مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي في موقعنا قصص 26 مع روايات رومانسية وإجتماعية ومثيرة مع الفصل الثامن والأربعون من رواية أنت لى بقلم د/ منى المرشود،وهى من الروايات ذات البحث الكثير على مواقع التواصل الإجتماعى
رواية أنت لي بقلم منى المرشود - الفصل الثامن والأربعون
رواية أنت لي بقلم منى المرشود - الفصل الثامن والأربعون
و أنا على وشك الخروج للعمل صباحا تلقيتُ اتصالاً من رقم هاتفٍ غريب، و عرفتُ بعدها أنه صديقي وليد شاكر!أخبرني وليد بأنّ قريبته قد أُصيبتْ إصابة بالغة في رِجلها و يدها و أنّه تمّ إدخالها إلى المستشفى و إجراء عمليّة طارئة لها آخر الليل... و رجاني أن أصطحِب زوجته و والدتها إلى المستشفى...
صديقي وليد كان منهاراً و هو يتحدّث إليّ عبر الهاتف وكان صوته حزيناً و أقرب إلى النحيب. و لأنني صديقه الأوّل فقد كان وليد يلجأ إليّ كلما ألمّتْ به ضائقة أو أصابته كربة... و كان يضعف قليلا لكنّه سرعان ما يستعيد قواه و يقف صامداً دون انحناء... أمّا هذه الأزمة فقد دهورتْ نفسيته بشكل سريع و شديد للغاية، ممّا أدى إلى انحدار صحّته و قدرته على العمل تباعا.
يعاني وليد من قرحة مزمنة في المعدة و هي تنشط و تتفاقم مع الضغوط النفسية. و قد كان الأطباء ينصحونه بالاسترخاء و النقاهة كلما تهيّجتْ و بالإقلاع عن التدخين، و أظنّه أقلع عن السجائر و لكنّه أهمل علاج قرحته في هذه الفترة إلى أن تطوّر وضعها للأسوأ كما ستعرفون لاحقاً.
وليد متعلّق بشدّة بابنة عمّه المصابة هذهِ و أخالهُ يخبل لو ألّم بها شيء!
و قد كانت ابنة عمّه ترافقه كالظلّ عندما كنّا صغارا في سني المدارس و كان يحبّها جدا و كثيرا ما اصطحبها معه في زياراته لي و في تجوالنا سوياً... و قد افترق عنها سنوات حبسه في السجن... و رحلتْ مع عائلته بعيدا عن المدينة... ثمّ دارتْ الأيام لتعيد جمعه بها من جديد... و تجعله وصياً شرعيا عليها و مسؤولا أولا عن رعايتها...
عندما وصلنا دخلت ْ السيدتان إلى غرفة المريضة و رأيتُ وليد يخرج إليّ بعد ذلك...
و كما توقـّعت ُ بدا الرجل متعباً جداً... و كأنّه قضى الليلة الماضية في عملٍ بدني شاق... سألته عن أحواله و أحوال قريبته فردّ ببعض الجمل المبتورة و تمتم بعبارات الشكر
" لا داعي لهذا يا عزيزي ! إننا أخوَان و صديقان منذ الطفولة ! "
ابتسم وليد ابتسامة شاحبةً جداً ثم قال:
" عليّ أن أسرع "
قلتُ مقاطعا :
" لا تبدو بحالةٍ جيدةٍ يا وليد ! دعني أقلّك بسيارتي... ذهاباً و عودةً "
و أعاد الابتسام و لكن هذه المرة بامتنان...
أوصلتُ وليد إلى منزله حيث قضى حوالي العشرين دقيقة رتّب خلالها أموره و شربنا سوية بعض الشاي على عجل...
الرجل كان مشغول البال جداً و مخطوف الفكر... و قد حاولتُ مواساته و تشجيعه لكنه كان قد تعدّى مستوى المساواة بكثير، و بما أنني أعرفه فأنا لا استغرب حالته هذه... إنه مهووس بقريبته و قد باح لي برغبته في الزواج منها رغم أي ظروف !
و قبل أن أركن السيارة في مواقف المستشفى الخاصة رأيته يفتح الباب و يكاد يقفز خارجاً
" على مهلكَ يا رجل ! هوّن عليك ! "
قال و هو يمسك بالباب المفتوح قليلا :
" أخشى أن تستفيق ثم لا تجدني و تصاب بالفزع... إنها متعبة للغاية يا سيف و إن أصابها شيء بها فسأجن "
ألم أقل لكم ؟؟
رددتُ عليه بتهوّر :
" أنت مجنون مسبقاً يا وليد "
و انتبهتُ لجملتي الحمقاء بعد فوات الأوان. التفتَ وليد إليّ و قد تجلّى الانزعاج على وجهه ممزوجاً بالأسى...فاعتذرتُ منه مباشرةً :
" آسِف يا وليد ! لم أقصد شيئاً "
تنهّد وليد و لم يعلّق... ثم شكرني و غادر السيارة... هتفتُ و أنا ألوّح له من النافذة و هو يهرول مبتعداً :
" اتصل بي و طمئني إن جدّ شيء "
و توليتُ بنفسي إبلاغ السيّد أسامة المنذر- نائب المدير- أن وليد سيتغيب عن العمل و أوجزتُ له الأسباب.
السيّد أسامة كان نائباً للمدير السابق عاطف - أبي عمّار - البحري رحمهما الله، و كان على علاقة وطيدة بآل بحري، و على معرفة جيّدة بنا أنا و والدي و فور اكتشافه بأن وليد هو ذاته قاتل عمّار، قدّم استقالته و رفض التعاون مع وليد و العمل تحت إدارته. و لكن... بتوصية منّي و من والدي، و بعد محاولات متكررة نجحنا في تحسين صورة وليد في نظره و أفلحنا في إقناعه بالعودة للعمل خصوصا و أن وجوده كان ضروريّا جدا بحكم خبرته الطويلة و أمانته. و مع الأيام توطّدتْ العلاقة بين وليد و السيّد أسامة الذي عرف حقيقة وليد و أخلاقه و استقامته. و صار يقدّره و يتعامل معه بكل الاحترام و المحبّة. أما بقيّة موظفي المصنع و الشركة، فكانتْ مواقفهم تجاه وليد متباينة و كنتُ في خشية على وليد من ألسنتهم. غير أن وليد تصرّفَ بشجاعةٍ و لم يعرْ كلامهم اهتماماً حقيقياً و أثبتَ للجميع قدرته على الصمود و تحمُّل مسؤولية العمل مهما كانتْ الأوضاع.
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
لوّحتُ لسيف بيدي و أسرعتُ نحو غرفة رغد.
وجدتُها لا تزال نائمةً... و إلى جوارها تجلسُ أروى و الخالة. سألتهما عما إذا كانت قد استيقظتْ فأجابتا بالنفي... اقتربتُ منها فإذا بأروى تمدّ يدها إليّ بهاتفي المحمول و تقول:
" تفضّل.. جلبته معي لكَ "
تناولتُ الهاتف و جلستُ على مقربة أتأمل وجه رغد... و ألقي نظرةً بين الفينة و الأخرى على شاشةِ جهاز النبض الموصول بأحد أصابعها...
بعد قليل مرّتْ الممرّضة لتفقّد أحوال رغد و نزعتْ الجهاز عنها. خاطبتها :
" كيف هي ؟ "
أجابتْ :
" مستقرة "
قلتُ :
" و لماذا لا تزال نائمة ؟ "
قالتْ :
" يمكنكم إيقاظها إن شئتم "
و بعد أن غادرتْ بقينا صامتين لوهلة... ثم التفتُّ نحو أروى و سألتها:
" كيف وقعتما ؟ "
ظهر التردد على وجه أروى و اكتسى ببعض الحمرة... ما أثار قلقي... ثم تبادلتْ نظرة سريعة مع خالتي و نطقتْ أخيرا :
" كنا... واقفتين على الدرجات... و... تشاجرنا... ثمّ..."
قاطعتها و سألتُ باهتمام :
" تشاجرتما ؟؟ "
أومأتْ أروى إيجابا... و سمعتُ خالتي تُتمتم:
" يهديكما الله "
قلتُ بشغف :
" في ذلك الوقت المتأخر من الليل؟؟ و على عتبات السلم؟؟ "
و تابعتُ :
" لأجل ماذا؟؟ و كيف وقعتما هكذا؟؟ "
قالتْ أروى مباشرةً و باختصار:
" كان حادثاً... عفوياً "
انتظرتُ أن تفصّل أكثر غير أنها لاذتْ بالصمت و هربتْ بعينيها منّي...
قلتُ مستدرّاً توضيحها:
" و بعد؟ "
فرمقتني بنظرة عاجلة و قالتْ :
" مجرّد حادثٍ عفوي"
انفعلتُ و أنا ألاحظ تهربّها من التفصيل فقلتُ بصوت ٍ قوي :
" مجرد حادثٍ عفوي؟؟ اُنظري ما حلّ بالصغيرة... ألم تجدي وصفاً أفظع من (حادث عفوي)؟؟ "
نطقتْ أروى في وجس :
" وليد ! "
فرددتُ بانفعال :
" أريد التفاصيل يا أروى؟ ما الذي يجعلكِ تتشاجرين مع رغد في منتصف الليل و على عتبات السلم ؟؟ أخبريني دون مراوغة فأنا رأسي بالكاد يقف على عنقي الآن "
هنا أحسسنا بحركةٍ صدرتْ عن رغد فتوجهتْ أنظارنا جميعا إليها...
فتحتْ رغد عينيها فتشدّقتُ بهما بلهفة... و اقتربتُ منها أكثر و ناديتُ بلطف :
" رغد ... صغيرتي ... "
الفتاة نظرتْ إليّ أولا ثم راحتْ تجوبُ بأنظارها فيما حولها و حين وقعتْ على أروى و القابعة على مقربة فجأة... تغيّر لونها و احتقنتْ الدماء في وجهها وصاحتْ :
" لا... أبْعِدْها عني... أبْعِدْها عنّي... "
أروى قفزتْ واقفةً بذعر... و الخالة مدّتْ يديها إلى رغد تتلو البسملة و تذكر أسماء الله محاولة تهدئتها...
أمسكتُ بيد رغد غير المصابة و أنا أكرر :
" بسم الله عليك ِ ... بسم الله عليك ِ ... اهدئي رغد أرجوك ِ ... "
رغد نظرتْ إليّ و صاحتْ بقوة:
" أبْعِدْها عني... لا أريد أن أراها... أبعدها... أبعدها ... أبعدها "
التفتُ إلى أروى و صرختُ:
" ما الذي فعلتِه بالفتاة يا أروى؟؟ أُخرجي الآن "
أم أروى قالتْ معترضةً :
" وليد ! "
فقلتُ غاضباً :
" ألا ترين حال الصغيرة ؟؟ "
و أتممتُ موجهاً الكلام إلى أروى :
" أُخرُجي يا أروى... أنا ما كدتُ أصدّق أنها هدأتْ قليلا... ابقي في الخارج هيّا "
و أروى سرعان ما أذعنتْ للأمر و هرولتْ إلى الخارج... حينها التفتُ إلى رغد و أنا أحاول تهدئتها :
" ها قد ذهبتْ ... أرجوك اهدئي يا صغيرتي... بسم الله عليكِ و يحفظكِ ... "
لكنها قالتْ و هي لا تتمالك نفسها:
" لا أريد أن أراها... أبْعِدْها عني... أتتْ تشمتُ بي... إنها السبب... أنا لا أطيقها...قلتُ لك لا أريد أن أراها... لماذا سمحتَ لها بالمجيء؟؟ هل تريد قتلي؟ أنتَ تريد لي الموت... لماذا تفعل هذا بي يا وليد ؟؟ ألا يكفي ما أنا فيه؟؟ لماذا قـُل لماذا... لماذا ؟؟ "
جمّدني الذهول حتّى عن استيعاب ما أسمعه... لا أدري إن كان هذا ما قالته بالفعل أو إن كانت رغد هي التي تتكلّم الآن... أنا لن أؤكد لكم بسماعي شيء... إن أذنيّ فقدتا حاسة السمع و دماغي فقد القدرة على الفهم و ذاكرتي أُتْلفتْ من كميّة الفزع المهولة التي اجتاحتني منذ البارحة و لا تزال تدكّ عظامي دكا ً...
ثوان ٍ و إذا بالممرضة تدخل الغرفة و تسأل:
" ما الذي حدث ؟؟ "
ترددتُ ببصري بين رغد الثائرة و الممرضة... ثم هتفتُ منفعلاً و موجهاً كلامي لها :
" أين هو طبيبكم دعوهُ يرى ما الذي حدث للفتاة إنها ليستْ بخير... ليستْ بخير..."
و بعدها جاء الطبيب - و هو غير الجراح الذي أجرى لرغد العملية - و لم تسمح له رغد بفحصها بل صرختْ :
" أخرجوا جميعكم... لا أريدكم... ابتعدوا عني... أيها المتوحشون "
جنّ جنون الفتاة... و تصرّفتْ بشكل أقرب للهستيريا... نعتتنا بالوحوش و الأوغاد... و حاولتْ النهوض عن السرير... و نزعتْ أنبوب المصل الوريدي من ذراعها فتدفقتْ الدماء الحمراء ملوّنة الألحفة البيضاء... و سال المصل مبللاً ما حوله... و عندما حاولتْ الممرضة السيطرة على النزيف زجرتها رغد بعنفٍ و رمتها بالوسادة التي كانتْ تنام عليها...
" ابتعدوا عنّي... أيها الأوغاد... أخرجوا من هنا... لا أريد أحداً معي... أكرهكم جميعاً... أكرهكم جميعاً..."
لدى رؤيتي الحالة المهولة لصغيرتي أصابني انهيار لا يضاهيه انهيار... و تفاقمتْ شكوكي بأنها جنّتْ... لا قدّر الله... و بنبرةٍ عنيفةٍ طلبتُ من... لا بل أمرتُ كلاً من الخالة و الطبيب و الممرضة بالمغادرة فوراً... علّي أفلح في تهدئة صغيرتي بمفردي... لقد كنتُ مذهول العقل عليها و أريد أن أطمئن إلى أنها بالفعل لم تُجن !
أذعنوا لأمري و طيور القلق محلّقة فوق رؤوسهم... و بعد أن خرجوا التفتُ إلى صغيرتي و التي كانت لا تزال تردد بانفعال:
" اخرجوا جميعكم ابتعدوا عنّي... "
قلتُ و أنا أسير عكس اتجاه أمرها و أراقب ثورتها و بالكاد تحملني مفاصلي من فزعي على حالها:
" لقد خرجوا يا رغد... إنه أنا وليد... "
و ازدردتُ ريقي :
" هل تريدينني أن أخرج أنا أيضا ؟ "
هذا أنا وليد... هل ترينني؟ هل تميزينني...؟ هل تعين ما تفعلين يا رغد؟ بالله عليك لا تجننيني معك...
رغد نظرتْ إليّ و هي لا تزال على انفعالها و قالتْ :
" أنتَ أحضرتها إليّ... تريدان قتلي غيظاً... أنتما تكرهانني... كلكم تكرهونني... كلكم متوحشون... كلّكم أوغاد... "
طار طائر عقلي... انفصمتْ مفاصلي... هويتُ على السرير قربها... مددتُ يديّ بضعف شديد إلى كتفيها و نطقتُ :
" رغد... ما الذي تهذين به؟؟ ماذا أصاب عقلك أنبئيني بربّك؟؟ آه يا إلهي هل ارتطم رأسكِ بالسلّم ؟؟ هذا أنا وليد... وليد يا رغد... وليد... هل تعين ما تقولين؟؟ ردي عليّ قبل أن أفقد عقلي ؟ "
و إذا بي أشعر بحرارة في جفوني... و بشيء ما يتحرّك على عينيّ...
رغد حملقتْ بي برهة و قد توقـّفتْ عن الصراخ... ثمّ أخذتْ تئِنّ أنين المرضى أو المحتضرين... و هي تنظر إليّ... و أنا أكاد أفقد وعيي من شدّة الذهول و الهلع...
اقتربتُ منها أكثر... أسحب ثقل جسدي سحباً... حتّى صرتُ أمامها مباشرة. حركتُ يديّ من على كتفيها و شددتُ على يدها السليمة إن لأدعمها أو لأستمد بعض الدعم منها... لكنها سحبتْ يدها من قبضتي... ثم رفعتها نحو صدري و راحتْ تضربني... بكلتا يديها
ضرباتها كانتْ ضعيفة قويّة... مواسية و طاعنة... غاضبة و خائفة... في آن واحد... و فوق فظاعة من أنا فيه رمتني في زوبعة الذكريات الماضية... الماضي الجميل... حيث كانتْ قبضة صغيرتي تصفع صدري عندما يشتدّ بها الغضب منّي...
استفقتُ من الشلل الذي ألمّ بحواسي و إدراكي على صوتها تقول بانهيار:
" لماذا أحضرتها إلى هنا ؟ تودّون السخرية منّي؟؟ أنتم وحوش... أكرهكم جميعاً "
صحتُ منكسرا:
" لا ! كلا... أنتِ لا تعنين ما تقولين يا رغد ! أنتِ تهذين... أنتِ غير واعية... لا ترين من أمامكِ... أنا وليد... انظري إليّ جيدا... أرجوك يا رغد... سيزول عقلي بسببكِ... آه يا رب... إلا هذا يا رب... أرجوك... أرجوك يا رب... إلا صغيرتي... لا احتمل هذا... لا احتمل هذا... "
أمسكتُ بيديها محاولاً إعاقتها عن الاستمرار في ضربي و لكن بلطفٍ خشية أن أوجعها...
" توقـّفي يا رغد أرجوكِ ستؤذين يدكِ... أرجوكِ كفى... أنتِ لا تدركين ما تفعلين..."
لكنها استمرّتْ تحركهما بعشوائية يمينا و يسارا و هما قيد قبضتَيّ ، ثم نظرتْ إلى الجبيرة و امتقع وجهها و صاحتْ بألم:
" آه يدي..."
تمزّقتُ لتألمها... أطلقتُ صراح يديها ثم حرّكتُهما بحذرٍ و لطفٍ دون أن تقاومني، و أرخيتهما على السرير إلى جانبيها و سحبتُ اللحاف و غطيتهما... و قلتُ :
" سلامتكِ يا رغد... أرجوكِ ابقي هادئة... لا تحرّكيها... أرجوكِ... عودي للنوم صغيرتي... أنتِ بحاجة للراحة... نامي قليلا بعد "
فأخذتْ تنظر إليّ و في عينيها خوفٌ و اتهامٌ... و عتابٌ قاسٍ... و أنظر إليها و في عينيّ رجاءٌ و توسّلٌ و هلعٌ كبير... كانت أعيننا قريبةً من بعضها ما جعل النظرات تصطدم ببعضها بشدّة...
قلتُ و أنا أرى كلّ المعاني في عينيها... و أشعر بها تحدّق بي بقوّة :
" أرجوكِ صغيرتي اهدئي... لن يحدث شيءٌ لا تريدينه... لن أدعها تأتي ثانيةً لكن سألتكِ بالله أن تسترخي و تهدّئي من روعكِ... أرجوكِ... "
رغد بعد هذه الحصّة الطويلة من النظرات القوية... هدأتْ و سكنتْ و أغمضتْ عينيها و أخذتْ تتنفس بعمق... مرّتْ لحظة صامتة ما كان أطولها و أقصرها... بعدها سمعتُ رغد تقول للغرابة:
" هل سأستطيع رسم اللوحة ؟ "
نظرتُ إلى وجهها بتشتتٍ... و هو مغمض العينين و كأحجية غامضة و مقفلة الحلول...
أي لوحة بعد ؟؟
قلتُ :
" أي لوحة ؟ "
رغد حرّكتْ يدها المجبّرة ثم قالتْ:
" لكنني رسمتها في قلبي... حيث أعيد رسمها كل يوم... و حتى لو لم أستطع المشي... احملني على كتفيك... أريد أن أطير إلى أمي"
ثم اكفهرّ وجهها و قالتْ :
" آه... أمّي..."
و صمتتْ فجأة...
بعد كل ذلك الجنون... و الهذيان... صمتتْ الصغيرة فجأة و لم تعد تتحرّك... حملقتُ في وجهها فرأيتُ قطرة يتيمة من الدموع الحزينة... تسيل راحلة على جانب وجهها ثم تسقط على الوسادة ... فتشربها بشراهة... و تختفي...
ناديتُها و لم ترد... ربّتُ عليها بلطفٍ فلم تُحس... هززتها بخفة ثم ببعض القوة فلم تستجب... خشيتُ أن يكون شيئا قد أصابها فجأة... فقد كانتْ قبل ثوانٍ تصرخ ثائرة و الآن لا تتحرّك... و لا تستجيب... ناديتُ بصوتٍ عالٍ:
" أيها الطبيب... أيتها الممرّضة..."
و كان الاثنان يقفان خلف الباب و سرعان ما دخلا و أقبلا نحونا
قلتُ هلِعاً :
" أنظرا ماذا حدث لها... إنها لا تردّ عليّ... "
الطبيب و الممرّضة اقتربا لفحصها فابتعدتُ لأفسح لهما المجال... أوصل الطبيب جهاز قياس النبض بإصبع رغد و تفحّصها ثم أمر الممرّضة بإعادة غرس أنبوب المصل في أحد عروقها فباشرتْ الممرضة بفعل ذلك دون أي مقاومة أو ردّة فعل من رغد... الأمر الذي ضاعف خوفي أكثر فأكثر...
جلبتْ الممرضة عبوة مصل أخرى و جعلتْ السائل يتدفق بسرعة إلى جسد رغد ثم أعادتْ فحصها و قياس ضغط دمها... و خاطبتْ رغد سائلةً:
" هل أنتِ بخير؟؟ كيف تشعرين؟؟ "
رغد عند هذا فتحتْ عينيها و نظرتْ إلى الاثنين و كأنها للتو تدرك وجودهما فعبستْ و قالتْ زاجرة:
" ابتعدا عنّي "
لكنّها كانت مستسلمة بين أيديهما.
سألتها بدوري في قلق :
" رغد هل أنتِ بخير ؟؟ "
فرّدتْ و هي تشيح بوجهها و تحرّك يدها المصابة :
" ابتعدوا عنّي... دعوني و شأني... متوحشون... آه... يدي تؤلمني "
استدرتُ إلى الطبيب و الذي كان يتحسّس نبض رسغها الأيسر و سألتُ:
" ما حلّ بها؟؟... طمئنّي؟؟ "
أجاب :
" ضغطها انخفض... لكن لا تقلق سيتحسّن بعد قليل "
سألتُ مفزوعاً :
" ضغطها ماذا ؟؟ انخفض؟؟ لماذا ؟ طمئنّي أرجوك هل هي بخير ؟؟ "
نظر إليّ نظرة تعاطف و طمأنة و قال :
" اطمئن. سيتحسّن بسرعة. إنها نزعتْ الأنبوب من يدها فجأة... و كان المصل يحتوي مسكنا للألم يجب أن يُخفّف بالتدريج كي لا يسبّب هبوطاً مفاجئاً في ضغط الدم. الوضع تحت السيطرة فلا تقلق "
و كيف لا أقلق و أنا أرى من أمر صغيرتي العجب ؟؟
قلتُ مستميتاً إلى المزيد من الطمأنة :
" كانتْ غير طبيعية البتة... ألا تظن أنه ربّما أُصيب رأسها بشيء؟؟... إنّها تهذي و تتصرّف على غير سجيتها... أرجوك تأكّد من أن دماغها بخير "
قال الطبيب :
" نحن متأكدون من عدم إصابة الرأس بشيء و الحمد لله. لكن الواضح أنّ نفسيّتها متعبة من جرّاء الحادث، و هذا أمرٌ ليس مستبعداً و يحدث لدى الكثيرين.. تحتاج إلى الدعم المعنوي و أن تكونوا إلى جانبها "
قلتُ متفاعلاً مع جملته الأخيرة:
" إنها لا تريد منّا الاقتراب منها "
و كأنّ رغد لم تسمع غير تعقيبي هذا فالتفتتْ إلينا و قالتْ :
" دعوني و شأني "
ثمّ سحبتْ يدها من يد الطبيب و أمسكتْ باللحاف و خبأتْ رأسها تحته كلياً...
و طلبتْ منّا أن نخرج جميعا و هذتْ بكلمات جنونية لم أفهم لها معنى...
نظرتُ إلى الطبيب بقلقٍ شديد :
" أظنّها جُنّتْ... يا دكتور.. افعل شيئا أرجوك... ربّما جنّتْ ! "
قال :
" كلا كلا... لا سمح الله. كما قلتُ نفسيتها متعبة... سأعطيها منوماً خفيفاً "
و بقيتْ رغد على حالها و سمعتها تقول و وجهها مغمور تحت اللحاف:
" لا تُعِدها إلى بيتنا ثانية... لا أريد أن أراها ... أبدا "
و كررتْ و هي تشدّ على صوتها :
" أبدا... هل تسمعني ؟ أبدا "
و لمّا لم تسمع ردا قالتْ :
" هل تسمعني؟؟ وليد إلى أين ذهبت ؟ "
لقد كانتْ تخاطبني من تحت اللحاف... و أنا لا أعرف إن كانت تعني ما تقول...
قلتُ و أنا أقترب لأُشعرها بوجودي فيما صوتي منكسر و موهون :
" أنا هنا... نعم أسمع... حاضر... سأفعل ما تطلبين... لكن أرجوك اهدئي الآن صغيرتي... أرجوكِ فما عاد بي طاقة بعد"
قالتْ:
" إنها السبب "
أثار كلامها اهتمامي... سألتُها :
" ماذا تعنين؟؟ "
و لم ترد...
فقلتُ :
" أ تعنين أنّ أروى... "
و لم أتمّ جملتي، إذ أنها صرختْ فجأة :
" لا تذكر اسمها أمامي "
قلتُ بسرعة و توتّر:
" حسناً حسناً... أرجوكِ لا تضطربي "
فسكنتْ و صمتتْ قليلا... ثم سمعتها و للذهول تقول :
" أريد أمّي "
شقّت كلمتها قلبي إلى نصفين...
الممرضة سألتني :
" أين والدتها؟ "
فعضضتُ على أسناني ألماً و أجبتُ بصوتٍ خافتٍ :
" متوفّاة "
حرّكتْ رغد رأسها من تحت اللحاف و راحتْ تنادي باكية :
" آه... أمي... أبي... عودا إليّ... لقد كسروا عظامي... هل تسمحان بهذا؟ أنا مدللتكما الغالية... كيف تتركاني هكذا... لا استطيع النهوض... آه... يدي تؤلمني... ساعداني... أرجوكما... لا تتركاني وحدي... من لي بعدكما... عودا إليّ... أرجوكما... عودا... "
الغرفة تشبعتْ ببخار الدموع المغلية التي لم تكد تنسكب على وجنتيّ حتى تبخّرتْ ... والتنفس أصبح صعبا داخل الغرفة المغمورة بالدموع...
طلبتُ بنفسي من الطبيب إعطاءها المنوّم الجديد في الحال... حتّى تنام و تكفّ عن النحيب الذي أفجع كلّ ذرّات جسمي... و قطّع نياط قلبي... و أثار حزن و شفقة حتّى الجدران و الأسقف... و بعد أمره أعطتها الممرضة جرعة من المنوم الذي سرعان ما أرسل رغد في دقائق إلى عالم النوم...
و كم تمنيتُ لو أن جرعة أخرى قد حُقنتْ في أوردتي أنا أيضا...
قالت الممرضة :
" ها قد نامتْ "
ثمّ أعادتْ قياس ضغط دمها مجددا و طمأنتني إلى أنه تحسّن... كما أن الطبيب أعاد فحص نبضها و أخبرني بأنه على ما يرام...
بقي الاثنان ملازمين الغرفة إلى أن استقرّ وضع رغد تماما ثم خرج الطبيب و ظلّتْ الممرّضة تسجّل ملاحظاتها في ملف رغد...
وجه رغد كان لا يزال مغمورا تحت اللحاف و خشيت أن يصعب تنفّسها فسحبته حتى بان وجهها كاملاً... و مخسوفاً
كان... كتلةً من البؤس و اليتم... يصيب الناظر إليه بالعمى و يشيب شعره... و آثار واهية من الكدمات تلوّن شحوب وجنتيه الهزيلتين...
قالتْ الممرضة و هي ترى التوتر يجتاحني و أنا أتأمّل وجه الفتاة:
" تبدو محبطةً جدا... من المستحسن أن تأتي شقيقاتها أو المقرّبات لديها لتشجيعها. الفتيات في مثل هذا السن مفرطات الإحساس و يتأثرن بسرعة حتى من أتفه الأمور فما بالكَ بإصابة بالغة..! "
أي شقيقات و أي قريبات ! أنتِ لا تدركين شيئاً...
ثم تابعتْ تكتب في الملف و أنا قابع إلى جوار رغد أتأمل كآبتها و أتألّم...
خاطبتني الممرضة :
" عفوا يا سيّد و لكنّي لاحظتُ شيئا... أريد التأكّد... إذ يبدو أنّ هناك خطأ في معلومات الكمبيوتر... هل اسم والدكما هو شاكر أم ياسر ؟؟ "
التفتُ إليها و قلتُ :
" رغد ياسر جليل آل شاكر... و أنا وليد شاكر جليل آل شاكر "
نظرتْ إليّ الممرضة بتعجّب و علقتْ :
" لستما شقيقين؟!"
قلتُ :
" إنها ابنة عمّي، و ابنتي بالوصاية "
زاد العجب على تعبيراتها و أوشكتْ على قول شيء لكنها سكتت و اكتفت بهز رأسها.
أثناء نوم رغد... أعدتُ استعراض شريط ما حصل منذ أفاقتْ قبل قليل إلى أن عادتْ للنوم محاولا تذكّر ما قالته و استيعاب تصرّفاتها... و تذكّرتُ جملتها ( إنها السبب ) و التي أشارتْ بها إلى أروى...
تباً لكِ يا أروى...
كبرتْ الفكرة في رأسي و تلاعبتْ بها الشياطين و لم أعد بقادر على حملها... و أردتُ التحدّث مع أروى حالاً...
طمأنتُ قلبي قليلا على سلامة الصغيرة و تأكدتُ من نومها، ثم طلبتُ من الممرّضة أن تبقى ملازمةً معها لحين عودتي، و خرجتُ من الغرفة بحثاً عن أروى و الخالة فوجدتهما تجلسان على مقربةٍ...
وقفتْ الاثنتان بقلقٍ لدى رؤيتي... أنظاري انصبّتْ على أروى و بدأتْ عيناي تتقدان احمرارا...
الخالة سألتْ :
" كيف هي الآن ؟ "
لم أجبها... إنما اتجهتُ مباشرة إلى أروى و قلتُ بحدة :
" ما الذي فعلتِه برغد ؟ "
التعجّب و الذعر ارتسما على وجه أروى... و لم تتحدّث...
يدي تحرّكتْ نحو ذراعها فأطبقتُ عليه بقسوة و كررتُ بحدّة أكبر :
" أجيبي ... ما الذي فعلتِه برغد ؟؟ "
الخالة تدخّلتْ قائلة :
" ماذا عساها تكون قد فعلتْ ؟ لقد وقعتا سويةً "
ضغطتُ بقوّة أكبر على ذراع أروى و صحتُ بوجهها :
" تكلّمي "
أروى حاولتْ التملّص من قبضتي عبثا... ثم استسلمتْ و قالتْ :
" كان حادثا... هل تظنّ أنني دفعتُ بها ؟ هل أنا مجنونة لأفعل ذلك؟؟ "
بخشونةٍ دفعتُ بأروى حتى صدمتها بالجدار الذي كانت تقف أمامه و قلتُ ثائراً :
" بل أنا المجنون ... لأفعل أي شيء... انتقاماً لها... "
الخالة اقتربتْ منا و قالتْ :
" وليد ! ماذا دهاك ؟؟ الناس يمرون من حولنا "
أخفضتُ صوتي و أنا أضغط على كتفَي أروى الملصقتين بالجدار أكاد أسحقهما به :
" الفتاة بحالةٍ سيئةٍ... أسوأ من سيّئةٍ... إصابتها بالغةٌ و نفسيّتها منهارةٌ... تتصرّف بغرابة... و تقول أنّكِ السبب... و تنفر منكِ بشدّة... لا تقولي أنّك لم تفعلي شيئاً... أخبريني ما الذي فعلتِه بها يا أروى تكلّمي ؟؟ "
" وليد ! "
صاحتْ أروى و حاولتْ التحرّر لكنني حشرتها بيني و بين الجدار و صحتُ :
" قلتُ لك ِ مراراً... لا تقتربي منها... إلاّ رغد يا أروى...إلاّ رغد... أي شيءٍ في هذا الكون إلاّ رغد... أنا لا أقبل أن يصيب خدش ٌ أظافرها... و لا يكفيني فيها غير إزهاق الأرواح... و أقسم يا أروى... أقسم بالله العظيم... إن أصاب الفتاة شيءٌ... في عقلها أو جسمها... و كنتِ أنتِ السبب بشكلٍ أو بآخر... فسترين منّي شيئاً لم تريه في حياتك قط... أقسم أنني سأعاقبكِ بأبشع طريقةٍ... و إن اضطررتُ لكسر عظامك كلّها و سحقها بيدي ّ هاتين "
و جذبتُ أروى قليلاً ثم ضربتها بالجدار بعنفٍ مرة أخرى...
*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الثامن والأربعون من رواية أنت لي بقلم منى المرشود
تابع من هنا: جميع فصول رواية أنت لى بقلم منى المرشود
تابع من هنا: جميع فصول رواية آدم بقلم جودى سامى
تابع من هنا: جميع فصول رواية أنت لى بقلم منى المرشود
تابع من هنا: جميع فصول رواية آدم بقلم جودى سامى
تابع أيضاً: جميع فصول رواية رحم للإيجار بقلم ريحانة الجنة
تابعوا صفحتنا على الفيس بوك للمزيد من روايات حب
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا