مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السادس عشر من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل السادس عشر
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل السادس عشر
افتقرت إلى الشجاعة واختبأت خلف أحد الأكشاك المغلقة تراقب في فزعٍ تلك المواجهة المحتدمة بين أختها و"تميم"، لم تكن مثلها جريئة، مندفعة، تناطح من يتحداها الرأس بالرأس، أصابها الجزل الشديد حينما رفعت أختها يدها لتصفعه، ظنت أنها نهايتها المحتومة، ودق قلبها في ارتعابٍ مهلك .. كتمت أنفاسها، وحاولت جمع جأشها وتحفيز حواسها لتذهب إليها وتزيحها من طريقه قبل أن يفتك بها، لكن لم تسعفها قدماها، تجمدت كالصنم، وبقيت أنظارها تراقب في خوفٍ ورجاء .. حبست "همسة" أنفاسها، وبقيت دقات قلبها تنبض بعنفٍ حتى كادت أن تصم أذنيها، تنفست الصعداء بمجرد ابتعادها عنه، انتظرت حتى باتت قريبة منها، فهرعت إليها وألقت بنفسها في حضنها حامدة الله في نفسها أنها ما زالت على قيد الحياة، أفاقت من فزعها وجذبتها بعيدًا عن الأنظار لتلومها في تلهفٍ ونظراتها تتحرك بتوترٍ كبير:
-ليه كده يا "فيروزة"؟
أجابت أختها بجمودٍ ووجهها القاسي مشدود على الأخير:
-يستاهل!
أمسكت بها من ذراعيها تهزها في عنف وهي تواصل لومها المرتعب:
-إنتي كده ضيعتي نفسك، حد يعمل اللي عملتيه ده؟!!!
نفضت قبضتيها عنها، وقالت بألمٍ وهي تحملق فيها بعينين مشعبتين بحمرةٍ ملتهبة:
-واللي عمله فينا بالبلطجية بتوعه عادي؟ تعبنا راح كله يا "همسة"، سمعاني؟ احنا اتدمرنا بسببه!
علقت عليها بأنفاسها المتهدجة:
-أنا خايفة عليكي، هو كده مش هايسيبك، اللي زي ده هياخد حقه منك، ومش بعيد آ...
هربت الكلمات من على طرف لسانها، خشيت أن تبوح لها بما ينبئها حدسها، بأنها فتحت على نفسها بابًا من الجحيم حينما اعتدت عليه، وقبل أن تكمل تفسيرها سبقتها "فيروزة" قائلة بنبرة عازمة أظهرت قوة غريبة:
-وأنا مش هاستنى لما يقرب مني، أنا لسه مخدتش حقي أصلاً
تدلى فكها في رعبٍ أكبر، ورمشت بعينيها تسألها وقد تشوش ذهنها بالكامل:
-هتعملي إيه تاني؟
نظرة غامضة مليئة بالشر والقسوة احتلت حدقتيها، اندفعت للأمام تجيبها:
-هاتشوفي
ســارت "همسة" خلفها وهي تحاصرها بأسئلتها الخائفة، وجدتها تقف عند ناصية الشارع تراقب بقايا حلمها المحترق بعينين تعكسان ألسنة اللهب المتأجج .. مسحت "فيروزة" دمعاتها المتحسرة ودست يدها في جيب بنطالها الجينز لتخرج منه هاتفها المحمول، كانت شاشته قد أصيبت بالشروخ جراء سقطتها العنيفة قبل قليل، عبثت بالهاتف لتتأكد من عمله، قليل من الارتياح تسرب إلى روحها المتألمة وقد وجدته يستجيب لها، ضغطت على قائمة الأصدقاء لديها، انتقت اسم واحدة من المقربات منها، ثم اتصلت بها ووضعت الهاتف على أذنها، واليد الأخرى انغرست في شعرها الفوضوي، هتفت فجأة بصوتٍ مضطرب لكنه ثابت:
-أيوه يا "علا"، أسفة إني بأتصل بيكي في الوقت ده!
أتاها صوت رفيقتها يقول في تفهمٍ:
-لا ولا يهمك احنا لسه صاحيين.
حررت "فيروزة" أناملها من شعرها ودارت حول نفسها في المكان قائلة لها على عجالةٍ:
-أنا محتاجة مساعدة من أخوكي "ماهر"، ممكن أكلمه؟
وبالرغم من استغراب الأخيرة لطلبها إلا أنها ردت بترحابٍ:
-تحت أمرك يا حبيبتي، هو راجع من برا، ثواني أروحله الأوضة أوديله الموبايل.
-شكرًا يا "علا"
قالتها وهي تعض على أناملها في توترٍ، كانت تحاول جاهدة ترتيب أفكارها في رأسها حتى تسرد له الكارثة التي حلت بها كاملة، انتفضت وشعرت بقليل من التشتت وصوت "ماهر" الهادئ العميق يقول لها:
-مساء النور، إزيك يا "فيروزة"؟
تلبكت وهي تجيبه:
-"ماهر" بيه، أنا أسفة إني بأزعجك، بس حصلت معايا مصيبة ومافيش غيرك اللي هايقدر يساعدني
جاء رده جادًا:
-خير، قوليلي في إيه؟
أجابته على عجلٍ بمقتطفاتٍ مما حدث، حاولت ألا تغفل عن شيء، فيما عدا ذلك الجزء الخاص بمواجهتها مع "تميم"، فقد تعمدت إخفائه حتى تتجنب لومه مثلما فعلت أختها، فالأهم عندها حاليًا التركيز على موضوعها الرئيسي، وليس أي فروع جانبية، هزت رأسها وكأنها تراه أمامها حينما أمرها بصوته ذي اللهجة الرسمية:
-حالاً تروحي تعملي محضر إثبات حالة في القسم التابع ليه منطقتك، وأنا هاحصلك على هناك.
لمحت إلى صدامها معه فادعت مظهرة القليل من قلقها الذي تقاومه:
-أنا خايفة يتعرضلي يا "ماهر" بيه.
هتف بجدية ليؤكد لها ودون أن ترتفع نبرته:
-البلد فيها قانون، متخافيش، واحنا بنعرف نتعامل مع البلطجية والمجرمين.
تنهدت في ارتياحٍ قبل أن ترد عليه:
-كلامك طمني والله.
أكد عليها من جديد حتى لا تتقاعص:
-ماتضيعيش إنتي وقت وروحي على هناك، مفهوم يا "فيروزة".
هزت رأسها قائلة:
-حاضر.
أضاف "ماهر" بصوته الهادئ:
-وهابعتلك رقمي في رسالة عشان تسجليه، وتخليكي معايا على الخط.
كانت ممتنة لوقوفه معها في أزمتها، فتنحنحت تشكر جميله:
-أنا مش عارفة أقول لحضرتك ايه؟
رد عليها بنبرته الثابتة:
-متقوليش حاجة، وطمنيني لحد ما أجيلك.
شكرته من جديد بامتنانٍ أكبر:
-حاضر، شكرًا يا "ماهر" بيه، ربنا يخليك لينا.
أنهت معه الاتصال وابتسامة راضية أضاءت عتمة وجهها، انتاب الفضول "همسة" لتعرف ما دار بينهما خلال تلك المكالمة، اعترضت طريق أختها تسألها واللهفة تملأوها:
-قالك إيه الظابط أخو "علا"؟
جذبتها من ذراعها لتدفعها للسير معها قبل أن تجيبها:
-هاحكيلك، بس تعالي معايا الأول.
....................................................................
بصعوبة جمة ومجهودٍ غير يسير أقنعه بترك الدكان، وإرجاء كافة الأعمال ليعود معه إلى منزله حتى يضيع عليه فرصة الاشتباك مع تلك الفتاة الطائشة التي خرقت القواعد، وتجاوزت الأعراف والأصول بتطاولها باليد على ابنه. أجبره على الانصياع لأوامره بالرغم من الثورة العارمة المندلعة بداخله، وليضمن بقائه بعيدًا عنها أصــر على الذهاب معه، وقف كلاهما أمام مدخل البناية في حالة تحفز مبررة، استطرد "بدير" يأمره بلهجته غير القابلة للنقاش:
-اطلع البيت حالاً، سامعني؟
سدد "تميم" لوالده نظرة عكست غليانه المتأجج، نفخ بصوتٍ مسموع، وأشاح بوجهه للجانب الآخر وقد بدا كامل جسده متصلبًا من شدة عصبيته المكتومة، هزه والده معاودًا إملاء أوامره عليه:
-"تميم"، اتحرك! مستني إيه؟
رفض الاستجابة له، فقال بصوته الحانق وتلك الملامح المظلمة تكسو وجهه:
-مش هامشي يابا!!
رد عليه "بدير" بحدة طفيفة ضاغطًا عليه:
-قولتلك أنا هاتصرف معها.
غامت نظراته أكثر، ورد معارضًا بشدة:
-الموضوع ده بالذات يخصني، ده مس كرامتي و...
قاطعه بحزمٍ:
-لما تهدى الأول اسيبك تتعامل، لكن دلوقتي استحالة! إنت هتولعها حريقة
-هي ولعت خلاص يابا.
حاول أن يحدثه بعقلانية، فقال له بنبرة أبوية:
-طيب، اطلع لمراتك، هي مستنياك من بدري.
وكأنه يُحادث الفراغ، انفجر فيه هادرًا بنبرة تعبر عن جزء محدود للغاية مما يستعر بداخله:
-أنا عاوز حقي يابا.
علق عليه مشددًا بنبرته الرزينة ودون أن تطرف عيناه:
-حقك هانجيبه بالأصول، ماشي؟ بالأصول ومش بحاجة تانية! ويا ريت مراتك متعرفش حاجة عن اللي حصل.
صاح في غلٍ وعروقه تنبض بقوةٍ:
-ده الحتة كلها اتفرجت عليا وبنت الـ ...... بترفع ايدها عليا و....
قاطعه مؤكدًا:
-محدش هيجرؤ يتكلم بالسوء عنك حتى لو هي غلطت، إنت اتصرفت صح
رد بألم وغضبه يتضرج في وجهه:
-دمي محروق يابا، حاسس ببركان بيغلي في نافوخي، مش قادر أهدى خالص!
كان "تميم" غير راضٍ بالمرة عن إذلاله بتلك الصورة المهينة على يد امرأة دون أن ينال لكرامته المبعثرة، ظل ذلك المشهد متجلي في عقله ليزيد من حنقه ويضاعف من غضبه، لاحظ "بدير" قساوة تعابيره، بالإضافة إلى ذلك التقلص المريب الذي أصاب وجهه، حاول أن يخرجه من حالته المكبوتة فوعده
-أنا هاتصرف وأجيبلك حقك، وزي ما وعدتك الموضوع ده هيتجاب أراره النهاردة، اطلع إنت بس لمراتك.
كان عنيدًا بشكلٍ رهيب، رفض الإصغاء له وظل باقيًا في مكانه ينفث عن غضبه بإشعال السجائر وتدخينها بشراهةٍ، لازمه والده مضطرًا عاقدًا النية على المبيت بجواره، وإن بقيا هكذا واقفان في مكانهما حتى ييأس الأخير ويتخلى عن عناده.
....................................................................
صدمة هبطت كالصاعقة المدمرة فوق رأسه حينما تساءل مصادفة عن سبب اندلاع الحريق بعربة الطعام المملوكة للفتاتين، والتي دوى صداها في الأرجاء كما تنتشر النيران في الهشيم، بالطبع تفاجأ من كون أتباعه هم من أضرموا فيها النيران وقاموا بإحراقها، وما زاد الطين بلة تباهيهم المستفز بذلك. صــال وجال، وهاج وماج، وانتفضت عروقه وهو لا يستوعب حجم الكارثة التي وقعت على الجميع. ركل "ناجي" بقدمه صينية الأكواب الزجاجية الموضوعة على طاولة قصيرة الطول بكل عصبيته لتسقط بما فيها على الأرضية، تهشم الزجاج وتبعثر في كل مكانٍ مسببًا الفوضى، ثم هدر بصوته الغاضب لاعنًا "حمص" وشيكاغو":
-الله يحرقكم إنتو الجوز! عملتوا كده ليه؟
أجابه "شيكاغو" بنوعٍ من التفاخر وبوجهه البادي عليه علامات الإجرام:
-كنا بنوجب مع الريس "تميم" يا كبير.
رد في حنق وعيناه تطقان بالغيظ:
-إنتو وقعتوا الدنيا في بعض، ضربتوا كرسي في الكلوب، والكل هيولع.
علق في برودٍ مستفز:
-متكبرش الحكاية يا كبير، دول تمامهم صويت ولطم، مافيش أكتر من كده.
هدر به بنبرته المغتاظة وهو يدفعه من كتفه في قسوةٍ:
-إنت غبي ولا بتستعبط؟! دي مصيبة يا هباب البرك! ربنا يستر ومايقلبش علينا!
فرك "حمص" طرف ذقنه متسائلاً بسماجةٍ:
-واحنا هنعرف منين إنه مش هايعجبه شغلنا؟
التفت "ناجي" ناحيته يعنفه بحدةٍ وصراخ:
-حد طلب منكم خدمة؟ ولا قولنالكم حاجة، إنتو أغبية ومخكم فيه جزمة! بتتصرفوا من دماغكم ليه؟
برر له "شيكاغو" قائلاً بوجهه الممتعض:
-يا معلم فكرنا لما هنعمل كده هيرضنا عننا و آ.....
قاطعه في غلٍ:
-ده مش بعيد يولع فيكم بعد ما يعرف!
حك "حمص" طرف أنفه وهو يجيبه بلسانٍ شبه ثقيل:
-كله بيعدي ياكبير، روق إنت بس، تحب ألفلك سيجارة وصاية؟
نظر له شزرًا، فقد كان يبدو عليه أثر تعاطي تلك المواد المخدرة، بصق عليه ثم قال:
-يخربيت الزفت اللي بتسفوه، أهوو ودانا في داهية!
تبادل كلاً من رفقي السوء نظرات غير مبالية أو حتى نادمة عما اقترفا، وعلى عكسهما كان يدور "ناجي" حول نفسه في دوائر فارغة يعتصر عقله ويفكر بعمقٍ عله يجد الحل الملائم لتلك المعضلة العويصة، تمتم مع نفسه متسائلاً وهو يكز على أسنانه:
-طب أتصرف إزاي دلوقت؟
................................................................
استغرق في أفكاره الانتقامية الهوجاء فلم يشعر بمرور الوقت، كانت نظراته قاتمة، واحتوت على قساوة مخيفة خاصة حينما أتت الأخبار السيئة عن احتراق العربة، إذًا الفتاة لم تكن تدعي بالباطل عليه، وهناك من أشعلها وزج باسمه في الأمر ليبدو متورطًا بشكلٍ مباشر فيه، وكأنه بذلك يخلق العداوة بينهما، وبالرغم من كم ما علمه إلا أنه لم يعرف بعد هوية المتسببين فيه التخريب، لكن الأوصــاف التي قيلت عن أحدهم تنطبق بصورة كبيرة على واحدٍ ممن يشك فيهم، انتشله والده من سرحانه الواضح وقد شعر بالإرهاق يتغلغل في عظامه المسنة، فقال له بما يشبه الرجاء:
-مش كفاية كده يا "تميم"، اطلع بيتك خليني أتوكل على الله
-يابا قولتلك امشي من بدري، بس إنت اللي رافض
-ما هو ما ينفعش أسيبك وإنت كده
-خلاص أنا هديت
-ربنا يكملك بعقلك، كل حاجة وليها حل، اطمن
ظن بكلماته تلك أنه سيسكن آلامه المعنوية، لكنها لم تفعل شيئًا سوى تأجيل رغباته الانتقامية لوقت يكون قادرًا فيه على الرد وبشراسة .. بدأت زخات المطر في الهطول بشكل خفيف بعد أن تجمعت السحب الكثيفة وكإنذارٍ مبكر عن زيادة حدتها، اعتبرها "بدير" فرصة جيدة لحث ابنه على الصعود، أشـار له بعكازه:
-اطلع يا ابني، أديك شايف الجو بقى عامل إزاي، وبعدين مراتك قلقانة عليك
ردت في ضيقٍ:
-ما أنا واقف أهوو تحت البيت، هاروح منها فين، وبعدين أنا مش فايقلها أصلاً.
وفجــأة صدحت أبواق سيارات الشرطة في المكان فلفتت انتباه كلاهما، تركزت أنظارهما مع رجال الشرطة الذين ترجلوا منها، اقترب أحدهم وهو يرتدي زيًا مدنيًا ليسألهما بصوتٍ مرتفع لكنه رسمي:
-في واحد اسمه "تميم سلطان" ساكن هنا؟!
نظرة حائرة غامضة تبادلها "تميم" مع والده الذي كان يتطلع إليه في اندهاش، استدار برأسه ليرد على الضابط بتعابيره المدهوشة:
-أيوه أنا، خير يا حضرت الظابط؟
رمقه بنظرة دونية عبرت عن ازدرائه له قبل أن يأمر رجاله من خلفه بكلمة واحدة لكنها نافذة وهو يشير لهم بيده مُشعرًا إياه أنه يتعامل مع شخصية حقيرة نكرة:
-هاتوه!
رد محتجًا في حدة:
-يجبوني ليه؟ أنا معملتش حاجة!
تجاهله تاركًا لرجاله مهمة إلقاء القبض عليه، حاول "بدير" اعتراض طريقهم كردة فعلٍ تلقائية لحماية ابنه، وتساءل في جزلٍ:
-عاوزينه ليه يا حضرت الظابط؟ هو عمل إيه؟
أجابه بغموضٍ وتلك النظرة الاحتقارية تغطي ملامحه:
-في القسم هيعرف!
لم يتمكن من الجدال معه حيث انقض العساكر على "تميم" وجذبوه بقساوة وقوة نحو سيارة الشرطة، وبالرغم من اعتياده على مثل ذلك الأسلوب الجاف في التعامل إلا أن إهانته بتلك الصورة زادت من توحشه ومقاومته، تبعه "بدير" صائحًا:
-ماتقلقش يا "تميم"، أنا جاي معاك! وهاكلم المحامي ومعارفنا كلهم، اطمن!
رد عليه بنبرة قاتمة:
-كده ولعت على الآخر يابا!
دفعه العساكر دفعًا ليصعد في مؤخرة السيارة وكأنه بهيمة غير مكترثين بالإصابات المؤلمة التي تنال من جسده جراء خبطه عن قصدٍ وبقساوة. أدرك "تميم" من تلك المعاملة الحادة معه أن هناك من يكيد له، ورغم عدم الإعلان عن سبب القبض عليه إلا أن ما يراود عقله من ظنون بشأن تورطها في تلك المسألة كان قويًا.
................................................................................
ضمت كفيها معًا ووضعتهما في حجرها وهي تجول بعينيها المتوترتين على تفاصيل مكتب الضابط الذي تجلس أمامه بمفردها، حيث طلبت من أختها العودة إلى المنزل والبقاء مع والدتها ريثما تذهب لقسم الشرطة، استجمعت "فيروزة" جأشها وحافظت على صلابتها خلال إدلائها بأقوالها في البلاغ الرسمي الذي تقدمت به ضد "تميم" محاولة عدم الإغفال عن أي تفصيلة. معاملة جيدة تلقتها في الداخل حينما أعلمت أحد الضباط بأنها على صلة بالضابط "ماهر"، والذي على ما يبدو كان الأسبق في إعلامهم بقدومها، لم تجد أي صعوبة في القيام بالإجراءات القانونية، وتم اصطحابها لمكتب أحد الضباط ذوي العلاقات القوية مع "ماهر"، استعلم منها بإيجازٍ عن مشكلتها قبل أن تسرد له الأحداث كاملة، ما دعم أقوالها أيضًا هو ذاك البلاغ الذي قام به أحد المواطنين ليعلن عن نشوب حريق في إحدى عربات الطعام الكائنة بمنطقة الكورنيش جراء الاعتداء السافر لأحد المجرمين، ولكن لم يجرؤ مقدم البلاغ عن الإفصاح عن هوية المتسبب في الحريق خوفًا على حياته من بطشه.
كانت "فيروزة" في حالة قلقٍ وحيرة مبررة، أخفت بمجهودٍ عظيم تلك الرجفة التي أصابت جسدها بمجرد أن وطأت ذلك المكان، امتدت يدها لتمسك بكوب عصير الليمون، وضعت طرفه على فمها ترتشف منه القليل حتى تبلل حلقها الذي جف كليًا، شعرت بالمذاق اللاذع يؤلم جوفها، ومع ذلك ابتلعته مجبرة وهي تترقب سؤال الضابط التالي. عبث "وجدي" بقلمه الحبري ونزع غطائه ووضعه عليه من جديد في لزمة مملة، وكأنها وسيلته لترتيب أفكاره، نظر إليها نظرة مطولة قبل أن يعاود سؤالها:
-يعني إنتي بتتهمي "تميم" ده بحرق عربيتك؟
أجابت دون ترددٍ:
-أيوه يا باشا.
ترك القلم من يده وسألها:
-وإيه الدافع اللي يخليه يعمل كده؟
شعرت بالقلق من سؤاله الروتيني، انتابتها الهواجس بأنه لا يصدقها، وربما تفتري عليه، ازدردت ريقها، ثم تنفست بعمق وجاوبته:
-معرفش يا حضرت الظابط
مط فمه، وسألها مباشرة من جديد:
-في عداوة بينكم؟
صمتت للحظة تحاول قراءة ما يدور في رأسه، ترددت في إطلاعه على تلك الكراهية التي نشبت بينهما فجأة دون أسباب حقيقية، ومع ذلك حسمت أمرها وباحت بتفاصيل كل شيء.
....................................................
اقتادوه للقسم الشرطي، وتعاملوا معه بشكلٍ مهين مبعثرين كرامته الغالية بنعته بشتائم خارجة وألفاظ نابية تمس الوالدين، قاومهم "تميم" بخشونة مما زاد من تحاملهم عليه، كان أكثر وقاحة وعدائية وهم يجرونه للداخل، أجبروه على الجلوس على الأرضية في الردهة والأصفاد في معصميه منتظرًا السماح له بالدخول لغرفة الظابط المسئول عن التحقيق معه. لحق به والده ولم يتخلَ عنه، وقف قبالته، ولكن على مسافة ما يقول له:
-متقلقش يا "تميم"، أنا كلمت حبايبنا كلهم، ودلوقتي هنفهم في إيه.
رد عليه في قتامةٍ وعيناه تبرقان بوهجٍ غاضب:
-مش محتاج أعرف، ما هي باينة زي الشمس!
أضاف في تلهفٍ ليهدئه:
-كله هيتحل، حبايبنا زمانتهم جايين.
رد غير مبالٍ وبنبرة جافة ومخيفة:
-وحتى لو متحلش، هو بقى عندي!
لم يعقب عليه، فقد علم في قرارة نفسه إلى الذي يرمي إليه، وحدها فقط من تقف وراء تلك المهزلة المهينة، وحتمًا لن يمرر ذلك مرور الكرام بمجرد خروجه من هنا.
لحظاتٍ وامتلأ القسم بعناصرٍ من أفراد الشرطة من ذوي الرتب والمناصب العليا، وكأن هناك زارة استثنائية من أحد كبار المسئولين للتفتيش عمن فيه، كان المفاجأة الصادمة لمعظم العاملين به أن أغلبهم قد جاء للتوصية بـ "تميم"؛ فصداقات والده الوطيدة مع أمثال اللواء "وفيق" أفادته كثيرًا. تبدلت المعاملة للنقيض، وتم انتزاع الأصفاد الحديدية من معصميه، واصطحابه لغرفة جانبية تستخدم لاستراحة الضباط. وبالرغم من المحاولات الجادة لتعويضه عما قابله من معاملة سيئة في البداية إلا أن ذلك لم يخفف من حدة الغليان المسيطر عليه.
......................................................
في تلك الأثناء، جــاء ضابط ما، مفتول العضلات، عريض المنكبين، ذو طلة مهيبة، وصاحب وجه صارم وتعابير جادة إلى القسم، ألقى عليه من يمرق بجواره التحية العسكرية مظهرين احترامهم له، ولج إلى غرفة مكتب الضابط "وجدي" قائلاً له بلهجته ذات الطابع الرسمي:
-"وجدي" بيه!
نهض الأخير من خلف مكتبه فور أن رأه ليرحب به، مد يده ليصافحه وهو يقول:
-أهلاً "ماهر" بيه، نورت مكتبي المتواضع.
رد مجاملاً:
-شكرًا يا باشا.
نظرة خاطفة تحولت نحو تلك الفتاة وهو يهم بالجلوس قبالتها محاولاً التأكد منها قبل أن يشرع في سؤالها، تأملها بنظراته المتفحصة قبل أن يسألها:
-إنتي "فيروزة"؟
هزت رأسها تُجيبه:
-أيوه أنا.
لم يكن "ماهر" قد رأها إلا في مرات عابرة حينما كان يعرج على أخته في الكلية ليوصلها، لذا بدا وجهها مألوفًا بالرغم من الحالة الفوضوية البادية عليها، وعلى النقيض عرفته "فيروزة" من وجهه الذي رأته في أغلب الصور الفوتوغرافية التي جمعته مع صديقتها "علا"، ومع هذا لم يُصادف أن يتبادل كلاهما أي حديث ولو مقتضب. تفرس فيها وسألها باهتمامٍ:
-إنتي كويسة؟ عملتي اللي قولتلك عليه؟
أجاب عنها "وجدي" تلك المرة، وتلك الابتسامة المتكلفة مطبوعة على شفتيه:
-اطمن يا "ماهر" بيه، أنا قايم بالواجب كله معاها
رد يشكره بتملقٍ:
-ده العشم يا باشا...
ثم استأذنه بصوته الجاد:
-تسمحلي أطلع على المحضر؟
قال مرحبًا ودون أن يظهر أي اعتراض:
-اتفضل سعادتك.
مد "وجدي" يد نحوه بالأوراق التي دونت فيها أقوال "فيروزة" ليبدأ "ماهر" في قراءتها على عحالةِ، صمت مريب ساد في المحيط إلا من أصوات لفظ دخان السجائر المشتعلة، قاومت "فيروزة" رغبتها في السعال بسبب الدخان الذي عبق المكان وملأه. دق الباب ليلج بعدها أحد العساكر وعلى وجهه نظرة متوترة قبل أن يتجمد في مكانه مُلقيًا التحية العسكرية، ثم أردف بعدها:
-تمام يا فندم.
رفع "وجدي" أنظاره نحوه يسأله:
-خير يا عسكري.
أجاب بلهجته الرسمية ودون أن يرف جفناه:
-سيادة المأمور عاوز سعادتك حالاً
استغرب كثيرًا من طلب المأمور غير المعتاد لرؤيته، تنحنح بصوتٍ مرتفع، ثم أشار له بعينيه وهو يقول:
-روح إنت يا عسكري، وأنا جاي وراك.
أدى له التحية العسكرية قبل أن يستدير منصرفًا من الغرفة ومغلقًا الباب خلفه، تطلع إليه "ماهر" متسائلاً في اندهاشٍ:
-مش غريبة المأمور يطلبك
رد بوجهٍ مبهم التعبيرات:
-مش عارف، مش بعوايده
ثم نهض من خلف مكتبه متابعًا حديثه:
-هستأذنك يا "ماهر" بيه، خد راحتك، المكتب مكتبك
ابتسم في امتنانٍ وهو يرد:
-شكرًا يا "وجدي" بيه.
التقط الأخير ولاعته، وميدالية مفاتيحه، وكذلك علبة سجائره، ثم اتجه إلى الخارج تاركًا الاثنين بمفردهما، كانت الفرصة مناسبة لـ "فيروزة" لتشكو له التصرفات الوقحة والعدائية من قبل ذلك الفظ "تميم" علها بذلك تسترق قلبه وتحوز على كامل دعمه.
........................................................
حيرة ما بعدها حيرة أصابت عقله بالتخبط وشوشت ذهنه بعد المقابلة الرسمية مع مأمور القسم، والذي طلب منه فيها بصراحةٍ فض النزاع القائم بين "فيروزة" و"تميم" بشكلٍ ودي، وإنهاء الأمر في التو والحال، تعجب "وجدي" كثيرًا من مدى الصلات الوثيقة التي تربط مجرمًا مثله بأهم المسئولين ليجبروا رئيسه في العمل على التدخل في تلك المشكلة، وقف في الردهة يفكر مليًا فيما سيفعله، لم يرغب في إغضاب رؤوسائه، اقترب من النافذة المفتوحة، واستند بكفيه على حافتها محملقًا في الطريق أمامه لبعض الوقت، استنشق بعمقٍ الهواء البارد الذي اندفع منها قبل أن يتحرك عائدًا إلى مكتبه وفي رأسه فكرة ما توصل إليها، هز رأسه قائلاً وهو يتجه نحو مقعده:
-متأخرتش عليك يا "ماهر" بيه؟
رد نافيًا:
-لا يا باشا.
التفت "وجدي" نحو "فيروزة" يسألها بلهجته الجادة:
-آنسة "فيروزة" إنتي معاكي تراخيص للعربية دي؟
أجابته بنظراتٍ متوترة:
-أيوه.
أكد عليها بنبرة غريبة لم تستساغها:
-يعني كل التراخيص كاملة ولا في حاجة ناقصة؟
بلعت ريقها وردت متسائلة:
-يعني إيه؟ أنا مش فاهمة.
هنا تدخل "ماهر" في الحوار ليسأله:
-في إيه يا "وجدي" به؟
نظر له بغموضٍ جعله يشعر بالاسترابة من مظهره المُغاير لما قابله قبل قليل. وحتى لا يضعه في موقف محرج أمام ضيفته، هب "وجدي" واقفًا ونظراته بالكامل مرتكزة على "ماهر"، ثم قال له بصوتٍ جافٍ اكتسب رسمية جادة:
-"ماهر" بيه أنا عاوزك برا في كلمتين.
نهض الأخير من جلسته ليرد عليه:
-اتفضل.
تطلعت إليهما "فيروزة" وبوادر الفضول مسيطرة عليها، استدار "ماهر" نحوها ليقول:
-اشربي ليمونك وأنا راجع تاني.
ردت بابتسامة صغيرة لكنها مصطنعة:
-حاضر.
راقبت الاثنان وهما يخرجان من الغرفة، لاحظت ببديهيتها وفطنتها تغير أحوال الضابط الذي كان يحقق معها، حيث أصبح وجهه جامد كالصخر، واختفت نظرات التعاطف معها، بدا رسميًا معها على غير الودية التي قابلها بها. لم تنكر "فيروزة" أنها استشعرت وجود خطب ما، تنفست بعمقٍ وحاولت التغلب على التقلصات المؤلمة التي أصابت معدتها، لكن ظل ذلك الهاجس يعبث برأسها، رددت مع نفسها في تهكمٍ:
-يا خبر بفلوس ............................... !!!
تابع من هنا: جميع فصول رواية دموع هواره بقلم لولو الصياد
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا