مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثالث والثلاثون من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثالث والثلاثون
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل الثالث والثلاثون
استطاع أن يلمح من زاوية الرؤية الخاصة به ذلك التوتر الدائر من خلفها، انقبض قلبه خيفةً وارتعد من احتمالية نشوبِ عراك قريب، خاصة أن شقيقته لم تكن في حالتها الطبيعية، بدت مغايرة لتلك المستكينة المسالمة التي عاهدها أثناء خطبته، وكأنها قد جاءت متحفزة للتشاجر مع "فيروزة"، لذا اعتصــر "هيثم" عقله باحثًا عن المهرب المناسب قبل أن تنتبه هي الأخرى لما يدور من حولها، وببسمة مرتبكة ونظرات تائهة استطرد مقترحًا:
-ما تيجي نبص على البحر من هناك، المياه تحفة الصراحة.
تنهدت قائلة بتعبٍ ملحوظٍ في صوتها بذلت أقصى طاقاتها لإخفائه:
-أنا حابة أفضل هنا.
رد مستنكرًا:
-وتضيعي عليكي فرصة زي دي؟
عللت "همسة" رفضها بحرجٍ:
-بس أصل آ....
قاطعها بإصرارٍ علها توافق على طلبه:
-ده احنا بالنهار، والمنظر بيفرق، صدقيني، تعالي معايا مش هتخسري حاجة، ..
التقط أنفاسه وواصل القول بأسلوبٍ دعابيٍ بحت وهو يشير بيده لظهره:
-ده أنا حاسس إنه هيطلعلي أتب من كتر القعدة، مش واخدة بالك ولا إيه
كتمت تلك الضحكة المرحة على طرفته، وظلت شفتاها تتقوسان ببسمة مهذبة، ثم ردت مستسلمة:
-طيب.
حافظت على ابتسامته المرسومة وهو ينسحب بـ "همسة" نحو الشرفة المطلة على البحر في تلك البقعة المعزولة نسبيًا عن الصخب الدائر بالمكان، لكن ظل قلبه قلقًا من توابع الأزمة التي على ما يبدو لن تمضي على خير، ردد لنفسه في رجاءٍ:
-هاتها معايا جمايل يا رب.
.........................................................
اعتقدت بتفكيرها الأرعن والخاطئ أنها تحمي زوجها من صائدة الرجال بتلك الطريقة المتهكمة المسيئة، فزيفت الحقائق وادعت الأقاويل الباطلة مستمتعة برؤيتها تزداد كمدًا، لكنها في المقابل استهانت بمن منحتها لقب عدوتها، وتلقت إهانة وقحة نالت منها بأسلوب لا يمكن السكوت عنه، استشاطت عينا "خلود" وتطايرت شرارات الغضب منهما، ثم انتفضت واقفة لتصيح فجــأة بصوت مرتفع يحمل الحقد قاصدة إهانتها:
-إنتي واحدة قليلة الأدب ومش متربية.
ردت عليها "فيروزة" بنبرة جليدية دون أن تتأثر ملامحها الجامدة:
-مع أمثالك ببقى كده!
التفت الجميع نحو الاثنتين اللاتين وقفتا في مواجهة بعضهما البعض، ظهرت علامات الكراهية بينهما جلية، وإن كانت الأسباب غير معلومة للبقية، تساءلت "بثينة" في استغرابٍ:
-في إيه يا "خلود"؟ إيه اللي حصل؟!
صرخت وهي تجاوب والدتها مستخدمة سبابتها في الإشارة نحو "فيروزة":
-البني آدمة دي غلطت فيا وفي جوزي، وأنا مش هاسكتلها!
تعقدت ملامح والدتها، وسألتها بنفس الوجه المدهوش:
-نعم؟ ليه إن شاء الله؟!
تطلعت إليهما "فيروزة" بنظرات مستهجنة، ثم ردت عليهما متسائلة بابتسامةٍ ساخطة وهي ترى تلك الحرباء تتلون أمامها لتظهر بمظهر البراءة:
-لوحدي كده؟ يعني هفت على دماغي فجأة إني أهزأك، وأجيب من الأرض وأحط على دماغك؟! مش معقولة بصراحة، للدرجادي أنا مش خبيثة زيك!
وقفت "آمنة" إلى جوار ابنتها ترجوها:
-بالراحة يا "فيروزة" مش كده!
احتقنت نظرات "خلود" أكثر من تطاولها المتواري، وهتفت مستشهدة بزوج خالتها:
-شايف يا عمي طولة لسانها معايا؟
هتفت "فيروزة" مدافعة عن نفسها قبل أن تدور الدائرة عليها، وينساق الجميع وراء أكاذيبها البغيضة:
-أنا مطولتش لساني على فكرة، أنا حطيتك في مكانك الصح، وقبل ما حد يقولي كلمة، أنا كنت قاعدة في حالي، وهي اللي جت لحد عندي تتمسخر وتتمنظر، فمتجيش تزعل لما أرد عليها بنفس أسلوبها.
هتف "خليل" قائلاً بنبرة مضطربة، وقد توتر من بوادر الجدال المحتدم بينهما:
-اسكتي شوية يا "فيروزة"، خلينا نفهم في إيه!
التفتت ناظرة نحوه بعينين ناريتين، في حين نظرت لها "خلود" بحقدٍ، وعلقت بنبرة تميل للاختناق:
-ابلفيهم بالشويتين دول، أل وأنا اللي مفكرة إننا هنناسب ناس محترمين وولاد أصول، لكن آ...
بترت جملتها الأخيرة عن عمدٍ لتجز على أسنانها قائلة:
-طلعتي بنت آ....
وقبل أن تكمل عبارتها قاطعتها "فيروزة" محذرة بلهجةٍ شديدة ألجمت لسانها، وقد تقدمت نحوها خطوة لتنذرها بهجوم بدني وشيك:
-لأ عندك، لو هتغلطي فأنا لوحدى كفيلة أخرسك إنتي واللي يتشددلك!
كان "خليل" مدركًا أن ابنة أخته لن تصمت إن دعس أحدهم على طرفها، لذا اقترب منها وأمسك بها من ذراعها يشدها للخلف وهو يحذرها:
-احترمي وجود كبار العيلة يا "فيروزة".
تدخلت "بثينة" معلقة عليه بكلماتٍ ذات دلالات قوية:
-هي أصلاً فارق معاها حد، ده مافيش احترام خالص، والعينة بينة!!
ردت عليها "آمنة" ونظراتها تحمل العتاب نحوها:
-مايصحش الكلام ده يا حاجة! احنا قبل ما نكون نسايب بينا جيرة وعِشرة!
بينما صــاح "بدير" بنبرته الخشنة ليُلزم الجميع عند حده:
-احنا جايين نتفق على جواز ولا خناق، الكل يسكت خالص.
تحركت "حمدية" من مكانها لتستل ذراع "فيروزة" من زوجها، وقالت بصوت مرتبك وهي تغمز له بطرف عينها حتى لا يمنعها من سحبها إليها:
-ما تصلوا على النبي ياجماعة، في إيه بس؟ ده شيطان ودخل بينا.
صاحت "خلود" قائلة بعنادٍ ووجهها يكسوه تعابيرًا منزعجة:
-الجوازة دي ما تلزمناش و...
هدر بها "بدير" بنبرته الصارمة وقد قست نظراته على الأخير:
-"خلود" اقطمي، مش إنتي اللي هتحددي إيه اللي يلزم وما يلزمش.
تحرجت من أسلوبه الجارح، واضطربت نبرتها معترضة بتلعثمٍ:
-يا عمي آ..
قبضت "بثينة" على ذراعها وشدتها إليها، ثم همست لها بنبرة ذات مغزى:
-اهدي، لينا بيت نتكلم فيه، احنا جايين عشان أخوكي.
علقت عليها بوقاحة وبنبرة أسمعت المتواجدين:
-والله لو أختها آخر واحدة في الدنيا و"هيثم" هيموت عليها، دي تتساب عشان أختها، اللي زي دي استحالة تتعاشر!
ردت "فيروزة" بقوةٍ وقد اشتعلت نظراتها بغضبها:
-تقولش احنا ماسكين فيكو، اتفضلوا بالسلامة.
صاح "بدير" عاليًا من جديد بصوتٍ أظهر انزعاجًا شديدًا:
-أنا قولت إيه؟ الكل يحط لسانه في بؤه ويسكت نهائي!
مالت "بثينة" على ابنتها تهمس لها بمكرٍ:
-اهدي دلوقتي يا "خلود"، جوز خالتك متضايق
بينما قال خليل معتذرًا:
-عندي دي يا جماعة، امسحوها فيا، أكيد مش مقصودة..
ثم التفت إلى ابنة أخته يوبخها:
-بلاش أمور الجنان إياها يا "فيروزة"، خلي اليوم يعدي، احنا بنقول شكل للبيع؟
نظرت له شزرًا قبل أن ترد بغيظٍ مدافعة عن نفسها:
-يا خالي هو إنت فهمت في إيه؟ ولا المدام دي عملت إيه؟!
هتف غير مكترثٍ:
-مش عاوز أعرف، طالما الحاج "بدير" قال كلمة، كلنا نسمعله!
اضطرت مرغمة أن تبتلع لسانها في جوفها احترامًا لذلك الرجل الوقور الذي تقدر مواقفه الجيدة، لكن ظلت نظراتها الحانقة ترتكز على وجه "خلود"، في حين حذر "بدير" زوجة ابنه بصرامةٍ ودون أن تطرف عيناه:
-وإنتي يا "خلود" يا تلزمي أدبك مع ضيوفنا، يا إما هيبقالي صرفة مع جوزك، ولا الأفضل اتصل بيه يجي يلمك؟!
ارتجفت أوصــالها من كلماته الأخيرة، ونظرت في قلقٍ إلى "فيروزة"، كانت تسعى لخلق العدواة بين الاثنين من لا شيء على أمل قطع السبل بينهما، ولكن بطيشها غير المدروس كانت تمهد الطريق لمقابلة جديدة، لذا بما يعتريها من ذعرٍ ردت عليه بنزقٍ:
-خلاص يا عمي، مالوش لازمة تكلمه، عشان خاطرك بس عندي، أنا هتأسفلها كمان
ادعت الابتسام وهتفت بلطفٍ غريب للغاية:
-متزعليش مني يا "فيروزة"، احنا هنبقى عيلة!
تطلعت إليها الأخيرة باندهاشٍ وفكها شبه منفرج، ثم قالت على مضض:
-كويس إنك عرفتي غلطتك.
سألتها "خلود" بنظراتٍ ماكرة:
-مش هتتأسفيلي إنتي كمان؟
قالت بنبرة مستخفة:
-أنا مغلطتش فيكي أصلاً!
وقبل أن تأخذ جملتها على محمل شخصي جاد تخلق به مشكلة أخرى جديدة تنحنح "خليل" مقترحًا:
-خدي بنتك يا "آمنة" واقعدوا على تربيذة تانية، خلوا اليوم يعدي
احتدت نظرات "فيروزة" نحو خالها الذي يضعها دومًا قالب الجانية، وغمغمت في يائسٍ:
-إن شاءالله ما عدى، هنخسر إيه يعني
تحركت "آمنة" من مكانها، وتأبطت ذراع ابنتها لتجبرها على التحرك بعيدًا عن الطاولة الكبيرة، انتقلت كلتاهما للجلوس على طاولة أخرى ثنائية، نفخت "فيروزة" من الضيق الشديد، وسألت والدتها:
-طب ده ينفع؟ احنا متمسكين بالناس دي على إيه؟
ردت عليها والدتها بحيادية:
-القرار في إيد أختك دلوقتي، اللي هاتقوله هانعمله!
ضغطت على شفتيها في عدم رضا، وعلقت:
-ماشي.. أتمنى إنها ترفضـــه!
............................................................
أشاحت بوجهها المتقلص بعيدًا عن تلك النظرات الناقمة المراقبة لها، تعمق بداخلها إحساسًا قويًا بأن تلك المرأة لا تضمر لها سوى الشر، وإن تمت تلك الزيجة غير المتكافئة ستعاني توأمتها من مشاكل جمة بسببها، وضعت "آمنة" يدها على ذراع ابنتها الشاردة، ابتسمت لها قائلة بنبرتها العطوفة:
-متزعليش يا "فيرو" من اللي حصل، كلها شوية ونخلص من الأعدة دي ونرجع بيتنا.
ردت بقليلٍ من الحنق:
-يا ماما إنتي عارفة إن مافيش حاجة تأثر فيا، بس فعلاً أنا بقيت خايفة على "همسة" من العيلة دي، لا هما ينفعونا، ولا طريقتهم مناسبة لينا
علقت عليها بنبرة متوسمة خيرًا:
-ربنا يهدي أختك.
وبحركة تلقائية درات بأنظارها في أرجاء المطعم تتأمل دون هدف معين من متواجد فيه، ارتفع حاجب "فيروزة" للأعلى قليلاً حين رأت صاحب الوجه المألوف يدنو منها وعلى وجهه ابتسامة لطيفة، تحفزت في جلستها وانعكست بوادر الارتباك على محياها، خاصة أنها رأت عزمه على القدوم إليها تحديدًا، نظرة متوترة حانت منها إلى والدتها التي كانت تنظر إلى داخل حقيبة يدها، ازدردت ريقها وتطلعت إلى "آسر" الذي هتف مرحبًا بألفةٍ زائدة:
-يا محاسن الصدف، قلبي كان حاسس إني هاشوفك تاني.
ثم مــد يده لمصافحتها، تحرجت للغاية من جراءته، ثم نهضت لترحب به دون أن تبادله المصافحة، وقالت بلهجة تميل للرسمية:
-"آسر" بيه، أهلاً بحضرتك.
صدفةٌ أم مشيئة القدر، لم يقرر تحديدًا لكن تلك الغبطة التي اكتسحته لرؤيتها كانت تستحق ذلك، لذا هتف بمزيد من المرح الممتزج بضحكاته الحماسية:
-لأ وكمان فاكرة اسمي، ده أنا كده ممكن أتغر.
نظرت "فيروزة" مجددًا إلى والدتها العابسة، حتمًا لم تكن الأخيرة راضية عما يحدث أمام أنظارها، أبعدت عينيها عنها، وتساءلت بنفس اللهجة الرسمية وبتعابيرها الجادة:
-احم.. هو حضرتك هنا مع "ماهر" بيه وباقي العيلة وكده؟
أجابها نافيًا:
-لأ أنا جاي في شغل بأخلصه..
ثم توقف عن الكلام للحظة ليحوز على كامل انتباهها قبل أن يستأنف سؤاله:
-إنتي بقى بتعملي إيه هنا؟
التفتت إلى "آمنة" تجيبه بربكة طفيفة:
-أنا مع والدتي وآ......
قاطعها "آســر" ممررًا يده إلى أمها وهو يرحب بالأخيرة بتهذيبٍ:
-إزي حضرتك يا فندم؟
صافحته متسائلة بفضولٍ واستغراب:
-أهلاً بيك يا ابني، إنت مين؟
تولت ابنتها الإجابة عنه، فقدمته ببسمةٍ متكلفة:
-ده يا ماما "آســر" بيه، ظابط صاحب "ماهر" بيه أخو "علا" صاحبتي
وقبل أن تستشف منها المزيد من المعلومات كان "خليل" يقف على رأس الطاولة متسائلاً بصوتٍ أجش وعيناه محتدتان:
-في حاجة يا حضرت؟
وكالعادة لحقت به زوجته لتشبع فضولها النهم، وتساءلت بابتسامةٍ خبيثة:
-إنتي تعرفي الأستاذ ده يا "فيروزة"؟
استطرد "آســر" موضحًا، ونظراته تدور على جميع الأوجه المحدقة به:
-سوري يا جماعة إن كنت اقتحمت عليكم الأعدة، بس حابب أعرفكم بنفسي، وبالمرة أوضح سوء الفهم اللي حاصل.
.....................................................................
-مين ده يامه؟ اللي واقف مع المزغودة دي؟
قبل لحظات، تساءلت "خلود" في اهتمامٍ مبالغ وعيناها مثبتتان على وجه عدوتها، نظرت "بثينة" إلى حيث أشارت ابنتها ودققت النظر إلى ذلك الشخص الذي يرتدي بدلة أنيقة ويتبادل الحديث الحميمي نسبيًا مع "فيروزة"، مالت عليها وقالت بحيرة:
-ولا أعرف، أنا مشفتوش قبل كده
كزت "خلود" على أسنانها هامسة، وتلك النظرة المشمئزة تكسو حدقتيها:
-بت صايعة بتاعة رجالة، مش ملاحقة تشاغل مين ولا مين! مرة جوزي، ومرة واحد تاني!
للحظة طرأ في بالها فكرة وضيعة كتفكيرها الذي تحول مؤخرًا ليصبح كارثيًا على من حولها، تصنعت البراءة، وقالت بنبرة مرتفعة قدر الإمكان لتضمن سماع الجميع لما تنطق عنه:
-وعلى فكرة يامه دي مش أول مرة أشوف "فيروزة" بتكلم رجالة غُرب، كويس إن ده بيحصل قصادنا، عشان محدش يقول إننا بنظلمها.
استثيرت حمية "خليل" وهتف محتجًا:
-مايصحش الكلام ده يا بنتي، احنا بناتنا متربين! مافيش حد غريب عننا!
هزت كتفيها بحركة مستهزأة، ولوت ثغرها قائلة:
-ما هو واضح إنك مش عارف هما مين، وإلا لكان اللي واقف معاها جه وسلم عليك.
أوغرت ببساطة صدره ناحيتها فانقلبت ملامحه ونهض بأمارات غيظه المتراقصة على صفحة وجهه نحو ابنة أخته قاصدًا إحراجها علنًا، شعرت "خلود" بالنشوة تغمرها من جديد، الآن نالت انتقامها الجزئي منها، وما زال في جعبتها الكثير لأجلها.
............................................................................
ظلت ملامحه هادئة رغم تباين ردات الفعل المنعكسة على الأوجه الناظرة إليه، كان الأمر بديهيًا أحدهم يقتحم جلسة عائلية ليرحب بابنة العائلة دون إظهار احترامه لمن معها، تحتم عليه إصلاح خطأه، وإن تطلب الأمر أكثر من اعتذار، لذا حافظ "آســر" على ابتسامته العملية، وأشــار بيده للجميع مُعرفًا بنفسه:
-أنا أسف يا جماعة إني معرفتكوش بيا، دي غلطتي، بس مش مقصودة، أنا "آسر وهبة" مدير فرع الشئون القانونية للمجموعة العربية للملاحة الدولية في دول الخليج
ومــد يده لمصافحة "خليل" الذي بقي حائرًا لثانية قبل أن يصافحه، في حين نظرت له "فيروزة" باندهاشٍ، وتساءلت وكأنها تفكر بصوتٍ مسموع:
-هو إنت مش ظابط؟!
هز رأسه نافيًا قبل أن يجيبها وهو يدير رأسه لينظر ناحيتها:
-لأ يا آنسة "فيروزة".
لعقت شفتيها وعلقت عليه في حيرةٍ:
-بس إنت كنت مع "ماهر" بيه، والظابط "وجدي"!
أوضح لها ببساطة:
-هما أصحابي فعلاً، ومن زمان من أيام ابتدائي، لكن هما دخلوا شرطة، وأنا دخلت حقوق.
ادعت الابتسام لتخفي حرجها من الموقف برمته، وقالت:
-تمام.. كده فهمت.
حاوطت "حمدية" بذراعها كتفي "فيروزة" لتبدو وكأنها تُكن لها مشاعرًا دافئة، ثم تساءلت بفضولٍ ماكر:
-وعلى كده إنت متجوز يا أستاذ؟
انزعجت "فيروزة" من وقاحة سؤالها ونظرت لها بحدة، في حين ابتسم "آسـر" حين جاوبها بنبرة ذات مغزى:
-لأ لسه.. ومش خاطب كمان!
اتسعت بسمتها اللئيمة وغمزت لـ "فيروزة" بطرف عينها قبل أن تدمدم:
-ربنا يرزقك ببنت الحلال.
سددت لها الأخيرة نظرة نارية مشتعلة، وتنحنحت قائلة بوجهٍ شبه عابس:
-دي فرصة كويسة إننا شوفناك، بس مش حابين نعطلك!
ظلت ملامحه مرتخية وهو يعلق عليها بنوعٍ من الاهتمام البائن عليه:
-مافيش أي عطلة، بالعكس أنا قلبي كان حاسس إني هاشوفك. قصدي إني محظوظ إني اتقابلت مع العيلة الكريمة.
هتفت "حمدية" معبرة بشكلٍ مبالغ فيه وبحنكة ماكرة لتستدرجه:
-ده احنا الأسعد يا أستاذ آ... متأخذنيش أنا ذاكرتي ضعيفة في الأسماء شوية.
نظر نحوها قائلاً بلباقةٍ ليعرف بشخصه مجددًا حتى يتسنى للجميع تذكره:
-اسمي "آسر" يا هانم، "آسر وهبة".
.........................................................................
حملقت في زرقة المياه المغرية بنظرات مطولة شبه ساهمة، كانت تهرب من إحساسها المتزايد بالألم بإمعان النظر في تلك الأمواج المتلاحقة، وامتزج صوته الأجش مع أصوات حركة المياه الثائرة ليحفر ذلك لمشهد بجميع مؤثراته في مخيلتها، باتت "همسة" على وشك الصراخ طلبًا للنجدة، لكنها قاومت قدر استطاعتها معتقدة في نفسها أنها ستتغلب عليه. دنا "هيثم" منها، وبقلبٍ يقفز طربًا سألها، وكأنه لا يجد ما يحاورها فيه:
-مبسوطة؟
التفتت ناحيته تطالعه بغرابةٍ، وردت متسائلة:
-من إيه بالظبط؟
ازدرد ريقه وتابع بارتباكٍ أبله مستخدمًا يده في التلويح:
-من المكان، من الجو.. أي حاجة يعني.
هزت رأسها قائلة وذلك الوخز المميت ينخر في جانبها:
-كله تمام.
لاحظ "هيثم" تلك التقلصات الظاهرة على تعبيرات وجهها، دقق النظر فيها وسألها مهتمًا:
-إنتي كويسة؟
ضغطت على شفتيها معترفة له بصوتٍ بطيء مكتوم يعبر عن مدى تألمها، وقد انحنت قليلاً للأسفل وواضعة ليدها على جانبها الأيمن:
-لأ.. حاسة إني.. بأموت.
تبدلت تعابيره المبتهجة للخوف، وسألها وهو يفحصها عن كثب:
-مالك يا "همسة"؟ في إيه؟
أطلقت صــرخة عميقة من جوفها قبل أن تتكوم على نفسها على الشرفة وهي تبكي بحرقة من شدة الألم الذي يفتك بجانبها. جثا "هيثم" على ركبته أمامها، تفقدها بنظراته، والتفت برأسه مناديًا في لوعةٍ:
-يا جماعة حد يلحقنا بســـرعة!
وعلى إثر صراخها المرعب تجمع المتواجدين بالمطعم، ومن ضمنهم أفراد العائلتين حولها، كانت "فيروزة" الأسبق في الوصول لتوأمتها بعد أن دفعت من يسد الطريق عليها لتبلغها، وضعت يدها على ظهرها وجثت على ركبتيها تسألها في جزعٍ:
-حصلك إيه يا "همسة"؟
رفعت الأخيرة نظراتها الباكية إليها، وأجابتها بصعوبةٍ:
-مش قادرة، بأموت.
اخترقت "آمنة" صفوف المحاوطين لصغيرتها، وهتفت بقلب أم خائف للغاية:
-بنتي، جرالك إيه؟ إنتي كنتي كويسة و..
هتف "هيثم" فجــأة وقد حسم أمره:
-أنا هوديها لأقرب مستشفى، مش هاسيبها كده.
لم ينتظر الرد من أحدهم، حيث أزاح "فيروزة" من طريقه بالرغم من تذمرها، وأحنى نفسه عليها ليمرر ذراعيه أسفل ركبتيها وحول جسدها ليتمكن من حملها، ألقت "همسة" برأسها على صدره وجفناها مطبوقان من شدة الألم، لم تتوقف عن البكاء وقالت له بصوتٍ بالكاد سمعه:
-الحقني.
نظر لها بعينين مرتاعتين، وهتف يعدها بصوتٍ لاهث من فرط خوفه عليها:
-أنا معاكي، مش هايحصلك حاجة!
.......................................................
لحظات عصيبة مليئة بالخوف والترقب مرت على كلتاهما وهما ينتظران في ردهة المشفى ما سيخبرهما به الطبيب بعد الكشف الأولي على حالتها، احتضنت "فيروزة" والدتها، وحاولت تهدئتها بكلماتٍ متفائلة بالرغم من الخوف الذي يسري في أوصالها، لكن عليها أن تبدو قوية الشكيمة أمامها، ألا تنهار مع مصائب الدهر، لتكن هي الحائط المتين الذي تستند عليه، تنهدت قائلة لتشد من أزرها:
-إن شاءالله الدكتور هيطلع ويطمنا عليها، "همسة" هتبقى كويسة ومافيهاش حاجة.
ردت بحزنٍ وهي تمسح دمعاتها المنسابة على وجنتيها:
-يا رب
بالطبع لم يتخلَ "بدير" عن دوره الشهم في مد يد العون لتلك الأسرة، وتواجد بنفسه مع "خليل" و"حمدية" ليطمئن بنفسه على الفتاة المريضة، عرض عليهما بجديةٍ:
-متشلوش هم أي حاجة، المهم نطمن عليها
رد "خليل" مجاملاً:
-كتر خيرك يا حاج "بدير"، والله ما عارف أقولك إيه، أنا حاسس إني إيدي متكتفة، ومش عارف أعمل حاجة
ربت على كتفه مهونًا عليه:
-متخافش، كلنا أهل وجيران
أخفت "حمدية" ابتسامة مستمتعة بالعرض الهزلي الذي يقدمه زوجها، وكأنه يستجدي بذلك عطفه، وإحسانه، والأهم بالطبع نقوده الطائلة، فلا يضطر لإنفاق أي شيء من جيبه بسبب تلك القرابة، تنحنحت تشكره هي الأخرى بوجومٍ زائف:
-احنا غلابة أوي يا حاج، ربنا بعتك لينا في الوقت المناسب
بينما وقف "هيثم" بجوار الباب المعلق أعلاه لافتة (طوارئ) ونظراته مرتكزة عليها، ظل يغمغم بكلمات غير مفهومة، حانت منه نظرة تائهة إلى والدته التي جلست على المقعد المعدني والتصقت بأخته، كلتاهما لم تتوقفان عن الهمس الغامض، استطردت "بثينة" تقول بتذمرٍ:
-مش عارفة لازمتها إيه أعدتنا دي
ردت عليها "خلود" على مضضٍ:
-البركة في "هيثم"، هو اللي مجرجرنا ورا الهانم بتاعته لحد هنا
أخفضت والدتها نبرتها وهي تضيف:
-أنا اتشائمت من الجوازة دي، مش جاي من وراها إلا المصايب
همست تؤيدها، وقد شردت تفكر في مخاوفها غير الحقيقية من "فيروزة":
-ومين سمعك!
أوحت ملامح الاثنتان بأنهما غير راضيتان عن تصرف "هيثم" المليء بالمروءة، تجاهلهما الأخير مرغمًا ليبقى في مكانه منتظرًا من يخرج إليه ليطمئنه، انتصب واقفًا حين لمح إحدى الممرضات تسير عائدة من الداخل، أسرع نحوها ليسألها متلهفًا:
-أخبار "همسة" إيه؟
أجابته بنظرة جامدة وهي تتفحص وجهه:
-مين دي؟
صاح منفعلاً:
-البنت اللي لسه جايبها من شوية، ودخلناها عندكم.
هزت رأسها وقد تذكرت شأنها، ثم سألته بسماجةٍ:
-إنت قريبها؟
أجاب بنفاذ صبر وهو يشير بيده:
-أيوه، أنا خطيبها، وأهلها كلهم هنا.
ألقت نظرة عابرة على الأشخاص الذين انتفضوا في أماكنهم، وتحركوا نحوها ليبدو قريبين منها، وعلقت بنبرة روتينية بحتة:
-دلوقتي الدكتور هيخرج من عندها ويطمنكم.
كان "هيثم" على وشك سبها لبرودها الذي لا يُطاق، لكنه أمسك أعصابه وكظم غيظه داخله، فمن المعروف عن تلك الفئة التي تصادف يوميًا عشرات الأنواع من أنماط البشر الثبات الانفعالي والهدوء التام لاعتيادهم الواضح على ردات فعلهم المختلفة ..
لاحقًا خرج طبيب ما من ذلك الرواق الممتد متسائلاً بصوتٍ مرتفع:
-فين قرايب المريضة "همسة"؟
صاحت "فيروزة" عاليًا لتلفت انتباهه وهي تركض نحوه:
-أنا أختها.
بينما تدخل "هيثم" فارضًا ومعرفًا بنفسه:
-وأنا خطيبها.
رمقته "فيروزة" بنظرة حادة قبل أن توجه سؤالها المباشر للطبيب:
-أختي مالها؟
أجابها بلهجة عملية وبجملٍ مرتبة موضحًا طبيعة حالتها:
-عندها اشتباه في الزايدة، واحنا دلوقتي بنعمل معاها الفحوصات اللازمة قبل ما نجهزها للعمليات.
تفاجأت مما أصابها، وردت في صدمةٍ:
-إيه؟ أنا أختي مكانتش بتشتكي من حاجة!
-عيني عليكي يا بنتي، كان مستخبيلك الهم ده فين؟!!
صرخت "آمنة" بتلك العبارة وهي تلطم على صدغيها في ارتعادٍ وحسرة، رمقها الطبيب بنظرة عادية قبل أن يكمل بهدوء اعتاد التعامل به مع عائلة المريض:
-الأعراض واضحة عليها، وزي ما فهمتك احنا بنعمل الفحوصات اللازمة..
ثم وزع نظراته بين "فيروزة" و"هيثم"، وتابع بلهجته الرسمية:
-من فضلكم حد يعدي على الحسابات ويكمل باقي الإجراءات هناك قبل ما نوديها للعمليات.
ردت عليه "فيروزة" دون تفكيرٍ:
-الفلوس مش فارقة معانا، المهم هي تبقى كويسة.
قال مبتسمًا:
-تمام.. متقلقيش، دي حاجة بسيطة، وكل يوم بنعملها، والمرضى بيقوموا منها بخير.
أحست بالارتياح لعباراته المطمئنة، وقبل أن تفكر في خطوتها التالية هتف "هيثم" بجديةٍ:
-خليكي هنا مع أختك وأنا هاتصرف وأشوف عاوزين كام في الحسابات، ماتشليش هم حاجة.
نظرت له بحدةٍ قبل أن تعترض طريقه لتستوقفه بالإجبار، ورغم صفاء نيته إلا أنها شعرت أنه يمس كرامة عائلتها ويخص شأنهم، لذا رفضت عرضه السخي قائلة بكبرياء:
-شكرًا، الحمدلله مستورة معانا، أختي مُلزمة مني، مش من الغريب!
نطق مستنكرًا تزمتها الفارغ:
-حتى لو أنا غريب دلوقتي، فاحنا جيران ومن حتة واحدة، وماتربناش على كده.
أصرت على موقفها الرافض:
-برضوه متشكرين، وكفاية تعبكم لحد كده..
ثم نظرت إلى والدته وأخته المحدقتين بها، وتابعت بما يشبه التهكم:
-ويا ريت تشكرلنا العيلة الكريمة، قاموا بالواجب وزيادة!
رد عليها معاندًا:
-أنا بأعمل بالأصول.
ابتعدت عنه "فيروزة" وهي عاقدة العزم على ألا تقبل المساعدة المادية منه أو من غيره، ستتكفل بمصاريف المشفى وإن كان ذلك يعني الاستغناء عن الأموال المدخرة لشراء ما قد يلزم لتجهيزها مستقبلاً، الأهم نجاتها من ذاك الألم المميت، لذا طلبت من والدتها الانتظار بجوار أختها ريثما تحضر المبلغ المطلوب .. في حين أرهفت "بثينة" السمع للكلمات الأخيرة التي تلفظ بها ابنها، ثم التفتت إلى "خلود" تشكوها في غيظٍ:
-شايفة أخوكي واللي بيعمله؟
علقت عليها ساخرة منه ونظراتها الحقودة مثبتة على "فيروزة":
-أه يامه، الحبيب بيتكلم! عاوز يكسب بونط معاهم!
تقدم "هيثم" مندفعًا ناحية والدته، ودفعها برفقٍ من ظهرها للجانب، ثم سألها بصوتٍ خفيض:
-يامه معاكي قرشين كده سلف أحطهم تحت حساب المستشفى للبت "همسة"، و آ....
قاطعته معتذرة ومدعية الفقر:
-منين يا ابني؟ أنا على الحميد المجيد، يدوب اللي معايا يكفي مصروف البيت لآخر الشهر، لو كان معايا بزيادة كنت اديتك.
غامت عيناه في ضيقٍ، وردد حائرًا، وكأنه يستشيرها وهو يفتش عن الأنسب بين خياراته المتاحة:
-طب أجيب فلوس منين دلوقتي؟!
قالت ببرودٍ يعكس تهكمها:
-دي مش مسئوليتنا، هي معاها أهلها، هما أكيد عاملين حسابهم ومدكنين قرشين تحت البلاطة لزوم الظروف اللي زيي دي، اسمع مني!
نظر لها في عتابٍ والتزم الصمت غير محبذٍ للتعليق عليها، خاب رجائها فيها، وشرد مستغرقًا في أفكاره باحثًا عن حل سريع، اقترحت عليه والدته ببسمة ماكرة:
-طب أقولك روح خد من جوز خالتك، هو مش هايقولك حاجة، ده ياما بيعمل خير وآ...
ودَّ "هيثم" لو تمكن من مساعدتها دون اللجوء لزوج خالته ليثبت لها أنه قادر على تحمل المسئولية في أشد الأزمات، شعر بالعجز وبقلة الحيلة وهو لا يملك في جيبه ما يكفي لإظهار شهامته، ومرة أخرى يندم بشدة لإنفاقه أمواله هباءً .. ضاقت نظراته بشكلٍ منفر، ولم يتحمل كلام والدته غير المقبول، وقاطعها بتبرمٍ:
-خلاص يامه أنا هاتصرف.
نظرت له بغرابةٍ قبل أن تهتف متسائلة:
-هتعمل إيه؟
تجاهل الرد عليها ليهرع في خطواته متجهًا نحو مخرج المشفى، اضطربت أنفاسه وغص صدره بالبكاء، لكن عاد الأمل ليرفرف فوق رأسه وقد تذكره، ودون ترددٍ أخرج من جيبه هاتفه المحمول، وضع الهاتف على أذنه وقد تطرق إلى ذهنه ذلك الحل الذي وجده مناسبًا له، دار حول نفسه في توترٍ وهو يحاول جاهدًا ترتيب أفكاره قبل أن يبوح بها إليه، ثم هتف دون مقدماتٍ حين أجاب عليه الطرف الآخر:
-"تميم"، أنا عاوزك في خدمة مش هنسهالك طول العمر ............................................ !!
تابع من هنا: جميع فصول رواية دموع هواره بقلم لولو الصياد
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا