رواية فرط الحب بقلم دينا إبراهيم - الفصل الأول
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية فرط الحب بقلم دينا إبراهيم - الفصل الأول
تابع من هنا: روايات زوجية جريئة
حَل المساء بظلالِه ليُنهي ليلة أخرى من ليالي الخريف الدافئه التي يتحدى هدوءها تلك الأنوار والأصوات السعيدة الصاخبة الصادرة من قاعة للإحتفالات تُنبئ بزيجة ورباط جديد، إبتَعَدت "ريم" عن ساحة المعركة الراقصة التي تدور بمنتصف القاعة متجهه نحو الركن البعيد حيث الحبال البراقه المزينة بالزهور الورديه مَالت تشُم رائحتها الفواحة متناسيه أنها بإحدى حفلات الزفاف التي صارت تبغضها وتكره مشاعرها الزائفه نحوها، نفضّت ٱفكارها السوداويه فلا أحد يبقى من أجل الآخر كما يدعون، لكنها تفعلها من أجله فهو يستحق كل تضحيه قامت وستقوم بها.
إلتفَتت نحو "أحمد" محور تفكيرها الذي إنضم إليها متسائلًا بابتسامة صادقه تُشرِق ملامحه الهادئه والحنونه:
- نروّح ؟
بادلته إبتسامته لكنها هزّت رأسها بالنفي مؤكده بملامح متهكمه:
- وندّي الفرصة لولاد خالك يسرحوا بخيالهم ويطلّعوا كلام جديد، لا شكراً.
ضحك برحابه صدر وتعلقت عيناه بخصلاتها الجذابه بينما يميل ليهمس في أذنها برضا:
- شكراً ليكي ياريم، إنتِ غلاوتك عندي بتزيد كل لحظة عن اللي قبلها.
رَفعِت يديها نحو خصلاتها السوداء المموجه بإحترافيه لتبعدها للخلف ثم أجابته بنبرة مازحه:
- دي أقل حاجة عندي، أنا اصلًا أتحب.
مرّت عيناه فوق وَجهِها الأسمر الخلاب المزين بإبتسامتها فتزيد من جمالِها المشاغب الأخّاذ، ف رَفَع يده فجأه يبعد تلك الخُصلة المتمرده عن وَجهِها وٱبتسم حين إحمرّت وچنتيّها كعادتها الخجوله:
- أحمد ماما بتناديك.
إبتعد عنها ليُطالع إبن خالته الصغير ثم نظر لها بابتسامة خفيفه مستأذناً:
- دقايق وهنمشي، كفاية عليكي كده النهارده.
أومأت برأسِها وتابعته ينضم لإحدى خالاته وإبنها المتعجرف، تنهدت متعجبه للهدوء والثقة الذي يتناقش بها أحمد معهما وشعرت بفخر لأنها نوعًا ما كانت سبباً في رجوع تلك الثقة، أعادت إنتباهها إلى تلك الزهور الرائعه دون أن تنتبه لزوجان من العيون يتربصان بها.
تعلقت عيناه السوداء كالبئر العميق والمخيف بجسدها ، وشعر "ريان" بكل عضلة في بدنه تتصلب ل ثوان معدوده عندما لامس "أحمد" ما ليس حقه، حتى أخذت مشاعره تغلي وتتصاعد داخلهُ وكأنه إبريق من الشاي فتلك الخصلات الناعمة كشعر الخيل العربي وُجِدت لتتخللها أناملهُ هو فقط.
مدّ أصابعه لإمساك صغيرهُ صاحب الستة أعوام الذي إنطلق من جواره في لهفه مزّقت كيانه ليسبقه نحو تلك الواقفة بثوب أحمر اللون كالنبيذ مستكملةً طلتها بلا أي مبالاة بعقدٍ أسود يتدلى بمجون فوق مفاتنها.
تابعها تنتفض حين تعلق عمر بخصرها من الخلف كأنها الحياة، فأجبر أصابعها الرفيعة على إعتزال مداعبتها للزينة المغطاة بالورود لتستدير إلى الصغير بملامح مرتبكه ومرتاعه قبل أن تعكس تقاسيمها صدمة كبيرة.
- عُمر..
تغنّت بإسم الصغير بلهفه أعادت النبض لقلب الوالد قبل الولد ثم جثت تضمه بشوق عارم، تُقبِّل كل ما يقابلها من وجهِه البريء فقد مرت سنةً كاملة منذ أن إنتزع منها بقسوة، فكرت بمرارة وشعرت بدموعها تسبق كلماتِها وهي تتساءل:
- عامل إيه يا حبيبي وحشتني يا عُمر، إنت جيت هنا لوحدك؟!
سؤال غبي لقلب ضعيف ملتاع يهوى تعذيب الذات ... مسح الصغير برأسه في صدرها قبل ان يبتعد على مضض مجيبًا:
- مع بابي، أنا بحبك أوي يا ريم إنتِ رجعتي خلاص؟
رسمت إبتسامة ضعيفه تغطي ألم مبرح منبثق من أعماقها وقبل أن تجيبه كان الصغير يستعيد موطنه بين ذراعيها الحانيه دون مراعاه لمعرفة الإجابة أو ربما خوفً من المعرفة.
ضمته إليها في فزع خفي كأنها تتهرب من إنفجار وشيك داخل صدرها ولكن هروبها تلاشى بتروي ما إن إعترض مرمى بصرها خطوات صارمه لحذاء أسود لامع تحفظ صاحبها الجسور عن ظهر قلب، رَفعت رأسها ببطء وقد جفّ حلقها رغمًا عنها وعيناها مع كل جزء من جسده الممشوق
الذي إزداد عرضًا رياضيًا لم يكن عليه منذ سنة مضت، واخيرًا إلتقت عيناها البُنيه كقطعة من الشوكولا المخلوطه بزبدة البندق بعينيه السوداء الجذابه التي تزيد إطلالته الرجوليه أناقة والقادره على محو تاريخ مؤلم محفور في رأسها ليختفي في لحظة العالم سوى من كلاهما فينثُر الحنين ذكريات تمنّت نسيانها ولكن هيهات فما هي القلوب إلا فتات حِطامٍ لنِيران عشقٍ تزداد نحيبً، محمومةٍ بغيوم من ماضٍ هوىَ.
***
مُنذ عام مضى...
هبَطت "ريم" على الدَّرج بحماسة وسعادة إلى الطابق السفلي من المبنى التي تقطن به، فاليوم " عمر " الصغير لها وحدها وسيستمتعان كثيرًا بمشاهدة الأفلام الكرتونيه التي تخجل من الإعتراف بأنها تُفضّلها أي يوم عن الدراما الحقيقية، فيكفيها دراما حياتها بأنها الوحيده المتبقيه على قيد الحياة من أسرتها هي وخالتها التي علِقت في عالم من خيالها وسط رحلاتها المجنونة وٱنتهى بها الأمر بإتخاذ قرار الإبتعاد عن الوطن للإستقرار في الخارج ونسيانها تمامًا منذ أعوام مضت.
نفضّت أفكارها ووقفت على أطراف أصابعها كي تجذب المفتاح من فوق الإطار العلوي لباب شقة "ريان" وشقيقتهُ "ليان" المراهقة التي توسلت لها كي تهتم بإبن أخيها كي تخرُج مع رفيقاتها مؤكده أنه سيقضي يومه كامل في العمل، لوّت شفتيها بإنزعاج فبرغم سعادتها ببقائها مع الصغير إلا إنها تمنت رؤية "ريان" كي تنسج أحلام صبيانية يافعه في الخفاء عن كونهما معًا.
ضحكت على سخافة أفكارها بعبثيه، لا تدري كيف مر عليها عامين كاملين دون أن تذوب تحت قدميه معترفه بحبها العجيب له، فقلبها المريض تعلق بمصيدة غرامهُ مُنذ وفاة زوجتهُ ورجوعه هُنا بضع أيام سلب فيها قلبها، ثم سرق "ليان" كي تهتم بطفلهِ في الخارج سنة كامله قبل أن يعود وعلى حسب ما تتذكر وقتها أخبرتها "لِيان" أنه يعمل هنا بشكل مؤقت فمقر عمله الأساسي بإحدى الدول الخليجيه ولكنّهم بحاجة إليه هُنا للنهوض بفرع جديد داخل مصر.
وقتها لم تكن تدرك شيء ولم تهتم سوى بأنها وقعت أسيرة عينيه هو وصغيرهُ المسكين الذي لم يتّهنى بيوم واحد بين ذراعي والدته التي وافتها المنية وهي تمنحه الحياة، وشعرت بقلبها يتمزق آلاف المرات شفقه عليه متخذه على عاتقها مهمة الجارة المجنونة التي تراعي الصغير مع ليان كل يوم في أوقات غياب والدهِ الذي لا يشعر اصلًا بوجودها حوله ولا يشعر بحبها.
دَلفت ريم بإنزعاج من أفكارها القاسيه، فكيف ستلفت إنتباههُ وهي لا تمشط تلك الخصلات السوداء الشعثه الملفوفه كالإعصار أعلى رأسها مع وجهها الخالي من الزينة وفوق كل هذا وهذا فإن خجلها السخيف هو عكس المطلوب مائة وثمانون درجة، تأففت وٱنطلقت لتوقظ عُمر من قيلولتهِ راميه كل هذا الجنون خلف ظهرها.
وقف "ريان" تحت الماء البارد يحاول أخذ أنفاس متتاليه ويستغفر الله عن تلك الأفكار التي تدور في عقله منذ الصباح حين حاولت إحدى زميلاته في العمل إغوائه على حين غرة، ملئ كفيه ليضرب الماء البارد في وجهه يحاول تناسي شعوره بحرارة جسدها الناعم الذي إلتصق به في جراءة عاليه لم يصدّقها لكنها كانت كافية لإحياء رجولته الذي سعى للسيطرة عليها وقتلها منذ وفاة زوجته وصب جام إهتمامهُ وطاقته للعناية بصغيرهُ فقط، حمله تفكيره رغمًا عنه إلى امرأة أخرى كالملاك بشعر اسود مشعث وقد لا تفوق زميلته اللعوب في خانة الأنوثة ولكن البراءة والحب المنبثق من عينيها كافي لإغواء كاهن أو على الأقل اغواءه هو.
دقائق ثم خرج من تحت الماء يجفف جسده باحثًا عن ملابسه حين وصل إلى مسامعه نبرة مشاكسة تبهج قلبه منذ فترة طويلة بشكل غامض لا يستطيع تفسيره، ودون تفكير منه أسرع في اتداء ملابسه للخروج وملاقاتِها.
المنطق والعقل يؤكدان له أنه بظهوره سيرسلها بعيدًا ويحرم صغيره من متعة تواجدها لكنه قذف بهما عرض الحائط فشعور بالوحشه داخلهِ يناشدها ليخرج إسمها من بين شفتيه مبحوح مليء بالعاطفة:
-"ريم".
ضحكت "ريم" عندما خبأ عمر رأسه الصغيرة في الوسادة رافضًا الإستيقاظ متوسلًا بضع دقائق أخرى لتخبره أنها ستسمح له حتى وقت إنتهاءها من إعداد وجبة مغذيه له، جذب نظرها باب غرفة ريان المفتوحه وهفت عليها رائحة العطر الذي يستخدمه كي يغيب عقلها، أغمضت عينيها مستمتعه بإستنشاق الهواء المحمل بعِطره وتساءلت كم يضع من زجاجة العطر كي تبقى رائحتهُ معلقه كل هذا الوقت في المنزل وكأنه لم يغادره.
تفكير مغيظ جال بمخيلتها وهو يتجول بتلك الرائحة سارقًا قلوب الفتيات كان كافي لإشعال غيرتها.
أخذتها قدميها نحو الغرفة في خطوات هادئة دون وعي فتفحصت أثاثه واغراضه المرتب بشكل مفاجئ نظرًا لحركة عمر المفرطة في البيت فالفتي ذو الثلاث أعوام تقريبًا لا يترك أي مكان مرتب.
وجدت قميص لبني اللون ملقى فوق الفراش بإهمال فٱتجهت نحوه بإبتسامة واسعه مشاغبه مملوءه برهبة الخطأ، لترفعه نحو أنفها تشُم رائحة عِطره الممزوجه برائحتهِ الرجولية الفريدة من نوعها والتي تُحيي داخلها مشاعر لا تفقهها لكنها تتعلمها بسببه.
إتجهت نحو باب الغرفة مقرره الإستمتاع برائحته قليلًا في طريقها للمطبخ قبل ان تأتي وتُعيده لكنها صدمت عندنا رأت ريان يقف بكامل هيبته عند مدخل الباب يُطالعها بملامح مبهمه غامضه وعيونه حالكة الظلام وكأنها متحجره تمامًا كأصابعه المحتضنه بصلابة كوب من الماء.
شهقت ووقع القميص من بين أطراف أناملها ليلامس قدميها المزينة بطلاء وردي بسيط لكنه صارخ فوق بشرتها البيضاء الشاحبة وتسمّرت بذعر حين راقبته يضع الكوب بإهمال ثم يقترب منها دون أن يصدر حرف او تعطيها ملامحه نبذة عن مشاعره.
شعرت بحرارة وتأكدت أن كل وجهها صار أحمر كالبرقوق، فحاولت التحدث وإعطائه تبرير لتطفلها وقد قبض عليها في الجرم المشهود لكن لسانها كان معقود.
كان صامتً فقط عيونه تشتعل بالكثير والكثير لا يتحرك وكأنه تمثال وحدها أنفاسه المرتبكه التي تلامس أعلى وجهها تكشف إنه حي يرزق مثلها.
- أنا متأسفه، كنت بتأكد هو نضيف ...ولا...أصل...ليان...قالتلي....انا..
أسرعت في الحديث تفكر في مبرر لكنه قاطعها عندما رفع أنامله ليجذب رباط شعرها ويحرر خصلاتها المتمردة بيده الأخرى فتغوص أنامله بينها بعنف، فتقطعت كلماتها مع أنفاسها بجنون ثم فقدت القدرة على التفكير وهى تراه ينهي أخر مسافة تفصل بينهما برأسه ببطء، لا تدري انه يتراقص فوق أوتار حُبها مستغلًا براءتها بينما عيناه تحاول تثبيت نظراتها التائقة على نظراته الحارقه.
- بَحبَّك...!
ٱتسعت أعين كلاهما لهمستها المأخوذه بثمل عاطفي، فتأوهت في صدمة لِما خرج من فمها و أرادت الهرب لكنه منعها بإنقضاضه عليها في لحظة خاطفه مغلق المسافة بين شفتيها المرتعشه وشفتيه المتطلبه.
شَعرت بالحرارة تتملك في جوفها الجاف خاصةً عندما أحكم على خصلاتِها بإحدى قبضتيهِ بتملُّك سافر بينما الأخرى تلتف حول كتفيها كي يضمها إليه بقوة وقد إنساب وراء رغبة عارمه غيَّبته ما إن تذوَّق لذة شَفتيها رافضًا الإبتعاد عنها.
شَعرت "ريم" برأسها تدور وتأوهت من صلابة الخشب ما إن دفعها للخزانة خلفها لتستند كلاهما بينما يفعل هو الأعاجيب وما ليس له وصف بثغرها.
شَعرت بذعر أخيرًا عندما إحتدت جراءتهُ وإلتصق بها بشدة وشوق أفزعها وأعاد لها عقلها الصارخ بفداحة فِعلتهما بعد فوات الأوان، فدفعته عنها بعيون متسعه مرتعبه وشفتان ترفضان التوقف عن الإرتعاش، سمح لها "ريان" بإبتعادهُ محاولاً تمالك أنفاسه العاليه وعقله لا يصدق ما فعله للتو.
وَضعَت ريم يدها على فمها وحاولت تجاوزه فأمسك بمعصمها قائلًا بصوت ٱجش:
- إستني.
- سيبني... سيبني.
قاوَّمت بهستيريا فتركها لتركض مذعوره إلى خارج منزلهُ وشعور بالذنب يتطاير مع عبراتها ليستقر داخل صدره، بينما تحرك هو ليدور داخل الغرفة غير قادر على إستيعاب فعلته.
لقد إستغل فتاة مراهقه يتيمة دون راعي لتوه لا بل إنه إستغل إمرأة هي الوحيدة القادره على الإعتناء بصغيرهُ دون أن يَشعُر ب ذرة من القلق والأدهى أن تلك المرأة هي الوحيدة القادرة على هزّ قلبه بين جنبات صدره دون جُهد ولا يدري أين سيصل بها تفكيرها بشأن حقارتهُ ولكن سيكون عليه إصلاح الأمر سريعًا.
- غبي.
هتف ثم جذب أطراف خصلاته السوداء بقوة وكل ما أحتاجه هو أنفاس قليله ودون تفكير إتخذ قرارهُ بأن وقت الزواج قد حان.
وليس من أي امرأة فهو لن يرضى سوى بتلك المغوية التي لولا إستلامها له في خضم ثورة مشاعرهُ لظن انه أخافها حتى الموت.
وبذلك إتصل يعيد شقيقته الطائشة وشقيقهُ الأحمق إلي المنزل فهناك زواج في الانتظار وعلى شقيقته المسكينة الخضوع لتسرعه والصعود معه إلى ريم كي يعرض الزواج عليها الآن دون أي تأجيل.
***
عادت "ريم" من ذكرياتها على صوته الرخيم الغاضب:
- قدامك ثواني يا ريم، ولو مخرجتيش على البيت حالًا هرتكب جناية !
غامت عيناها بذهول لوقاحته بعد غياب عام كامل دون تواصل هذا هو ما ينطق به، فكرت بسخرية وماذا كنتي تتوقعين بعد ما حدث أن يأتي إليكِ ساجدًا يبكي ندمًا؟!
تحدت نظرته الغاضبة بمثلها أكثر حقدًا وقالت من بين أسنانها:
- أعتقد ده شيء ما يخصكش ، لا ثانيه هو في الحقيقة انا مش مصدقه إني واقفه أتكلم معاك.
كادت تتخطاه وعُمر لايزال يحتضن كفها بكفه الصغير ويمضي معها، فأمسك ذراعها بقوة أفجعتها وجعلتها تلتفت حولهم بوجه شاحب مذعور وهمسَت في شراسة:
- لو سمحت أنا واحده مخطوبة واللي بتعمله ده ميصحش.
إستغلت وقوع كلماتها على مسامعهُ كالبرق نشلت معصمها في غضب من بين براثنه متلذذة بلذة الإنتقام للصدمة المرتسمه على وجههُ.
إبتعدت نحو المرحاض بخطوات مهتزه تخفي خلفها الكثير والكثير ثم طلبت من عُمر إنتظارها في الداخل بصمت كي لا تنزعج السيدات فهز رأسه بموافقه وإبتسامته لا تتضاءل لتكافئه بقبلة كبيرة أعلى رأسه وعناق طويل حاني وكأنها تخشى إختفاءه، إبتعدت وهي تمرر أصابعها فوق أنفه وتعجبت من شعورها وكأن الثلاثمئة وخمسة وستون يومًا لم تكن كافيه لزعزعه مشاعرها نحو صغيرها الرائع درجة.
أغلقت ريم الباب خلفها وتركت العنان لأنفاسها المتهدجه بإضطراب مشاعرها قبل أن تختفي إبتسامتها ببطء ليحل محلها تعبير مقيت يعبر عن الهلع لما يحدث حولها فوقفت ثوانٍ طويلة في حالة من الصدمة أنه عاد في حياتها من جديد، زمجرت في صدرها في عناد برفض فهي قوية...
*****
في نفس الوقت على الطريق العام بمحافظة الإسكندرية ساد الهرج والمرج بين المتجمعين بأحد الكمائن بينما صوت شخص واحد يعلو فوق الجميع في غضب وٱعتراض:
- شيل إيدك من عليا، متجرنيش كده أنا مش حيوان.
دفع "بيجاد" يد الضابط في حده دون أي إهتمام بما هو قادر على فعله بحكم سلطته وزمجر مهاجمًا:
- أنا مش هسمح لأي مخلوق على الأرض إنه يهين كرامتي!
قال " بيجاد" بإصرار وهو يدفع جسده بعنف نحو الشرطي الذي دفعه للخلف بتحديٍ قائلًا:
- اه، ده إنت شكلك شارب حاجة.
- أنا مش شارب حاجة إنت اللي شايف نفسك علينا.
ضرب الضابط كف على الآخر يشعر بالإختناق من هتافاته التي تُسبب حالة من التوتر خاصة بوقوفه في منتصف الطريق وعدم الإمتثال للأوامر في حين إن كل ما صدر عنه كان طلبه لفحص رخصة القيادة خاصته.
ليتفاجأ بلسانه السليط وموقفه الهجومي نحوه وكل ذلك لأنه جذبه من قميصه بسبب إعتراضاته، ولولا تلك السيدة الباكيه خلف نافذته لسحبه من ذات القميص اللعين إلى داخل سيارة الشرطة ومنها إلى المركز ليعيد تأهيل تربيته وتعليمه الإحترام من جديد.
- أستغفر الله العظيم، مش إنت اللي عامل جامد أوي ومش عايز تمتثل للقانون..
ولّا أنا اللي مجنون مثلًا وموَقّفك عايز أرازي نفسي بأشكالك دي؟
تحرّك بيجاد أكثر نحوه بملامح لا تهاب وبلا أي تعقل بأنه يتحدى رجل دولة أثناء تأديته لعمله.
لكن زوجته المسكينة داخل السيارة واعيه لذلك فصارت تدبدب بكفيّها فوق وچنتيها بهلع حتى تدّخل أمين الشرطة المكتنز قليلًا كي يدفع زوجها عن الشرطي للخلف قليلًا محذرًا:
- إنت قليل الأدب ليه يا بني آدم، متعرفش تتكلم بلسانك ولا إنت طلَبت معاك تاخد على دماغك؟
- ما عاش ولا كان اللي يديني على دماغي، هي سايبه ولا ايه؟
- اه إنت معقد وجاي تطلّع عُقدك علينا مش كده،
بص يا ابني روح للي عماله تعيط دي وإرجع بيتك بدل وديني لأقلب على الوش التاني وساعتها ورحمة أمي ما هبيّتك فيه تاني!
قبض بيجاد كفيه بقوة وعَلت أنفاسه في غضب يحاول السيطره عليه قبل أن تضيق عيناه ويرمق زوجته بطرف عينيه فيجدها في حالة يرثى لها.
جانب داخلهُ أشفق عليها والأخر يود الصراخ في وجهها وتوبيخها لإظهار ضعف أمام الغير، فأبشع خطأ يمكن أن يرتكبه المرء تجاه نفسه هو أن يظهَر ضعيفًا منكسرًا أمام الآخرين فهذا ما يمنحهم الفرصة لتدميره، أوليس هذا ما أودَى بحياة والدهُ المتوفي بحسرته لأنه إختار الصمت وعدم المحاربة.
تخلت وسام عن صمتها الباكي وهي تراقب صراع زوجها الداخلي والظاهر جليًا لها فضربت على النافذة كي يفتح لها السيارة لتنقذ ما يمكن إنقاذه بدلًا من حبسها كالسجين بالداخل منذ أن أوقفه شرطي المرور.
كاد يفقد "بيجاد" صوابه وما تبقى من تعقله حين باغته أمين الشرطة وجذب المفتاح من بين أصابعه وهو يهتف به ساخرًا:
- يادي الهنى وحابسها، إياك تكون خاطفها هي كمان.
- دي مراتي ومش من حقك تفتح العربية.
حرّك الضابط يده بحركة متوعده بالصبر مستكملًا:
- أصبر لما نفتش العربية الأول إنت مستعجل على القسم ليه؟
قاطع إعتراضه وصول وسام بجواره والتي توسلت على لسانُه ما إن إحتضنت ذراعه:
- حضرتك هو إيه اللي حصل لكل ده، هو إحنا عملنا حاجة؟
حرّك الضابط رأسه بعدم رضا عما يحدث وأخبرها:
- معملتوش يا ستي لكن جوزك اللي عايز يعمل أقوله لا؟
- أنا متأسفه بالنيابة عنه هو ميقصدش.
- وسام متدخليش وروحي أقعدي في العربية.
قال بنبرة مستنكره لتوسلها وحاول دفعها للخلف فنفضت ذراعه وتوسلت للضابط من جديد وهي تخبط يدها بمحايله فوق صدرها:
- هو عصبي ده طَبعه لكن هو طيب أوي، أنا بعتذر من كل قلبي بس بلاش مشاكل أرجوك.
ضرب الضابط كف على الاخر حينما قاطعها المجنون وجرها عنوة لداخل السيارة فأستغفر الله وهتف بحزم متجاهلًا وجوده:
- رَجّع رخصته يا صلاح ومشّيه من قدامي حالاّ .
كاد يتحدث بيجاد فضغطت وسام على صدره ووضعت كفها فوق فمه تمنع كلماته قائلة:
- أنا متشكره جدًا، ربنا يسترك ويخليك لأولادك يارب.
إلتفتت لزوجها بعيون باكيه وتوسّلت بنبرة متقطعه:
- عشان خاطر إبنك أو بنتك اللي جايه مشيني من هنا يا بيجاد،
أنا حاسة بألم في معدتي فوق الوصف من كتر الرعب.
أطبق جفونه في تعب ثم وجّهها إلي مقعدها دون إجابه ليبتعد بعدها بخطوات متصلبة نحو مقعده وفقط عيناها المتوسله الملاحقه له هي ما دفعته للركوب والانسحاب.
تابع من هنا: جميع فصول رواية رواية احفاد الجارحي بقلم آية محمد
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا