مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الرابع من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الرابع
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الرابع
مسحة رقيقة بأناملها على تلك الصورة الصغيرة الوحيدة التي تمتلكها له قبل أن ترفعها إلى شفتيها لتطبع قبلة مطولة عليها، كانت تشتاق إليه حد الجنون بالرغم من وجوده معها، جفائه وخشونته غير المنقوصين معها كان أكثر ما يرعبها منه، تنهيدة أخرى خافتة انبعثت من بين شفتيها ونظراتها الساهمة حملقت في وجهه الجاد.. تذكرت "خلود" حينما ألحت على "تميم" ليعطيها صورته، كان ذلك قبيل إعلان خطبتهما، وافق بصعوبة على طلبها، وأهداها واحدة له وهو في عمر صغير، فرحت آنذاك بهديته الغالية واعتبرتها أثمن من أغلى مجوهرات العالم، خبأتها سريعًا في محفظة يدها قبل أن يراها أحدهم ويستغل الفرصة في إحراجها بالسخرية من حبها المتيم به. لمسة حذرة على جانب ذراعها كانت كفيلة بجعل جسدها ينتفض، التفتت كالملسوعة لجانبها لتجد خالتها تحدق بها بنظراتٍ ذكية، مالت عليها لتهمس لها بنبرة ذات مغزى:
-ربنا يكملكم على خير يا حبيبتي، إنتي صبرتي كتير، وعن قريب هانسمع الأخبار الحلوة.
قفز قلبها بين ضلوعها فرحًا، أشرقت ملامحها وهي تسألها بتلهفٍ مفضوحٍ:
-بجد يا خالتي؟
ردت عليها "ونيسة" مؤكدة بثباتٍ:
-أيوه، أنا هفاتح جوز خالتك عشان نتمم الجوازة، كفاية كده عليكم.
عفويًا احتضنتها "خلود" وهي تكاد تبكي من فرط سعادتها، شكرتها بأنفاسٍ مبهورة:
-ربنا ما يحرمني منك يا خالتي، دايمًا واقفة في صفي.
ربتت الأخيرة على ظهرها لتأمرها بلطافةٍ:
-طب يالا يا عين خالتك عشان نجهز القهوة والشاي لجدك وباقي العيلة.
هزت رأسها في إذعانٍ راضٍ واستدارت متجهة نحو أحد أدراج المطبخ العلوية لتفتحها وتخرج الفناجين وترصها بشكلٍ منمق في الصينية ريثما تكمل خالتها إعداد القهوة وغلي الماء.
.............................................................
نظرة حائرة متشككة ارتكزت على منديل الرأس والمشبك المعلق به، للحظة شــرد عن مكالمة رفيقه وتركزت كامل حواسه مع ما في يده، ارتفعت عيناه لتحدقان في الطريق من جديد، لا شيء يدعو للاسترابة، أنفار متباعدون يسيرون على عجل في العتمة المسيطرة على المكان بسبب خفوت الإضاءة وقلة أعمدة الإنارة، نظر أمامه ليجد البعض ما بين جالس على الكورنيش وواقف على مطلع الرصيف ينتظر سيارة أجرة شاغرة ليستقلها.. الحياة تسير بشكلٍ طبيعي ومتلائم مع طبيعة الأجواء الباردة. أطبق "تميم" كفه عليهما وهو يفكر في إلقائهما في أقرب سلة للقمامة للتخلص منهما، وبالفعل دنا من واحدة بلاستيكية معلقة على عمود الإنارة المظلم، رفع يده للأعلى ليصل إلى فتحتها العلوية، لكن أعاقه صوت "ناجي" المتسائل باستغراب:
-إنت روحت فين يا باشا؟
أجابه باقتضابٍ بعد نحنحة خفيفة وقد تهدل ذراعه:
-معاك...
عفويًا دسهما في جيب بنطاله الخلفي ريثما يفكر بهدوء فيما سيفعله بهما بعد أن أُثيرت حفيظته، همَّ باجتياز الطريق وعيناه تبصران عربة الطعام المضيئة بالأنوار البراقة، توقف على مقربة منها يفحصها بعيني المحقق المشكك والباحث عن أجوبة تفصيلية لأسئلته الدائرة في عقله، اقتضب جبينه وانزوى ما بين حاجبيه بقوةٍ وقد لمح فتاة تُخدم على الزبائن المرابطين أمام العربة وابتسامتها المجاملة ظاهرة على محياها، أردف "تميم" متسائلاً باهتمامٍ فضولي ينم على كونه لن يدع الأمر هكذا يمر ببساطة:
-هو مين في الحتة بتاعتنا شغال على عربية؟
سأله "ناجي" مستفهمًا، فقد بدا حديثه غامضًا مبهمًا:
-عربية إيه؟
أجابه دون أن يرمش:
-عربية أكل..
عاد ليسأله حتى تتضح الصورة له:
-تقصد عربية فول؟
رد نافيًا:
-لأ، سندوتشات وحاجات تانية.
-طب مكانها فين؟
أجاب بجديةٍ:
-على الكورنيش قرب البحر.
تنحنح "ناجي" بخفوت قبل أن يعقب عليه:
-مش عارف بصراحة، بقالي كام يوم مامشتش من الناحية دي.. بس بيتهيألي مافيش حاجة هناك.
رد مؤكدًا بما لا يدع مجالاً للشك:
-بأقولك أنا واقف قصادها وفيها باين بنت شغالة عليها.
ردد "ناجي" متعجبًا:
-بنت؟ غريبة أوي!
حك الأخير جبهته مضيفًا بنبرة تميل للانضباط:
-نكمل كلامنا في الحكاية دي لما أشوفك الأول، قولي إنت فين بالظبط؟
حاول رفيقه أن يوصف له الطريق المختصر المؤدي للمقهى حديث الطراز الذي يجلس به بعد أن تغيرت معالم المنطقة كثيرًا واختلفت عما اعتاد عليها قبل أن يُسجن. ظل باله مشغولاً بما رأه على طريق الكورنيش وتغاضى مؤقتًا عنه حتى يستعلم عن الأمر برمته.. لكن الأكيد أن السكوت عليه أمرٌ مستبعدٌ.
ســار "تميم" بضعة خطوات نحو وجهته، لكن لشيء داخلي لا يعلم سببه قرر فجأة الالتفاف والعودة إلى العربة، تخلى عن حذره واقترب من النافذة التي تطل منها تلك الشابة الجميلة، رمقها بنظرة مطولة محاولاً تفحصها بها.. توقف عن التحديق بها حينما باغتته متسائلة بشكلٍ روتينيٍ بحت:
-إيه طلبات حضرتك؟
بدا وكأنه قد أتى من كوكب أخرى وهو يرمقها بتلك النظرات الغريبة، تقلصت تعابير وجهه واشتد اقتضاب جبينه، حرك رأسه للجانبين في حيرة باحثًا عن قائمة الطعام أو المشروبات، فهو لا يعرف ماهية ما يقدم بالعربة، سكونٌ حائر ساد في الأجواء قاطعته "همسة" بلطافةٍ لبقة وكأنها أدركت سبب تردده:
-في عندنا سندوتشات برجر حلوة، وكمان آ....
رفع يده ليسكتها بقوله الفظ:
-مش عاوز.. شكرًا
تراجعت "همسة" برأسها للخلف في اندهاشٍ مصدوم من رده المستفز، اربد وجهها من الضيق والغضب. لم تكن تجيد التصرف في تلك المواقف المحرجة، خُيل إليها أنه لو كانت "فيروزة" حاضرة لما كانت مررت الأمر على خير وللقنت أمثاله من الوقحين درسًا يليق به، تجاوزت مضطرة عن وقاحته لتلتفت إلى عملها الذي يحتاج كامل تركيزها الآن.
...........................................................
بسرعةٍ وهمة أنجزت ما هو مطلوب منها في أقل وقت ممكن؛ حيث أحضرت زجاجتي زيت حتى لا تضطر للعودة إن نفذت الأولى، كما عبثت بدولاب والدتها لتأتي لها بالشال الصوفي الثقيل لتضعه على جسدها فلا تشكو من برودة الطقس، وقبل أن تغلق "فيروزة" باب المنزل خلفها، ألقت نظرة خاطفة على هيئتها، دهشة عجيبة اكتست ملامحها وقد أدركت فقدانها لمنديل رأسها، عفويًا تحسست بيدها الأخرى التي لا تحمل شيئًا خصلاتها النافرة، انزعجت قائلة لنفسها:
-أكيد طار وأنا مخدتش بالي.
رتبت بيدها ما تبعثر من شعرها عله يثبت في مكانه، كانت "فيروزة" مدركة لضيق الوقت، وبالتالي تجاوزت عن ضيقها لتخرج من المنزل لتلحق بالزبائن المنتظرين عند العربة. اتجهت للسلم وأمسكت بالدرابزين لتهبط درجاته.. توقفت قدماها عند منتصفه وقد أبصرت خالها وزوجته المستفزة يلجان من المدخل، انتابتها ربكة مفاجأة، تطلع لها الأول في استغرابٍ مندهش، ثم سألها بشكلٍ آلي كأنه يحقق معها:
-رايحة فين السعادي يا "فيروزة"؟
توترت ملامحها بشكلٍ ملحوظ وخرج صوتها مترددًا وهي تجيبه:
-كنت.. آ.. بأجيب حاجة لـ.. ماما و...
تأملتها "حمدية" بنظرات جابت عليها من رأسها لأخمص قدميها، ثم تدخلت في الحوار متسائلة في استنكار وعلامات النفور ظاهرة على خلجاتها:
-في نص الليل؟
ثم انخفضت نظراتها نحو زجاجتي الزيت اللاتين تحملهما لتسألها والريبة تعتريها:
-والزيت ده بيعمل معاكي إيه؟
انتبه "خليل" لحديث زوجته ونظر إلى حيث قالت، وسألها مستفهمًا:
-صحيح، بتعملي إيه بدول؟
رفعت "فيروزة" يدها قليلاً لتحدق في حيرة بالغة فيما معها، أحست بجفافٍ كبير يجتاح حلقها، ازدردت ريقها ولعقت شفتيها قبل أن تجيبه بارتباكٍ يدعو للشك:
-أصل الحكاية... يعني آ... كنت هوديهم..
لوحت "حمدية" بيدها مضيفة بنبرة ذات مغزى:
-شكلها بتدور على كدبة تبلفنا بيها!
عبارتها الأخيرة أشعلت حنق زوجها فتساءل بلهجته الصارمة:
-انطقي يا "فيروزة"، إنتي بتعملي إيه من ورايا؟
ترددت في البوح بحقيقة ما تفعله، خشيت إفساده للأمر قبل أن تتمتع بنجاحه، لذا أجابته بشجاعة تفتقد لها:
-ولا حاجة يا خالي.
رمقتها "حمدية" بنظرة مزدرية قبل أن تتهمها بالباطل:
-تلاقيها مصدقت إنك مش موجود فخارجة تدور على حل شعرها..
هنا تجهمت تعابير ابنة أخته وكشرت عن أنيابها لتهاجهما بشراسةٍ حتى تدافع عن نفسها:
-أنا محترمة غصب عن عين الكل، وينقطع لسان أي حد يقول غير كده
احتقنت نظرات زوجة خالها فصاحت تعنفها:
-قصدك إني بأتبلى عليكي؟
ردت غير مبالية:
-والله إنتي أدرى!
التفتت "حمدية" نحو زوجها تهتف فيه بغضبٍ استعر بداخلها:
-شايف بنت أختك المؤدبة بتقولي إيه؟ بدل ما تشوف الصايعة دي خارجة فين في أنصاص الليالي جاية تعلمني الأدب؟!!!!
حفزت حميته الرجولية بكلماتها المستفزة والمثيرة للأعصاب، اندفع "خليل نحوها ليقبض على ذراعها، أمسك بها بقسوة آلمتها بضغطه الشديد عليها، ثم هزها بعنف وهو يسألها بزمجرة بائنة في صوته:
-انطقي يا بنت الـ ......! رايحة فين السعادي؟
احتقنت عيناها تأثرًا بإهانته غير المقبولة ولعناته المسيئة، ومع ذلك ضبطت انفعالاتها قبل أن تهتاج لترد بقوةٍ:
-رايحة أشوف شغلي وأكل عيشي
انزوى ما بين حاجبيه مرددًا في اندهاشٍ أكبر:
-شغلك؟
ردت باستبسالٍ يعبر عن شخصيتها غير الضعيفة:
-أيوه، أنا فتحت عربية أكل وبأشتغل دلوقتي يا خالي، ورايحة أشوف الزباين اللي مستنين طلباتهم.
لطمة على الصدر مصحوبة باستنكارٍ قالتها "حمدية":
-يادي النصيبة اللي كانت على البال ولا على الخاطر!
هزها "خليل" بعصبيةٍ لاستفزازها له صارخًا بها:
-إنتي اتجننتي؟ من ورايا؟ ومن غير ما تقوليلي؟
ردت مدافعة باستماتةٍ عن حلمها:
-أنا معملتش حاجة غلط ولا حرام، وماما عارفة بده وموافقة كمان.
زمت "حمدية" شفتيها لتعلق بتهكمٍ محتقر ونظراتها الساخطة مثبتة عليها:
-بلا خيبة! هي أمك دي بتفهم!
استشاطت "فيروزة" غضبًا من إساءتها غير المقبولة عن والدتها، رفعت رأسها نحوها لتقول بنبرة مشحونة بالحقد:
-ماتغلطيش فيها، أمي على راس الكل بما فيهم إنتي!
شهقة مغلولة انفلتت من بين شفتيها، كزت على أسنانها في ضيق متعاظمٍ من جراءتها معها، ثم وضعت يدها أعلى خاصرتها لتقول بحدةٍ:
-شايف البت بتغلط فيا إزاي؟ هاتسكتلها؟ أنا مش هستنى أما أسمع شتمتي بودني، أنا طالعة، واصطفل إنت معاها، بت ناقصة رباية!
وقبل أن تبادر "فيروزة" بالرد أخرسها تحذير "خليل" الصارم وعينان تطقان شررًا:
-اسكتي خالص، ولا حرف واحد زيادة!!
كظمت غضبها في نفسها مضطرة، ثم عادت لتحدق في وجه خالها وهو يتابع بوعيدٍ:
-هنتحاسب على ده بعدين، بس الأول وريني أمك فين.
تنفست بعمقٍ لتضيف بعدها بعنادٍ استفزه:
-ماشي، بس أنا مش هابطل شغلي!
لكزها بخشونةٍ في كتفها وهو يوبخها:
-أما إنتي بجحة صحيح؟ ليكي عين تتكلمي؟ انجري قدامي.
هبطت ما تبقى من درجات وهي بالكاد تسيطر على ضيقها النامي بداخلها، لكنها عقدت العزم على ألا تتخلى عن حلمها مهما حدث.
............................................................
انتهت من توزيع فناجين القهوة وأكواب الشاي المصحوبة بقطع (البسبوسة) الشهية لتجلس بجوار والدتها ونظراتها القلقة تدور على أوجه الحاضرين منتظرة بترقبٍ الشروع في الحديث عن موضوع زواجها من "تميم"، كم تلهفت لتلك اللحظة التي يجتمع فيها أفراد العائلتين من أجلها! حلمت بها مرارًا وتكرارًا، وتخيلت حبيبها يُلقي كلمات البداية الداعية لإتمام الزيجة، تلقائيًا تشبع وجه "خلود" بحمرة ساخنة فور تلميح "بثينة" الصريح بكل ثقة:
-مش كفاية تأخير بقى يا حاج "بدير"؟ الحمدلله "تميم" رجع بالسلامة، واحنا عروستنا جاهزة
قال لها بتعابيره الجافة:
-أنا معنديش أي مشكلة، اتفقوا مع "تميم" وحددوا الميعاد المناسب.
دق قلب "خلود" في اضطرابٍ فرح، أخيرًا ستجتمع به في منزلٍ مستقل لتنعم بحياةٍ وردية تحاوطها طيور الحب، تحاشت النظر في أعين المحدقين بها، وركزت حاسة سمعها مع والدتها وهي تقول بنية عازمة:
-خير، واحنا هنبدأ نجهز فرش الشقة من دلوقتي.
رد عليها "بدير" بهدوئه الجاد:
-على بركة الله
أطلقت "ونيسة" زغرودة عالية مهللة، ثم بررت ما فعلته وهي تضحك في ابتهاجٍ عظيم:
-ماينفعش الأخبار الحلوة دي تتقال على السُكيتي.
ضحكت "هاجر" بسعادة وهي تؤيدها:
-معاكي حق يا ماما، كله إلا "تميم" و"خلود"، دول الغاليين.
خجلت "خلود" من مدحها اللبق لها وعجزت عن الرد بصوت مسموع، لكنها كانت ممتنة لدعمها الكامل لها. تنحنح الحاج "سلطان" عاليًا ليزيح تلك الحشرجة المغلفة لأحبال صوته قبل أن يضيف حاسمًا:
-نقوط العرسان عندي، عفش كامل من مجاميعه هايكون عندهم في بحر أسبوع.
لم يجادل "بدير" والده في قراره، فحينما يبوح بشيءٍ تكون واجبة النفاذ، لذا ابتسم له وشكره بتهذيبٍ يحمل التقدير:
-تعيش وتجيب يا أبا.
على الجانب الآخر، مالت "ونيسة" على ابن أختها لتهمس له بعينين تلمعان بوميض غريب:
-بأقولك إيه يا "هيثم"، تعالى معايا عاوزاك في كلمتين.
أومأ برأسه في خفة وهو يرد:
-حاضر يا خالتي.
استند بمرفقيه على مسندي الأريكة لينهض، ثم تبعها ليسير خلفها في الرُدهة الطويلة -ذات الإضاءة البرتقالية الخافتة- والتي تنتهي بغرفة متسعة، تردد في الدخول لغرفة نوم زوج خالته، فهو من النوع المتشدد الذي يعتبر الأماكن الداخلية في منزله محرابًا لا يجوز وطئه، لكنها شجعته على الدخول. جاب "هيثم" بنظراتٍ فضولية أثاث الغرفة العتيق، ابتسامة تهكمية اعتلت ثغره، فبالرغم من المكاسب المادية التي تحصل عليها العائلة من تجارتهم الرابحة إلا أنهم لم يفكروا في تبديل أثاث المنزل الذي خطا الزمن أثاره عليه، أو حتى ينتقلوا من تلك المنطقة السكنية المليئة بالسكان محدودي الدخل، وكأن قوتهم وغرورهم مستمدين من بقائهم فيها، توقفت حدقتاه عن الحركة عند تلك الشُفونيرة القديمة المكونة من أربعة أدراج، فتحت خالته الدرج الأول لتخرج منه شيء ما، اشرأب بعنقه للأعلى لينظر بفضولٍ إلى ما تفعل، سال لعابه وقد لمح ما يزيد عن أربعة رزم من النقود المعقودة بشريط بنكي مرصوصة فيه، على الفور أدار رأسه للجانب الآخر قبل أن تلتقطه مدعيًا التهائه بالتحديق أسفل قدميه، اقتربت منه "ونيسة" وأمسكت بكف يده ثم دست في راحته النقود المطوية وهي تقول له:
-خد يا حبيبي القرشين دول مشي بيهم حالك.
اعترض بكرامةٍ زائفة:
-كتر خيرك يا خالتي، بس مستورة والحمدلله.
أصرت عليه ببسمتها البشوش:
-يا واد ماتتكسفش، ده إنت معزتك عندي زي "تميم" بالظبط.
هز رأسه في استسلام مصطنع ولسانه يلهج بالشكر:
-ربنا يخليكي ليا يا "خالتي"
ثم ربتت على ظهره تشد من أزره وهي تضيف:
-ومتزعلش من عمك "بدير"، إنت عارفه شديد حتى معايا
خرجت تنهيدة بطيئة من صدره كتعبير عن عدم رضائه عن قساوته معه، ثم قال متملقًا:
-والله يا خالتي إنتي الوحيدة اللي نصفاني هنا.
مسحت بنعومة على ذقنه النابتة وابتسامتها اللطيفة لا تزال مرسومة على وجهها،
تقلصت يدها فجأة وقد أتاها صوت "بدير" من خلفها متسائلاً في عصبيةٍ:
-الواد بيعمل إيه هنا؟
ابتلعت ريقها وأجابته بوجهٍ متوترٍ:
-كنت بأخد بخاطره، مافيهاش حاجة يا حاج.
تحرج "هيثم" وانزعج من نظرات "بدير" الحانقة نحوه، رمقه بنظرات قاتمة غريبة وهو يرد ببرود:
-لا مؤاخذة يا جوز خالتي، بس خالتي كانت عاوزاني، وأنا مبأخرلهاش طلب!
امتعاضٍ متأفف غطى ملامحه قبل أن يتمتم "بدير" من بين شفتيه بخفوتٍ:
-عيل سمج ورزل..
انتظره حتى خرج من الغرفة ليلتفت نحو زوجته يحذرها مستخدمًا سبابته في الإشارة ونظراته في التأكيد:
-اسمعي يا ولية، تاني مرة ملاقيش الواد هنا في أوضة نومي.
هزت رأسها في انصياعٍ:
-حاضر
نفخ "بدير" في ضيقٍ أكبر وهو ينتزع جلبابه الفضفاض من عليه ليتابع بنفس النبرة المزعوجة:
-هي نقصاه على آخر اليوم!!!
.........................................................
انقضت السهرة على خير وعاد الجميع إلى منازلهم ليستريحوا بعد عناء يومٍ شاق، انتهت "هاجر" من غسل جسدها بالماء الدافئ وارتدت قميصها الأحمر الواسع ذي الحمالات الرفيعة، بدت بطنها بارزة بشكلٍ ملفت، تحسستها برفقٍ وكأنها تدلل جنينها بذلك، ثم خرجت من الحمام منتزعة المنشفة التي تلف بها شعرها المصفف حتى لا يبتل. ألقت نظرة سريعة على زوجها المستلقي على الفراش، أولته ظهرها وجلست على مقعد المرآة لتضع القليل من مساحيق التجميل على وجهها المنتفخ بفعل تأثير الحمل، توقفت عما تفعل لتدير رأسها في اتجاهه حينما قال بازدراءٍ:
-من ساعة ما أخوكي رجع وأبوكي معاملته ليا اتغيرت.
دافعت عن أبيها قائلة بلهجة أظهرت ضيقها:
-الكلام ده مش مظبوط يا "محرز"، طول عمرك دراعه اليمين و...
قاطعها ملوحًا بذراعه في حركة مستنكرة:
-كان زمان، دلوقتي جه اللي سحب البساط من تحت رجلي!
تعقدت ملامحها وهي تسأله مستوضحة:
-تقصد إيه؟
أجابها بوجهٍ مقلوب:
-أنا يطلع عيني ليل نهار، وأطفح الدم مع الرجالة في السوق، والمحروس أخوكي يجي على الجاهز يُقش كل حاجة.
ردت مهاجمة سوء ظنه:
-هو كان سايب أبويا بمزاجه؟ ما إنت عارف اللي حصل!
علق بتكشيرة جانبية ونظراته الحاقدة ترتكز على نقطة في الفراغ:
-واهوو رجع ياختي.
تركت "هاجر" المشط من يدها لتحذره بلهجة آل "سلطان" الصارمة:
-بأقولك إيه، أبويا حر في ماله، يعمل ما بداله، إن شاء الله يولع فيه، محدش ليه عنده حاجة، ماشي؟ وكفاية اللي بيعمله معانا..
أشاح بوجهه للناحية الأخرى ليرد عليها بزفيرٍ مستاءٍ:
-ماشي يا بنت أبوكي، أما نشوف هترسى على إيه معاكم!
....................................................
لف تلك الحقيبة النسائية السوداء المصنوعة من الجلد -والمقلدة لماركة عالمية شهيرة- بين كفيه بعد أن أخرج محتوياتها لينظر إن كانت تحوي مبلغًا ثمينًا أو قطعة من الذهب يبيعها وينفق مالها على مزاجه الخاص. رفع "حمص" عينيه ليتطلع إلى شريكه "شيكاغو" الذي كان يتحدث في الهاتف مع أحدهم، راقبه وهو ينفث دخان سيجارته من فمه قبل أن يرد:
-أوامرك يا كبير، اعتبره حصل.
كلمات وداع مقتضبة رددها بعد ذلك لينهي معه المكالمة، ثم اتجه نحو "حمص" الذي هم بسؤاله:
-مين كان بيتكلم؟
أجابه وهو يلقي بجسده على الوسائد الأرضية:
-ده الريس "ناجي" كان عاوزنا نتقابل عشان مصلحة كده
قذف "حمص" الحقيبة الخاوية عند قدميه بعد أن مزقها ليرد بتأفف:
-كويس، بدل ما الحال مأشفر معانا على الآخر، أهوو نطلعلنا بسبوبة حلوة نمشي بيها حالنا.
تساءل "شيكاغو" باهتمامٍ ونظراته مثبتة على محفظة جلدية، وبعض مساحيق التجميل الرخيصة، وعلبة مناديل ورقية:
-إنت إيه اللي معاك ده؟
أجابه بشفاه ملتوية:
-شنطة سرقتها من ولية ماشية في الشارع، بس طلعت شبهها فقر، مافيهاش ولا مليم.
أشعل الأخير سيجارة أخرى ملفوفة يدويًا، سحب منها نفسًا عميقًا كتمه في صدره لثوانٍ حتى ظهر احتقان بشرته، لفظ الدخان دفعة واحدة قبل أن يسعل بخشونة، رفع يده المرتعشة قليلاً نحو رفيقه يدعوه:
-طب خد عفر.
تناولها منه وهو يرد مبتسمًا ابتسامة صفراء أظهرت اتساخ أسنانه:
-من يد ما نعدمها.
.............................................................
خلال بضعة دقائق كانت العربة مدفوعة بيديها ويدي أختها نحو مدخل المنزل، اعتصر الحزن قلبها لإفســاد خالها نهاية يومها بصراخه في الزبائن وإبعادهم بعد رد المال المدفوع لهم، بكت "فيروزة" بحرقةٍ طوال سيرها حتى وصلت للباحة الخلفية، كانت تشعر بالهزيمة والضعف، وذلك الشعور كان مرفوضًا بالنسبة لها، غطت العربة بملاءة قديمة وهي تكفكف بظهر يدها دمعاتها الساخنة على بشرتها الباردة، صعدت إلى والدتها التي كانت تتلقى جزائها بالتوبيخ القاسي، فالأخيرة قد أضعفتها الحاجة إلى مُعيل ذكر تُلقي إليه بهمومها، وتستند عليه في وهنها. احترقت أحشائها من تعنيفه الحاد لتلك المسكينة التي لا تملك من حيل الدنيا شيئًا، وأختها "همسة" تبكي في صمتٍ عاجز كعادتها المستسلمة، كورت قبضة يدها وضغطت على أصابعها بقوةٍ حتى ابيضت مفاصلها، احمرت عيناها غضبًا وهو يلومها بصياحها الهادر:
-بقى إنتي يا "آمنة" توافقي على جنان بنتك ده؟!! لأ وبتساعديها كمان؟
بكت أخته تستعطفه:
-والله ما عملوا حاجة غلطت، دول بيسلوا وقتهم، وأنا أعدة على إيدهم.
علقت "حمدية" ببسمة ساخرة لم تبذل أي مجهود في إخفائها:
-ما هو باين التسالي والشباب حوالين البنات أد كده!
ردت عليها "آمنة" تحذرها:
-بناتي أشرف من الشرف يا "حمدية"، خدي بالك من اللي بيقوله لسانك!
وضعت الأخيرة إصبعيها على طرف ذقنها تقول لها باستعلاءٍ:
-ما هو واضح، وبالأمارة مستغليين غياب خالهم عشان يعملوا ما بدالهم!
لم تستطع "فيروزة" التحكم في أعصابها المستثارة، خاصة مع وجود تلك المقيتة التي تتلذذ بإشعال المواقف المتأزمة والرقص على أطلالها المحترقة، فقالت لها بتشنجٍ:
-بلاش تحشري نفسك، مش لازم تولعيها.
زجرتها "حمدية" تعاتبها بقساوةٍ شديدة:
-قصدك إيه يا مفعوصة إنتي؟ هو اللي يقول كلمة الحق يبقى غلطان؟ بكرة كل من هب ودب يجيب في سيرتنا ومش هيبقلنا عين نرد!
صرخت بها بوجهها المحتقن:
-يا شيخة بطلي تولعي فيها، ارحمينا بقى.
حدجتها "حمدية" بنظرة مميتة قبل أن تلتفت نحو زوجها تعنفه لتخاذله في الثأر لكرامتها:
-شايف المحروسة بتكلم معايا ازاي؟ مش عملالي أي اعتبار، لأ وأنا مش عاوزة أجيبها تحت رجلي واقطم رقبتها.
ردت عليها "فيروزة" تتحداها:
-ولا تقدري تعمليلي حاجة أصلاً.
أمسكت بها "همسة" من ذراعها وهمست لها بخوفٍ:
-بلاش تشتبكي معاها عشان خاطري.
صاحت "حمدية" عاليًا لتستفز زوجها وتخرجه عن هدوئه الذي يغيظها:
-شايف بتقول إيه؟ دي ناقص تمد إيدها عليا
لم يكن منه بعد كلماتها المحفزة لحقن النفوس ووغر الصدور إلا التحرك نحو ابنة أخته، حيث هجم "خليل"على "فيروزة" قاصدًا الاعتداء عليها بالضرب، ما منعه من الاقتراب منها جسد "آمنة" الذي حال بينه وبينها مما منحها فرصة لتنأى بنفسها عن بطشه الأعمى. رفع خالها صوته يصرخ بها:
-ما تتعدلي في كلامك مع مرات خالك، محدش عاجبك فينا ولا إيه؟ ولا الظاهر عيارك فلت!!
ردت "فيروزة" بصوتها المختنق رافضة الرضوخ أمام صرامته:
-أنا مجتش ناحيتها، بس هي اللي بتدخل في اللي مالهاش فيه.
وضعت "حمدية" يدها أعلى منتصف خاصرتها ترمق "آمنة" وابنتيها بنظرات احتقارية مغلولة، هزت جسدها في حركة مستنكرة، ثم قالت:
-ده اللي ربنا قدرك عليه يا سبعي؟ ده بدل ما تديها جوز أقلام يفوقوها!
حملقت فيها "آمنة" بنظرة حادة، وأعقبها رجاءٌ يحمل التهديد:
-اهدي على نفسك شوية يا "حمدية"، الموضوع مش مستاهل
بادلتها بنظرات كارهة لثلاثتهن ثم ردت عليها:
-أنا أحسن حاجة أعملها أطلع بيتي بدل ما تتفقع مرارتي، بس أديني بأحذرك يا "خليل"، لو البنات دول ماجبوهاش لبر مش هانشوف طيب!!
نظرة وضيعة منحتها للفتاتين ووالدتهما، وانحنت تسحب شالها الموضوع على حافة الأريكة لتسير في اتجاه باب المنزل تاركة من فيه يشتعل غضبًا. استدار "خليل" موجهًا لومه المهدد نحو "آمنة":
-قسمًا بالله لو المسخرة دي اتكررت تاني محدش فيكو هايشوف طيب...
ثم تحولت أنظاره نحو "فيروزة" مكملاً كلامه:
-سمعاني إنتي بالذات؟!
ردت عليه ابنة أخته مُعاندة إياه:
-وأنا مش هافضل أعدة في البيت يا خالي، هاشغل العربية.
أغاظه عنادها فما كان منه إلا أن هوى بكف يده القاسي على وجهها ليصفعها وهو يقول لها:
-إنتي يا بت مالكيش كبير؟ إيه كلامي مش مالي عينك؟!!
شهقت "آمنة" تعاتبه في صدمة:
-"خليل"!
في حين احتضنت "همسة" أختها وهي بالكاد تسيطر على دموعها الغزيرة:
-"فيرو"!
وضعت "فيروزة" يدها على وجنتها المتألمة، قاومت بشراسةٍ تلك الرغبة العارمة التي تحثها على البكاء كمدًا، وردت بكرامة شامخة، وهامة منتصبة:
-إنت على عيني وراسي يا خالي حتى لو ضربتني مليون قلم!
بذلت مجهودًا مضاعفًا لتخفي أوجاعها، وأضافت بنفس الثبات العجيب:
-بس أنا ماتعلمتش عشان أبقى أعدة في البيت مستنية صاحب النصيب، ولا اللي يحن عليا عشان يتجوزني ومابقاش عانس.. أنا ليالي كيان، وعندي طموح هاحققه.
رد ساخرًا بنبرة ناقمة:
-طموح إيه ده اللي هيتحقق في الشارع؟
قالت بإصرارٍ متجاوزة إحساسها بالألم والقهر:
-مش عيب إني أبدأ كده، بكرة شغلي هيكبر والكل هيعرفني.
صاح بها بصوته الجهوري المتزمت:
-إنتي عاوزانا نتفضح؟
ثم قبض على كومة من شعرها يجذبها منه بعنفٍ ليقسو عليها أكثر فترتدع وتتخلى عن عنادها البائس، صرخت "فيروزة" عاليًا بمرارةٍ:
-آآه، سيب شعري يا خالي، كفاية بقى!
حاولت "آمنة" تخليص ابنتها من براثنه قبل أن يصم جام غضبه المشحون على فلذة كبدها، توسلته بعينين دامعتين:
-يا "خليل" اسمع البت للآخر.
رد عليها بخشونةٍ وقد أرخى أصابعه عن ابنتها:
-طبعًا ما إنتي موالسة معاها على المسخرة دي، ما هو لو كان ليها أب يربيها مكانش ده حصل
تبين على وجهها علامات الحنق من جملته الأخيرة، فردت عليه بقوةٍ لم يعهدها فيها:
-المرحوم عرف يربي بناته كويس، وأنا مش هاقبل بأي حد يقول عنهم غير كده
شعر "خليل" بالحرج لمحاولتها ذبذبة هيمنته على الفتاتين، انتصب في وقفته يُخيرها بحسمٍ:
-هي بقت كده؟ طيب يا "آمنة"، يا أنا يا بنتك، اختاري.. ودلوقتي!!
وضعها عن عمدٍ في خيارٍ عسير؛ إما أن تخذل ابنتيها وتدعمه، وإما أن تخسر مساندته لها ويتخاصم معها. التفتت تنظر إلى صغيرتيها بعينين حائرتين، رأت فيهما الأمل والرجاء، ثم عادت لتحدق في وجه أخيها المتجهم، كانت القساوة متجسدة على كل ذرة فيه. عفويًا امتدت ذراعاها لتحتضن ابنتيها، ضمتهما إليها وشعرت بذراعيهما تلتفان حول جسدها ثم قالت له:
-أنا ماليش إلا هما بعد ربنا.
صدمة غير متوقعة هبطت على رأسه فأصابته بالحنق والغل، رمقها بنظرات نارية ثم أشار لها بإصبعه ينذرها:
-إنتي اللي اختارتي يا "آمنة"!
نكست رأسها حتى لا ترى نظراته المشبعة باللوم، يكفيها أن تشعر بسعادة ابنتيها ليتخللها إحساس الرضا، انتفض جسدها مع صفقه العنيف لباب المنزل، شددت من ضمها لابنتيها وهي تقول لهما بنحيبٍ:
-أنا ماليش إلا إنتم، مش مستعدة أخسركم .............................................. !!
تابع من هنا: جميع فصول رواية دموع هواره بقلم لولو الصياد
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا