يعد هو؟
اجابت سماح وصوتها يختنق من العبرة:
-عاد مسيحيا. يحمل صليبا حول عنقه
كان يذهب إلى الكنائس في السنوات الماضية ويصلي صلاتهم
لم يدخل مسجدا منذ زمن طويل
لا يعرف القرآن. أصبح شخصا آخر لا أعرفه
امتقع وجه ندى وهي تستمع إليها في صدمة.
أحمد؟، احمد الذي كان سببا في إسلامها، لم يعد مسلما؟، عقلها لا يستطيع استيعاب امر كهذا
إنه أمر يفوق طاقة تحملها.
جاءها صوت سماح مجددا:
لايكفي أنه نسينا ونسي ماضيه...
فها هو قد نسي دينه وعقيدته.
قلبي يتقطع في كل لحظة.
كلما التقت عيناي بعينيه أحسست بالقهر.
أريد أن أخذه بين ذراعي.,, لكن لا يمكنني أن أقاوم إحساسي بأنه ليس شقيقي الذي أعرفه.
هل... هل يذكرني؟
خرج صوتها مبحوحا متقطعا.
وفي اللحظة الموالية، احست بسخافة سؤالها أمام تصريحات سماح السابقة.
قالت إنه لا يذكر عائلته، لا يذكر شيئا من ماضيه، لا يذكر حتى دينه والتزاماته...
فكيف سيذكرها من دون البقية؟
كان سؤالا سخيفا، لكنها أرادت أن تتأكد، أن تكون على بينة.
قالت سماح في حسرة:
لم يذكر والدتي التي سهرت طوال الليل حذو سريره.
ترقبه في نومه والدموع تسيل على وجنتيها.
لم يذكر والدي الذي فقد القدرة على النطق لبعض دقائق من الصدمة حين جاءه خبر عودته...
لم يذكر أحدا يا ندى... لم يذكر أحدا البتة!
ثم اضافت في مرارة:
رأيت من واجبي أن أخبرك بنفسي. فأنت كنت من أقرب الناس إليه أيضا,
رنت في أذنيها كلمة كنت..
نعم كنت، ولم أعد كذلك.
هو لا يذكر وجودي على أية حال!
لم تملك إلا أن تتمتم في استسلام:
-شكرا لاتصالك...
مدت كفا مرتجفة لحقيبة يدها التي تأخذها معها اين ما كانت.
دست أناملها داخلها تتحسس ظلامها، وما لبثت أن سحبتها وقد قبضت على قطعة ورق...
لسورة من الماضي.
رفعتها امامها ليسطع فيها ضوء الغرفة.
للحظات، ظلت تتأمل ابتسامته العذبة، وملامحه الملائكية الصافية في حنين.
ظنت أن عينيها لن تقعا عليه مجددا, ظنت أن طيفه الذي حرص لياليها لسنوات سيختفي إلى الأبد
ظنت أنها ستتخلص من الصورة قريبا لتتخلص معها من بقايا الماضي، المؤلم منها والمفرح.
لكن احمد عاد.
هل عدت حقا يا أحمد؟، لا... أحمد الذي عرفها وعرفته لم يعد.
عاد أحمد وقد نسيها ونسى نفسه.
عاد أحمد وقد ترك ماضيهما المشترك وراء ظهره.
أحمد الذي عاد لا يعرفها ولا تعرفه...
إذن، أحمد لم يعد
*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الثامن والعشرون من رواية فى قلبى انثي عبرية بقلم خولة حمدى
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع من هنا : جميع فصول رواية فى قلبى أنثى عبرية
تابع من هنا: جميع فصول رواية حكاية بقلم إيمان الصياد
تابع أيضاً: جميع فصول رواية جمعتنا صدفة بقلم هنا عمرو
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من روايات حب
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا