مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي في موقعنا قصص 26 مع روايات رومانسية وإجتماعية ومثيرة مع الفصل الرابع والثلاثون من رواية أنت لى بقلم د/ منى المرشود،وهى من الروايات ذات البحث الكثير على مواقع التواصل الإجتماعى
رواية أنت لي بقلم منى المرشود - الفصل الرابع والثلاثون
رواية أنت لي بقلم منى المرشود - الفصل الرابع والثلاثون
لم أكن أريد أن يدركنا الظلام ، سرت بأقصى سرعة ممكنة ، لكن الشمس سبقتني بالغياب ...حين وصلت إلى المدينة الساحلية ، مسقط رأسي ، كان الظلام قد غطى الأجواء ...
تسارعت نبضات قلبي و أنا أسير في الطريق المؤدي إلى بيتنا... كلما وقفت عند إشارة مرور ، توقفت الذكريات عند حدث معيّن ...
شوارع المدينة لم تتغير... الكثير من الحفريات و الإصلاحات مبعثرة على الشوارع... لا تزال بعض المباني منهارة كما خلّفتها يد الحرب... و لا تزال المناظر تثير الرهبة في قلوب الناظرين...
" هنا مدينتنا "
قلت ذلك ، مخاطبا أروى التي كانت تشاهد المناظر من حولها... و كأنه واقع مخيف مرير أخشى تلقيه بمفردي...
" إنها آثار الحرب ! "
عقّبت أروى ، فقلت :
" و أي آثار ... ! تحمل هذه المدينة من ألم الذكرى و بصمات الماضي ما يجعل قلبي يتصدّع من مجرد ذكر اسمها ... "
و أي ذكرى أقسى من ... ذلك اليوم المشؤوم... الذي غيّر مجرى حياتي نهائيا ...
كأني به يعود للوراء...
كأني بعمار اللعين ... ينبعث من قبره...
كأني أراه يبتسم ابتسامته الشرسة القذرة... و يرمي بالحزام في الهواء...
كأني ... برغد تصرخ... تركض إلي... تتشبث بي... تخترق صدري ، و خلايا جسدي ... تمزّق قلبي ... تحرق أعصابي عصبا عصبا ... و تفجّر في داخلي رغبة عارمة مزلزلة ... منطلقة بعنف و سرعة ... ككتلة نارية قذفها بركان ثائر هائج... آبية إلا أن تنتهي بضربة بشعة فتاكة على رأس عمّار... خاتمة بها آخر أعماله القذرة ...
لم أتمالك نفسي ، دست بقدمي بقوة ... انطلقت السيارة بشكل جنوني... كنت ُ أراه أمامي... و كنت أريد أن أدوسه و أسحقه تحت العجلات ... مرة بعد مرة ... بعد مرة ...
" وليد ! خفف رجاء ً ! "
هذه المرة كانت أم أروى هي المتحدثة ، أعادتني إلى الواقع ، فوجدت نفسي أقود سيارة في شارع داخلي لا يخلو من النتوءات و الحفر ...
خففت السرعة ، و ألقيت نظرة على رغد من خلال المرآة ... كانت هي الأخرى مشغولة بمراقبة الطريق ...
أتراها تذكر ؟؟
الآن انتقل بصرها إلي ... أشارت إلى الخارج عبر النافذة و قالت :
" إنها مدرستي ! "
نعم إنها هي !
نعم إنها تذكر ... حاولت أن استشف من عينيها مدى تأثرها... و إلى أين وصلت بها الذكرى...
حدّقت في مبنى المدرسة... ثم حدّقت بي...
كيف تشعرين يا رغد ؟؟
هل يؤلمك شيء كما يؤلمني ؟؟
هل تطوف في مخيلتك ذكريات ذلك اليوم النحس، كما هي مسيطرة علي الآن ...؟؟
لو أملك يا رغد ... لمحوت ذلك الماضي من ذاكرتك نهائيا ...
لو أملك يا رغد ... لاستئصلت ذلك اليوم من عمرك ... و اقتلعته من أصل جذوره ...
لو أملك يا رغد ... لقتلت عمّار قبل أن تلده أمه ... و ما تركت له الفرصة ليؤذي أغلى مخلوقة لدي ... بأبشع طريقة ....
المسافة تقصر... النهاية تقترب ... المباني تمر بنا و تنصرف ... واحدا تلو الآخر... إلى أن ظهر أخيرا ... مبنى كبير قديم ... مهجور و غارق في الظلام ... موصد الأبواب و النوافذ ... كئيب ميت و مرعب... تحف به أشجار جافة بلا أوراق و لا ثمر ... أشجار ماتت واقفة... و بعثرت الريح أوراقها على المجرّة منذ سنين ... و ظلّت واقفة ... و قامت الحرب... و قعدت الحرب ... و ظلت هي واقفة ... في انتظار عودة سيدي المنزل ... لتنحني أمامهما ... محيية مرحبة ...
يا أشجار بيتي العزيز ...
ستظلين واقفة ما امتد بك الدهر ...
لأن السيدين ... اللذين تنتظرين عودتهما... لن يعودا أبدا ...
عند الباب مباشرة ، أوقفت سيارتي أخيرا...
بقيت قابعا في مكاني لا أجرؤ على الحراك ... مركزا بصري على البوابة... كأنني أستأذنها بالدخول ... كأنها تستغرب عودتي ... كأنها نسيتني !
مرت لحظات ليست كاللحظات، و أنا في سكون شارد ...
تحدّثت أروى قائلة بعد أن طال بنا البقاء :
" أليس هذا هو المنزل ؟ ألن ننزل ؟؟ "
التفت إليها و منها إلى الوراء ، حيث تجلس صغيرتي بتعبيرات وجهها المضطربة و نظراتها المتوجسة ...
قلت بصوت يكاد يختنق في حنجرتي :
" منزلنا يا رغد ! "
رأيت يدها تمتد من موضعها على صدرها إلى عنقها ... كأنها تمنع صرخة من الانبثاق قهرا من أعماق حنجرتها الصغيرة ...
تحدّثت خالتي أم أروى الآن قائلة :
" هل سننزل هنا ؟ هل تملك مفاتيح للمنزل ؟؟ "
أجبتها بتحريك المفاتيح المتدلية من مقود السيارة ، و التي تضم مفاتيح المنزل المهجور ...
عدت بنظراتي إلى رغد ... فهي أهم ما يعنيني في الأمر ... لطالما كانت هي الأهم ... قلت :
" هيا بنا ... توكّلنا على الله "
بدا على صغيرتي المزيد من التوتر و القلق ، كانا جليين لي ...
أخيرا فتحنا الأبواب و هبطنا أرضا ...
صغيرتي وقفت و سارت شبه ملتصقة بي ، و كأنها تخشى شيئا ...
فتحت البوابة الرئيسية أخيرا ... و سمحت لطوفان الذكريات باجتياحنا ....
الحديقة الخارجية ... التي لطالما كانت غناء خضراء زاهية ... هي الآن مجرد صحراء موحشة تعذّر حتى على الأشواك البرية العيش في رحابها ...
لم أكن أشعر بقدمي و هي تسير خطوة بعد خطوة نحو الداخل ... اقتربنا من الساحة المرصوفة بقطع الرخام ......
في هذه الساحة ... كانت فيها رغد تقود دراجة سامر فيما مضى ...
تجاوزنا الباب الخارجي للمنزل ، و سرنا متابعين طريقنا ... حتى بلغنا الساحة الخلفية للمنزل ... و من خلال بصيص خفيف للضوء ، وقعت أنظارنا على أدوات الشواء المركونة هناك في زاوية الساحة منذ سنين ...
ما أن رأتها رغد ، حتى رفعت يدها اليمنى و أمسكت بذراعها الأيسر...كأنها شعرت بلسعة الجمر تحرق ذراعها ... مكان الندبة القديمة ...
قلت بعطف :
" رغد ! أأنت على ما يرام ؟؟ "
و بالرغم من الظلام ، استطعت أن ألمح القلق المرسوم على وجهها الصغير ...
قلت أخيرا :
" دعونا ندخل إلى الداخل "
و رأيت يد رغد اليمنى و هي تترك ذراعها الأيسر... و تقترب شيئا فشيئا من يدي ، و تلتحم بها !
أظنها كانت للشعور ببعض الأمان ، فقد كان المكان موحشا ، عدا عن الذكريات الأليمة التي يثيرها ...
تركت يدي أسيرة يديها حتى بلغنا الباب الداخلي ، و أردت استخدام يدي في فتح الباب ، إلا أنها لم تطلق سراحها ...
بيدي الأخرى فتحت القفل و الباب ، و خطوت الخطوة الأولى نحو الداخل ... وظلت يدي اليسرى مسحوبة إلى الوراء ، مربوطة بيد رغد ...
كان المنزل غارقا في الظلام ... مددت يدي نحو الجدار متحسسا المكابس ، حتى أضأت المصباح ... و لحسن الحظ ، بل للعجب ، كان يعمل ... !
الإنارة سمحت لنا برؤية ذرات الغبار التي تغطي الأرضية الرخامية عند المدخل...
شددت ُ يدي اليسرى و معها شددت ُ صغيرتي نحو الداخل و أنا أقول :
" ادخلن ... "
رغد خطت خطوة نحو الداخل و أخذت تدور برأسها في المكان ... و تشد ضغطها على يدي ، و على صدرها من فرط التأثر...
إن قضيت الوقت في وصف المنزل فإنني لن أنتهي ...
لكن ... و إن تجاهلت وصفي للمنزل و ذكرياته ، فهل أجسر على تجاهل وصف تعبيرات رغد ؟؟
إنها وقفت على مقربة من الدرج ... و هي لا تزال ممسكة بيدي ، و قالت :
" يا إلهي ... إنه بيتنا ! لم يتغيّر يا وليد ! أنا أذكره ! "
ثم قفزت الدموع من عينيها فجأة ...
أتذكرين يا رغد ؟؟
أتذكرين هذا المنزل ، الذي تربينا فيه سوية ؟؟
أتذكرين حين كنت أحملك على كتفي و أجول بك أرجاء المنزل ، و أنت تضحكين بفرح ؟؟
كم و كم و كم من الذكريات أحمل في صدري ... ذكريات طفلتي الحبيبة المدللة التي تركتها نائمة على سريرها ذات يوم ، و عدت ُ بعد 8 سنين ، و لم أجدها ...
ثمان سنين يا رغد ... كان يمكن أن أعيشها معك لحظة بلحظة يوما بيوم و سنة بسنة ... قضيتها هناك في السجن ... برفقة المجرمين المذنبين ، أُضرب و أهان و يُكسر أنفي ، و آكل الطعام الرديء الممزوج بالحشرات ، و أنام على سرير خشبي قاس و وسادة أشبه بالحجر ، بينما أنت في حضن شقيقي ... تنعمين بالحب و الرفاهية !
آه يا رغد ...
آه ثم آه ثم آه ...
قطع سيل الذكريات صوت أروى قائلة :
" أين غرف النوم ؟ أود أن أستلقي فأنا مرهقة جدا "
طبعا ، جميعنا مصابون بالإرهاق بعد سفر طويل و شاق ...
قلت "
" في الأعلى "
وهممت بالصعود ...
كلما صعدت ٌ خطوة تصاعدت الدماء إلى وجهي ، و تزايدت نبضات قلبي ، و كلما أنرت مصباحا تفجرت ذكريات أخرى في رأسي ... حتى إذا ما بلغت الردهة الرئيسية ... شعرت ُ بمفاصلي تتساقط أرضا من هول ما أنا فيه ...
وجها لوجه ، أمام البابين المتجاورين ... لغرفتي أنا و غرفة رغد ...
وجها لوجه ، و على بعد خطوات معدودة من بؤرة الذكريات ...
لهذا الحد و توقفت كل شيء عن الحركة من حولي ... و تجمّد الكون ... و تصلّبت الأشياء ...
وخز قوي شعرت به أخيرا في راحة يدي ، سببه ضغط أظافر رغد الشديد على يدي ...
هنا ...التفت إليها ... رأيت نهرا من الدموع ينساب من بين رموشها ... و على شفتيها كلمة لا تكاد تنطلق ...
" غرفتي ! غرفتي يا وليد ! "
حاولت تحريك يدي ، و تقريب ميدالية المفاتيح من عيني لاختيار المفتاح المناسب ، ألا أن رعشة قوية سرت ببدني .. جعلت الميدالية تنزلق من بين أصابعي و تسقط أرضا ، محدثة رنينا تخلخل عظامي و زلزلها ....
وقفت متسمرا في مكاني عاجزا عن الانثناء و التقاط المفاتيح
رغد تحرّكت و التقطت المفاتيح بنفسها و مدّت يدها إلي ...
تحشرج صوتي عن كلمة :
" افتحيه "
لا أعرف كيف ظهرت حروفها !
نظرت رغد إلي بتردد ، ثم التفتت نحو باب غرفتها ، و تقدّمت خطوة ... و بدأت تجرّب المفاتيح ...
و أخيرا انفتح القفل ... و حركت رغد الباب للأمام قليلا ، بتردد
كانت الغرفة غاطة في السبات العميق المظلم ، منذ تسع سنين !
لم تتحرك رغد ، بل توقفت في مكانها لا تملك من الشجاعة ما يكفي لأن تدخل
أما أنا ، فقد أصاب ركبتي تصلب حاد عجزت معه تحريك أي منهما
" أنا خائفة ! "
قالت ذلك رغد و هي تلتفت نحوي ...
" لا تقلقي ! لا يوجد أشباح ! "
قلت ذلك ، و أنا أرتجف خوفا من أشباح الماضي ...
و لما رأيت في عينيها التردد ... أجبرت قدمي على السير للأمام ... و وقفت إلى جانبها مباشرة ... أمام الباب
دفعت ُ به بهدوء حتى فتحته ... و أنا مغمض العينين !
من سأرى في الداخل ؟؟ لابد أنها طفلتي الصغيرة الحبيبة ، نائمة على سريرها ... كالملاك !
فتحت عيني ... كانت الغرفة تسبح في الظلام ... مددت يدي و أضأت المصباح ... و أخيرا ... رأيت كل شيء ...
و آه مما رأيت ...
هناك ... إلى اليمين ، ترقد سرير رغد القديم ، تماما كما تركته منذ سنين ...
لقد كنت أنا من وضع السرير في مكانه ، كما رتّبت أثاث الغرفة بنفسي ...
شمعت شهقة ضعيفة انطلقت من صدر رغد ... الواقفة إلى جواري
لكنني لم التفت إليها ... لقد كنت مأخوذا بسحر الذكرى الماضية ...
تقدّمت نحو سرير رغد ... أجر قدمي ّ جرا ... حتى إذا ما بلغته انثنيت عليه و أخذت أتحسسه ...
طافت بي الذكرى ... و تخيلت رؤية رغد نائمة هناك ... و هيء لي أنني لمست شعرها الناعم ... و أحسست بأنفاسها القصيرة ... شعرت بجسمها الضئيل يتحرك !
" رغد صغيرتي ! "
انطلق الاسم من لساني عفويا ... كما انطلقت عبرة حارقة من مقلتي ...
يا للأيام !
بعد كل هذه السنين ... أعود إليك !
داهمتني رغبة جنونية في أن أحتضن السرير برمته ... في أن أطوّقه بذراعي ... في أن أقبّل دعائمه ...
" هل كانت هذه غرفتك يا رغد ؟ "
كان هذا صوت أروى ، أيقظني من سبات الذكريات ، فهو صوت لم أعتد على سماعه في هذا البيت !
" نعم "
أجابت رغد و هي تتقدم نحوي ...
التفت إليها فإذا بي أراها تحدّق في شيء ما و هي تقول :
" وليد ! "
التفت إلى ذلك الشيء ، فإذا به ورقة صغيرة ... ملصقة بالجدار بشريط لاصق ، مرسوم عليها صورة لشخص ما ، و قد امتد خط طويل تحت أنفه !
إنها الصورة التي رسمتها لي رغد عندما كنا هنا ، قبل زمن !
و هذا الخط الطويل ... هو ( الشارب ) الذي تخيلته ينبت لي ، عندما أكبر !
مددت ُ يدي و انتزعت الورقة و نظرت إليها مليا ...
رباه ! ألا تزال هذه الصورة حيّة حتى الآن !
نظرت إلى رغد ... أعساها تذكرها ؟؟
سمعتها تقول :
" تشبهك ! أليس كذلك ؟ "
و تبتسم !
رفعت يدي إلى شاربي أتحسسه ، ثم قلت :
" إلى حد ما ! "
ثم نظرت إليها ...
و تعرفون ما حصل ؟؟
انفجرنا ضاحكين ...
ذلك الضحك الذي أعاد الحياة فجأة إلى بيت ميّت منذ سنين ....
بدت الأجواء الآن أكثر حيوية ، و جالت رغد في غرفتها بمرح تتحسس الأشياء من حولها و تنفض يديها من الغبار !
" لا شيء تغيّر وليد ! "
" لا شيء ! "
سوى أن تسع سنوات قد أضيفت إلى عمرك ِ و منعتني من أن أحملك ِ على ذراعي و أدور بك في الغرفة كما كنت أفعل سابقا !
" دعنا نرى غرفتك ! "
قالت ذلك رغد فالتفت ّ إلى الباب ، و حينها فقط تذكرت أن أروى و أمها كانتا موجودتين معنا !
بعد ذلك ، فتحت ُ باب غرفتي الملاصقة لغرفة رغد و ما إن أضأت المصباح حتى وقعت عيني مباشرة على ذلك الشيء المجعّد الملقى هناك عند تلك الزاوية !
التفت إلى رغد ... أتراها رأته ؟ أتراها تذكّرته ؟؟ أتراها تذكر الأمنيات التي ... حبستها فيه قبل 11 عام أو يزيد ؟؟
لكن رغد لم يبد ُ عليها أنها انتبهت لوجوده ، و هو محشور عند تلك الزاوية ...
تسللت رغد إلى الداخل و جالت ببصرها في أنحاء الغرفة جولة سريعة ثم وضعت يديها على وجهها و تنهّدت ...
" يا إلهي !! "
و عندما رفعت يديها ، كانت الدموع قد بللتهما
مسحت دموعها و أعادت تأمل الغرفة ، ثم قالت :
" لقد منعتني أمي من دخولها بعد رحيلك ! لا أصدق أنني دخلتها مجددا ! "
ثم التفتت فجأة ناحية الباب و قالت :
" لقد تركت ُ رسالة هاهنا ! "
قلت :
" نعم . لقد رأيتها ! لم أكن لأصل إليكم لولاها يا رغد ! شكرا لك ! "
و كانت رغد قد كتبت رسالة وضعتها أسفل الباب ، تذكر فيها انتقالهم إلى المدينة الصناعية ، و اكتشفت أنا وجودها ليلة عودتي إلى المنزل ، بعد خروجي من السجن ، العام الماضي !
رغد عادت تتأمل الغرفة إلا أنها لم تلمح ذلك الصندوق ...
و يبدو أنه لم يكن ليخطر لها على بال ...
بل و ربما لم تعد تذكره ...
و هذا ، جعلني أتألم كثيرا ... و كنت سأنبهها إليه لولا أن الخالة ليندا قالت لحظتها :
" أضنانا التعب يا بني ، أرنا أين يمكننا المبيت ؟ "
قالت رغد مباشرة :
" أنا سأنام في غرفتي ! "
و رُتّب الأمر بحيث أنام أنا في غرفتي ، و ورغد في غرفتها ، و أروى و الخالة في الصالة ...
كان التعب قد نال منا ما نال ، للدرجة التي ، و رغم كل ما أثارته الذكريات من الآلام ، نمت ُ فيها بسرعة ...
أظن أنني كنت أحلم بشيء ما ... و أظنه كان شيئا جميلا ... و أظن أن رغد كانت هي مضمون حلمي ...
فجأة سمعت نقرا على الباب ... استويت جالسا و أخذت أحدق في الظلام من حولي ... تذكّرت أنني أنام على سريري في منزلي القديم ... لم أصّدق أنها الحقيقة ... النقر كان يصل أذني ... أستطيع أن أسمعه جيدا ... إنه ليس بالحلم ... و حين أنهض ... و أفتح الباب ... سوف لن أجد خيال رغد الطفلة الصغيرة ... و أسمعها تقول ...
" وليد أنا خائفة ! دعني أنام معك ! "
تقدّمت نحو الباب و دقات قلبي تتسارع ...
أحقا ستظهر رغد ؟
أ أنت ِ خلف الباب يا رغد ؟
أعدت ِ للظهور كما في السابق ؟
هل رجع الزمن للوراء ... فقط تسع سنين ؟ ...
أمسكت بمقبض الباب ... و أدرتها ...
و أنا أنظر إلى الأسفل ... إلى حيث أتوقع أن أجد عيني صغيرتي الخائفة ...
يا رب ... حقق حلمي و لو لحظة واحدة ...
و لو لمرة أخيرة ... أرى فيها صغيرتي الحبيبة و آخذها إلي ...
فتحت الباب ... فوقعت عيناي على اليد التي كانت تطرق الباب ...
رفعتها للأعلى قليلا ... فإذا بي أرى وجها كالذي تمنيت رؤيته ...
أغمضت عيني برهة و عدت أحدق بعينيها
أأنا أحلم ؟ أم هذه حقيقة ؟؟
" رغد !!! "
همست بصوت لم أكد أن أسمعه ...
ارتفعت يد رغد قرب عنقها ، و تنهّد صدرها ثم سمعتها تقول :
" وليد ... أنا خائفة ... ابقني قربك ! "
وقفت غير مصدّق لما أرى... متوهما أنه الحلم الذي لطالما راودني منذ سنين...
لكن... بالتأكيد فإن الشيء الذي يقف أمامي هذه اللحظة ... يضم ذراعيه إلى بعضهما البعض ... و يقشعر بدنه إن خوفا و بردا ... هذا الشيء
الملفوف في السواد ... هو بالتأكيد كائن بشري ...
و ليس أي كائن ...
تحديدا هي رغد !
" وليد ... أنا خائفة ! أبقني معك "
لا أعرف من الذي حرّك يدي ، نحو مكبس المصباح ، و أناره ...
هل يمكن أن أكون قد فعلت ذلك بلا وعي ؟؟
الإنارة القوية المفاجئة أزعجت بؤبؤي عيني ، فأغمضت جفوني بسرعة
و من ثم فتحتها ببطء...
رأيت وجه رغد بعينيها المتورمتين الحمراوين ، و اللتين تدلان على طول البكاء و مرارته ...
" رغد ... أأنت على ما يرام صغيرتي ؟؟ "
" أنا أشعر بالخوف ... وليد ... المكان موحش و ... ويثير الذكريات ... المؤلمة ! "
و سرعان ما انخرطت رغد في بكاء أجش بصوت مبحوح ...
" حسنا... عزيزتي يكفي ... لا تبكي صغيرتي ... تعالي اجلسي هنا "
و أشرت إلى مقعد بالجوار ، فجلست رغد عليه ... و بقيت واقفا برهة ... ثم جلست على طرف سريري ...
كنت في منتهى التعب و الإرهاق و أشعر برغبة ملحة جدا في النوم... لابد أن رأسي سيهوي على السرير فجأة و أغط في النوم دون شعور !
نظرت إلى الفتاة الجالسة على مقربة جاهلا ما يتوجب علي فعله !
سألتها :
" صغيرتي ... ألا تشعرين بالنعاس ؟ ألست ِ متعبة ؟ "
" بلى ... لكن ... لا أشعر بالطمأنينة ! لا أستطيع النوم ... أنا خائفة ! "
و رفعت يدها إلى صدرها كمن يريد تهدئة أنفاسه المرعوبة
قلت :
" لا تخشي شيئا صغيرتي ... ما دمت ُ معك "
و لا أدري من أين و لا كيف خرجت هذه الجملة في مثل هذا الوقت و الحال !
و هل كنت أعنيها أم لا ... و هل كنت جديرا بها أم لا !
لكن فتاتي ابتسمت !
ثم تنهدت تنهيدة عميقة جدا
ثم أسندت رأسها إلى المقعد و أرخت ذراعيها إلى جانبيها ...ا و أغمضت عينيها !
و أظن ... و الله الأعلم ... أنها نامت !
" رغد ! ... رغد ؟ "
فتحت رغد عينيها ببطء و نظرت إلي ...
" إنك بحاجة للنوم ! "
ردت ، بشيء لا يتوافق و سؤالي البسيط :
" غرفتك لم تتغير أبدا وليد ! كم أنا سعيدة بالعودة إليها ! "
و أخذت تدور بعينيها في الغرفة ...
كان الهدوء الشديد يسيطر على الأجواء ... فالوقت متأخر ... و العالم يغط في الظلام و السبات ...
قالت و هي تشير إلى موضع في الغرفة :
" كان سريري هنا سابقا ! هل تذكر يا وليد ؟ "
ثم وقفت و سارت نحو الموضع الذي كان سرير رغد الصغير يستلقي فيه لسنين ... قبل زمن ...
قالت :
" و أنت كنت تقرأ القصص الجميلة لي ! كم كنت أحب قصصك كثيرا جدا يا وليد ! ليت الزمن يعود للوراء ... و لو لحظة ! "
عندها وقفت أنا ... و قد استفقت فجأة من نعاسي الثقيل ... و قفزت إلى قمة اليقظة و الصحوة ... و كأن نهرا من الماء البارد قد صب فوق رأسي ...
التفتت إلي ّ صغيرتي و قالت :
" كنت ... كنت أحتفظ بالقصص التي اشتريتها لي في بيتنا الثاني ... لكن ... أحرقتها النيران ! "
و آلمتني ... جملتها كثيرا ...
رجعت بي الذكرى إلى البيت المحترق ... فإذا بالنار تشتعل في معدتي ...
أضافت رغد بصوت أخف و أشجى :
" تماما كما احترقت الصورة ... "
" رغد ... "
إنه ليس بالوقت المناسب لاسترجاع ذكريات كهذه ... أرجوك ... كفى !
نظرت من حولها ثم قالت :
" لا تزال كتبك منثورة ! أتذكر ... ؟ كنت تستعد للذهاب إلى الجامعة لإجراء امتحان ما ! أليس كذلك ؟؟ أليس هذا ما أخبرتني به ؟؟ أتذكر ؟؟ "
لا أريد أن أتذكّر !
أرجوك أيتها الذكرى .. توقفي عند هذا الحد ..
أرجوك ...
لا تعودي إلى ذلك اليوم المشؤوم ...
لو كان باستطاعتي حذفه نهائيا ... لو كنت ُ ... ؟؟؟
كنت ُ أريد الهروب السريع من تلك الذكرى اللعينة ... لكنها كانت تقترب ... و تقترب أكثر فأكثر ... حتى صارت أمامي مباشرة ...
عينان تحدّقان بعيني بقوة ... تقيّدان أنظاري رغم عني ...
عينان أستطيع اختراقهما إلى ما بعدهما ...
خلف تينك العينين ، تختبئ أمر الذكريات و أبشعها ...
أرجوك يا رغد ...
لا تنظري إلي هكذا ...
لا ترمني بهذه السهام الموجعة ...
لم لا تعودين للنوم ؟؟
" وليد ... "
" إه ... نعم ... صـ ... غيرتي ؟؟ "
" لماذا ... لم تخبرني بالحقيقة ؟ "
قلت بصوت متهدرج :
" أي ... أي حقيقة ؟ "
" إنك ... قتلته ! "
آه ...
آه ...
إنه فأس يقع على هامتي ...
لقد فلقتها يا رغد ...
ما عدت قادرا على الوقوف ...
نصفاي سينهاران ...
أرجوك كفى ...
" وليد ... لماذا لم تخبرني ؟؟ أنا يا وليد ... أنا... لم أدرك شيئا ... كنت ُ صغيرة ... و خائفة حد الموت ... لا أذكر ما فعلتَ به ... و لا ...
و لا أذكر ... ما فعله بي ! "
عند هذه اللحظة ... و فجأة ... و دون شعور مني و لا إدراك ... مددت يدي بعنف نحو رغد و انقضضت على ذراعيها بقوّة ... بكل قوّة ...
انتفضت فتاتي بين يدي هلعا ... و حملقت بي بفزع ...
لابد أن قبضتي كانتا مؤلمتين جدا آنذاك ، و لابد أنها كانت خائفة ...
خرجت هذه الجملة من لساني كالصاروخ في قوّة اندفاعها ... مخلفة خلفها سحابة غبار هائلة تسد الأنوف و تكتم الأنفاس ... و تخنق الأفئدة ...
كررت ُ بجنون :
" ماذا فعل بك يا رغد ؟؟ ...
حتى... حتى لو كان قد ... لامس طرف حزامك فقط ... بأطراف أظافره القذرة ... كنت سأقتله بكل تأكيد ... بكل تأكيد ..."
فجأة رفعت رغد يديها و غطّت وجهها ... و هي تطلق صيحة قصيرة ...
كانت قبضتا يدي ّ لا تزالان تطبقان على ذراعيها بعنف ... و بنفس العنف انقضتا فجأة على يديها ... و أبعدتهما بسرعة عن وجهها ، فيما عيناي تحملقان بعينيها بقوة ....
صرخت ُ :
" ماذا فعل بك ؟؟ "
كانت رغد تنظر إلي ّ بذعر ...
نعم إنه الذعر ...
أشبه بالذعر الذي قرأته في عينيها ذلك اليوم ...
تملّصت رغد من بين يدي و ابتعدت بسرعة ، و اتجهت نحو المقعد الذي كانت تجلس عليه قبل قليل ... و ارتمت عليه ... و هتفت :
" لا أريد أن أذكر ذلك ... لا أريد ... لا أريد "
و عادت لإخفاء وجهها خلف كفيّها .
دارت بي الدنيا آنذاك و شعرت برغبة شديدة في تمزيق أي شيء ... أي أي شيء !
التفت يمنة و يسرة في اضطراب باحثا عن ضحية تمزيقي ... و بعض زخات العرق تنحدر من جبيني بينما أشعر باختناق ... و كأن تجويف حنجرتي لم يعد يكفي لتلقي كمية الهواء المهولة و الممزوجة بذلك الغبار و التي يرغمها صدري الشاهق على الاندفاع إليه ...
تحركت خطوة في كل اتجاه ... و بلا اتجاه ...
بعثرت نظراتي في كل صوب ... و بلا هدف ...
و أخيرا وقع بصري على شيء مختبئ عند إحدى زوايا الغرفة ...
يصلح للتمزيق !
توجهت إلى ذلك الشيء ، و التقطته عن الأرض ... تأمّلته برهة ... و استدرت نحو رغد ...
إنه صندوق الأماني القديم ... الذي جمع أمنيات صغرنا منذ 13 عاما !
ها قد آن أخيرا ... أوان استخراج الأماني ...
و لم علينا الاحتفاظ بها مخبأة أطول ما دامت الأقدار ... أبت تحقيقها ؟
على الأقل ... أمنياتي أنا ...
يجب أن يتمزّق أخيرا ....
و الآن يا رغد ... جاء دورك !
" رغد "
ناديتها فلم تستجب مباشرة . اقتربت منها أكثر فأكثر حتى صرت ُ أمامها مباشرة
هي جالسة على المقعد مطأطئة الرأس ... تداري الدموع
و أنا واقف كشجرة بلا جذور في انتظار اللحظة التي تهب فيها الرياح ، فتقلعها ...
" رغد ... أتذكرين هذا ؟ "
و ازدردت ريقي ...
إنها اللحظة التي لطالما انتظرتها ... سنين و سنين و سنين ، و أنا أتوق شوقا و أحترق لهفة لمعرفة أمنيتك يا رغد ...
رفعت رغد رأسها و أخذت تنظر إلى الشيء المحمول بين يدي ...
نظرت إليه نظرة مطوّلة ... ثم اتسعت حدقتا عينيها و انفغر فاها و شهقت شهقة مذهولة !
إذن ، فأنت تذكرينه ؟؟
إنه صندوق أمانيك يا رغد ... أيتها الطفلة العزيزة ... أنا صنعته لك منذ 13 عاما ... في ذلك اليوم الجميل ... حين قدمت ِ إلي ّ منفعلة و أنت ِ تحملين كتابك الصغير و تهتفين :
" وليد ... وليد اصنع لي صندوقا "
تحركت عينا رغد من على الصندوق إلى عيني ّ ...
كانت آخر دمعة لا تزال معلقة على رموشها ، في حيرة .... أ تنحدر أم تتراجع ؟؟
شفتاها الآن تحركتا و رسمتا ما يشبه الابتسامة المترددة ...
و أخيرا نطق لسانها :
" صندوقي !! "
ثم هتفت متفاجئة :
" صندوقي ! أوه ... إنه صندوقي ! "
و هبّت واقفة و التقطته من بين يدي !
" يا إلهي ! "
قلت :
" أتذكرينه ؟ "
رفعت عينيها عن الصندوق مجددا و قالت بانفعال :
" نعم ! أذكره ! إنه صندوق الأماني "
قالت ذلك و هي تؤشر بإصبعها على كلمة (( صندوق الأماني )) المكتوبة على الصندوق الورقي ...
ثم أخذت تقلّبه ، و من ثم عبس وجهها فجأة و نظرت إلي ّ بحدّة و وجس :
" هل ... فتحته ؟؟ "
" ماذا ؟ "
" فتحتَه ؟؟ "
إنه سؤال بسيط ! و عادي جدا ! أليس كذلك ؟؟
و لكن ... لم لم أستوعبه ؟؟ و لم تطلّب مني الأمر كل هذا التركيز و الجهد البليغين حتى أفهمه ؟؟
هل فتحته ؟؟
أوتسألين ؟؟
رغد !
ألم أقطع لك العهد بألا أفتحه دون علمك ؟؟
أتشكين في أنني ... قد أخون عهدي معك ذات يوم ؟
ألا تعرفين ما سببه لي و ما زال يسببه لي صندوق أمانيك هذا مذ صنعته و حتى اليوم ؟؟
هل تعتقدين إنه اختفى من حياتي بمجرّد أن علّقته هناك فوق رف المكتبة ؟؟
إنه لم يكن في الحياة ... صندوق أهم من صندوقك !
قلت :
" لا ... مستحيل ! "
أخذت تقلّبه في يدها ثم نظرت إلي بتساؤل :
" ماذا حدث له إذن ؟ "
إن كنتم قد نسيتم فأذكركم بأنني ذات مرّة و من فرط يأسي و حزني جعّدت الصندوق في قبضتي ...
قلت :
" إنه الزمن ! "
من الصندوق ، إلى عيني ّ إلى أنفي ، ثم إلى عيني ، انتقلت نظرات الصغيرة قبل أن تقول :
" إذن الزمن ... لا يحب أن تبقى الأشياء مستقيمة ! "
" عفوا ؟؟ "
ابتسمت رغد و قالت :
" أليس الزمن هو أيضا من عقف أنفك ؟ "
رفعتُ سبابتي اليمنى و لامست أنفي المعقوف ... و عندها تذكّرت ُ أنني عندما التقيت برغد أول مرّة بعد خروجي من السجن ، سألتني عما حدث لأنفي فأجبتها :
( إنه الزمن ! )
" نعم ! إنه الزمن ... "
و صمتّ قليلا ثم واصلت :
" ألن تفتحيه ؟ "
و كنت في قمة الشوق لأن أستخرج سر رغد الدفين و أعرف ... من هو ذلك ( الصبي ) الذي كانت تتمنى الزواج منه عندما تكبر ؟؟
نظرت إليها بنفاذ صبر ... هيا يا رغد ! افتحيه أرجوك ! أو اسمحي لي و أنا سأمزقه فورا ... و افضح مكنونه !
لكن رغد أومأت برأسها سلبا ...
كررت ُ السؤال :
" ألن تفتحيه ؟ "
" لا ! "
" لم ؟ ألا تتوقين لمعرفة ما بالداخل ؟ بعد كل هذه السنين ؟؟ "
" لا ! "
و طأطأت برأسها ... و قد علت خديها حمرة مفاجئة ... ما زادني فضولا فوق فضول لمعرفة ما تحويه !
قلت :
" هل ... تذكرين ... أمنيتك ؟ "
لم ترفع رأسها بل أجابت بإيماءة بسيطة موجبة .
" مادام الأمر كذلك ... فما الجدوى في إبقائها داخل الصندوق ؟ "
رفعت رغد أخيرا نظرها إلي و قالت :
" لأنها لم تتحقق بعد "
شعرت بنبضات قلبي تتوقف برهة ، ثم تندفع بسرعة جنونية ...و تخترق قدمي ّ و تصطدم بالأرض !
و استطردت ْ، و قد بدا الجد و الإصرار على ملامح وجهها فجأة :
" و سأعمل على تحقيقها من كل بد ... و بأي وسيلة ... و مهما كان الثمن "
و أضافت و هي تلوح بسبابتها نحوي و تحد من صوتها أكثر :
" ... و لن أسمح لأي شيء باعتراض طريقي "
الكلمات التي خرجت بحدّة من لسان رغد ، مقرونة بالنظرة القوية و اللهجة الجدية ، و المليئة بمعاني التحدّي ، جعلت تلك النبضات تقفز من باطن الأرض ، و تعود أدراجها متخللة قدمي ّ المرتجفتين ، و تضرب قلبي بعنف ... محدثة تصدّع خطير ...
اعتقد ... أنني أنا ( الشيء ) الذي لن تسمح له باعتراض طريقها ... و أعتقد أن اسم ( حسام ) مكتوب على قصاصة قديمة مختبئة داخل هذا الصندوق ... و اعتقد أنني أتلقى الآن تهديدا من حبيبة قلبي ... بألا أعترض طريق زواجها من الرجل الذي تمنت الارتباط به منذ الصغر ...
غضبي ثار ... نعم ثار ...
لازالت تنظر إلي ّ بتحد ...
حسنا يا رغد ...
قبلت ُ التحدي ...
قلت :
" و أنا أيضا لم أحقق أمنيتي بعد "
و بحدّة أضفت :
" و سأعمل على تحقيقها مهما كلّفني ذلك ... و أي شيء يعترض طريقي ... "
و صمت ّ برهة ، ثم أضفت :
" سأقتله ! "
و سحبت الصندوق من يدها بغتة ، و أكّدت :
" إنه حلمي ... و الموت وحده ما قد يحول دون نيله ... عدا عن هذا يا رغد ... عدا عن الموت ... فإنني لن أسمح لأي شيء بأن يبعده عنّي ... لن أتخلى عن حلمي أبدا ... إنه دائما أمامي ... و قريبا ... سيصبح بين يدي ... و لي وحدي ... "
لم أشعر بمدى قوة الضغط الذي كنت أمارسه على ذلك الصندوق الورقي المخنوق في قبضتي ، حتى أطلقت رغد صيحة اعتراض
كانت تنظر إلى الصندوق برثاء ... و مدّت يدها لتخلّصه منّي ... إلا أنني سحبت يدي بعيدا عنها ... ثم سرت ُ مبتعدا ... و اتجهت إلى مكتبتي و وضعت الصندوق المخنوق في نفس الموضع الذي كان يقف فيه قبل سنين ...
و حين استدرت ُ إلى رغد رأيتها تراقبني بنظرات اعتراض غاضبة .
قلت بتحدٍَ أكبر :
" سنرى من منّا سيحقق أمنيته ! "
..........................
لم أفهم معنى تلك النظرة القوية التي رمقني بها وليد !
كانت أشبه بنظرة تحد و إصرار ... و كانت مرعبة !
و ... في الحقيقة ... جذّابة !
أكاد أجن من هذا الـ وليد ! إن به مغناطيسا قويا جدا يجعل أي شيء يصدر منه ... نظرة ، إشارة ، إيماءة ، حركة ... ضحكة أو حتى صرخة ، أو ربما ركلة ، أي شيء يصدر منه يجذبني !
لا تسخروا منّي !
إنه وسط الليل و أنا شديدة التعب أكثر مما تعتقدون ، لكن الخوف جعلني أطرق باب وليد...
كان واقفا قرب المكتبة ، استدار إلي :
" بعد إذنك "
و ذهب إلى دورة المياه
جلست ُ أنا على المقعد الذي كنت أقف أمامه ، و أسندت رأسي إليه و شعرت بموجة قوية من النعاس تجتاحني ... انتظرت وليد ... لكن تأخر ...
في المرة التالية التي فتحت فيها عيني ّ ... كانت أشعة الشمس تتسلل عبر النافذة و الستار و جفوني !
شعرت بانزعاج شديد فأنا لازلت راغبة في النوم ... لكنني تذكرت فجأة أنني في غرفة وليد في بيتنا القديم ...
فتحت عيني ّ أوسعهما سامحة للضوء باختراق بؤبؤي و استثارة دماغي و إيقاظه بعنف !
مباشرة جلست و نظرت من حولي ...
وليد كان نائما في فراشه !
باب الغرفة كان مفتوحا كما تركته ليلة الأمس ...
نهضت عن مقعدي و شعرت بإعياء في مفاصلي ... ألقيت نظرة على وليد ، و كان يغلف جسده الضخم بالشرشف و بالكاد تظهر إحدى يديه !
عندما خرجت من الغرفة ، توجهت لإلقاء نظرة سريعة على الصالة ، حيث كانت الشقراء و أمها تنامان ...
ما إن ظهرت ُ في الصورة حتى رأين أعين أربع تحدّق بي !
لقد كانتا هناك تجلسان قرب بعضهما البعض ... و تنظران إلي !
" ص... صباح الخير ! "
قلت ذلك ثم ألقيت نظرة على ساعة يدي ، و عدّلت الجملة :
" أو ... مساء الخير "
لم تجب أي منهما مباشرة ... لكن الخالة قالت بعدها :
" مساء الخير . نوم الهناء "
لم أرتح للطريقة التي ردّت بها علي ، و شعرت أن في الأمر شيء ...
قالت أروى :
" مساء الخير. هل نهض ابن عمّك ؟؟ "
تعجّبت من الطريقة التي كلّمتني بها ، و من كلمة ( ابن عمّك ) هذه !
و لم تبد لي نظرتها طبيعية ...
قلت :
" لا ! إنه ... لا يزال نائما ! "
تبادلت الاثنتان النظرات ... وعادتا للصمت...
ذهبت بعدها إلى غرفتي الملاصقة لغرفة وليد ... و عندما خرجت للصالة بعد قرابة النصف ساعة أو يزيد ، رأيت الثلاثة ، وليد و الشقراء و أمها يجلسون سوية في الصالة ...
لا أعرف في أي شيء كانوا يتحدثون ... و بمجرّد أن لمحوني لاذوا بالصمت !
ألا يشعركم ذلك بأنني أنا موضوع حديثهم ؟؟؟
إلى وليد وجهت نظراتي و كلماتي ، بل و حتى خطواتي :
" مساء الخير "
" مساء النور ... "
و جلست ُ على مقربة .
نظرت ُ إلى الأشياء من حولي ، فأنا لم أتأملها البارحة ... الصالة كما تركناها قبل 9 سنين ... حسبما أذكر ، و الغبار يغطي أجزاءها !
قلت :
" سنحتاج وقتا طويلا و جهدا مكثفا لتنظيف كل هذا ! "
أروى قالت معترضة :
" و هل سيكون علينا تنظيف هذا ؟ إننا لن نسكن هنا على أية حال "
استغربت ، و نظرت إلى وليد متسائلة ... و هذا الأخير لم يعقّب !
قلت :
" وليد ... ألن نسكن هنا ؟ "
أجاب :
" سنبقى هنا في الوقت الراهن . لا نعرف كم من الوقت ستستغرق مسألة استلام الإرث . سأستعين بوالد صديقي سيف . آمل أن تسير الأمور بسرعة"
قلت :
" أتعني ... أننا بعد إتمام هذه المهمّة سنعود إلى المزرعة ؟؟ "
تولت الشقراء الرد بسرعة :
" بالطبع ! ماذا تعتقدين إذن ؟؟ سنعود للمزرعة و نجري بعض التعديلات في المنزل ... ثم ... "
و نظرت إلى وليد و قالت مبتسمة :
" نتزوّج ! "
تخيلوا كيف يكون شعور فتاة تسمع أي امرأة أخرى تقول لها :
( سأتزوج حبيبك ) ؟؟
رميت سهام نظراتي الحارقة نحو الشقراء البغيضة ، ثم نحو وليد ... و اجتاحتني رغبة عارمة في تمزيقهما سوية !
أهذا ما يخططان له ؟؟
يستلمان الإرث الضخم ، و يذهبان للمزرعة ليعدا عشهما و يتزوجان !
ماذا عنّي أنا ؟؟
مجرّد هامش زائد لا أهمية له و لا معنى لوجوده ؟
كنت أريد أن أسمع من وليد أي تعليق ، لكنه ظل صامتا شاردا ... ما أثار جنوني ...
مازالت الابتسامة معلقة على شفتي الحسناء الدخيلة ، و هاهي تحرّكهما من جديد و تقول بصوت شديد النعومة :
" فيم شردت ... عزيزي ؟ "
مخاطبة بذلك الرجل الوحيد معنا في الصالة ، و الذي يجلس على مقربة منّي ، و الذي يجري حبّه في عروقي تماما كما تجري دماء قرابتنا ...
وليد قال :
" كنت أفكّر في أن ذهب إلى أحد المطاعم ! لابد أننا جائعون الآن ! "
في الحقيقة كان الطعام هو آخر ما أفكر به ، و لكنه أول ما قفز إلى ذهني عندما تلقيت سؤال أروى و أنا شارد ذلك الوقت ...
و ما حدث هو أننا ذهبنا إلى المطعم ثم إلى السوق و اشترينا بعض الحاجيات و من ثم عدنا إلى المنزل ...
كما و اتصلنا بالعم إلياس و كذلك بأم حسام – تحت إصرار من رغد – و طمأنا الجميع على وصولنا سالمين .
بعدها اتصلت بصديقي القديم و رفيق دراستي و محنتي ... سيف و اتفقت معه على أن يحضر إلى منزلي ليلا .
تعاونا نحن الأربعة في تنظيف غرفة الضيوف قدر الإمكان من أجل استقبال سيف .
حاولت جاهدا أن أتجاهل أي ذكرى تحاول التسلل إلى مخيلتي من جراء رؤيتي لأجزاء المنزل من حولي ... إلا إن هذه الذكرى الأليمة اخترقتني بكل إصرار !
كان ذلك عندما قمنا بنقل بعض قطع السجاد إلى الخارج ... إلى مؤخرة المنزل ، حيث تقع الحديقة الميتة و التي أصبحت مقبرة للحشائش الجافة و مأوى للرمال الصفراء ...
عند إحدى الزوايا ... كانت عدّة الشواء القديمة تجلس بكل صمود ... متحدية الزمن !
لا أعرف لماذا يقشعر بدني كلما رأيت هذه بالذات !
و لم أكن أعرف أن لها نفس التأثير على أي مخلوق إلى أن رأيت رغد ... و التي كانت تحمل السجادة معي تقف فجأة ، و تسند طرف السجادة إلى الأرض ... و تمد يدها اليمنى لتلامس ذراعها الأيسر !
صحيح أنها كانت صغيرة آنذاك ، و لكن حادثة السقوط على الجمر المتقد هي حادثة أقسى على قلب الطفل من أن ينسى آثارها ...
إن أثر الحرق ظل محفورا في ذراعها الأيسر ... و كنت أراه كل يوم فيما مضى !
ترى ...
ألا يزال كما هو ؟؟
وضعنا السجادة الملفوفة قرب أدوات الشواء تلك ، ثم جلسنا فوقها نلتقط أنفاسنا !
" ثقيلة جدا ! أراهن أنهما لن تتمكنا من حمل الأخرى ! "
قالت رغد ذلك ... و كانت أروى الخالة تحملان سجادة ملفوفة أصغر حجما و في طريقهما إلينا
قلت :
" بل ستفعلان ! لا تعرفين كم هما قويتان ! "
و أنا أعرف كيف كانتا تعملان الأعمال الشاقة في المزرعة !
قالت :
" إنهما متشابهتان جدا "
" نعم ... صحيح "
" و جميلتان جدا ! "
استغربت ... لكنني قلت :
" نعم ! صحيح ! "
واصلت رغد :
" و أنت محظوظ جدا ! "
صمت ، و علتني الريبة ! ما الذي تعنيه صغيرتي ؟؟
رمقتها بنظرة استفسار فتطوّعت هي بالإيضاح مباشرة :
" لديك خطيبة جميلة جدا ... و ثرية جدا ! ... سوف تعيشان سعيدين جدا "
و صمتت ثوان ثم استطردت :
" أما أنا ... "
ظهرت أروى و الخالة في مرآنا فالتفتنا إليهما ...
كانتا تجران السجادة بتثاقل ... و سرعان ما هببت ُ أنا لمساعدتهما .
*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الرابع والثلاثون من رواية أنت لي بقلم منى المرشود
تابع من هنا: جميع فصول رواية أنت لى بقلم منى المرشود
تابع من هنا: جميع فصول رواية آدم بقلم جودى سامى
تابع من هنا: جميع فصول رواية أنت لى بقلم منى المرشود
تابع من هنا: جميع فصول رواية آدم بقلم جودى سامى
تابع أيضاً: جميع فصول رواية رحم للإيجار بقلم ريحانة الجنة
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من روايات حب
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا