مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الخامس والعشرون من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الخامس والعشرون
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الخامس والعشرون
لمسة مداعبة لشعرها المتناثر بفعل النسمات الباردة حانت منها لتجمع ما تمرد من خصلاته على جانب كتفها الأيسر، تبعتها بضحكة رقيقة ساحرة من شفتيها تصيب عقول الرجال بالفتنة، التفتت "فيروزة" لجانبها بتلقائية فوجدت "تميم" ما زال محدقًا بها بجمود، انزعجت من نراته المسلطة عليها، وأنهت مكالمتها لتطالعه بغلظةٍ قبل أن تسأله:
-في حاجة؟
تنحنح معتدلاً في وقفته وقد أخفى تلك الربكة التي كادت تظهر على ملامحه، انتصب بكتفيه وأنزل مرفقيه عن سقفية العربة ليجيبها بصوته الأجش وببرود وهو يدس كفيه في جيبي بنطاله:
-مستني مراتي، إنتي اللي في حاجة؟
نظرت له باستعلاءٍ، وأبعدت عينيها عنه لتسير بتعجلٍ على الرصيف لتعود إلى مدخل بيتها، لكن لفت ساقها حول الأخرى وتعثرت في مشيتها المتسرعة لتنكفئ كالخرقاء على وجهها في لمح البصر، انفلتت من جوفها صرخة متألمة وقد أدركت أنها طُرحت أرضًا، رفعت رأسها بحذرٍ وهي تستند على كفيها لتعدل جسدها، أخفضت نظراتها وتأملت الخدوش التي نالت من باطن كفيها بأنفاسٍ مضطربة، خرجت "همسة" و"خلود" ركضًا لنجدتها، تسألت توأمتها في قلقٍ:
-إنتي كويسة
نفضت "فيروزة" كفيها، وردت وهي تقاوم الألم الذي طال ركبتيها أيضًا:
-يعني..
سألتها "خلود" في اهتمامٍ:
-طب تقدري تقفي؟
أجابتها دون أن تنظر نحوها:
-أه.. مش حاجة مهمة
هتفت في مرحٍ محاولة تخفيف الأمر عليها:
-حصل خير، تلاقي بس حد حسدك
رفعت عينيها نحوها لتنظر لها باستخفافٍ، ثم علقت بتهكمٍ:
-أكيد، والصراحة هما كُتار.
لم تفهم "خلود" مقصدها، لكنها أصرت على معاونتها على الوقوف، ومدت لها ذراعها لتستند عليه، وإن كانت لم تنتبه لزوجها الذي تابع المشهد من مسافة قريبة وقد ظهر الذهول عليه .. بدا "تميم" مترددًا في الذهاب وتقديم المساعدة، حسم التخبط الدائر في عقله بعدم التحرك نحو ثلاثتهن، خاصة مع رؤيته لـ "هيثم" وهو يعود حاملاً كيسًا بلاستيكيًا في يده، وبالتالي لا يُعرضها للإحراج، نظر له الأخير متعجبًا وقد رأى في حالة من التحفز قبل أن يسأله:
-في إيه؟
أجابه وهو يتنحنح بصوتٍ خفيض:
-أخت خطيبتك وقعت على الأرض، خليك واقف شوية!
اعتلى ثغره ابتسامة انتشاءٍ، وقال في سعادة:
-ده خبر عظيم وزي الفل، عقبال ما رقبتها تتقطم
زجره قائلاً بضيقٍ ونظراته الغائمة تركزت عليه:
-مايصحش الكلام ده!
لوى جانب فمه معقبًا عليه بنفورٍ:
-يا عم اسمع مني، دي بومة، والجوازة دي لو اتخربت هيبقى بسببها!
قال منهيًا الحوار السخيف:
-قفل، الموضوع مش مستاهل.
رد بنصف ابتسامة:
-على رأيك..
ثم رفع يده بالكيس متابعًا جملته:
-هاروح أودي دي لخطيبتي وراجع
أومأ برأسه قائلاً:
-ماشي..
وبالرغم من حنق "تميم" المبرر ناحية "فيروزة" بسبب فظاظتها ولسانها السليط إلا أنه لا ينكر تلك اللوعة التي أصابت قلبه حين رأها تسقط هكذا، وهو يقف كالعاجز لا يستطيع مساعدتها، زاد ضيقه وانعكس على تصرفاته التي مالت للتشنج قليلاً؛ فركل بقدمه بعض الحصوات على الرصيف، ودعس عقب سيجارته حتى أفناه، حتى ولاعته لم تسلم من عصبيته ظل يعبث بها حتى علقت شعلتها فألقاها وحطمها بقدمه.
................................................................
بتبخترٍ وابتسامة عريضة ســار "هيثم" نحو ثلاثتهن ملقيًا نظرة شامتة نحو "فيروزة" التي كانت تتأمل حالة ثوبها بعد تمزق جزءٍ بسيط منه عند ركبتها وعند طرفه بسبب كعبها الحاد، لم يبذل أدنى مجهود ليخفي سعادته بالأذى الذي أصابها، نادى بصوتٍ تعمد أن يكون جافًا:
-يا عروسة!
التفتت نحوه "همسة" وهي تبتلع ريقها، أشــار لها بيده التي تحمل الكيس متابعًا بصيغة تميل للأمر:
-تعالي هنا لحظة.
وضعت "خلود" يدها على كتفها تستحثها وهي تهمس بابتسامتها اللطيفة، وكأنها تمزح معها:
-روحيله، متخافيش مش هايعضك.
استدارت نحو "فيروزة" تسألها بعينيها، فأجابت الأخيرة بنظراتها معلنة عن موافقتها وقد وقفت منتصبة في وقفتها تتابعها بعينين كالصقر، وكأنها تستعد للانقضاض على أحدهم إن لزم الأمر. تحركت "همسة" نحوه، تحاشت النظر إلى وجهه حين سألته بصوتها المرتبك:
-أيوه، إنت.. عاوز حاجة مني؟
مد يده بالكيس قائلاً:
-خدي دول، أنا جايب واحد ليكي، وواحد لأختك..
ثم أخفض من صوته مكملاً في ازدراءٍ وقد انقلبت تعابيره للعبوس:
-إياكش يطمر!
تناولت الكيس منه، وألقت نظرة خاطفة على محتوياته، فوجدت لوحين من الشيكولاته ذات الحجم الكبير، ابتسمت قليلاً وشكرته:
-ميرسي..
رد بنفس الوجه المتجهم:
-طب بصيلي وإنتي بتقوليها!
أسبلت عينيها المتوترتين نحوه، وشعرت بتوردٍ خفيف يعصف ببشرتها، بادلها ابتسامة عادية، وأشــار بيده متابعًا أوامره:
-يالا اطلعي فوق، مش هتقضيها واقفة كده كتير، وأنا مش ناقص كلمتين من خالك
هزت رأسها بإيماءة بسيطة قبل أن تقول:
-حاضر.
في تلك الأثناء، وقفت "خلود" إلى جوار "فيروزة" تتأمل أخيها وخطيبته بعينين لامعتين، مالت نحوها لتقول بتفاخرٍ:
-شكلهم لايق على بعض أوي، ماشاءالله ربنا يحميهم من العين.
نظرت لها من طرف عينها وهي تعلق باستهجانٍ:
-إنتي شايفة كده؟
أجابتها مدافعة عنه بنوعٍ من التحفز الطبيعي:
-على فكرة أخويا طيب جدًا، إنتي بس اللي مش عارفاه كويس
ابتسمت "فيروزة" في سخرية قائلة لها وقد استعادت مشهد دفعه لوالدتها في مخيلتها:
-ما هو واضح
فسرت "خلود" أسلوبها المتعالي معها في الحديث بأنه عجرفة وقحة المقصود منها احتقار شقيقها والتقليل من شأنها أيضًا، ولم تكن لتسمح بذلك، فإن كانت لا تتقبل بعض طباع شقيقها الطائشة، لكنه يظل من لحمها ودمها، لذا قالت بابتسامة متكلفة، وبنبرة ذات مغزى:
-ربنا يهنيهم، وعقبالك.. أصل أنا أعرف إن التوأم بيحبوا يعملوا كل حاجة مع بعض، حتى في الخطوبة، عشان الغيرة!
استشاطت عيناها من فظاظتها، والتفتت نحوها ترمقها بنظرة نارية، هتفت في استنكارٍ ووجهها مُربد بحمرة غاضبة:
-نعم؟ غيرة؟ على إيه إن شاءالله؟
ابتسمت في برود وهي تعقب:
-برضوه، الأمر مايسلمش!
توحشت نظراتها حين ردت تنكر ذلك:
-إنتي غلطانة! مش أنا و"همسة" اللي نغير من بعض
ربتت على كتفها ترد:
-ما تخديش الموضوع على أعصابك بس، كله في الأول والآخر قسمة ونصيب!
نجحت "خلود" في إحراقها بكلماتها الناقمة، ولم يكن فقط ينقصها إلا نعتها بـ (العانس) لتتلذذ أكثر برؤيتها تتلوى من الحنق .. ضحكت بتصنعٍ قبل أن ترد عليها وهي تدعي احتضانها لتودعها:
-مش هاعطلك بقى...
وزادت من تلك البسمة السخيفة وهي تكمل بغنجٍ مائع مستخدمة عينها اليمنى في الغمز:
-زمانت جوزي قاعد على نار مستنيني، بيحبني موت، ولما بأغيب عنه بيقلق، لما تتجوزي هتفهمي .. يالا أشوفك على خير، مع السلامة
أطبقت "فيروزة" على شفتيها تمنع نفسها بصعوبة من شتمها وتلك السمجة تكركر ضاحكة بصوتٍ مجلجل لتستفزها، وكأن شأنها مع زوجها يعنيها حقًا، انتظرتها حتى خطت مبتعدة عنها، وكزت على أسنانها تغمغم في ضيقٍ متعاظم:
-يا رب تولعوا إنتو الاتنين.
ثم استدارت رافعة طرفي ثوبها لتسير بتعصبٍ نحو الدرج متحملة الألم الذي يضرب بركبتيها حتى لا تنفجر غيظًا أمامها فتظن بذلك أنها فازت في جولتهما الكلامية وتزيد من شماتتها بها.
............................................................
جلس القرفصاء على تلك الوسائد العريضة التي تفترش جانب الشرفة المغلقة بنوافذ الألومينيوم ذات الوجهين، وأمسك بخرطوم نرجيلته يدسه بين شفتيه، سحب بعمقٍ الدخان، وحبسه للحظة في صدره، ثم أخرج سحبًا كثيفة منه عبقت المكان من حوله، تجشأ "محرز" وألصق هاتفه المحمول بأذنه ليتابع باقي مكالمته الجادة:
-مافيش مشكلة، بس زودلنا الأصناف دي في التوريد المرادي كمان يا حاج "لطفي".
عاد ليدخن النارجيلة وهو يصغي للطرف الآخر قبل أن يرد:
-ما هو الطلبات كتيرة عليهم
تحولت تعابيره للقتامة، وزاد احمرار حدقتيه المتهبتين مسبقًا من كثرة التدخين حين قال له بنبرة تعبر عن شيء غير مريح يخفيه:
-لا مالوش لازمة تعرفه..
لانت نبرته قليلاً عندما ادعى كذبًا:
-يا حاج هو مشغول مع الجماعة بتوعه، خليه يفرحله يومين ويدلع بعد الهم اللي كان فيه
نفث سحب الدخان مرة أخرى قبل أن يضيف:
-أيوه، على الدكان التاني.
سعل بصوتٍ متحشرج وهو ينهي مكالمته معه:
-كتر خيرك .. ده العشم بردك .. الله يكرمك.. وعليكم السلام
فـــرد ساقه بارتياحٍ على وسادة أخرى وقد أغمض عينيه لوهلةٍ ليستغرق في أفكاره الطامعة، تكدر صفوه الوهمي عندما سمع "هاجر" تسأله مباشرة وكأنها تلاحقه:
-دكان إيه ده اللي بتتكلم عنه؟ شغل تبع أبويا؟ ولا في حاجة تانية أنا معرفهاش؟
انتفض في جلسته المسترخية وسحب ساقه ليثنيها نحو صدره، غامت نظراته نحوها، وحك بإبهامه كفه متسائلاً بلهجة مستنكرة تحقيقها الحذق معه:
-وإنتي من امتى بتسأليني عن شغلي يا "هاجر"؟
كتفت ساعديها أمام بطنها المنتفخ، وأجابته بمسحة من العنجهية في صوتها:
-عادي.. مش مال أهلي اللي إنت شغال فيه؟ مغلطتش لما بأطمن عليه!
اغتاظ "محرز" من جملتها الأخيرة، وتمتم بصوتٍ خفيض يلعنها:
-أبو.. أهلك!
لم تفهم صوته الخافت، فاقتربت منه لتسأله من جديد:
-بتقول إيه؟
تجشأ بشكلٍ مقزز، ثم استرخى في جلسته، وطالعها بنظرات باردة ليبتسم بعدها بسماجةٍ وهو يخبرها كذبًا:
-يا ستي ده واحد مستقصدني أتوسطله في مصلحة أقضيهاله بس مش معاه يدفع كاش، وشغلنا ده زي ما إنتي بنتربط فيه من كلامنا، وأنا وعدته أتدخل وأسهله الأمور، ها في حاجة تانية؟
نظرت له في امتعاضٍ وهي ترد:
-لأ.. بس مكنش في داعي للنرفزة دي
هتف بضيقٍ لم يخفه:
-ما إنتي كان ناقص تسرقيني يا "هاجر"، إيش حال مكونتش شايل شغل أهلك على دماغي 7 سنين ومحدش كان بيحاسبني بأعمل إيه!!
ردت عليه موضحة:
-يا "محرز" دلوقتي الوضع اتغير، و"تميم" بقى موجود، ومش ناقصة أسمع كلمة بايخة من أبويا لما يقولي ده جوزك مقصر في حاجة
أشاح بوجهه بعيدًا عن عينيها المراقبتين له، وقال بتأففٍ:
-لا ياختي اطمني، كله تمام!
شعرت "هاجر" بالغثيان يضرب معدتها من الدخان الذي لوث رئتيها، وضعت يدها على أنفها لتكتم الرائحة الكريهة التي تستنشقها، وسألته:
-هتنام ولا هتعمل إيه؟
لم ينظر نحوها حين أجابها:
-هاخلص الحجرين دول وأحصلك
هزت رأسها تحذره قبل أن توليه ظهرها:
-طيب، بس ابقى اتأكد إنك طفيت الفحم بدل ما تقوم حريقة
رد بتبرمٍ:
-ربك يسترها.
ظلت نظراته الساخطة مرتكزة على أثرها بالرغم من رحيلها، وهمس يقول لنفسه وخرطوم النارجيلة يتراقص بين شفتيه:
-هانت، كل واحد هياخد حقه .. قريب!
...........................................................................
مسحت بظهر كفها دمعاتها الحارقة التي اغرورقت بها مقلتيها حين رأت العلامات بارزة في ثيابها القطنية، أدركت "خلود" أنه لا أمل ذلك الشهر في حدوث الحمل، ستنتظر على أعصابٍ متوترة ما سيحدث الشهر القادم، بالإضافة لبعض الجمل التوبيخية من والدتها، وكأنها المسئولة عن عدم حدوثه .. أكملت ارتداء ملابسها، ووقفت أمام مرآة الحمام تتطلع إلى وجهها الذابل، فتحت الصنبور وبللت أصابعها بالماء لتغسل به وجنتيها حتى تمحو آثار البكاء من عليهما، ثم قرصت خديها لتظهر توردهما بعد تنشيفهما، وابتسمت رغم حزنها حتى لا تشعره بالقهر الذي انتابها لمجرد تأكدها من زيارة ضيفتها الشهرية. خرجت من الحمام وتساءلت بمرحٍ زائف:
-حبيبي، إيه رأيك في عروسة أخويا؟ تنفع؟
أجابها "تميم" ساخرًا وهو ينظر لها:
-هو أنا هتجوزها؟
ضحكت قائلة وهي تقف أمام التسريحة لتمشط شعرها وتعقصه:
-بطل هزار، لأ بجد، رأيك فيها إيه؟ بنت كويسة؟ حلوة؟ شبهنا كده؟
لم يحبذ أبدًا التطرق لذلك الموضوع بعد الحالة المريبة التي انتابته تلك الليلة، لذا شوش على ما يناوش عقله مرددًا على مضضٍ ليظهر لها عدم اكتراثه:
-معرفش، اسألي أخوكي.
تنهدت معلقة عليه وهي تضع المشط في مكانه:
-هو شكله مبسوط، والبنت عجباني.. بس أختها لأ!
تقلص وجهه واشتدت تعابيره قليلاً حين نطقت بما لا يرغب، استلقى على الفراش، وضغط على شفتيه محاولاً ألا يشاركها الحوار، لكنها استمرت في ازعاجه وتشويش أفكاره قائلة:
-أنا مش بأقول عنها حاجة وحشة لا سمح الله، بالعكس هي جميلة، بس تحسها مش مريحة كده، أخدة الدنيا على صدرها، مش هاممها حد، وبيني وبينك شكلها غيرانة من أختها، والحدق يفهم!
أخفت ضحكة عبثية تشكلت على شفتيها بيدها، وكأنها بذلك قد نجحت في تحليل شخصيتها المعقدة باعتبارها خبيرة محنكة في أنواع النساء، أولاها ظهره ليتقلب على جانبه، وقال بفتورٍ:
-هما أحرار في بعض، احنا عملنا الواجب وخلصنا
استلقت "خلود" بجوار زوجها بعد أن نزعت روبها عنها، مالت نحوه لتحتضن كتفيه، ثم قبلت صدغه، وتنهدت بحرارة على جلده ليشعر بلهيب أنفاسها، داعبت طرف أذنه بأناملها، وقالت له معتذرة:
-معلش يا حبيبي، إنت هتاخد كام يوم أجازة مني، يعني.. إنت فاهم بقى
فطن "تميم" إلى ما ترمي إليه، لم ينكر أنه شعر بالارتياح من تلك النجدة الإلهية لافتقاده الرغبة في ممارسة أيٍ من طقوس الحب حتى وإن قام بواجبه على أكمل وجه، ابتسم وقال بنبرة تميل للنعاس:
-مافيش مشكلة.
تابعت بمرارةٍ:
-كان نفسي أبشر باللي يفرحك، بس ربنا مأردش
تنفس ببطءٍ ورد عليها وجفناه مطبوقان:
-أنا مش مستعجل، لسه قدامنا العمر كله
قبلت جبينه، وتمددت على ظهرها لتحدق بعينين تستدعيان الدمع وهي تتابع:
-يعني.. أنا عارفة إن أهالينا نفسهم يفرحوا بالأخبار دي و...
قاطعها بجديةٍ وقد جفاه النوم فجأة:
-"خلود"!
ثم استدار نحوها ليقول:
-محدش ليه الحق لا يتدخل ولا يتكلم في الموضوع ده غيرنا، والوقت المناسب هيحصل، متحطيش إنتي في بالك.
التفتت ناحيته برأسها فرأت نظراته تجوب على وجهها المنكسر، مد يده ومسح تلك العبرات المتسللة من طرفيها، فاندفعت تقبله كالعمياء من شفتيه، احتضنها وبادلها قبلة مطولة، ثم حاول إبعادها لكنها أصرت على الالتصاق بجسده ليشعر بما يختلج صدرها، مسح على ظهرها بودٍ، وقال مبتسمًا عله يخفف من حزنها:
-سبيها على الله، وخلينا في فرحة أخوكي.
تطلعت إليه بعينين تلمعان بقوةٍ، ولاحت تلك البسمة المنتقصة على شفتيها، وردت في يأسٍ:
-نفسي أقدملك كل حاجة عشان تكون جمبي على طول، خايفة تبعد عني!
تقلصت عضلاته فجأة، شعر لوهلة بالقلق وكأنها ترتاب لأمره، ورد بانزعاجٍ ونظراته تلومها:
-هابعد أروح فين بس؟
-يعني ممكن تسافر، أو تتجوز..
-لأ ماليش في السفر..
حاول مداعبتها فمازحها بتلقائية دون أن يدرك أنه يحرر أفكاره التي تراود رأسه في لا وعيه:
-ولو يا ستي فكرت أتجوز هابقى أجيبها تعيش معاكي
نظرت له بحدةٍ وقد قست ملامحها، فابتسم ليخفي حالة التوتر التي عصفت بكيانه لتلك الذلة المميتة، لم يقصد ذلك أبدًا، كانت مجرد طرفة عابرة، لكن ظهر تأثيرها المقلق على قسمات زوجته، أحنى رأسه عليها ليلتقط شفتيها بشفتيه، وطبع قبلة أشد عمقًا وأقوى تأثيرًا عليها علها تتأكد من مشاعره نحوها وتنسى ما باح به العقل، وكأنها نالت المسكن المؤقت لأحزانها الحالية بإشباع توقها لحبها الشغوف به، بقيت مستقرة في أحضانه وإن لم تغمض جفنيها. انتظمت أنفاس "تميم" وغرق في نومه، بينما ظلت "خلود" ساهدة، ساهمة حتى الساعات الأولى من اليوم الجديد، حينها خرج من جوفها تنهيدة بائسة محملة بالآمال والأحلام، تمنت فيها بكل أعماقها وعيناها معلقتان بالسماء قبل أن تغمضهما أن يحدث ما ترجوه عما قريب لتبشره وتنال الحظوة الكبرى لديه أولاً ولدى كامل عائلته، فتتربع على عرش عائلة "سلطان" بحفيدهم.. والوريث المنتظر ......................................................... !!
أنهت جزءًا كبيرًا من المقرمشات والتسالي التي كانت تحتفظ بها شقيقة زوجها في المنزل وهي تتابع بنهمٍ الأحاديث الجانبية التي تلت الخطبة حتى تستأثر بكامل الأخبار، لم تصعد إلى منزلها وأخبرت زوجها بقضائها لباقي السهرة في منزل "آمنة" التي لم تمانع من وجودها وتعاملت معها بكل ودٍ ومحبة. افترشت "حمدية" الأريكة العريضة بجسدها تاركة أطفالها يلهون حتى أصابهم النعاس وغفلوا على السجاد غير مكترثة بحالتهم المحزنة، فضولها كان يدفعها لمعرفة المزيد، كانت نظراتها كالأفعى تتربص بالتوأمتين وتتابع ما يصدر منهما من كلمات أو تلميحات، حتى عندما غابت الاثنتان بالداخل ليبدلا ثيابهما بعد عودتهما من الخارج لوقت لا بأس به على أمل أن ترحل، كانت في انتظارهما بأعصاب جليدية. لم تمنحها "فيروزة" أي معلوماتٍ وتركتها تتخبط في حيرتها، و"همسة" لم تملك سوى القليل من الحديث لتقوله، وذلك لم يكن كافيًا لإرضائها ..
تثاءبت "فيروزة" بصوتٍ مسموع وهي تنظر إلى ساعة الحائط التي تخطى عقربها الثانية والنصف بعد منتصف الليل عل الضيفة السمجة ترحل، لكنها كانت مُصرة على البقاء، أفرغت زوجة خالها ما في يدها من قشرٍ وقالت وهي تنفض راحتيها:
-قومي يا "هموس" هاتيلي بؤ مياه، لأحسن اللب الأبيض نشف ريقي
ردت عليها "همسة" بنبرة مرهقة وهي تحاول تحريك جسدها المتعب لتنهض:
-مش كفاية كده يا مرات خالي؟ الفجر قرب يأذن.
استرخت "حمدية" أكثر في الأريكة، وقالت وهي تسحب الوسادة الصغيرة خلف ظهرها:
-ياختي ورانا إيه، أدينا سهرانين.
هتفت فيها "فيروزة" بامتعاضٍ ونظراتها المزعوجة مسلطة عليها:
-بس احنا تعبانين وعاوزين ننام، دماغنا مصدعة.
نهرتها والدتها لانعدام ذوقها معها فأردفت قائلة:
-عيب كده يا "فيروزة"، ما يصحش!
ردت عليها "حمدية" وذلك العبوس يجتاح ملامحها:
-قوليليها يا "آمنة"، هو أنا غريبة؟
ثم وجهت حديثها لها مهاجمة إياها بوقاحةٍ:
-أهي طولة لسانك دي اللي هاتطفش العرسان منك، وتخليكي زي البيت الواقف محدش راضي يبصلك، ما تخليكي كده زي أختك حلوة وفي حالها.
هبت واقفة، وزجرتها بعصبيةٍ:
-أنا مبسوطة كده، ومش عاوزة أتجوز
مطت "حمدية" شفتيها لتهمس بتنمرٍ:
-يا ساتر على تقل دمك، ابقي تفي على وشي لو جالك حد أصلاً!
نظرت لها شزرًا، والتفتت تقول لوالدتها:
-أنا داخلة أنام، تصبحي على خير يا ماما.
ردت "آمنة" مبتسمة:
-وإنتي من أهله يا حبيبتي، اقفلي الإزاز كويس عشان الهوا جامد برا.
هزت رأسها قائلة بتثاؤبٍ:
-حاضر.. على الله الناس اللي عندها دم تحس!
كزت "حمدية" على أسنانها في غيظٍ وهي تدرك أنها المقصودة من ذلك التلميح الفظ، حاولت إخفاء حنقها الذي انعكس سريعًا على تعبيراتها ونظراتها، وضحكت مستطردة بسماجةٍ:
-لما تروحوا تنقوا الشبكة ابقيي قوليلي يا "آمنة"، أنا خبرة عنك في الحاجات دي، وعشان محدش يضحك على بنتك، ويجيبولها حاجة أي كلام، برضوه حماتها مش سهلة، واسم الله عليها "همسة" تتاقل بالدهب، وإنتي عارفاني في الحق زي السيف.
تنهدت معلقة عليها:
-ربنا يسهل
احتقنت نظرات "فيروزة" من تدخلها المستفز في شئون العائلة وفرض سطوتها بطريقة مبالغ فيها، فمالت على أختها لتقول لها بتذمرٍ:
-شايفة الفشر؟
ردت عليها "همسة" مبدية انزعاجها:
-أنا معرفش هي حاشرة نفسها ليه؟ الموضوع ميخصهاش من الأساس.
عقبت عليها بنبرة اكتسبت العصبية:
-لأ إزاي، ده مش بعيد تذلنا طول عمرنا، وأمك مش هاتقولها لأ طبعًا، رِجلها هتسبق رجلنا، ومرات خالكم والكلام اللي لا يودي ولا يجيب
أمسكت "همسة" بها من ذراعها ودفعتها برفقٍ نحو الردهة وهي تتابع:
-خلينا نبعد عن وشها، أنا مش هاجيبلها حاجة، على الله تحس على دمها وتمشي
ردت باستنكارٍ:
-دي لازقة بغرا، مش هاتمشي بالساهل!
ظلت الاثنتان تتهامســان حتى دخلتا الغرفة، توقفت "همسة" عن السير لتغلق الباب من ورائها، بينما تقدمت "فيروزة" نحو الدولاب لتفتح ضلفته، أخرجت منامتها المريحة من على الرف العلوي، وبدأت في خلع ثيابها، لمحت الأولى تلك التحززات الحمراء التي أصابت الندبة الموجودة على كتف توأمتها الأيمن لارتدائها حمالة الصدر الجديدة ذات الأربطة الحادة لفترة طويلة، فقالت على الفور لتثير انتباهها:
-العلامة اللي عند كتفك شكلها ملتهب خالص.
تحركت الأخيرة نحو التسريحة مديرة كتفها للجانب حتى تتمكن من رؤيته تاركة منامتها على الرف، نظرت إلى الالتهاب الذي أصاب الندبة الباقية لها من آثار حريق الماضي، وقالت على مضضٍ وهي تتحسس جلدها بحذرٍ:
-منها لله "حمدية"، هو أنا كنت ناقصة!
وقفت توأمتها خلفها، وعرضت عليها بودٍ:
-خليني أدهنهالك، أنا عندي كريم ملطف.
هزت رأسها موافقة:
-ماشي يا "هموس".
قامت "همسة" بفتح الدرج الجانبي للتسريحة لتخرج منه علبة كريم مرطب تستخدمها كل فترة، نزعت الغطاء، ووضعت كمية معقولة بين أناملها، ثم لامست بحرصٍ جلدها المشتعل بحمرته الملتهبة لتدهنه حتى تسكن آلامه، ومع كل لمسة عليه كانت "فيروزة" تتصلب وتتوتر، ما زالت آثار تلك الليلة المحزنة مختومة على جسدها ومحفورة في ذاكرتها، يتنشط عقلها بين الحين والآخر بلمحات منه ليزداد هلعها وانقباض قلبها، لكنها تناضل لإغراق ما يطفو على السطح في ظلمات عقلها علها تنسى ما رأته آنذاك، اقشعر بدنها وهتفت فجأة وهي تزيح يدها:
-كفاية يا "همسة"، أنا بقيت كويسة.
لم تترك لها الفرصة للاعتراض عليها، تحركت من أمامها وعادت إلى الدولاب لتسحب منامتها وترتديها، تأملتها شقيقتها في حزنٍ وإشفاق، كانت تعلم مدى قســاوة تلك التجربة عليها وإن لم تفصح عن ذلك.
.............................................................
استلقت على ظهرها على الفراش عاقدة يديها خلف رأسها، حملقت في سقفية الغرفة بعينين متسعتين بالرغم من الظلام الذي احتل الغرفة مستعيدة تفاصيل خطبتها وما دار فيها من شد وجذب، ومحاولات التودد وخلق العلاقات الأسرية الطيبة، أدارت رأسها للجانب لتتأمل "فيروزة"، كانت تعلم أنها لم تنم بعد؛ بسبب تقلباتها المتعاقبة على الفراش، تنهدت ببطءٍ، وهتفت تسألها:
-إنتي لسه صاحية؟
أجابتها بصوتٍ شبه متحشرج:
-بأحاول أنام
عضت على شفتها السفلى في ترددٍ واضح، ثم سألتها بربكةٍ محسوسة:
-عاوزة اسألك في حاجة؟
لم تتطلع إليها أو تتحرك من مكانها وهي ترد:
-خير؟
سحبت شهيقًا عميقًا طردته من صدرها على مهلٍ قبل أن تتابع:
-إيه رأيك في "هيثم"؟
أجابتها دون تفكيرٍ:
-مش مستريحاله لا هو، ولا أخته، ولا جوزها!
ابتسمت "همسة" في تهكمٍ، كان ردها واضحًا ومفهوم الأسباب، اعتدلت "فيروزة" في نومتها بعد أن استدارت نحوه شقيقتها، مدت يدها لتضيء المصباح الجانبي الصغير الموضوع على الكومود إلى جوارها، وسألتها دون مراوغة ونظراتها مثبتة على وجهها:
-إنتي عاوزة تكملي الخطوبة دي ولا لأ؟
جاوبتها "همسة" في حيرة وهي تفرك أصابعها لتخفي حرجها:
-مش عارفة لسه؟
قالت بلمحة تعبر عن السخرية:
-ما أكيد ملحقتيش تحبي عريس الغفلة
ردت مستنكرة:
-لأ طبعًا
أضافت "فيروزة" بجديةٍ وهي تشير بيدها:
-بصي يا "همسة"، ساعات الواحد في لحظة تسرع بياخد قرارات غلط، مش عيب إننا نرجع فيها طالما ...
لم تكن توأمتها راغبة في إنهاء الخطبة أو التراجع عن ذلك الارتباط غير المتوافق، فقاطعتها دون ربكةٍ:
-أنا مش ندمانة على فكرة، وعايزة أقولك إن "هيثم" اعتذرلي عن الموقف البايخ اللي عمله مع ماما!
رفعت "فيروزة" حاجبها للأعلى في اندهاشٍ:
-بجد؟ حصل امتى ده؟ ولا ده دفاع منك عنه
هزت رأسها بالنفي:
-أه والله، واحنا واقفين لوحدنا، اعتذرلي..
قالت في استحسانٍ:
-كويس!
أضافت "همسة" بابتسامة صغيرة وهي تلمح للحلوى التي اشتراها لكتليهما:
-وبعدين إنتي شوفتيه جابلنا إيه قبل ما نطلع البيت
علقت ساخرة منها وقد أولتها ظهرها:
-اه .. والظاهر إنه هياكل بعقلك شيكولاته.
التفتت "همسة" بجسدها للجانب الآخر من الفراش لتولي ظهرها لشقيقتها، وتابعت هامسة بتنهيدةٍ:
-مظنش.. بس بأحاول استبشر خير.
ثم أغمضت عينيها لتستعيد في مخيلتها مشهد بقائها مع خطيبها بمفردها على الشرفة المتسعة بالمطعم، حينها كانت في حالة لا تُحسد عليها من الخجل، والارتباك، والتلعثم، والارتجاف. مد "هيثم" يده ليمسك بكفها المستند على الحافة، لكنها سحبته في سرعة وقلبها يدق بعنفٍ، استاء مما ظنه نفورها، وعاتبها بضيقٍ:
-لعلمك أنا بأتنرفز من اللي يطنشني.
اعتذرت منه باستحياءٍ وكامل نظراتها مرتكز على الأمواج المتلاطمة:
-أنا أسفة.. بس مش متعودة حد غريب يقرب مني.
نفخ بصوتٍ مسموعٍ كتعبير عن ضجره من حذرها قبل أن يستأنف قائلاً:
-ماشي، هاسيبك لحد ما تتعودي عليا، بس كنت عاوز أقولك حاجة؟
ابتلعت ريقها وردت:
-اتفضل.
تنحنح بخشونةٍ، وتابع بترددٍ بائن في صوته، وكأنه يحاول استدعاء الكلمات لتنصفه:
-فاكرة اليوم إياه.. ساعة لما وقعت أمك على وشها
ورغم استيائها من ألفاظه الفظة في محاولته للإشارة للموقف السابق -والذي دفع فيه والدتها بعنفٍ وطرحها أرضًا خلال فرح أخته- إلا أنها ردت بهدوءٍ:
-أهــا، ماله؟
اخشوشنت نبرته وبدت خافتة حين بادر معتذرًا:
-أنا محقوقلها، مكنش قصدي.
هزت رأسها مبتسمة في رضا:
-تمام.
أكمل مفسرًا بتشنجٍ طفيف:
-أصلي يومها كنت مضايق شوية من كام حاجة حصلت، ويعني دخلت فيكم زي القطر، ومكنش ليكم ذنب
اتسعت بسمتها أكثر، والتفتت ناظرة نحوه وهي تقول:
-كويس إنك بتعترف بغلطك، دي حاجة بأحترمها.
تأمل ابتسامتها بعينين تعبران عن اهتمامه بها، للمرة الأولى تمتدحه فيها، لم ينكر أن تصرفه ذلك -وإن كان متأخرًا- قد أتى بنتائج طيبة معها، ورأى ذلك يظهر بوضوح في تعبيرات وجهها لوح بيده مكملاً حديثه معها:
-يعني مش عايز نبدأ مع بعض وكل واحد فينا شايل من التاني.
لعقت شفتيها، وقالت:
-أها، كده أحسن
استرسل "هيثم" مضيفًا بابتسامة متسعة معبرًا بصراحة مطلقة عن مكنونات صدره:
-تعرفي، أنا حمدت ربنا إنك طلعتي من بختي، مش أختك!
قست نظراتها وحل الوجوم على ملامحها عقب جملته تلك، ووبخته بانزعاجٍ بائن:
-لو سمحت ممكن ماتكلمش عنها، أنا بأزعل من الأسلوب ده
برر لها مقصده بوصفها بتلقائية:
-يا ستي هو أنا قولت حاجة وحشة، بس هي عاملة فيها فتوة الحتة، وإنتي شكلك غيرها.
استاءت من طريقته غير المستساغة في اكتساب ودها بتلك الصورة الفظة، وهتفت محتجة:
-برضوه هتغلط فيها؟
قال ملطفًا وهو يغازلها:
-خلاص فكك منها، وقوليلي إنتي حلوة كده إزاي؟ الصراحة قمر واقف قدامي.
تورد وجهها في خجلٍ، أخفضت نظراتها الساهمة، وردت تشكره:
-ميرسي
تأمل تلك الحمرة التي اكتسحت بشرتها وزادت من إشراقة ملامحها، فواصل تغزله بشكلٍ أكثر جراءة:
-إنتي بتكسفي، يا لهوي يا جدعان، طب أوعى الجاز ليولع في الغاز!
أبعدت وجهها عن نظراته التي تخترقها وهي تخفي ضحكة عابثة تسخر فيها من كلماته التي تعبر عن فطرته الشعبية البحتة .. عــادت "همسة" لواقعها المحيط وتلك الابتسامة لا تزال مرسومة على محياها، ربما فشل بشكلٍ ذريع في التعبير عن إعجابه بها واستمالتها نحوه، لكنه بطريقة ما استحوذ على قدر بسيط من تفكيرها.
.....................................................................
برقت حدقتاها واتسعتا في نشوةٍ حين وضع الحقيبة الجلدية على الطاولة الرخامية أمامها وفتحها لتظهر رزم النقود بوهجها المحفز للنفوس، أحست "بثينة" بعنف نبضاتها المتحمسة، فلم ترَ مثل ذلك المبلغ الضخم في حياتها مطلقًا، سال لعابها، وظهرت بوادر الطمع على محياها، ادعت جمودها وتساءلت بعدم اكتراثٍ:
-إيه ده يا حاج "بدير"؟
أجابها بهدوئه وهو يجوب بنظراته على وجهها ذي الملامح الزائفة:
-ده عشان جوازة ابنك يا "بثينة".
ازدردت ريقها وتساءلت بحماسة جاهدت لإخفائها:
-مش فهماك؟
عبث برأس عكازه براحة يده، وقال موضحًا:
-زي ما اتفقنا قصاد نسايبك الجداد، فلوس تجهيز البيت وعفش جديد والشبكة للعروسة.
ابتسمت في رضا، وردت بامتنانٍ:
-الصراحة عداك العيب يا حاج، كده ابني يقدر يخش ومافيش حاجة نقصاه.
هز رأسه يؤيدها:
-مظبوط
ولكن تحولت نبرته للجدية حين تابع منذرًا إياها:
-وخدي بالك يا "بثينة" لو عاوزة ابنك يفلح!
زوت ما بين حاجبيها متسائلة بقسماتٍ متجهمة:
-قصدك إيه؟
أوضح ببساطة وتلك النظرة المحذرة تنطلق من حدقتيه:
-ماتفحيش في ودانه زي تملي وتشقلبي كيانه.
اِربد وجهها بالحنق، وصاحت تنفي ما قاله:
-هو أنا بأحرضه ضدك لا سمح الله؟ مش حق أبوه اللي راح وآ....
قاطعها رافعًا يده أمام وجهها لتصمت:
-احنا قفلنا على السيرة دي خلاص، وكل واحد خد حقه من زمان، وأنا رميت ورا ضهري اللي عمله "هيثم"، قومي بدورك إنتي كأم معاه، وخليه يستقر عشان حاله يتصلح، وإياكي تظلمي بنات الناس
مصمصت شفتيها قائلة بتذمرٍ:
-أنا زي البلسم يا حاج، بأتحط على الجرح يطيب
رد عليها وهو يستعد للنهوض:
-هنشوف.
نهضت بتكاسلٍ من مقعدها، وقالت مجاملة:
-ما تقعد شوية يا حاج، ده إنت منورني
نظر لها بجمودٍ من طرف عينه قبل أن يرد:
-ورايا مصالح، سلامو عليكم
ســار متجهًا نحو باب المنزل، وتبعته في سكونٍ حتى خرج وأغلقت الباب، التفتت لتلصق ظهرها به، وحملقت بعينين تتوهجان بخبثٍ ماكر على حقيبة النقود محدثة نفسها:
-أل أنا اللي هاخربها على ابني، يا حسرة عليه من يوم ما أبوه مات واحنا متلطمين، ده أقل من حقه بكتير!
...................................................
-اعدل الرصة يا ابني، ده مال ناس!
هتف "محرز" بتلك العبارة عاليًا محذرًا إياه بلهجة صارمة وهو يلوح بيده لأحد العمال الواقفين أعلى تلك الشاحنة، تابعه بنظراته أثناء رصه للأقفاص البلاستيكية التي تم ملؤها بثمار الفاكهة الطازجة بعد وزنها ليتأكد من أداء عمله على أكمل وجه، التفت برأسه يمينًا ويسارًا ليتابع حركة المارة، لمح "هيثم" وهو يركن سيارة الربع نقل عند ناصية الشارع، ابتسم في مكرٍ وهو يمسح على صدره بحركة دائرية متكررة، تحرك صوبه قاصدًا الحديث معه، ترجل الأخير من سيارته ليتفاجئ به أمام ناظريه، سأله بوجهٍ جاد التعبيرات:
-خير يا صاحبي؟
غمز له قائلاً بلؤمٍ وهو يلكزه بخفةٍ في كتفه:
-هنيالك يا عريس، أنا شايف الحاج من صباحية ربنا فاتح الخزنة الكبيرة وبيعبي الشنطة فلوس بالأكوام، زمانته راح عند الست الوالدة
سأله بنبرة ساخطة وقد توحشت نظراته:
-وإنت عاوز نصيبك من الفلوس دي ولا حاجة؟
رد نافيًا ووجهه يكسوه مسحة من الغموض المخيف:
-لأ، دول حلال عليك، وبعدين مش أنا اللي يملى عيني شوية الملاليم دي، أنا عاوزك في حاجة أكبر.
تطلع إليه في استغرابٍ وهو يسأله:
-حاجة إيه دي؟
جاوبه "محرز" بمزيد من الغموض:
-بعدين هاقولك لما أظبط كل حاجة..
وزاد من ابتسامته اللزجة وهو يتابع ليتوه عن تلك المسألة المثيرة للريبة:
-ركز إنت في الجوازة اللي جاية على كفوف الراحة دي
منحه نظرة ناقمة قبل أن يعقب عليه بامتعاضٍ:
-ما هي شورتك يا أبو نسب.
افتعل الضحك وتساءل بعدها:
-أومال فين "تميم"؟ مش شايفه يعني
حك "هيثم" أذنه وهو يجيبه:
-أبوه بعته مشوار، أنا طالع على القهوة شوية، جاي ولا؟
رحب باقتراحه قائلاً ببسمة غير مريحة:
-معاك.. هو احنا لينا إلا بعض!
.......................................................................
ألزمه "بدير" بالذهاب في المرة الأولى مع ذلك العامل ليدله على منزل العروس الجديد باعتباره حديث العهد بالعمل في تلك المنطقة التي تعد جديدة عليه، وعلى مضضٍ اضطر أن يوافق حتى لا يرد أمر والده، وبضغطة بسيطة على المكابح أوقف "تميم" السيارة بجوار الرصيف الملاصق لمدخل البيت. سدد نظرة متأملة متأنية لنوافذه الموصدة عله يلمحها واقفة، لا يعرف لماذا تبحث عيناه عنها تحديدًا؟ لم يكن ليهتم هكذا برؤية زوجته التي تغدق عليه بالمشاعر الشغوفة، ناوشته تلك الأحاسيس الحماسية العجيبة واجتاحت وجدانه، أحس بدبيب قلبه يرتفع، تنحنح بخشونة مقاومًا ما يعتريه من أوهام استنكرها ونفضها عن عقله، ثم ترجل وساعد العامل في إنزال الأقفاص المليئة بالفواكه من المقعد الخلفي، اعتدل في وقفته، ومسح بيده العرق الذي تجمع عند جبينه متسائلاً:
-عرفت الدور ولا هتبوظ الدنيا؟
لم يكن العامل ممن يفهون سريعًا، قدراته الاستيعابية إلى حد ما محدودة، فأجابه بترددٍ:
-هاشوف يا معلم.
توتر "تميم" من إفساده للأمر، وقال مرغمًا:
-أنا جاي معاك، إياكش تفهم.
ثم انحنى ليحمل واحدًا من تلك الأقفاص الثقيلة، وتقدم في خطواته المتعجلة نسبيًا ليسبقه في الصعود على الدرج، يكاد يجزم في نفسه أنه لم يكن متحمسًا هكذا في بادئ الأمر، ولكن حين بات على مقربة من منزلها نشبت بداخله رغبة مُلحة للتحجج بأي سبب ورؤيتها وإن كان ذلك على سبيل المصادفة، أيعقل أن يصل به الأمر ليتصرف كالمراهقين؟ لام نفسه بشدة على سذاجته وتصرفاته الطفولية، وردد بصوتٍ خفيض وهو يزفر:
-مش هاتحصل تاني! أنا هاسيب الحاجة وأمشي.
أنزل القفص على أعتاب باب المنزل، وانتظر صعود العامل حتى يملي عليه أوامره. همَّ بالتحرك نحو الدرابزون لينظر إليه من خلاله، ولكن صوت صرير فتح الباب جمد قدميه، التفت عفويًا برأسه نحو من أطلت عليه من الداخل، ببساطةٍ مربكة فَسد ما خطط له حين رأى "فيروزة" تتطلع إليه بنظراتها المدهوشة ورائحة عطرها الأنثوي قد فاحت في المكان واقتحمت أنفه لتملأ صدره بها، جف حلقه كليًا، وشعر بتلك الخفقة العنيفة تضرب أوتار قلبه وهو كالأبله ينظر لها مصدومًا، بدا وكأنه قد فقد القدرة على النطق أو التحرك، تخشب في مكانه لحظيًا وصوتها الناعم يردد بابتسامة لا يعرف إن كانت ساخرة أم مرحبة:
-إيه المفاجأة دي ............................................ ؟!
*********************
إلي هنا ينتهي الفصل الخامس والعشرون من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا