مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل العاشر من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل العاشر
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل العاشر
بخطوات عادية اخترقن الصفوف بين المدعوين ليصلن إلى مقدمة المسرح حيث يتواجد أهل العروسين ممن يتلقون التهنئة من المحبين لهم، بالطبع تقدمت الأم في خطواتها لتسبق ابنتيها وكأنها تلبي نداء الوطن، وبكل ودٍ ومحبةٍ صافية احتضنت "آمنة" جارتها القديمة "ونيسة" تُهنئها بابتسامتها الودودة قائلة لها:
-مبرووك يا حاجة "ونيسة"، ربنا يتمم بخير.
سألتها الأخيرة بتلقائية وقد انعقد حاجباها بقوةٍ ليظهر جديتها:
-هو إنتي ماشية ولا إيه؟
أجابتها دون أن تفتر ابتسامتها:
-يدوب يا حاجة..
ردت معترضة في لباقة ووجهها ما زال محتفظً بضيقه:
-ما لسه بدري يا "آمنة"، ده الليلة في أولها، وفي مغنيين جايين وطبل وزمر.
رمشت بعينيها معللة سبب انصرافها:
-ربنا يكتر من أفراحكم وأيامكم الحلوة، بس إنتي عارفة أنا ماليش في السهر.
قالت مبتسمة لها وكأنها تشاركها في المزاح:
-والله كلنا زيك.
أضافت "آمنة" بحماس:
-بس اليوم كان عسل، وربنا يجعل ليلتهم خير، ويرزقهم بالذرية الصالحة.
هزت رأسها ترد مجاملة:
-أمين يا رب ، وعقبال ما تفرحي ببناتك.
-يا رب إن شاءالله الله، هاروح أسلم على الحاجة "بثينة" والعريس وعروسته القمراية
-كلك ذوقك يا غالية.
-تسلمي يا رب
قالت كلماتها الأخيرة وهي تهم بالصعود على درجات المسرح لتتجه إلى الكوشة لتؤدي واجبها كاملاً.. بينما في تلك الأثناء، كانت أنظار كلاً من "فيروزة" و"همسة" مرتكزة على وجه العريس تحديدَا .. بدا مألوفًا لهما .. ملامحه لم تكن بالغريبة عليهما .. كلتاهما تعرفتا إليه بشكلٍ أو بآخر. مالت
"همسة" على أختها تقول لها بصوتٍ خفيض ومتعمدة أن تضع يدها أمام شفتيها حتى لا يُقرأ كلامها:
-"فيروزة"! أنا عاوزة أقولك على حاجة مهمة!!!
ضاقت عيناها وهي ترد عليها مستشعرة وجود توارد خواطر بينهما:
-قولي.. في إيه؟
همست بصوتٍ يشوبه الربكة مستعيدة ذكرى صدامه الحاد معها عند عربة الطعام:
-العريس ده أنا عارفاه!
علقت عليها بنبرة تميل إلى التهكم:
-طب وإيه الجديد؟ ما أنا بأشبه عليه!
هزت رأسها بالنفي مكملة توضيحها المتوتر:
-الحكاية مش كده، أصل.. في حاجة حصلت من فترة تخصه ..
بدا حديثها غامضًا ومثيرًا للشكوك، ثبتت "فيروزة" نظراتها عليها تسألها:
-إيه اللي حصل؟
وكأن "تميم" قد قرأ أفكارها التي تتخبط في رأسها فارتعدت فرائص "همسة" من نظراته التي أمسكت بها تحملق به خلسة في ريبة محسوسة، شعرت بجفافٍ عجيب يجتاح جوفها، أشاحت بعينيها القلقتين بعيدًا عنه وردت بارتباكٍ أكبر:
-بعدين.. بعدين هاقولك عشان ..آ... ماما جاية علينا!
كانت "فيروزة" غير مقتنة بحجتها الضعيفة، تجاوزت عن الأمر مؤقتًا وجابت بنظرات هائمة على أفراد الفرقة الغنائية الذين أشعلوا المسرح حماسةً بأغانيهم الشعبية الصاخبة.
...........................................................
انتهى "تميم" من مصافحة الضيفة التي تمنت له حياة أسرية سعيدة وهانئة مع زوجته الجميلة لينظر بتمعن لتلك الشابتين اللاتين تتطلعان إليه بغرابةٍ، في البداية لم يعرهما الاهتمام إلى أن لاحظ نظرات التفحص المصحوبة بالهمس من الفتاة الأولى، حينها جالت عيناه على وجهها تدرسان تفاصيله المألوفة، استغرقه الأمر بضعة لحظات لتتنشط ذاكرته، عرفها على الفور؛ إنها فتاة العربة التي تبيع الطعام على الكورنيش للمارة .. تأهب في جلسته وتحفزت نظراته نحوها، بدا وجودها مستفزًا بالنسبة له، يحمل تحديًا جريئًا لا يمكنه القبول به، ولكن الظرف غير مناسب بالمرة لاتخاذ اللازم وفق مفاهيمه الخاصة .. لاحظ ارتباكها والاضطراب الذي كسا ملامحها، إخفائها لوجهها عنه أكد له أنها أيضًا عرفته، حرك رأسه بتلقائية في اتجاه الفتاة الملاصقة لها، لفت أنظاره منديل الرأس الذي ترتديه، تجمدت حدقتاه عليه، كان مُطابقًا لذاك الذي بحوزته فيما عدا اللون، ردد لنفسه مذهولاً:
-مش معقول الشبه ده، استحالة!
شعر "تميم" بخفقة قوية تضرب صدره، برجفة أصابت حواسه، نظرة خاطفة نحو عروسه التي تبتسم في سعادة أشعرته بالتوتر، عاد ليحدق به وقد انخفضت عيناه لتتأمل وجه صاحبته لكنها أدارته قبل أن يبصره جيدًا، وقبل أن يستمر في فحصه الفضولي المدقق انتشلته "خلود" من سرحانه متسائلة:
-بتفكر في إيه يا حبيبي؟
في البداية تطلع إليها بوجومٍ، ثم بثبات انفعالي واضح أجابها وابتسامة باهتة انعكست على شفتيه:
-ولا حاجة يا "خلود"، المهم إنتي مبسوطة؟ في حاجة نقصاكي؟
ردت بتنهيدة عبرت عن عشقها له وقلبها يقفز بين ضلوعها في سعادة غامرة:
-كله تمام يا حبيبي، أنا والله ما مصدقة إننا بقينا لبعض.
اكتفى بالابتسام لها فتابعت بغنجٍ رقيق وقد أسبلت عيناها:
-ربنا يقدرني وأسعدك يا "تميم"، وأنا أوعدك إني هاعيشك في الجنة
أومأ برأسه في استحسان ومد يده ليربت على كفها المسنود في حجرها بخفةٍ قبل أن يسحبها إليه، ثم رفع عينيه من جديد نحو الزاوية حيث تقف الشابتان لكنه لم يجدهما، انزعجت تعابيره ونفخ في ضيق، فقد أراد التحقق مما رأه وأثار فيه الفضول والاهتمام بشكلٍ غير متوقع، حاول أن يلهي عقله عن التفكير في تلك المسألة المحيرة محدثًا نفسه:
-ده بيتباع في محلات كتير، جايز تكون صدفة!
ابتسم لنفسه في سخريةٍ وقد بدت الفكرة مقنعة، ربما لأنها تريحه من إحساسه بتأنيب الضمير.
....................................................................
-ها؟ كله تمام يا عمنا؟!!
تساءل "نوح" باهتمامٍ مبالغ فيه بعد أن عاد "هيثم" للفرح وهو يتصبب عرقًا غزيرًا لا يليق بالأجواء الشتوية الباردة، حدجه الأخير بنظرة نارية تحمل مزيجًا من اللوم والحنق، تلفت حوله بطريقة تدعو للاسترابة قبل أن يسحبه من ذراعه ليسير به نحو الجانب وهو يوبخه:
-إيه يابا؟ إنت ناوي تفضحني؟
رد صديقه معاتبًا بوجهٍ متقلص:
-فضيحة إيه بس يا جدع..
ثم غمز له وتلك الابتسامة اللزجة تتجسد على شفتيه مكملاً عبارته:
-شكل العملية مشيت معاك آخر حلاوة، زي السكينة في الجاتوه
كز "هيثم" على أسنانه قائلاً له في غيظٍ:
-اكفي على الخبر ماجور، الحكاية مش ناقصة أر.
تصنع العبوس معقبًا عليه:
-هو أنا هاحسدك بردك؟ ده أنا سترك وغطاك!!
زجره قائلاً بعصبية بائنة حتى في نظراته:
-يا عم ابلع ريقك! أنا مش ناقصك!
وفجأة انتفض فزعًا حينما سمع زوج خالته يسأله مباشرة من خلفه، وكأنه كشف أمره:
-كنت فين يا "هيثم"؟
التفت كالملسوع نحوه يطالعه بعينين جاحظتين مليئة بنظرات الرعب والخوف، تقدم "بدير" نحوه حتى بات في مواجهته، تأمله في دقةٍ متسائلاً:
-مش باين في الفرح ليه؟
ارتجف قلب "هيثم"، وشحب لون بشرته، كما زادت ربكته وتلبكه، وبدت علامات الارتعاد مقروءة على قسماته، خرج صوته مهزوزًا متلعثمًا حينما أجابه:
-ده .. أنا .. كنت واقف.. هنا .. قصدي ورا.. مع ناس صحابي و....
رفع الحاج "بدير" سبابته محذرًا دون أن يمهله الفرصة لإكمال كذبه المختلق:
-مش عايز لَبش هنا يا ابن "بثينة"!!!
مجرد نعته باسم والدته أنساه خوفه من اكتشاف مسألة السرقة، بل وكاد أن يصيبه بالجنون، احتقنت نظراته واِربد وجهه بغضبٍ شديد، ثم تحفز في وقفته وانتصب كتفاه قائلاً بخشونةٍ ومتعمدًا استخدام نفس طريقته المستخفة:
-ما تنادنيش تاني باسم أمي يا جوز خالتي!
ثم ما لبث أن قست نظراته أكثر وهو يتابع:
-أنا ابن أبويا الحاج "غريب"، اللي ضحى بنفسه فداكم.
قال "بدير" ساخرًا منه ونظرات الازدراء واضحة عليه:
-هي أمك لسه بتملى راسك بالكلام الفارغ ده؟!
هاجت الدماء في عروقه واستثارت من تحقيره الصريح، فانفجر صائحًا بتشنجٍ وعروقه تنتفض بقوةٍ:
-أنا أمي مش كدابة، ولا اللي حصل لأبويا كلام فارغ، إنتو بس اللي بتتعمدوا تنسوا عشان متحسوش بالذنب، بس حق أبويا أنا عارف إزاي وامتى هاجيبه!
حدجه "بدير" بنظرة خالية من التعاطف وهو يرد عليه في تحدٍ ينم عن قوة وسلطة:
-حقكم خدتوه زمان، واللي حصل كان برضا أبوك، فبلاش تهري في المنهي!
وقبل أن تزداد الأمور سوءًا تدخل "نوح" بجسده ليفصل بينهما، وأبعد رفيقه الغاضب عن زوج خالته مستخدمًا قوته الجسمانية كما كان يرجوه بشدةٍ:
-خلاص يا "هيثم"، ده لا وقته ولا مكانه، احنا في فرح أختك يا جدع
رد عليه بعصبيةٍ وهو يقاوم إمساكه له:
-سيبني يا عم، ماتزوءنيش!
رجاه أكثر وقد نجح في إزاحته من أمام زوج خالته قبل أن يتصرف معه بأسلوبٍ لن يعجبه على الإطلاق:
-بالله عليك تلم الدور، ده الحاج "بدير" كبير العيلة، وفي مقام أبوك..
صاح عاليًا مقاطعًا إياه وقاصدًا أن يصل إليه صوته:
-أنا أبويا مات، مافيش حد يملى مكانه
رد في توترٍ قلق:
-طيب.. طيب ... بينا من هنا!
دفعه "هيثم" بقسوةٍ في صدره ليتحرر من قبضتيه واستدار خارجًا من المكان وهو يغمغم بكلمات جمعت بين السباب واللعن، في حين تابعه "بدير" بنظراته النارية المستنكرة فساد أخلاقه، وانعدام تربيته، تغاضى مرغمًا عن تصرفه الأهوج حتى لا يفسد أجواء الحفل بالرغم من تعكر مزاجه وتكدرها .. همَّ بالتحرك عائدًا للمدعوين وهو يهز رأسه في ضيقٍ وانزعاج جاهد لإخفائه، لكن لحدس قوي أصاب داخله قرر فجأة أن يتبعه ...
.................................................................
في ذلك التوقيت، كانت "آمنة" تسير على تمهلٍ وهي تحكي عن ذكريات طفولتها مع جيرانها خلال تلك النوعية من الأعراس الشعبية التي قد تمتد لأيامٍ متصلة تبعًا لثراء العائلة ومدى شهرتها، أنصتت ابنتاها إليها في مللٍ لتكرار نفس الحديث للمرة المائة مما باتا يحفظاه عن ظهر قلب، تبادلت "فيروزة" مع أختها نظراتٍ مفهومة، ثم أدارت رأسها نحو والدتها مدعية السعال لتقاطعها قائلة:
-حلو الكلام ده كله يا ماما، نركز في شغلنا بقى!
رمقتها "آمنة" بنظرة حادة، وقالت لها:
-إنتي بايخة! يعني أقولك زمان كنا بنعمل هيصة و....
وقبل أن تكمل جملتها للنهاية خرج من جوفها شهقة مفزوعة وقد اندفع جسدها بالكامل ككتلة ثقيلة للأمام لتنكفئ على ركبتيها في ألمٍ موجع، استندت "آمنة" على كفيها كي لا ترتطم رأسها بالأرض الصلبة، تهدج صدرها ولهثت وهي بالكاد تحاول استيعاب ما حدث لها في لمح البصر.
بالطبع كان الأمر مفسرًا حينما رأت ذلك الشاب الأرعن يتحرك بخطواتٍ عصبية غير عابئ بمن يصطدم، صاحت فيه "فيروزة" وقد رأت وقاحة ما فعله مع والدتها وهي تنحني لتساعدها على الوقوف مع "همسة":
-إنت غبي يا جدع إنت؟ مش شايف اللي قدامك يا أعمى!
استوقفته جملتها المهينة فالتفت "هيثم" نحوها يرمقها بعينين تطقان شررًا، عاد إليها يزأر بها في انفعالٍ شديد:
-إنتي اتهبلتي يا بت إنتي؟
خشيت "آمنة" من إقحام ابنتها في أمر لا يحمد عقباه فتوسلتها:
-خلاص يا بنتي.. محصلش حاجة.
ردت بوجه مكفهر الملامح:
-لأ .. حصل!
تركت "فيروزة" والدتها لتقف في مواجهة ذلك الفظ الوقح الذي لم يظهر الندم على خطئه، تحولت ملامحها للشراسة ونظراتها للعدائية، وردت عليه بقوة وجراءة منقطعة النظير غير مبالية بهيئته المهددة:
-احترم نفسك! إنت غلطان وبجح، لأ وبتكلم كمان؟!
صاح يهددها ملوحًا بذراعه:
-ما تخلنيش أمد إيدي عليكي!
استشاطت عيناها من عدائيته الفجة، ومع هذا ردت بشجاعةٍ دون أن تهابه:
-طب جرب كده وأنا هاعرفك مقامك وأوديك في داهية..
قال لها بوقاحةٍ أجفلتها:
-داهية تاخدك إنتي واللي معاكي!
لم تستطع كظم غضبها بل ناطحته الند فقالت:
-اهوو إنت، ما أنا لو بأتكلم مع راجل بيعرف في الأصول مكانش غلط من الأول.
صاح بها بوجهٍ قاسٍ وقد أصبح على وشك إفراغ شحنة غضبه بها:
-أنا راجل غصب عن عين اللي خلفوكي.
كاد أن يتفاقم الوضع ويتعقد كثيرًا لولا أن تدخل الحاج "بدير" الذي تابع المشهد في نهايته فهدر يعنفه محذرًا بلهجةٍ شديدة:
-"هيثم"، لِم الدور هنا! سامعني؟
ثم تقدم نحو "آمنة" التي تمزقت عباءتها من عند ركبتيها جراء سقطتها العنيفة معتذرًا لها:
-حقك عليا أنا، امسحيها فيا يا حاجة.
وقبل أن تنطق والدتها بكلمة هتفت "فيروزة" محتجة:
-لأ معلش يا حاج، كلامك فوق راسنا ...
ثم أشارت بعينيها -في احتقارٍ صريح- نحو "هيثم" متابعة كلامها:
-بس احنا مش هنقبل بقلة الأدب دي وطولة اللسان، الحيوان ده هو اللي غلطان مش إنت يا حاج، وهو اللي لازم يتأسف لأمي.
أوشك "هيثم" على نعتها بلفظة نابية -وخادشة للحياء- جراء عبارتها الأخيرة، لكن تلك النظرة الصارمة من عيني زوج خالته كانت كفيلة بإخراسه، كتم غضبه المستعر مجبرًا، وبدا صوت أنفاسه الهادرة مسموعًا .. تحرك "بدير" في اتجاه "فيروزة" والذي حال بجسده بينها وبين ذاك الفظ ليقول:
-خلاص يا بنتي، حقكم عندي.
هنا صاحت "آمنة" بنبرة عبرت عن خوفها وهي تجاهد للسير بصورة طبيعية محاولة إخفاء ألم ركبتيها:
-مافيش بعد قولك كلام يا حاج، وأنا .. مسامحة في حقي.
.....................................................................
كان كمن يُشارك في سباقٍ للعدو، يسير بخطواتٍ سريعة غير مكترثٍ لزوجته التي تبذل مجهودًا أكبر منه لتلحق به، رفع معصمه نحو عينيه لينظر إلى ساعة يده الثمينة -من وجهة نظره- حيث اشتراها من إحدى المزادات التي حضرها مصادفة، ومن وقتها كان يتباهي باقتنائه لشيء باهظ الثمن، لاحظ تأخر الوقت فامتعضت قسماته والتفت على يساره يُحادث زوجته بما يشبه الأوامر:
-مدي يا "حمدية" شوية، احنا كده اتأخرنا.
نظرت له شزرًا وردت في تأفف وكأنها تضع حبة حبهان بين ضرسيها:
-هو يعني كان بمزاجي؟ مش عقبال ما أكلت العيال، وخلصنا مذاكرة، ونيمتهم.
علق عليها بما يشير إلى بخله:
-ما كنا خدناهم معانا، وأهي كانت اتحسبت عليهم خروجة واستفدنا من الأكل والشرب الزيادة
قالت غير مبالية بعد أن زمت شفتيها:
-لأ يا خويا، أنا مش ناقصة نهيان قلب وبس وهس!
رمقها "خليل" بنظرة مستاءة قبل أن يتطلع أمامه متابعًا مشيه المتعجل وقد غفل عن التجمع القريب منه، والذي بالطبع كان محط أنظار واهتمام "حمدية"، انعقد حاجباها بشكلٍ ملفت، ورددت عاليًا لتجذب انتباه زوجها:
-إيه ده .. مش دي المعدولة بنت أختك؟
تلقائيًا تحولت أنظاره نحو زوجته متسائلاً
-مين؟ وفين؟
أشارت له بعينيها فحرك رأسه في الاتجاه المعاكس ليجد "فيروزة" تتحدث إلى أحدهم وتعبيراتها مشدودة على الأخير، استطاع كذلك أن يرى "آمنة" وابنتها الأخرى تقفان على مقربة من ذاك الرجل المهيب .. تساءلت "حمدية" في فضولٍ غريزي بها:
-هي المحروسة بتتخانق ولا إيه؟
أجابها في حيرة وتعابيره تجهمت نسبيًا:
-مش عارف.
زمت شفتيها في اعتراضٍ قبل أن تضيف بأسلوبها التهكمي:
-داهية لا تكون عملت نصيبة زي عوايدها؟!
حينما اقترب "خليل" منهم استطاع أن يلمح وجه ذلك الرجل، ردد عفويًا وتلك الخفقة القلقة تضرب صدره:
-ده الحاج "بدير" واقف كمان، سترك يا رب!
هنا أسرعت "حمدية" في خطواتها لتقول بخبثٍ بائن في نبرتها وأيضًا نظراتها:
-تعالى أما نشوف في إيه.
.........................................................
كان وجهه انعكاسًا لقلقٍ حقيقي في البداية وهو يقترب من شقيقته وابنتيها، مرر نظراته عليهن قبل أن تتوقف حدقتاه عند الحاج "بدير"، تطلع إليه في توترٍ، خاف من أن يكون الصدام مع صاحب الهيبة والوقار، وقف قبالته مهزوز القامة يسأله في حيرة ويكاد يشعر بتلاحق دقات قلبه:
-سلامو عليكم يا حاج "بدير"، خير في حاجة حصلت؟
التفتت نحوه الأخير مدققًا النظر فيه، عرفته بالطبع، وابتسم له يجيبه:
-وعليكم السلام يا "خليل"، مافيش حاجة مهمة، ده مجرد سوء تفاهم.
وبالرغم من توقعها لرؤية خالها إلا أن قدومه للاستفسار عن سبب ما حدث كان غير متوقعٍ بالنسبه لها، ومع ذلك اعترضت "فيروزة" كالعادة على تفسير الموقف والاستهانة بإيذاء والدتها فصاحت بنبرتها الحانقة:
-لأ مش كده خالص..
ثم سلطت عينيها المشتعلتين على طيف "هيثم" الذي انصرف قبل لحظاتٍ تهينه من جديد، فنارها لم تبرد بعد:
-ما هو الحيوان قريبه وقع أمي على الأرض وبهدلها زي ما إنت شايف.
بدا الوجوم المختلط بالتردد ظاهرًا على تعابير خالها، لم يحبذ أبدًا ان يكون طرفًا في أي جدالٍ أو مناوشة مع الحاج "بدير" وأقربائه، فالنتيجة ستكون محسومة من البداية لصالحهم، تنحنح متسائلاً في رهبةٍ وهو يخشى النظر إليه:
-قصدك مين؟
هنا أجابه "بدير" موضحًا ومبادرًا في لفتة طيبة منه:
-"هيثم" ابن أخت الحاجة يا "خليل"، وأنا قولتلها حق أمها على راسي، فمافيش داعي نكبر الحكاية!
حملق فيه في شرودٍ غير مصدق لما تلفظ به، للحظة طرأ في باله أن يستغل تلك الفرصة الجهنمية في الاستفادة من ذلك الرجل السخي والحصول على مصلحة ما يجني من ورائها أي أموال أو منفعة تعود عليه بالنقود، وفي سرعة خاطفة اتجه نحو أخته يضمها من كتفيها في حنوٍ زائف، ادعى تفحصه لساقيها وهو يسألها:
-إنتي كويسة ياختي؟
تقوس فم "حمدية" في تأفف وهي ترى ما يفعله مغمغمة مع نفسها:
-هو الراجل اتهبل ولا ايه؟
تابع "خليل" اهتمامه بأخته متسائلاً:
-حاسة بإيه؟ في حاجة بتوجعك؟ قوليلي، ومتخافيش من حاجة
ردت "آمنة" بنبرة مهتزة وهي تحاول استيعاب خوفه عليها:
-يعني .. شوية!
تقلص وجه "حمدية" في امتعاضٍ من تصرفه، فكيف له أن يتصالح معها هكذا بعد أن تعقد العلاقة بينهما؟ رددت مع نفسها وهي تنفخ بصوتٍ مسموع:
-دي إيه الحنية اللي هبطت عليك فجأة دي؟!!!
إشارة خفية من حاجب "خليل" لزوجته استطاعت أن تلمحها جعلها تعيد التفكير مليًا، فقد تفقه ذهن "حمدية" الداهية إلى تلك الحركة اللئيمة الصادرة من زوجها، فمن المستحيل أن يعفو عن أخته بعد المشادة التي دارت بينهما هكذا بسهولة، ولكونها قادرة على تفسير تصرفاته دون مجهود يذكر فأدركت أنه يحاول تصيد هذه الفرصة، ولهذا ودون استئذانٍ أو توجيه، خطت نحو "آمنة" تسألها أيضًا في خوف مفتعل وحسرة آسفة بعد أن انحنت قليلاً نحوها لتنفض التراب العالق بعباءتها:
-مالك يا حبيبتي؟ هو إنتي كنتي ناقصة وقعة، ده كفاية هدة الحيل اللي إنتي فيها ليل نهار!
تدلى الفك السفلي لـ "همسة" في اندهاش متعجب، حتمًا ليست تلك زوجة خالها المتسلطة التي تزعجهن دومًا بكلامها الوقح وأسلوبها الفظ! كانت صافية النية لتفطن للحيلة التي تُحاك على والدتها، بينما على النقيض فهمت "فيروزة" التمثيلية الساذجة التي يحاول الاثنان تأديتها، لكنها كانت هزلية، مفتعلة، خالية من العاطفة والمحبة الصادقة .. استشاطت نظراتها حينما اصطحب خالها الحاج "بدير" ليتحدث معه بعيدًا عن أسماعها، بدا كما لو كان يخطط لشيءٍ ما، نظرت له باسترابةٍ وهي تحاول ضبط انفعالاتها حتى لا تنفلت وتتصرف بعصبية فتخسر ما لا تملكه بعد.
وبكل تملقٍ وابتساماتٍ زائفة بادر "خليل" مقترحًا، وكأنه يصنع جميلاً مع صاحب الشأن:
-اعتبر الموضوع منهي يا حاج "بدير"، العيال ياما بتغلط، ولازمهم قرصة ودن صغيرة، ما احنا كنا زيهم...
ثم أطلق ضحكة سخيفة مفتعلة قبل أن يقطعها ليكمل بخبثٍ:
-وأنا تحت أمرك لو احتجت أي حاجة.. إنت عارفني أنا بأحب أخدم الحبايب الغاليين اللي زيك برموش عينيا، وبدون مقابل، ده احنا بينا عِشرة وجيرة.
رد عليه بهدوءٍ وقد كان وجهه غير مقروء التعبيرات بالنسبة له:
-ربنا يعمل اللي فيه الخير، ما أنا بردك شايلك لوقت عوزة
سأله "خليل" في إلحاح:
-طب مش عايز مني حاجة؟
رد نافيًا وشفتاه تقوستا قليلاً لتظهر ابتسامة صغيرة:
-لأ .. تسلم
مد يده لمصافحته قائلاً:
-يدوم المعروف يا حاج، هاروح أسلم على عريسنا نوارة الحتة، وربنا اللي عالم ده غلاوته من غلاوة عيالي
انتهى من مصافحته وربت على كتفه يشكره على كلماته المجاملة:
-الله يباركلك ..
تأكد "خليل" في قرارة نفسه أنه نجح في خلق فرصة له من العدم معه، وأنبئه حدسه أن ما يصبو إليه سيتحقق خلال أيام .. ما عليه إلا الصبر والانتظار ...
.....................................................................
-ليه يا ماما خلتيني أسكت؟
دمدمت "فيروزة" بتلك العبارة التي عكست نقمها على رضوخ والدتها وتنازلها عن حقها ارضاءً لأخيها، وكأنها قد تحولت للتابع المطيع لسيده، وكل هذا فقط من أجل استعادة ودّه مرة أخرى، نفخت "آمنة" في استياءٍ من تزمت ابنتها، وقالت لها بحدة طفيفة مبررة أسبابها وهي تسير بتعرجٍ خفيف:
-خلاص بقى يا "فيروزة"، أنا مصدقت خالك رجع يتكلم معانا!
ردت باستنكارٍ وقد ارتفعت نبرتها قليلاً:
-وهو عملنا حاجة؟ بالعكس ده طلع بمصلحة على قفانا!
ضغطت على شفتيها قائلة:
-عفا الله عما سلف.
احتجت عليها ابنتها هاتفة:
-بلاش الطيبة دي الله يكرمك يا ماما، هي اللي مضيعة حقك..
نظرت لها أمها من طرف عينها قبل أن تشيح برأسها لتقول لها:
-أنا كده ومش هاتغير، مابعرفش أشيل من حد، والدم عمره ما يبقى مياه!
كزت على أسنانها مبدية اعتراضها على ذلك الأسلوب المستسلم المسامح لأخطاء الآخرين:
-يا ماما ...
قاطعتها "همسة" بلطفٍ حتى لا تضغط على والدتها وتزيد من إرهاقها بتشددها:
-كفاية يا "فيروزة"، ماتتعبيش ماما.
التفتت نحوها قائلة في اعتراضٍ ووجهها يكسوه تعابير قاسية:
-دلوقتي كلامي اللي بقى بيقف في الزور؟
هنا أضافت والدتها في نفاذ صبرٍ بعد أن ضجرت من عنادها معها:
-هو إنتي لازم تعكنني علينا؟
ردت بحدة وانفعال:
-الله، كمان أنا اللي بقيت سبب النكد؟
تأبطت "همسة" ذراع أختها وأجبرتها على السير بتباطؤ ترجوها:
-اهدي يا "فيرو"، لو سمحتي..
نفضت ذراعها عنها تقول:
-أنا هاروح العربية
استدارت والدتها مرددة في حسمٍ:
-بلاش منها الليلادي، ماسمعتيش مرات خالك وهي بتقول هتعدي علينا
عضت "همسة" على شفتها السفلى متذكرة عبارتها الأخيرة قبل أن ينفض التجمع، تساءلت في حيرة وقلق ونظراتها مركزة مع وجه أختها المتجهم:
-أه صح .. طب هنعمل إيه؟
ردت "فيروزة" بعصبيةٍ وقد فقدت آخر ذرات صبرها:
-والله احنا اللي بنجيب الهم لنفسنا، بقى "حمدية" دي يتعملها حساب؟
توقفت "آمنة" عن السير لتستدير كليًا ناحيتها، ثم تطلعت إلى ابنتها تقول في عتابٍ محسوس:
-نفسي في مرة تسمعي كلامي من غير ما تضايقيني..
كانت كراهيتها لتلك المرأة قد وصلت لمنتهاها، ومع ذلك سحبت نفسًا عميقًا تحاول به ضبط أعصابها المستثارة، تصنعت الابتسام لتبدو لطيفة وهي ترد على والدتها:
-حاضر يا ماما...
لكن ما لبث أن تحولت ملامحها للجدية وهي تكمل بصوتٍ أقرب للتحذير:
-بس افتكري إن العقربة دي هتعمل حريقة في بيتنا قريب.
علقت عليها والدتها في يأسٍ:
-برضوه يا "فيروزة"! مافيش منك أمل!!
كانت ابنتها صعبة المراس، غير قابلة للتفاوض، ولا تقبل بالحلول الوسطى. نفذت قدرتها على الجدال معها، لذا تركتها واتجهت لمدخل البناية مستندة على الجدران لتخفف من إحساس الألم الذي أصاب ركبتيها لتختفي بالداخل، في حين تلكأت "فيروزة" في خطواتها لتبدو قريبة من أختها التي بدت نوعًا ما شاردة، سألتها مباشرة، وكأنها قد تذكرت الأمر للتو:
-صحيح كنتي عاوزة تقوليلي إيه عن العريس ............................................ ؟!!!
تابع من هنا: جميع فصول رواية دموع هواره بقلم لولو الصياد
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا