مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثانى من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثانى
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثانى
أمسكت بالصينية الدائرية المغطاة جيدًا بعد أن قامت برص الأطباق المليئة بالطعام فيها بشكلٍ مرتب لتقدمها لخالها وزوجته وأبنائه، وبحذرٍ بالغ رفعت يدها للأعلى بعد أن ألصقت حافتها بصدرها لتتمكن من قرع الجرس، تراجعت "همسة" خطوة للخلف راسمة على وجهها البشوش ابتسامة لطيفة وهي تتمنى في نفسها ألا تتشاجر مع تلك المتغطرسة الفظة، رمشت بعينيها حينما فتحت لها "حمدية" الباب، حاولت عدم التحديق في قميصها المنزلي الأحمر ذي فتحة الصدر العريضة والتي تبرز مفاتنها المتهدلة بشكلٍ فجٍ ومقزز، غضت بصرها وبادرت مرحبة بتهذيبٍ وتواضع:
-حمدلله على السلامة يا مرات خالي، نورتوا بيتكم، المكان مكانش ليه حس من غيركم الأيام اللي فاتت...
استطاعت تلك المرأة ذات الملامح الخبيثة والنظرات غير المريحة أن تلاحظ إبعادها لعينيها عنها، ظنت أن في ذلك إساءة لها، لذا تغنجت بجسدها المليء بكتل الشحم ورفعت ذراعها لتستند به على حافة الباب، منحتها نظرة دونية تعبر عن تأففها منها وهي تكمل ببسمتها الرقيقة:
-ماما جهزت الأكل من بدري عشان آ....
عبثت "حمدية" بذيل شعرها الذي يلتف حوله أنشوطة عريضة من اللون الأحمر بشكلٍ صبياني لا يتماشى مع عمرها المتجاوز لمنتصف الأربعينات، ثم رفعت حاجبها الرفيع للأعلى في حركة تعبر عن سخطها، لم تمنحها الفرصة للثرثرة أكثر من ذلك فقاطعتها بسماجة:
-ابلعي لسانك شوية!
تحرجت من ردها غير المقبول واكتست تعبيراتها بالخجل، تحركت زوجة خالها نحوها لتمنعها من الولوج للداخل مشيرة لها بعينيها القاسيتين لتتراجع خطوتين للخلف كتعبير عن رفضها لوجودها، تسمرت قدما "همسة" في مكانها وبقيت متصلبة الجسد محاولة التغلب على الدمعات الخجلة التي تتسلل إلى مقلتيها، فتلك تعد إهانة كبيرة من قبلها وهي لم تفعل ما يسيء، بل على العكس كانت أكثر ذوقًا عنها. أزاحت "حمدية" الغطاء لتنظر إلى ما أحضرته، عبرت تعبيراتها الواجمة، وحركة شفتيها الممتعضة، بالإضافة إلى نظراتها المستاءة عن عدم رضائها، ثم زادت الطين بلة بسؤالها الوقح:
-ده بس اللي أمك طبخته؟
ارتبكت "همسة" وهي تجيبها:
-أيوه..
علقت عليها بأسلوب فظ يبعث على النفس الضيق وهي تلقي بالغطاء على الأرضية:
-يا ريتها ما عملت، إيه القرف ده؟ هو احنا بنشحت منكم؟ ده "خليل" طفحان الدم عشان يجيبلكم حاجتكم!
تغللها شعور متعاظم بالإحباط فور أن سمعت ما تفوهت به، خاصة أنها كانت شاهدة على المجهود المبذول من قبل والدتها لتعد ألذ أنواع الطعام وأكثرها شهية، لذا دافعت عنها بغريزية صادقة:
-يا مرات خالي ماما عملتلك كل اللي بتحبيه، وواقفة على رجلها من صباحية ربنا عشان متتأخرش عليكم، تبقى دي أخرتها؟
مطت شفتيها في ازدراء محتقر غير مبالية بدفاعها البائس، رمقتها بنظرة جافية ثم تناولت الصينية وقالت لها بتهكمٍ فج:
-ياما جاب الغراب لأمه!
شهقة خافتة مستنكرة انطلقت من بين شفتي "همسة"، احتقنت عيناها بدرجة كبيرة وامتلأتا بالعبرات، شعرت وكأنهما ينفثان نيرانًا حامية، كزت على أسنانها مانعة نفسها من التفوه بأي حماقة حتى لا تتسبب في إحداث مشكلة بين خالها ووالدتها، فالمقيتة زوجة خالتها ربما ستدعي الأكاذيب لتفسد ما بين الأم وابنتها وتوغر صدرها نحوها بأسلوبها الملتوي في قلب الحقائق، أفاقت من التفكير في عواقب ردها على انتفاضة جسدها المباغتة حينما سمعت صوت الصفقة العنيفة لباب المنزل لتشير إلى وقاحتها اللا متناهية وانعدام الذوق لديها، انحنت لتلتقط الغطاء الصغير ثم استقامت واقفة واستدارت للخلف لتمسك بالداربزين حتى تهبط للطابق الأول، تجمدت مصدومة حينما تفاجأت بوجود أختها التي حتمًا تابعت ما دار بينهما من حوار، رأت على تعابيرها حمم الغضب متأججة، اعتلت "فيروزة" درجات السلم لتقف في واجهتها تسألها بنبرة مغتاظة:
-عجبك اللي عملته معاكي وإهانتها لينا؟
وضعت "همسة" يدها على ذراعها واستخدمت قوتها لتجذبها للأسفل وهي ترجوها:
-عشان خاطري يا "فيرو"، خلينا نتكلم تحت.
لوحت الأخيرة بيدها صائحة بغضبٍ وعروقها تنتفض من شدة حنقها:
-فكرك أنا خايفة منها العقربة أم أربعة وأربعين دي؟ خليها تطلع وأنا أعرفها مقامها!
توسلتها أختها برجاءٍ أشد وهي تسعى لسحبها معها نحو الأسفل:
-بلاش مشاكل الله يكرمك، بتقلب في الآخر بغم عندنا.
استشاطت "فيروزة" غيظًا من أسلوبها الهروبي والسلبي الذي تتخذه مع واحدة بغيضة كتلك، كزت على أسنانها تلومها بحدةٍ:
-ما هي طول ما شيفاكي كده هتطيح فينا زي ما هي عايزة، ومحدش هيقدر يوقفها.
نكست رأسها خزيًا لكونها متخاذلة بالفعل في تلك النوعية من المواقف وعاجزة عن الإتيان بحقها، بينما أكملت "فيروزة" هجومها قائلة:
-لأ وبتقولولي بلاش إنتي تطلعي، طبعًا ما هو لو كانت بتقول الكلام ده ليا كنت سمعتها ما تكره وعرفتها مقامها
لم تستطع "همسة" منع دمعاتها من الانسياب، فبكت أمام أختها التي تضاعف شعورها بالسوء، مالت عليها تسألها بصوتها المحموم:
-إنتي خايفة منها ليه؟
أجابتها بصوتها الباكي مبررة موقفها:
-مش خايفة، بس أنا مش بأحب المشاكل، غصب عني، دي طبيعتي، وأنا مش هاتغير.
حذرتها أختها بلهجة شديدة وقد قست عيناها:
-جُبنك ده هيوقعك في مشاكل يا "همسة"، خليكي فاكرة ده كويس!
كفكفت عبراتها بظهر كفها لترد عليها بصوتها الحزين:
-أنا راضية بحالي كده، يالا بينا
اضطرت "فيروزة" أن تكتم غضبها المندلع بداخلها حتى لا تزيد من إحساسها بالضيق بحديثها الحاد، هبطت الدرجات بخطواتٍ شبه متعجلة لتقف عند أعتاب منزلهما، التفتت تقول لأختها:
-بلاش تعيطي قصاد ماما عشان متسألكيش وهتضطري ساعتها تجاوبي
هزت رأسها استجابة لنصيحتها الثمينة ومسحت ما علق في أهدابها بأناملها، سألتها في اهتمامٍ:
-كده كويس
ابتسمت لها "فيروزة" وهي تجيبها:
-أيوه..
سحبت "همسة" نفسًا عميقًا أخرجته ببطءٍ من صدرها، ثم نجحت في وضع تلك الابتسامة الزائفة على ثغرها قبل أن تقول كذبًا بنبرة عالية:
-طنط "حمدية" بتشكرك يا ماما على تعبك
تنهدت "آمنة" قائلة بارتياحٍ:
-الحمدلله إن الأكل عجبهم..
ثم أخذت نفسًا ولفظته لتضيف بتعبٍ ملموس عليها:
-هاخش أوضتي أنام شوية، لأحسن مش قادرة من عضمي، الأكل عندكم يا بنات.
قالت "همسة" في امتنانٍ:
-تسلمي يا ماما، ارتاحي إنتي
كتفت "فيروزة" ساعديها وهي تتأمل المشهد المحبط بكافة المقاييس، الكل يدعي رضائه بالوضع وهي وحدها من تقاوم استغلال الآخرين واستغفالهم، لم تتقبل تلك التمثيلية السخيفة وانسحبت لتنزوي في غرفتها وقد فقدت شهيتها لتناول أي شيء.
.........................................................
بكل حيوية ونشاط وخفقات قلب غير هادئة لفت تلك الشابة التي تجاوز عمرها منتصف العشرينات بقليل حجابها المزركش حول رأسها، أخفت خصلة متمردة تأبى الانصياع مع مثيلاتها. قامت "خلود" بقرص خديها بإصبعيها لتلهب بشرتها قليلاً فيظن من يتطلع إليها أن وجنتيها يكسوها حمرة طبيعية مغرية، لم تبالغ في وضع مساحيق التجميل أو حتى أحمر الشفاه، اكتفت بمسحة خفيفة من (زبدة الكاكاو) ذات اللون الكريمي لترطب شفتيها. لم تنتبه تلك الشابة ذات العينين العسليتين إلى والدتها "بثينة" التي استندت بكفها على باب الغرفة تتأملها في صمت وضيق، فمن هم في مثل عمرها حظين بزوجٍ وعدة أبناء، أما خاصتها فرفضت الارتباط بغيره رغم سنواته الضائعة في الحبس، بقيت وافية على عهدها معه.
تذكرت "بثينة" تلك اللحظة المميزة التي نضج فيها جسد ابنتها وأعلن عن بزوغ فجر أنوثته، حينها اقترن اسمها بزوج المستقبل وابن أختها "تميم"، توقفت عن إكمال تعليمها بحصولها على شهادة التعليم الثانوي بعد رسوبها لعامين متعاقبين، وهيأت نفسها للزواج منه بعد خطوبة استمرت لبضعة أشهر، لكن تلك المشاجرة الدامية في سوق الجملة أفسدت كل شيء وأطاحت بمخططاتها الوردية، حيث زج به في السجن وحكم عليه بالحبس لمدة عشر سنوات، وقضى منهم سبعًا. آنذاك رفضت "خلود" التخلي عنه لتقترب من العنوسة بإصرارها عليه. لم ينتقص حبها له ولو بمقدارٍ ضئيل، بل على العكس حاولت إسعاده بشتى الطرق حينما تذهب لزيارته مع العائلة بالرغم من تذمره وانزعاجه من قدومها لذلك المكان غير الملائم، واليوم فرحتها لا توصف لذهابها معهم لاستقباله بعد السماح بخروجه ضمن المجموعة المُفرج عنهم بعفوٍ مشروط قبل انتهاء مدتهم كاملة، التفتت لتجد أمها مسلطة لبصرها عليها، سألتها في لهفةٍ:
-ها كده شكلي حلو؟
أجابتها بتنهيدة شبه مطولة مبدية اعتراضها:
-أيوه يا "خلود"، بس مكانش ليه لازمة إنك تروحي معاهم، جايز أبوه يضايق ولا......
قاطعتها بعبوسٍ منزعج:
-أنا خطيبة ابنه يا ماما، وكلها كام يوم بعد ما "تميم" يشم نفسه وأبقى مراته، يعني لا أنا غريبة ولا مش من العيلة
أشارت لها والدتها بعينيها تؤكد عليها:
-عمومًا لو حد ضايقك ماتسكتيش، إنتي بنت "بثينة"، وألف مين يتمناكي، ولولا بس أنا شيفاكي متعلقة بيه كنت فركشت الجوازة دي من يوم ما اتحبس
ردت عليها باحتجاجٍ منفعل:
-يا ماما أنا بأحبه، روحي فيه، ماتخيلتش نفسي مع حد تاني غيره.
قالت من بين شفتيها في لمحةٍ تهكمية:
-يا ريت يكون زيك، والسجن مغيروش.
علقت عن ثقةٍ كبيرة:
-أنا عارفة "تميم" كويس، قلبه ميال ناحيتي وبيحبني!
وقبل أن تنغص عليها نهارها بالمزيد من الاعتراضات عادت "خلود" لتبتسم وهي تقول لوالدتها:
-أنا هالحق أروح لجوز خالتي عشان متأخرش عليهم، سلام يا قمر.
رمقتها "بثينة" بنظرة غير راضية من عينيها، لم تسعَ لإخفاء ضيقها عنها، فـ "تميم" بالنسبة لها قد أفسد على ابنتها الكثير من الفرص الرائعة بتمسكها غير المستساغ به.
....................................................
اشرأبت بعنقها وشبت على قدميها لتنظر بتركيز إلى السيارات القادمة من أول الطريق علها تلمح خاصتها، فعلى حسب الميعاد المتفق عليه فإن اليوم هو تاريخ تسلمها لعربة الطعام القابلة للجر، تلك التي ستكون نقطة البداية لانطلاق مشروعها لجني الأموال عن طريق بيع المأكولات البسيطة الجاهزة كالسندوتشات وسلطة الفواكه بأسعارٍ شبه رمزية. استطاعت بعد عناءٍ أن تتدبر النقود اللازمة لشرائها بعد اشتراكها مع شقيقتها في جمعية شهرية مع بعض رفقاء الكلية ممن ما زالوا على صلة بهما. استغلت "فيروزة" فرصة ذهاب والدتها لشراء الخضراوات من السوق القريب -كعادتها في ذلك اليوم من كل أسبوع- ليكون يوم استلامها، وما ساعد على زيادة شعورها بالاطمئنان والارتياح سفر خالها مع زوجته وأبنائه في مأمورية عمل تخص الأول، انتظرت على أحر من الجمر وصول سيارة النقل. تطلعت كل بضعة ثوانٍ لشاشة هاتفها في لزمة متوترة منها لربما يردها الاتصال من مسئول الشحن. كانت أختها تقف إلى جوارها تثرثر بلا توقفٍ، ومع هذا لم تنتبه لها، كان كامل اهتمامها منصبًا على الطريق. صاحت "همسة" عاليًا بعد أن ضجرت من تجاهلها غير المكترث بها:
-يا "فيروزة" إنتي مش سمعاني؟
التفتت نحوها وهي تنفخ في ضيقٍ، ثم ردت بإيجاز:
-أيوه سمعاكي، خير؟
سألتها في قلقٍ وهي تعيد إزاحة خصلات شعرها المتناثرة بفعل الهواء خلف أذنيها:
-دلوقتي ماما هتقول إيه لما تشوف العربية هنا؟ وخالك أكيد هيقلب الدنيا!
ردت بلهجة جافة:
-أنا هاقنعها متقلقيش، وخالك فكك منه، طالما ماما راضية يبقى خلاص.
اقشعر بدنها من البرودة المنتشرة في الأجواء، فشبكت ذراعيها وضمتهما إلى صدرها علها تدفء نفسها، ارتجفت نبرتها قليلاً حينما أضافت بنفس التوجس السائد عليها:
-مش مطمنة يا "فيرو"، حاسة إننا هنفتح على نفسنا فاتوحة إحنا مش أدها.
رمقتها "فيروزة" بنظرة جامدة من طرف عينها دون أن ترد، لم يؤثر بها خوفها ولا نصائحها المبالغ فيها بالتراجع عن ذلك المشروع الذي فكرت فيه عشرات المرات واضعة الخطط اللازمة لدراسته قبل تنفيذه على أرض الواقع، لن تتراجع عنه الآن بعد أن أوشكت على تحقيقه. لمحت إحدى سيارات النقل الصغيرة وهي تنعطف نحو منزلهما فهتفت بحماسٍ لاكزة شقيقتها في جانبها:
-شكل العربية جت.
التفتت "همسة" تنظر في اتجاه السيارة وعيناها متسعتان على الأخير، فعربة الطعام التي تحملها كانت نوعًا ما كبيرة الحجم ولافتة للأنظار بالرغم من لون الطلاء الأسود الطاغي عليها، لوحت "فيروزة" بيدها لسائق السيارة ليتوقف أمام الرصيف المقابل لمدخل المنزل، وترجل منها رجلان ليحلا وثاق العربة المربوطة بالأحبال الغليظة، أنزلاها بحذرٍ على الرصيف، شكرتهما "فيروزة" على تعبهما ومنحتهما المبلغ المتفق عليه لنقلها وتحميلها، انتظرت حتى انصرفا لتدور حول العربة تتفحصها بتلهفٍ واهتمامٍ مضاعفين، رفعت عينيها لتنظر إلى "همسة" متسائلة:
-ها إيه رأيك فيها؟
أجابتها بإعجابٍ بادٍ على تعبيراتها وعينيها:
-شكلها تحفة.
تلمست "فيروزة" كل جزءٍ في العربة وقلبها يخفق في سعادة، ها هي تخطو بثباتٍ نحو تحقيق حلمها بإثبات الذات، شردت لوهلةٍ تتخيل إقبال الناس عليها لشراء الطعام الشهي ومدحهم لمذاقه ونجاحهم في جني الأرباح الكثيرة لتنتقل بعدها لخطوة أخرى هامة وهي امتلاك محل خاص بها كنوعٍ من التوسع في الأعمال، وجدت نفسها تبتسم تلقائيًا مع تعمق أحلامها المثمرة، انتشلتها "همسة" من تحليقها الوردي في سماء الأحلام بسؤالها:
-هنحطها فين؟
حكت طرف ذقنها بيدها قبل أن تجيبها مقترحة:
-إيه رأيك لو سيبناها مؤقتًا ورا البيت.
-ماشي.
بدت فكرة جيدة لوضعها به حتى ترتب كلتاهما أوضاعهما، لذا قامت الاثنتان بدفع العربة ذات العجلات الأربع للأمام وقاما بإدخالها لباحة المنزل الخلفية، حيث تحتفظ العائلة بمعظم الكراكيب القديمة والأدوات غير المستخدمة. نفضت "فيروزة" يديها والتفتت قائلة لأختها بلهجة شبه آمرة:
-مش عاوزين نضيع وقت، هاتي حتة قديمة نلمعها بيها، وأنا هاروح أجهز الحلل والأطباق اللي هنحطها جواها
هزت "همسة" رأسها بالإيجاب وأسرعت ركضًا للمنزل لتنفذ ما أمرتها به، وقفت الأولى تتأمل حلمها الذي بات وشيكًا من التحقيق بحماسٍ واستعدادٍ كبير، هي ستبدأ بإمكانات ضئيلة، لكنها واثقة أن أعمالها ستتسع بمرور الوقت، وأثناء سعيها الدوؤب ستخوض معاركًا جمة مع الأقربين أولاً قبل الغرباء لتثبت كفاءتها في إدارة مشروعها الصغير.
...........................................................................
-يا لهوي! إيه اللي أنا شيفاه ده؟!
رددت "آمنة" تلك الكلمات المصدومة وهي تلطم على صدرها في قوةٍ حينما أطلعتها "فيروزة" على ما تنتوي فعله وأبصرت بعينيها تلك العربة لتؤكد لها على عدم عدم تراجعها عن إتمامه، انتابتها حالة من الخوف والانزعاج لجرأتها، وبالرغم من المبررات المنطقية التي حاولت إقناعها بها ومن التسهيلات التي ستقوم بها لتضمن تحقيق النجاح إلا أنها أبت الإصغاء إليها وأصرت على رفضها دون نقاش، انسحبت من باحة المنزل الخلفية مستديرة بجسدها، لحقت بها ابنتها لتعترض طريقها فأجبرتها على التوقف، التقطت أنفاسها وهي ترجوها:
-طب هي مش عجباكي ليه؟
ردت مستنكرة بلهجةٍ يشوبها الانفعال:
-هو في حد عاقل يوافق على الجنان اللي بتقوليه ده؟ بقى على آخر الزمن عاوزة تقفي تبيعي في الشارع يا "فيروزة"، لأ وبتجري أختك معاكي، أل هي ناقصة فضايح وقلة قيمة!
زوت ما بين حاجبيها مرددة في تساؤلٍ متعجبٍ:
-وإيه المانع يا ماما؟
احتدت نظراتها نحوها تلومها:
-المانع؟؟ إنتي مش شايفة نفسك غلطانة؟
ردت ببرودٍ مدافعة عما تريد:
-غلطانة في إيه طيب؟ أنا عاملة مشروع زي أي حد ما بيعمل، فكرته بسيطة، هانطبخ ونبيع الأكل للناس ونكسب منه، وبعدين هنقف هنا على الكورنيش جمب البيت بكام متر، يعني حضرتك يا ماما تقدري تشوفينا من الشباك أو حتى تقفي معانا.
هزت رأسها محتجة وهي تعقب عليها:
-برضوه مش موافقة، وخالك لما هيعرف هيبهدلنا، وأنا مش ناقصاه!!
هنا خرجت "فيروزة" عن حالة الهدوء الزائفة لتقول بتشنجٍ:
-إنتو ليه محسسني إني بأتاجر في المخدرات؟ زمايلي كلهم بيعملوا مشاريع زي كده، ونجحوا وأثبتوا نفسهم ومحدش قالهم لأ، اشمعنى أنا؟
أجابتها ببساطة:
-لأنك بنت.
تشنج جسدها أكثر من ردها الذي بدا من وجهة نظرها مستفزًا، وقبل أن تختنق شرايينها بدمائها الفائرة لطفت والدتها من الأمر علها تتخلى عن فكرتها المتهورة فاستعطفتها:
-يا ماما، عشان خاطري، افهميني، أنا زهقت من أعدة البيت وعاوزة أعمل حاجة مفيدة، وأنا درست الموضوع كويس، وبعدين هنقدر نحوش فلوس عشان لما نتجوز.
ردت عليها أمها تحذرها في عصبيةٍ:
-أنا مقصرتش معاكو في حاجة! بلاش تجروا رجلينا للمشاكل.
قالت بإصرارٍ:
-مافيش مشاكل إن شاء الله
-برضوه راكبة دماغك؟
لجأت لإقناعها أكثر بهدوءٍ ومنطقية موضحة لها:
-احنا عارفين ده كويس، بس الحياة غالية، والمصاريف كل مدى بتزيد، ومعاش بابا الله يرحمه مش مكفي مع الريع اللي بيطلعلك من أرضك، افرضي حصل حاجة وحشة لا قدر الله، هانجيب فلوس منين؟ وخالنا يدوب مكفي بيته وعياله، ولا نسيتي يا ماما اللي حصل أيام موضوع البيت؟!
ضغطت "آمنة" على شفتيها في ضيقٍ ممتعض، فما تتفوه به حقيقة مفروغ منها وإن أنكرتها، هي لا تملك من الأموال ما قد يغطي أي ضائقة مالية طارئة قد تحدث، وأخيها ليس بالخيار الأفضل لتقديم المساعدة، سرحت تفكر في لجوئها له قبل بضعة سنوات، تذكرت مساومته لها في شراء حصة بالمنزل الذي تركه لها زوجها بعد أن تعذر عليها سداد الأقساط الأخيرة لوفاته المفاجئة مقابل تسديده لهم، وبالرغم من التعويض المادي الذي تلقته إلا أنه لم يكن كافيًا لدفع باقي المستحقات. أدركت "فيروزة" من سكوت والدتها أنها ربما تعيد التفكير في الأمر، ظنت أن الفرصة مناسبة للضغط عليها وتليين رأسها المتيبس حتى تحظى بموافقتها، تلمس ذراعها بيدها تتوسلها:
-صدقيني يا ماما، مافيش منها أي ضرر، ولو حصل منها مشكلة أنا بنفسي هالغيها.
زمت أمها شفتيها متسائلة في قلقٍ بائن على تعبيرات وجهها المرهقة:
-طب وخالك؟
تشكلت ابتسامة لطيفة على محياها وهي تقول بنبرة ذات مغزى:
-البركة فيكي إنتي يا حبيبتي.
رددت الأخيرة في استسلامٍ وقد رضخت تقريبًا للأمر الواقع أمام عناد ابنتها:
-أنا مش عارفة إنتي ناوية تعملي فيا إيه؟!
احتضنتها "فيروزة" في عاطفةٍ ومحبة بعد أن فطنت لموافقتها الضمنية، شدت من ضمها لها لتغرق في أحضانها الآمنة قائلة لها:
-كل خير يا ماما.
أغمضت عينيها لتستمتع بانتصارها الذي ظفرت به بعد صعوبة، تبقى لها أن تثبت لوالدتها أنها كانت جديرة بثقتها.
........................................................
تجمدت الأعين المشتاقة على البوابة الحديدية السميكة، خاصة عيناها اللاتين تتوهجان في حبٍ، سيطرت بصعوبة على مشاعرها المتحمسة لرؤيته، فلو كانت بمفردها لأخذته في أحضانها وارتوت من حبه الذي حرمت منه، كم حلمت بتلك اللحظة التي سينال فيها حريته لتكتمل بوجوده سعادتها! همهمات خافتة متداخلة صدرت من أفواههم وقد فتح الباب الصغير الجانبي ليخرج منه الغائب المنتظر، فرحة عامرة سيطرت عليهم وتحركوا مقبلين عليه. رفع "تميم" عينيه للأعلى ليجد والده، وجده، وزوج أخته، بالإضافة إلى "خلود" ينتظرونه بالخارج أمام سيارتين تخص العائلة، على الفور تحرك أباه نحوه فاتحًا ذراعيه له، ارتمى ابنه في أحضانه يضمه بشوقٍ وحب، ردد "بدير" مرحبًا بفلذة كبده الغالي:
-حمدلله على السلامة يا ابني.
رد عليه "تميم" بصوته الأجش وهو يتراجع للخلف دون أن تترك قبضتاه ذراعيه:
-الله يسلمك يا حاج.
حرره ليذهب إلى جده الذي اتكأ على عكازه ليكون حاضرًا في تلك اللحظة الهامة حينما يلتقيه، انحنى عليه يقبل كفه المجعد يشكره في امتنانٍ واضح:
-جاي بنفسك يا جدي؟
ربت "سلطان" على كتفه قائلاً له:
-معندناش أغلى منك يا "تميم".
استقام في وقفته مقبلاً أعلى رأسه في تهذيبٍ، ثم أضاف ببسمة صغيرة:
-الله يديمك فوق راسنا يا كبير العيلة.
ربتة أخرى تلقاها كتفه منه، ثم استدار ليصافح "محرز" الذي صاح يحييه:
-كفارة يا ابن ولاد الأصول، غيبتك طولت عليا والله.
رد مجاملاً:
-تُشكر يا "محرز"، كله بيعدي، وأديني رجعتلكم.
علق مبتسمًا بتكلفٍ:
-تنور مكانك يا "تميم"، والله لا يعودها الأيام الغابرة دي تاني، أكيد إنت عقلت وعرفت إن مافيش حاجة تستاهل.
بدا وجهه جادًا للغاية بعد كلماته الحمقاء، رمقه "تميم" بنظرة نارية وهو يرد عن قصدٍ وبخشونةٍ بائنة:
-لأ تستاهل يا "محرز" وخصوصًا مع الأشكال الضالة وولاد الحرام، أنا فدا الحاج وجدي وأي حد يمس شعرة من عيلتي!
شعر زوج أخته بجفافٍ عنيف يصيب حلقه، اهتزت ابتسامته واضطربت حركة عيناه وهو يرد في حرجٍ كمحاولة بائسة في إصلاح ما أفسده لسانه:
-أكيد طبعًا، كله إلا عيلة الحاج "سلطان".
تحولت عينا "تميم" عنه لتتجه إلى تلك الجميلة التي احتضنت باقة ورد صغيرة بين ذراعيها، رأى في ملامحها بهجة وإشراقة يحسده عليها الرجال، مدت "خلود" يدها بها نحوه وهي تقول باشتياقٍ محسوس في صوتها وظاهر في تعبيراتها ولهفة نظراتها:
-حمدلله على سلامتك، أنا مش مصدقة إن الأيام عدت، الحمدلله إنك رجعتلنا وبقيت في وسطنا.
لم يبادلها نفس النظرات المتلهفة، بل نظر إلى باقة الورد بازدراءٍ، ولم تتحرك يده لأخذه مما أحرجها بشدة، سحبت "خلود" يدها للخلف وقد تسلل إليها إحساسًا مزعجًا بالارتباك الممزوج بالضيق من أسلوب معاملته غير الحميمي معها، شعرت بالإحباط والصدمة حينما سألها بجفاءٍ وجمود:
-جيتي ليه؟
وخزة مؤلمة عصفت بصدرها من قسوة كلماته المثبطة لأي فرحة تبزغ في قلبها، كادت أن تبكي وبدأت العبرات في التجمع في مقلتيها تأثرًا بما انتابها من حزنٍ مباغت، خرج صوتها إلى حد ما مهتزًا وهي تجيبه:
-ده أنا مستنية اليوم ده من زمان.
رد بنفس النبرة الجافية:
-كنتي أعدتي في بيتك أحسن، مش كتر مشاوير والسلام.
باتت قاب قوسين أو أدنى من البكاء علنًا لقسوته غير المفهومة معها، زاد انقباض قلبها كما لو كان قد غرز به سكينًا تلمًا، اغرورقت عيناها بالعبرات الكثيفة، واشتعل وجهها بحمرةٍ حرجة. استياءٌ محبط تغلغل في كيانها مع إشاحته لوجهه بعيدًا عنها وكأنها نكرة مشاعرها لا تعنيه في شيء، تابعته بعينين منكسرتين وهو يلتهي بالحديث مع عائلته لتشعر بكونها ضيفًا غير مرحب به بينهم، تهدل ذراعاها وارتخت أصابعها عن باقة الورد لتسقط على الرصيف، تركتها وسارت بخطواتٍ بطيئة نسبيًا تتبع زوج خالتها حتى وصلت للسيارة، لم تتفوه بكلمة واحدة مبتلعة مرارة الحزن في حلقها، حتى عينيها بقيتا بعيدتين عن وجهه الذي كانت تحترق شوقًا لتأمله، جلست بالمقعد الخلفي مركزة أنظارها على الطريق والشكوك تساورها بشأن استمرار حبه لها ............................... !!
تابع من هنا: جميع فصول رواية دموع هواره بقلم لولو الصياد
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا