مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الأول من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الأول
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الأول
رفع ثقل جسده عن الأرضية الباردة للمرة الثلاثين مستخدمًا مرفقيه دون أدنى شكوى، وكأنه لا يزن إلا مثقال ريشة، صفق السجناء في انبهارٍ وهم يحمسوه على فعل المزيد، وبالرغم من العرق الغزيز الذي ينهمر من خلايا جسده إلا أن أصواتهم التحفيزية حثته على الاستجابة لمطلبهم وزاد العدد حتى بلغ الخمسين رفعة، ثم نهض واقفًا على قدميه يمسح العرق العالق بأصابعه وخاصة حول خاتم خطبته، تلفت حوله والتصفيقات المصحوبة بالصافرات والتهليلات تشجعه، تعلقت الأعين المتباهية بإنجازه بوجهه ذي البشرة القمحية والمخبئ خلف ذقنه التي استطالت، بدا غير متأثرٍ بتفاخرهم به، مرر يده على رأسه الحليق يمسحها، كانت نظراته التي تنبعث من حدقتيه البنيتين تعبر عن قوة واستبسال لا حدود لهما، حتى بنيته الجسمانية ذات لياقةٍ عالية. لكزه أحدهم في جانب ذراعه يمدحه:
-عاش يا وَحَش!
ارتسم على جانب شفتي "تميم" بسمة متهكمة، مسح بظهر كفه عرقه المتصبب على جبينه وعينيه، ثم أردف قائلاً بصوته الأجش:
-خلي الكلاب اللي هنا تعرف من ريس المخروبة دي.
قال وهو يزيد في مدحه:
-هو في حد يقدر يقول غير كده يا كبيرنا؟
ثم ناوله منشفة نظيفة ليمسح بها عرقه قبل أن يتجه لأحد الأسرة التي تنتصف عنبر الحبس، جلس "تميم" على الفراش القديم منكسًا رأسه المشحون قليلاً، ما زال شأن عائلته يشغل باله، ها قد تبقى القليل ليعود إليهم بعد سنواته الخمس التي قضاها هنا في ذلك المكان الكئيب المستنزف للأعمار. ضاقت نظراته بحدة وزميله في محبسه يسأله:
-بتفكر في إيه يا معلم؟
رفع عينيه المحتدتين نحوه ليسأله بخشونةٍ مانعًا إياه من اقتحام خصوصيته:
-هنطفح إيه النهاردة؟
تنحنح قائلاً بصوتٍ مهتز:
-أوامرك يا كبير، أنا هاروح أشوف جاه إيه من الزيارة وأوضبه لجنابك.
تحرك مبتعدًا عنه ليتركه جالسًا بمفرده، فلم يجرؤ أي أحد سواه من السجناء على محادثته دون السماح له أولاً بذلك، كانت له هيبة طاغية ومرعبة وسط عتاة الإجرام، كما اكتسب منذ الليلة الأولى التي قضاها هنا شعبية عظيمة، وذلك لنجاحه في التغلب على واحدٍ من أشد السجناء شراسةً ممن حاولوا التحرش به وإذلاله وكسر كبريائه، قضى عليه وأهانه بشكلٍ مذل ليحتل بعدها مكانته وينال ذلك الشرف العظيم، لم تكن لتضيع سنوات عمره هباءً لولا ما فعله للعائلة، تلك التي تأتي على رأس أولوياته وإن كلفته حياته، لن يتغاضى للحظة عن الدفاع عن أفرادها حتى لو كان مصيره التهلكة. أغلق "تميم" دفتر الماضي بما فيه من أحداث رافضًا الخوض في المزيد من تفاصيله التي تزيده ضيقًا وألمًا، استلقى على الفراش يثني ركبته أمام صدره، ثم فرقع فقرات عنقه بتحريكه للجانبين، انخفضت عيناه نحو خاتم الخطبة الذي يزين إصبعه، أداره بحركة ثابتة لعدة مرات وهو يفكر في أمرها، تلك التي انتظرته لما يقرب من سبعة أعوام متسائلاً في نفسه إن كان لا يزال يكن لها نفس المشاعر أم باتت واجبًا عليه أدائه إكرامًا لإخلاصها معه. تنهيدة ثقيلة خرجت من فمه ليرفع رأسه بعدها للأعلى محدقًا في سقفية العنبر الكئيبة بغير هدفٍ محدد.
...........................................................
دارت عيناه الخبيرتان بطول الشارع المعتم نسبيًا فاحصًا بدقة كل زاوية فيه ليتأكد من عدم مراقبة أحدهم له، كان قد درس المنطقة جيدًا وحدد هدفه التالي بعد مراقبة متأنية لوقت معقول في ذلك الحي السكني المعروف عنه بثراء قاطنيه، انتقى البقعة المناسبة للوقوف بها والاختباء إن لزم الأمر دون أن يثير الريبة بين قاطنيها ليظن من يتطلع إليه أنه عامل النظافة المجد في عمله. انتهى "حمص" من تدخين الجزء المتبقي من سيجارته رديئة الصنع ليلقي ببقايا عُقبها أسفل قدمه، دعسها بحذائه القديم مومئًا برأسه لأحدهم يستقل دراجة بخارية على الجهة المقابلة، ثم استدار للخلف متجهًا نحو السور الحجري حيث النقطة التي اختارها ليتسلقه منها، وبخفة واحترافية تتماشى مع جسده النحيف استطاع أن يصعد عليه، حبس أنفاسه ثم وثب للداخل جاثيًا على إحدى ركبتيه وكفيه على الأرضية العشبية للحديقة الخلفية لتلك الفيلا الخالية من سكانها. تلفت حوله في توترٍ وقلق، كان المكان هادئًا إلا من نباح الكلب المزعج، هنا اعتلى ثغره ابتسامة ماكرة، فقد جاء خصيصًا إليه، وسرقته تلك المرة تعتبر من النوع الباهظ، حتمًا من سيشتريه سيدفع لأجله مبلغًا محترمًا من المال، فنوعه معروف للجميع. اقترب منه "حمص" غير مكترثٍ بالمرة بالأنياب الحادة الظاهرة بين فكيه ولا باللعاب المقزز الذي يتناثر من جوفه هامسًا له بلهجة ساخرة:
-تعلالي يا غالي.
ما منع الكلب من الهجوم عليه وربما افتراسه كونه موثوقًا بسلسلة حديدية قوية، تشجع "حمص" للتعامل معه كما اعتاد أن يفعل مع ذوي الأنياب، رفع ذراعه أمام وجهه وكأنه يحتمي به من تهديده الصريح بالعض، ثم دنا بخطواتٍ حذرة حتى أصبحت المسافة خطيرة للغاية، عند تلك اللحظة وثب الكلب قاصدًا قضم ذراعه، منحه صائده فرصته لينهش في لحم ذراعه المحمي نسبيًا بقطع القماش، وما إن تعلق به حتى لف ذراعه الآخر حوله ليحكم قبضته عليه، رفعه للأعلى بعد أن حل وثاق سلسلته ليصبح أسير قبضته، ومثلما جاء خلسة فر هاربًا بنفس الطريقة وأيضًا في سرعة وخفة مستعينًا برفيقه "شيكاغو" الذي ولج للحديقة ليمسك بالكلب معه، وضع القناع الواقعي على فمه ليمنعه من النباح، ثم قام بتقييده وقبل أن يلحظهما أحد. وضعه الاثنان على الدراجة البخارية ثم انطلقا بها في شــارع جانبي غير ذاك الذي جاءا منه، وكلاهما يمني نفسه بمبلغ لا بأس به.
..........................................................
بدت كمن ينازع بألم في نومه فانحشرت أنفاسها، وكأن الهواء قد بات ثقيلاً على صدرها فضاعف من إحساسها بالاختناق، أنين خافت خرج من جوفها ليوقظ النائمة إلى جوارها، تأملتها بنظراتٍ قلقة خائفة بعد أن أزاحت الغطاء عنها، فتلك الحالة دومًا تتكرر معها دون تفسيرٍ مفهوم، وبرفقٍ حذر وضعت يدها على كتفها لتهزها منه لتنتشلها من ذلك الكابوس المطبق على الروح، مالت عليها تهمس باسمها:
-"فيروزة"، اصحي! إنتي بتحلمي، مافيش حاجة.
انتفضت مذعورة من نومها وصدرها ينهج بقوة، لهثت محاولة التقاط أنفاسها لتعيد انتظامها بعد أن تمكن ذلك الحلم المزعج منها مجددًا، كانت تعيشه بكل جوارحها، حتى بات مؤلمًا لأقصى الحدود، التفتت إلى جانبها لتتأمل وجه أختها القلق، لم تجرؤ على التفوه بكلمة، حملقت فيها بعينين غائمتين وكأنها تحاول التأكد من عودتها لأرض الواقع. ضغطت "همسة" على شفتيها تسألها:
-نفس الحلم إياه؟
أومــأت شقيقتها بالإيجاب، مسحت توأمتها على وجنتها براحة يدها محاولة تطمئنتها وهي تقول:
-معلش يا حبيبتي، الحمدلله إنه عدى على خير.
استدارت "فيروزة" للجانب الآخر لتمد يدها نحو الكومود حيث كوب الماء المسنود عليه، تناولته وارتشفت ما فيه دفعة واحدة حتى تروي ظمأها، التفتت ناظرة إليها لتقول معتذرة بسعالٍ طفيف:
-أنا أسفة، قلقتك.
ربتت على ظهرها قبل أن تميل عليها لتحتضنها في محبة أخوية صافية لتضيف بعدها:
-متقوليش كده، ده إنتي روحي.
ابتسمت لها "فيروزة" في امتنانٍ وعادت لتستلقي بظهرها على الفراش محاولة نسيان تفاصيل ذلك الكابوس المؤرق لمضجعها. تساءلت بعينين تحدقان في السقفية:
-هي الساعة كام دلوقت؟
أجابتها "همسة" بتثاؤب وهي تتقلب على جانبها:
-لسه النهار مطلعش.
ردت متصنعة الابتسام:
-كويس، فرصة ننام شوية.
كانت تخدع نفسها بتصديق ذلك، فالنوم أبعد ما يكون عن جفنيها وقد ظلت تفاصيل حلمها المزعج حاضرة في ذهنها، أجبرت عقلها على عدم التفكير فيه حتى تستعيد من جديد حالة الاسترخاء التي كانت عليها، مالت برأسها على الوسادة ناحية أختها لتجدها قد غفت بالفعل، ظهرت بوادر ابتسامة متهكمة على جانب شفتيها قبل أن تلفظ تنهيدة طويلة مليئة بالهموم مستسلمة للأرق الذي أصابها كالعادة.
لا تعرف كيف غفت تحديدًا لكنها استيقظت على صوت أمها المرتفع الذي نبه كل حواسها، نظرت لها بنصف عين ووجهها متقلص بدرجةٍ كبيرة، شعرت ببرودة تضرب أطرافها حينما أزاحت عنها الغطاء فجأة ليتلاشى ذلك الدفء المغري، حاول التقاط طرف الغطاء قائلة بتذمر:
-ليه كده بس يا ماما؟ أنا ملحقتش أنام!!
ردت "آمنة" بلهجة الأم الجادة غير المتفاوضة:
-ده احنا داخلين على الضهر وورانا حاجات كتير لازم تتعمل قبل ما خالكم "خليل" يرجع من السفر.
عبست ملامح "فيروزة" وعلقت عليها باستياءٍ:
-هو لازم يعني كل مرة نعمل التشريفة دي؟
رمقتها بنظرة حادة وهي ترد عليها:
-عيب كده يا "فيروزة"! هو أنا ربيتك على كده؟
قالت بنبرة متنمرة:
-يعني يصح يا ماما يطلع عينك من صباحية ربنا عشان تطبخي لمراته وفي الآخر بدل ما تقولك شكرًا نسمع منها كلمتين بايخين مالهومش أي 30 لازمة؟!!
وبالرغم من كونها محقة في طريقة استغلال أخيها وزوجته لها بشكلٍ سافر إلا أنها ردت بحسمٍ:
-أنا بأعمل لوجه الله.
انزعجت "فيروزة" من ردها المحبط فاعترضت بنبرة شبه محتدة:
-بس مش كده!
حاولت والدتها أن تغلق باب المناقشة غير المجدية في ذلك الموضوع فصاحت بها:
-بصي أنا ماليش في الكلام بتاعك ده، قومي يالا امسحي السلم وروقي المدخل وانشري الغسيل، وأختك هتوضب الأوض وتكمل معايا بقية الأكل، مافيش وقت نضيعه.
ضربت الأرض بقدمها بعصبيةٍ كتعبيرٍ عن سخطها وهي تمتم بتهكمٍ:
-دي أخرتها، أشتغل مساحة سلالم!
حذرتها أمها بلهجةٍ أقرب للشدة وهي تشير بعينيها:
-عدي نهارك يا "فيروزة".
نفخت متسائلة في نفاذ صبرٍ:
-ماشي يا ماما، ممكن أغسل وشي الأول ولا هاطلع كده بلبس البيت وبعُماصي؟!
قالت لها بصوتٍ أقرب للين وقد ارتخت نظراتها قليلاً:
-روحي غيري هدومك وافطري وبعد كده اعملي اللي قولتلك عليه
همست ساخرة في امتعاضٍ:
-الحمدلله، ألحق أعمل حاجة لنفسي!
تابعتها والدتها بنظراتٍ مهتمة وهي تتجه إلى خارج الغرفة لتقول بعدها محدثة نفسها:
-ربنا يهديكي يا "فيروزة"، أخدة كل طباع أبوكي العصبية.
ردت عليها "همسة":
-الله يرحمه، بس أنا شبهك صح؟
عادت الابتسامة لتتشكل على وجهه المرهق قبل أن تعلق عليها بحنوٍ ملموسٍ في صوتها ونظراتها:
-إنتي نسخة مني يا حبيبتي.
عفويًا احتضنت "همسة" والدتها لتنعم بحضنها الدافئ، أسندت رأسها على كتفها وأغمضت عينيها تقول لها:
-ربنا يخليكي لينا يا ماما.
ربتت والدتها برفقٍ على ظهرها بعد أن ضمتها إليها، ثم أبعدتها عنها لتبدأ الاثنتان بحماسٍ يناقض "فيروزة" في إعادة ترتيب أغطية الفراش سويًا قبل أن يتشاركا أداء مهام المنزل التي تنتظرهما.
..............................................................
وقفت مستندة بمرفقيها على حافة سور المنزل المكون من طابقين، تأملت أمواج البحر الغاضبة بنظراتٍ ضجرة، ففصل الشتاء على الأبواب، موجة أشد قوة تحطمت على الصخور لتتناثر مياهها المالحة بطول الكورنيش، ارتجف بدنها وشعرت بقشعريرة باردة تسري في أوصالها، هي دومًا تخشى الاقتراب منه، ومع ذلك تجبر نفسها على التطلع إليه لتحذر نفسها من قسوته إن فكرت يومًا أن تطأه، ذكرياتها معه تحمل الألم والحزن، ورؤيته في تلك الحالة الهائجة يؤجج من إحساسها بالضيق الممتزج بالخوف، امتد البحر على مرمى بصرها؛ وكأن لا نهاية له، فمنزلها يعتبر معتزل نسبيًا عن باقي المنازل والبنايات بالمنطقة، أو كما تصفه منبوذ عن البقية، لكنه ما ورثته هي وشقيقتها ووالدتها عن أبيها الراحل، تمسكت أمها به ورفضت بيعه رغم المغريات المادية نظرًا لموقعه القريب من الشاطئ، ومساحته المتسعة التي تمنح من به خصوصية لا مثيل لها إن حاوطه بسورٍ مرتفع. لمسة حنون شعرت بها على جانب كتفها الأيسر فأخرجتها من تحديقها فيه، التفتت للجانب لتجد "همسة" تبتسم لها في رقة، وعلى الرغم من كون الاثنتان تتشاركان في كل شيءٍ تقريبًا إلا أن صفاتهما مختلفة؛ فـ "فيروزة" حادة الطباع، متقلبة المزاج أحيانًا، مثابرة، عنيدة، لا تقبل الهزيمة مُطلقًا. أما "همسة" فتمتاز بالرقة، بالطباع اللينة، بالقناعة، والرضا، بالإضافة لنقطة ضعفها أو ما يمكن تسميته مجازًا بعيبها الخطير؛ الخوف من المواجهة مع الآخرين. تساءلت الأخيرة في اهتمامٍ وهي تضم ياقتي بلوزتها معًا:
-مش بردانة يا "فيرو"؟
تطلعت "فيروزة" أمامها قائلة بعدم اكتراثٍ:
-لأ، مش أوي.
اقشعر بدن "همسة" من النسمات الباردة التي ضربت بوجنتيها، ثم قالت وهي تحاول تضم الشال الذي ترتديه حول كتفيها لتستعيد إحساسها بالدفء:
-الجو ساقعة، الشتا شكله السنادي هيبتدي بدري.
قالت "فيروزة" في فتورٍ:
-وإيه الجديد؟ ما احنا متعودين على كده.
ردت بصوتٍ شبه مرتعش تأثرًا بإحساسها بالبرودة:
-أنا بأحبه أوي.
نظرت لها من طرف عينها قبل أن تعلق:
-أنا لأ!
رددت باستغرابٍ:
-إنتي غير الكل، الناس بتحب الشتا والجو ده.
أغمضت عينيها للحظة لتتجنب الذكريات المؤلمة التي تحاول اقتحام عقلها فتنغص عليها نهارها، ثم زفرت بقوة لتتساءل بعدها:
-مقولتليش رأيك في موضوع عربية الأكل
أجابت بترددٍ محسوس في صوتها:
-هي فكرة مش بطالة، بس ماما هانقولها إيه؟
صمتت "فيروزة" للحظة قبل أن تعقب عليها:
-سبيها عليا، أنا هاعرف أقنعها.
حذرتها "همسة" بجدية واهتزازة بؤبؤاها واضحة لشقيقتها:
-أنا مش عاوزة أكدب عليها!
حاولت الأخيرة الابتسام لتمنحها شعور الثقة وهي تقول مؤكدة:
-أنا هاتصرف معاها، اطمني.
عادت "همسة" لتتساءل بتوترٍ لم تخفه:
-بس تفتكري خالك هيوافق؟
احتقن وجه أختها نسبيًا حينما رددت على مسامعها تلك الجملة التي تشير إلى التدخل السافر لخالهما الوحيد في شئون حياتهما، قالت باحتجاجٍ ناقم:
-وخالنا ماله أصلاً؟ دي حاجة تخصنا احنا.
عللت لها:
-ما إنتي عارفاه مش هايعدي الموضوع كده بالساهل.
رفعت "فيروزة" حاجبها تشير لها:
-ما احنا مش هانقوله.
شحب وجهها نسبيًا من جراءتها المتهورة وردت متسائلة:
-طب افرضي عرف؟ أكيد مش هايسكت وهايعملها حكاية ومشكلة كمان.
نفخت هاتفة في ضيق انعكس على قسماتها وكذلك نظراتها:
-أنا مش عارفة هو غاوي يتدخل ليه في حياتنا؟ ده حتى ما بيساعدش بمليم!
بالرغم من موافقتها إياها في الرأي إلا أنها دافعت عنه قليلاً فقالت:
-بس هو خالنا حتى لو مش عاجبنا تصرفاته!
اغتاظت "فيروزة" من اتخاذها لصفه فاسترسلت موضحة لها بحدةٍ طفيفة علها تفيق للواقع المحيط بهما وتدرك حقيقة الأمور:
-"همسة" إنتي شايفة مصاريفنا بقت عاملة إزاي؟ تفتكري مع الحياة الغالية اللي احنا عايشين فيها الكام ملطوش اللي بيديهم لأمك من نصيبها في الأرض هيكفوا؟ ده يدوبك بالعافية احنا مقضينها، طب افرضي حد فكر يتقدم ويخطب واحدة فينا، ساعتها ماما هاتجهزنا منين؟ ولا تكونيش مفكرة إنه هيطلع من جيبه ويدينا، ده "حمدية" ترفعله حواجبها وتقلبها عليه وعلينا.
رمشت أختها بعينيها في قلقٍ حائر، لذا سألتها:
-والعمل؟
أجابتها عن ثقة تامة غير مبالية بتبعات قرارها:
-همشي في المشروع بتاعنا، إنتي عليكي الطبيخ وأنا عليا التسويق والبيع، واحنا لا أول ولا آخر ناس عملوا كده.
شعرت "همسة" بالخوف يضرب عقلها، كانت تخشى من ردة فعل الجميع إن عرفوا بما تنتوي أختها فعله بحثًا عن لقمة العيش بعد أن تعذر على إحداهما العثور على وظسفة مناسبة براتبٍ معقول، لعقت شفتيها بطرف لسانها قبل أن تغمغم بأنفاس عبرت عن ارتعادها:
-ربنا يستر!
................................................
تنهيدة بطيئة مليئة بالهموم خرجت من صدرها وهي تمسح بأصابعها على زجاج الصورة الفوتغرافية التي تضم أغلى ما في حياتها المليئة بالوحدة والشقاء؛ ابنتيها. هي تذكر تلك اللقطة جيدًا، حينما احتفلت الاثنتان بتخرجهما؛ فـ"فيروزة" خريجة كلية التجارة، و"همسة" الاقتصاد المنزلي. تطايرت خصلات شعرهما الأسود بفعل الهواء وشكلت خلفية مثالية لألوان ثيابهما المبهجة، لامست وجهيهما الضاحكين بإبهامها رامقة الاثنتين بنظراتٍ حزينة ومتحسرة، فابنتاها اقتربتا من منتصف العشرينات ولم يتقدم أحدهم لخطبة أيًا منهما بالرغم من اللمحة الجمالية البسيطة التي تمتلكاها لتزداد قساوة الحياة معهما وتحرمهما من حق التمتع بالزواج والخطبة، ألا يكفي حرمانهما من الأب الحنون الذي يغدق عليهما بمحبته وأمانه؟ ألا يكفي اعتزالها للزواج من بعد وفاته غدرًا في رحلة الصيد المشؤومة لتعكف على تربية الصغيرتين بمفردها دون معيل حقيقي؟ دمعات متسللة ملأت طرفيها ألمًا على حالهما البائس. كفكفتهم "آمنة" سريعًا قبل أن تلمحها إحداهما مصادفة، حاولت إلهاء عقلها عن التفكير في شأنهما بأداء ما تبقى لها من أعمال المنزل، هتفت صائحة بصوت مضطرب حينما سمعت النقر على زجاج الشرَّاع:
-أيوه يا اللي بتخبط، جاية أهوو.
ضبطت عقدة منديل رأسها وهي تسرع الخطا نحو باب المنزل، فتحته راسمة على شفتيها ابتسامة بسيطة وهي ترحب بشقيقها الذي عــاد لتوه قائلة له:
-حمدلله على السلامة يا أخويا، نورت بيتك
قال لها بوجه جاد ونبرة رسمية:
-إزيك يا "آمنة"؟ أنا قولت أعدي عليكي أنولك الأمانة بتاعتك وشوية الحاجات دي قبل ما أطلع شقتي
تأملت ما أحضره لها من شنط بلاستيكية تحوي بعض الخضر والفاكهة، تناولته من يديه مرددة في امتنانٍ:
-تعيش ياخويا، دايمًا فاكرني.
دس "خليل" يده في جيب قميصه، ثم أخرج منه مغلفًا صغيرًا مطويًا، مد يده به نحوها قائلاً بنفس اللهجة الروتينية المملة:
-فلوسك أهي معاكي، كده مش ناقصك حاجة؟
أخذت المغلف منه وأطبقت عليه بأناملها تشكره:
-الحمد لله، دايمًا عامر يا رب
نفخ قائلاً في تعب بعد أن أنهى مهمته المعتادة:
-أنا هاطلع أريح من المشوار الطويل ده
أيدته الرأي:
-وماله يا "خليل"، حقك ترتاح، وأنا شوية وهابعتلك بالبنات بالأكل، ما أكيد "حمدية" تعبانة ومش هاتقدر تطبخ
قال لها بامتعاضٍ:
-العيال قرفوها طول الطريق وطلعوا عينها
حاولت التهوين عليه فقالت:
-الله يقويها عليهم، اطلعلها بدل ما تقلق عليك
هز رأسه بإيماءة صغيرة ليودعها بعدها ويصعد على الدرج متجهًا للطابق العلوي حيث يوجد مسكنه، تابعته "آمنة" بنظراتٍ مهتمة حتى اختفى عن عينيها فأغلقت الباب وانحنت تحمل ما أحضره لتضعه في مكانه بالمطبخ قبل أن يفسد.
........................................................................
بشموخٍ وهامة منتصبة وقف ذاك الرجل الذي قارب عمره على منتصف الخمسينات وسط عماله أمام دكانه الشهير الخاص ببيع الخضروات والفاكهة يدير الأعمال بخبرته العريضة في ذلك المجال، تركزت أنظار "بدير" مع الشاحنة الكبيرة المرابطة عند ناصية الزقاق الضيق والتي تعبئ بصناديق الفاكهة والخضار المنتقاة بعناية فائقة والمعدة خصيصًا لطهاة السفن السياحية حيث رحلاتهم التي تمتد للأشهر وتستلزم وجود كميات كبيرة من الطعام، كان يراقب أداء رجاله ويتفحص الصناديق واحدًا تلو الآخر ليضمن تقديم جودة عالية لزبائنه، استدار برأسه للجانب حينما سمع محامي العائلة يناديه، ترك ما في يده واتجه إليه، التقط المحامي أنفاسه قائلاً في حماسٍ وتفاؤل:
-البشارة جت يا حاج "بدير".
برقت عيناه بلمعانٍ غريب وقد فطن إلى ما يرمي إليه، خفق قلبه واعتلى وجهه المجعد ابتسامة مليئة بالأمل قبل أن يعده:
-لو طلع كلامك صحيح يا سي الأستاذ لأحلي بؤك على الآخر.
رد مؤكدًا وهو يضبط رابطة عنقه غير المهندمة بيده:
-وأنا مش بأجيب غير الأخبار الجد يا حاج.
عبث "بدير" بلحيته البيضاء قائلاً في حبورٍ وبهجة:
-يـــاه، أخيرًا "تميم" هيطلع من السجن، ده أنا كنت خايف أموت قبل ما أشوفه.
قال له محاميه:
-العمر الطويل ليك يا حاج، مافيش حاجة بعيدة عن ربنا
رد عليه بتنهيدة طويلة:
-الحمد لله
ثم ما لبث صوته تحول للحماس من جديد وهو يكمل:
-أما ألحق أبشر أبويا الحاج "سلطان" بالأخبار دي.
تساءل المحامي في اهتمامٍ:
-صحته عاملة إيه دلوقت؟
رد مستخدمًا يده في الإشارة:
-أهوو.. يوم كده، ويوم كده!
أومأ برأسه معقبًا:
-ربنا يباركلنا في عمره، سلميلي عليه يا حاج
قال مجاملاً:
-يوصل، عن إذنك يا أستاذ.
تحرك بعدها "بدير" في اتجاه عماله يأمرهم بمتابعة إكمال تعبئة باقي الشاحنة بالصناديق ريثما يصعد إلى منزله ليطمئن على والده ويبشره بما عرفه من أخبار رائعة.
...................................................
سعالٌ مؤذي لحنجرته أصابه لأكثر من دقيقة وهو يحاول استعادة انضباط أنفاسه بعد أن اختنق صدره بالدخان الكثيف لنارجيلته المتقدة، ربت "نوح" الجالس على ميمنته على ظهره بقوة حتى يهدئ، ثم سأله بصوتٍ ثقيل وهو يسحب نفسًا من خاصته:
-إنت كويس؟ مكانش كام نفس خدته ورا بعض!
تطلع إليه "هيثم" بعينيه الحمراوتين من تأثير الدخان عليه ليجيبه بحنقٍ:
-أنا تمام يا عمنا، دي حاجة بس وقفت في زوري.
ورغم عدم اقتناع الأخير برده إلا أنه ادعى تصديقه ليتجنب بوادر مشادة كلامية معه ربما تنتهي بعراكٍ حامٍ تتحطم فيه المقاعد الخشبية ويتكبد صاحب المقهى خسائر فادحة لكون الأول معروفًا برعونته وأفعاله الطائشة. تجرع "هيثم" ما تبقى في كوب الشاي الخاص به ليدس يده في جيب بنطاله باحثًا عن النقود، لم يجد ما يكفيه، فالتفت لصديقه الملازم له يطلب منه بسماجةٍ:
-بأقولك إيه، الحساب عندك المرادي.
اعترض بتذمرٍ:
-هو كل مرة كده؟
رد بنبرة متنمرة:
-معييش فلوس، بكرة أردلك اللي دفعته الطاق عشرة!
حك "نوح" طرف ذقنه معلقًا في تهكمٍ:
-أهوو كلام بنسمعه منك، ومافيش حاجة بتحصل.
استثارت حميته فاحتج بصوتٍ شبه غاضب:
-هو أنا من امتى بأكل فلوس على حد؟
أشاح بوجهه بعيدًا عنه بعد أن رمقه بنظرة مزدرية ليرد بنبرة مزجت بين التهكم والإدانة:
-بقى جوز خالتك يبقى الحاج "بدير سلطان" على سن ورمح وحالك يبقى كده!
قطب جبينه متسائلاً:
-قصدك إيه؟
نفس بطيء مليء بالدخان ارتفع عاليًا من جوفه ليقول موضحًا في مكرٍ:
-تشوفلك مصلحة معاه يطلعلك منها قرشين.
لم يكن حديثه الغامض مفهومًا، ولم تكن حالته المزاجية تسمح له بالمكوث وسؤاله باستفاضة أكبر ليعي غرضه، هب "هيثم" واقفًا ورمقه بنظرة جافة قائلاً له بسخافة منهيًا معه جلسته المضيعة للوقت:
-بأقولك إيه، أنا دماغي مش رايقة السعادي، نتكلم بعدين
لوح له بخرطوم نارجيلته وهو يرد:
-أه وماله .. وأهوو الحساب يجمع
كز "هيثم" على أسنانه في غيظٍ من طريقته التي تستفزه، بصعوبة واضحة على تعابيره حاول كبح جموحه الذي يهدد بالانفجار ليشتبك مع رفيقه، نظرة أخرى مليئة بالحقد تسلطت على "نوح" الذي بدا وكأنه يتجاهله ليستدير متجهًا إلى سيارة النصف نقل المملوكة إليه، استقر خلف عجلة القيادة وأدار المحرك، ثم قام بتشغيل إحدى تلك الأغنيات الشعبية الصاخبة التي ينوح فيها المطرب على ماضيه وحاضره وبدأ في الدندنة معها، تحرك مبتعدًا عن المقهى ليتسكع بلا هدفٍ في الشوارع كنوعٍ من تفريغ شحنته المكبوتة حتى تحط دمائه المحتقنة ويستعيد ثباته الانفعالي .......
تابع من هنا: جميع فصول رواية دموع هواره بقلم لولو الصياد
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا