مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الرابع والثلاثون من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .
حزمة من المشاعر اليائسة غزت وجدانه بعد أن أحصى عقليًا وبحسبة سريعة ما يدخره من مال، لم يملك من كده اليومي حين التزم طريق الحلال سوى القليل الضئيل الذي لا يذكر أو حتى يصلح لشراء باقة من الورد لمعايدتها بعد تماثلها للشفاء، فماذا عن دفع تكاليف العلاج بالمشفى؟ لعن "هيثم" استهتاره الدائم الذي أوصله لتلك الحالة من العوز والاحتياج، عبث بشعر رأسه، وتابع مكالمته مع "تميم" قائلاً له على عجالةٍ:
-دول مش ليا.
-اقسم بالله أبدًا، أنا وعدتك ووعدتها.. ولحد النهاردة ملتزم بكلمتي...
-"همسة".. خطيبتي!
-اهدى كده، وفهمني في إيه، ومستشفى إيه اللي بتحكي عنها، ومتقلقش هاجيبلك كل اللي إنت عاوزه، وبزيادة.
تنفس "هيثم" الصعداء لدعمه الذي هبط عليه كنجدةٍ من السماء، ومسح بيده الدمعات التي فرت من طرفيه، ثم قال وهو يسحب نفسًا عميقًا:
-حاضر، بس بالله عليك ما تتأخر.
-أنا جايلك في الطريق.
تنهيدة ثقيلة خرجت من جوف "هيثم" أزاحت معها همًا قابضًا للأرواح جثم على أنفاسه طوال تلك الدقائق الماضية، بدأ يستعيد انضباطه، وســرد له تفاصيل ما حدث في المطعم منذ لحظة انهيار "همسة" وذهابه بها إلى المشفى بصحبة أفراد العائلتين.
...............................................................
لم تمهل نفسها الفرصة لالتقاط الأنفاس، بمجرد أن دست المفتاح في قفل الباب ووطأت داخل منزلها، ركضت "فيروزة" نحو غرفة نوم والدتها، اتجهت إلى دولاب الملابس حيث تحتفظ والدتها في الرف الأوسط بصندوقٍ صغير تضع فيه مدخرات الفتاتين من أجل تجهيزهما حين تحين لحظة زواجهما، كانت تعرف هدفها جيدًا، فلم تضع الوقت في البحث والتفتيش، أزاحت الثياب التي يختبئ الصندوق أسفلها، وفتح الصندوق بالمفتاح الصغير المعلق به، أخرجت جميع النقود الموجودة به، وطوتهم بإحكامٍ قبل أن تحشرهم في جيب حقيبتها، كانت على وشك غلق الدولاب حين لمحت علبة القطيفة الحمراء، رددت لنفسها:
مدت يدها للرف العلوي لتسحبها نحوها، ثم فتحتها لتعلو الدهشة المستنكرة كامل ملامحها، كزت على أسنانها متسائلة في ضيقٍ:
-عمومًا ده مش وقته، هتكلم مع ماما في حكايته بعدين، المهم دلوقتي "همسة" وبس.
أوصدت الدولاب وتحركت بخطوات متعجلة إلى خــارج الغرفة، أغلقت الباب خلفها، ومنه تابعت سيرها السريع نحو باب المنزل، وهي تأمل في نفسها ألا تكون قد تأخرت على توأمتها.
..................................................................
كل ما شغل حيز تفكيره في تلك الأثناء هو كيفية إحضــار النقود المطلوبة دون إضاعة المزيد من الوقت، فالدقائق تكلف كثيرًا في حالة مريض تتوقف حياته على الثمن الذي يدفعه لتلقي العلاج الفعال، كان "تميم" متواجدًا بالدكان أثناء تلقيه للمكالمة الهاتفية، لهذا اتجه إلى الخزانة القديمة الضخمة الموضوعة عند الزاوية ليسحب منها ما يريده من أموال، ركض نحو سيارته، وقــادها بتعجلٍ نحو المشفى الذي لم يكن ببعيدٍ عنه، وظل على تواصلٍ مع "هيثم" ليعرف منه آخر المستجدات، وعندما بات أمام مدخل المشفى قال له بصيغة آمرة:
-ماشي.
وفي المكان المخصص لركن السيارات، صف "تميم" خاصته به، ثم ترجل منها وهرول نحو الدرجات يصعدها دفعات، التقط أنفاسه عند الاستقبال وهو يجوب بعينيه القلقتين على الأوجه المتواجدة، أوقف إحدى الممرضات يسألها:
-هتطلع من السلم اللي هناك ده، الدور الأول، آخر الطرقة يمين.
قالها وقد شرع يهرول في اتجاه السلم ليكمل صعوده الراكض عليه، وقبل أن يصل إلى الغرفة المنشودة كان "هيثم" ينتظره في الردهة، هلل الأخير فور أن رأه:
-"تميم"! أنا أهوو..
تناول منه المظروف وألقى نظرة خاطفة على المبلغ الكبير قبل أن يغلقه لينظر إليه قائلاً بامتنانٍ:
-كده تمام أوي، الله يكرمك يا "تميم"، مش عــارف أقولك إيه، إنت أنقذتني وآ....
التفت كلاهما نحوها لينظرا باندهاشٍ لتلك التي تركض وعرقها الغزير ينساب على جبينها، حتى خصلاتها تنافرت وتبعثرت بشكلٍ فوضوي، بالطبع ظهر تأثير رؤيتها المفاجئ على "تميم"، إنها نفس الخفقة العجيبة التي تضرب فؤاده وتصيبه بربكة موترة، حَجم من مشاعره التي تضاربت في حضرتها ليسألها بلهجته الصارمة وهو ينظر إلى عينيها المنزعجتين:
رمقته بنظرة حادة، ثم انخفضت نظراتها نحو المظروف، خمنت دون سؤال عما يحتويه، وردت بشموخٍ وهي تتطلع إليهما رافضة إقحام أيًا منهما في شئون عائلتها سواء المادية أو المعنوية:
-بأقولك إيه أنا آ......
قاطعه "تميم" بصوته القوي، ومشيرًا بيده دون أن تبتعد نظراته المتأملة عن وجه "فيروزة":
-حاضر.
أوشكت "فيروزة" على اللحاق به وإيقافه، لكن اعترض "تميم" طريقها بجسده، توقفت عنوة حتى لا ترطم بصدره بسبب اندفاعها المتعجل، نظرت له شزرًا ثم تحركت في الاتجاه الآخر لتتجاوزه، لكنه سده عليها وقد فــرد ذراعيه في الهواء، منحته نظرة نارية من عينيها قبل أن تصرخ به بعصبيةٍ:
-مش في رجالة موجودين؟ هما اللي بيخلصوا الحاجات دي، فماتتعبيش نفسك.
تأمل "تميم" سكونها اللحظي بنظرات متفحصة، كانت كشعلة من النار الملتهبة ألسنتها، والتي يزداد أوجها بشكلٍ مثير حين تغضب، ورغم هذا كانت تجعل كامل حواسه في حالة استنفارٍ عجيبة، وكأنها تحثه بكل ما تملكه من وسائل هجومية على عدم الاستسلام والخوض معها في معركة طويلة الأجل، طالعته بنظرة غريبة حين رأت نظراته الساهمة نحوها، ثم هتفت بتنهيدة محبطة وذلك التقوس المستنكر يعلو زواية شفتيها:
-يعني مش معقول، كده كتير بجد.
-معلش استحمليني.
ابتسمت في سخرية وقد عاد إلى ذهنها مشهدًا ليس ببعيدٍ عنها، حين أخبرتها زوجته بأنه لا يتقبلها مطلقًا، ويكن لها كراهية مفهومة، لم تتحمل سخافة الموقف، وسألته بما يشبه الإهانة:
-منافق! حاسبي على كلامك.
-ما هو مالوش تفسير اللي بتعمله غير كده، أكيد واحد مش طايق يبص في خلقتي، ولا أنا أصلاً بأقبلهن فجأة بقدرة قادر جاي يعمل معروف معايا، لأ شكرًا مش عاوزين حاجة من حد، الحمدلله ربنا ساترها معانا، وموصلش الأمر إننا نشحت على أختي، لأ ومنك!
تطلع إليها في اندهاشٍ متعجب من الأقاويل التي تملي بها أذنيه، وسيطر على غضبه الذي اندلع كردة فعل طبيعية بداخله، سحب شهيقًا عميقًا لفظه دفعة واحدة، ثم قال بتمهلٍ:
-طيب .. أنا مش هسألك على اللي قولتيه ده دلوقتي، أنا مقدر الظروف!
حاولت تخطيه لكنه احتل الطريق بجسده ومنعها من المرور فلم تجد إلا صدره العريض أمامها، وكأنه بذلك يتحداها، رفعت عينيها إليه فوجدت نظراته المحتقنة مسلطة عليها، وبصوتٍ بدا مشدودًا سألها:
ضجرت من لغوه الفارغ معها، ومن تلاعبه المستهلك بعقلها، وكأنه بذلك يضيع الوقت عليها، إذًا لتوقفه عند حده إن كان لا يفهم إلا بلغة العنف، ودون أن يتوقع ردة فعلها شحذت "فيروزة" قواها المنفعلة ودفعته من صدره بكلتا قبضتيها لتتمكن من تحريكه من مكانه خطوة للخلف وهي تصرخ به:
تفاجأ من قساوتها العنيفة التي حفزته، أصبحت تعابيره متقلصة للغاية، كانت على وشك تكرار نفس الفعلة الجنونية، لكن امتدت يداه لتمسك برسغيها، ثبتهما للأسفل مستخدمًا قوته الذكورية الكامنة فيه، وشدَّ بأصابعه وعيناه تنظران مباشرة في حدقتيها المحتدتين، استجمع هدوئه، وضبط غضبه، ثم قال لها بصوته الخفيض:
-لو قصدك على خطوبة "هيثم" بأختك، فده اختيارهم، أنا ماليش فيه.
أرخى أصابعه عنها فسحبت على الفور يديها للخلف، وبدأت تفركهما، تنهد من جديد ثم رفع كفيه أمام وجهها متابعًا كلامه:
-ده مش موضوعنا، المهم دلوقتي نطمن على أختك، مشاكلك مع "هيثم" أو غيره تحليها بعدين.
فتحت "فيروزة" شفتيها لترد عليه بلهجة قاسية شديدة لتلزمه بحدوده معها فلا يتجاوز مطلقًا تحت أي مسمى، لكن الصوت المألوف المنادي باسمها جعلها تدير رأسها للخلف في اتجاه مصدره غير متوقعة ما أبصرته عيناها ........................................ !!
رمشت بعينيها عدة مرات لتتأكد من هويته، انفرجت شفتاها عن دهشة مصدومة، كان أمر حضوره إلى هنا بالتحديد مستبعدًا عن ذهنها، لم تتصور مطلقًا أنه سيتبعها إلى المشفى بعد لقائها الحرج معه في المطعم، انطفأت شعلة اللهب الغاضبة الظاهرة على صفحة وجهها ليحل بدلاً منها الارتباك والتوتر، التفتت "فيروزة" كليًا نحوه متناسية وجود "تميم" معها، ورددت بعفوية دون أن تنتقص صدمتها:
-إنت ..؟!
تقدم "آسر" بابتسامته المنمقة نحوها، وقال معتذرًا:
-أنا أسف إن كنت مجتش معاكي من الأول..
تأهبت في وقفتها وظلت تتطالعه بغرابةٍ وهو يكمل ببسمته المرسومة بعناية:
-بصراحة مكونتش متأكد إن كانت المستشفى هنا بتقبل الدفع بالفيزا ولا لأ، فروحت البنك أسحب فلوس كاش..
تفاجأت مما فعله، ورأت تلك الحقيبة الجلدية الصغيرة معلقة في يده، وقبل أن يتم جملته للنهاية قاطعته بتلعثمٍ خفيف وقد لانت ملامحها نسبيًا:
-شكرًا يا.. أستاذ "آسر".. مكانش ليها لازمة تتعب نفسك.
رد معتذرًا من جديد بتهذيبٍ واضح:
-تعب إيه بس؟ ده أنا مقصر خالص، كان المفروض أتحرك بسرعة عن كده وأقف جمبك من البداية.
لم يستسغ "تميم" تلك اللطافة الزائدة منه، كانت مصطنعة للغاية، شعر وهو يتابع حواره الكلامي بسماجة فائضة غير مستحبة زادته نفورًا من ناحية شخصه اللزج، ابتسمت له "فيروزة" مجاملة، ورققت من نبرتها حين قالت:
-كتر خيرك، كلك ذوق.
تصاعدت الدماء بقوة في رأس "تميم" وهو يصغي إلى ردها الناعم معه، هي ليست من النوع المتساهل مع الرجال، بل القسوة عنوان صوتها، وتلك النبرة الأنثوية الهادئة استثارت مشاعره بدرجة أكبر، فأصبح في حالة لا يحسد عليها، تنفس بعمقٍ ليضبط انفعالاته التي بدت في حالة ما بين الجنون والغضب الأعمى، كبحها قدر المستطاع علها تحط في أعماقه، نظر لها مليًا بضيقٍ، شعر وكأنها تتعمد استفزازه برقتها الغريبة مع غيره، لذا تنحنح بصوتٍ مرتفع نسبيًا ليلفت انتباهها إلى وجوده فتكف عن إيذائه بذلك الشكل السافر قبل أن يستطرد قائلاً بنبرة جافة مالت للخشونة:
-متشكرين يا حضرت، الرجالة عملوا الواجب وزيادة.
استدارت "فيروزة" ناحيته، حدقت فيه بقسوةٍ، اختفت الرقة من تعبيراتها عندما ردت عليه بعبوسٍ:
-لا معلش، أنا مش عاوزة حد من طرفكم يساعدني.
استقام في وقفته الرجولية فبدا أكثر مهابة وقوة، ثم رد معاندًا إياها:
-ودي مش مساعدة يا أبلة، ده واجب علينا.
قالت بتبرمٍ، وتلك النظرة الحادة تعلو حدقتيها:
-وأنا مش محتاجاه.
ثم التفتت ناحية "آسر" تعتذر منه:
-وبرضوه بأشكرك يا أستاذ "آسر" على ذوقك، لكن مستورة والحمدلله.
هتف الأخير بإصرارٍ:
-يا آنسة "فيروزة"، طبيعي كلنا نقف مع بعض وقت الأزمات، ماتتكسفيش مني..
وبجراءة غير مقبولة مد "آسر" ذراعه نحوها، وأمسك بيدها ووضع النقود في كفها بالإجبار، ذُعرت من حركته المباغتة ونفرت منه، شعرت بالغضب يجتاحها لمحاولته فرض الأمر عليها، احتقن تورد بشرتها، وردت بحدةٍ وهي تحاول إعادة النقود له دون أن تمسه:
-لأ مش هاينفع كده.
شخصت أبصار "تميم" من تجاوزه الوقح، ودون تفكيرٍ انتشل النقود من يد "فيروزة"، ثم خطى للأمام خطوتين نحو ذاك اللزج ليقطع عليه طريق الود المائع معها بجسده المشدود، حجب عنها الرؤية عن قصد، ووجه نظراته المنذرة إليه، ثم قبض على معصمه، ودس النقود بعنفٍ في راحته قاصدًا إيلامه .. سدد له نظرة نارية أخرى أشد حدة قبل أن يقول بصوتٍ أجوف مهدد يعكس قساوة غريبة:
-هما الرجالة اللي واقفين قصادك دول مش ماليين عينك؟ عين فلوسك في جيبك
استنكر "آسر" تصرفه الفظ، وقال بوجه ممتقع:
-افندم..؟
زجره "تميم" بنبرته التي اخشوشنت أكثر:
-سمعتني كويس، ولا تحب أعيد؟!
احتجت "فيروزة" على تدخل "تميم" في شئونها، وإن كانت رافضة لذلك التصرف الجريء من "آسر" لإقناعها بقبول مساعدته، ومع ذلك صبت جام غضبها على الأول، ونهرته بتشنجٍ:
-حد كلمك أصلاً؟ ولا طلب منك تدخل؟ ده شيء يخصني أنا
نظر ناحيتها بعينين غائمتين، ورد بجمودٍ:
-أنا بأعمل الأصول يا أبلة لو كنتي نسيتي...
ثم تركزت كامل نظراته على وجه "آسر" وهو يستأنف تهديده الصريح له:
-في حاجات ماينفعش أشوفها وأعديها، ويحمد ربنا الأخ إنه حوالينا ناس، وإلا كنت خليته يحجز بالفلوس دي سرير في عنبر 6 فوق!
قست تعابير "آسر" وقد فطن إلى كونه يحاول جعل الأمر يبدو استعراضًا للقوة الذكورية، فسأله ببرودٍ متعمدًا تحديه:
-ده تهديد يا أخ إنت؟
تقوست شفتا "تميم" عن ابتسامة مغترة وهو يرد:
-أيوه..
أشــار "آسر" بسبابته نحوه موجهًا حديثه لـ "فيروزة" ليسألها مباشرة، وبقيت نظراته الساخطة مسلطة عليه:
-قبل ما أغلط فيك، قريبك ده يا آنسة "فيروزة"؟ أصل أنا ماينفعش حد يهددني بالشكل ده وأسكتله!
ابتسامة استخفاف احتلت شفتيها قبل أن ترد:
-ولا أعرفه!
تحفز "آسر" للاشتباك معه بعد أن أعاد النقود إلى داخل الحقيبة الجلدية الصغيرة، وقال متسائلاً بنبرة تحمل الإهانة:
-طب حضرتك بتدخل بصفتك إيه؟! إذا كان الآنسة نفسها متعرفكش! رزالة يعني؟ ولا شو قصادنا؟ يا ريت تفهمنا
اربد وجه "تميم" بغضبه المحموم رافضًا أسلوبه التهكمي المستهون بشخصه وبما يمكن أن يفعله إن فقد أعصابه، وخرجت الأمور عن السيطرة، ثم حدجه بنظرة مخيفة من عينيه اللاتين التهبتا بشدة، ورد بجمودٍ وهو يلكزه في كتفه بعنفٍ:
-دي حاجات أكبر من اللي زيك، صعب تعرفها لوحدك.
اغتاظ "آسـر" من تجريحه الواضح لشخصه وتقليله من شأنه، فلجأ لاستحقاره قائلاً بنظرة متعالية:
-خلاص أنا كده فهمت النوع بتاعك، إنت من اللي واخدينها بلوي الدراع.
لم يتحمل استهزاء ذلك الغريب به، فحرك "تميم" ذراعه نحوه ليمسك به من طرف سترته باهظة الثمن، جذبه بقوة نحوه، وكأنه خرقة لا يزن شيئًا، عجز "آسر" عن مقاومته أو الابتعاد عنه، كان غليظًا للغاية في تعامله، ثم حذره الأول بلهجة قاتمة وعيناه تنظران له بشراسةٍ:
-طب كويس إنك عرفت نوعي، عشان لما بأزعل ببقى غبي!
على الفور تدخلت "فيروزة" لتمنعه من الاعتداء عليه، وصاحت فيه بنبرة غلفها الصراخ المهدد:
-ابعد عنه، إنت مابتفهمش غير في البلطجة وبس.
هتف "آسر" يتوعده، وهو يحاول تخليصه نفسه من براثنه، وكأنه بذلك يحاول لم كرامته التي بعثرها بسهولة أمامها:
-خد بالك أنا محامي مهم، أقدر ألبسك تهمة وأنا واقف هنا في مكاني، ده غير إن معارفي كتير، فبلاش اللي زيي يأذيك أحسن.
ضحك "تميم" مستخفًا بجمله المتباهية، وتركه متعمدًا المسح على كتف بدلته كما لو كان ينظفها قبل أن يعلق عليه:
-الصراحة خوفت، وهاجيب ورا.. بس مش عشانك، عشان أخت الأبلة!
ضاقت نظرات "فيروزة" من عبارته المبهمة، في حين عــاد "هيثم" من الداخل وقد انتهى من الإجراءات المادية الخاصة بحالة "همسة"، نظر بغرابة إلى الثلاثة المتشاحنين، وتساءل في فضولٍ ليثير انتباههم:
-خلاص يا ابن خالتي، هو في إيه؟!
وضع "تميم" يده على كتفه وهو يهز رأسه في تفهمٍ، ثم قال ببرودٍ، وعيناه تحدقان في وجه "آسر" بتوعدٍ مريب:
-بينا يا "هيثم"، وقفتنا هنا مالهاش لازمة.
تحركت "فيروزة" لتعترض طريقه، ثم هتفت فيه بصوتها الغاضب:
-استنى إنت رايح فين؟
أخرجت النقود من حقيبتها ورفعتها أمام وجهه متابعة بشراسةٍ:
-خد فلوسك اللي دفعتها، أنا مابشحتش .. !
ثم سحبت شهيقًا سريعًا لتكمل به هجومها عليه:
-ولا دي حركة متفق بيها مع مراتك عليا عشان تعايرونا بيها بعدين؟!
رمقها "تميم" بنظرة مستنكرة، مزعوجة، غريبة، نافذة، ومليئة بالغموض، لم تفهم طريقة تحديقه بها، واغتاظت أكثر عندما دفع ابن خالته للجانب ليبتعدا عن طريقها وهو يأمره:
-يالا..
صاحت من خلفه بصوتها المرتفع:
-فلوسك هترجعلك، سامعني.
تجاهلها مرغمًا ليتابع سيره، بينما حملقت "فيروزة" في ظهره وهو يبتعد بنظراتٍ مغتاظة، ودمدمت قائلة لنفسها:
-أنا مشوفتش في حياتي كده!!
ظلت نظراتها تتبعه إلى أن هبط الدرجات واختفى، في حين هندم "آسر" من سترته التي فسد مظهرها مرددًا بعض العبارات المنزعجة، فاستدارت "فيروزة" ناحيته لتقول معتذرة عن وقاحة ذاك البلطجي معه:
-أنا أسفة يا أستاذ "آسر"، إنت اتحطيت في الموقف البايخ ده بسببي، مش عارفة أقولك إيه!
رد مبتسمًا وهو يحرك رأسه للجانبين:
-ولا يهمك، أنا غرضي أساعد و...
ودون أن تسمع باقي جملته قاطعته في امتنانٍ:
-أنا مقدرة ده.. وبأشكرك على اهتمامك.
سألها في جدية:
-طيب أختك فين دلوقتي؟
خرجت تنهيدة بطيئة من جوفها قبل أن ترد:
-هاروح لماما أشوف الوضع إيه.
استأذن منها بأسلوبه اللبق:
-طب تسمحيلي أكون معاكي؟ يعني عشان لو عوزتي حاجة، ماتبقيش لوحدك وكده.
تحرجت من وجوده والذي لن يكون مقبولاً بالمرة بالنسبة لعائلتها، ناهيك عن ظرافة "حمدية" اللا متناهية، والتي ستسعى لاستدراجه واستخراج المعلومات منه، كما لو كانت تعمل (خاطبة) مما سيزيدها حرجًا، لذا حاولت التملص من عرضه، وقالت بجدية:
-أهلي كلهم هنا، اطمن.
لم يجد بدًا من الإصرار أمام رفضها الواضح، فرد في استسلامٍ:
-أوكي يا آنسة "فيروزة"، مش هاضغط عليكي، لكن لو عوزتي حاجة، فأنا في الخدمة.
رانت على شفتيها ابتسامة لطيفة وهي تشكره:
-ميرسي ليك يا أستاذ "آسر".
بادلها ابتسامة ودودة قبل أن يطلب منها راجيًا:
-أتمنى نشيل التكليف بينا، يعني أنا باعتبر نفسي دلوقتي صديق ليكي .. وآ.. وللعيلة.
ضغطت على شفتيها في ترددٍ، وقالت بحسمٍ:
-أفتكر إن كده أحسن، يعني منعًا للمشاكل، وحضرتك شوفت النوعية الناس اللي عايشين معاهم إيه
قال بما يشبه التغزل بها:
-بس إنتي غير أي حد، مختلفة، ومستقلة، وشخصيتك حلوة.
لم تعرف بماذا تعقب عليه، فقالت وهي تحاول الابتسام:
-شكرًا، هستأذنك هاشوف أختي.
-اتفضلي، وإن شاءالله تبقى كويسة.
لم يمد تلك المرة يده لمصافحتها حتى لا تحرجه، واكتفى بتوديعها بعباراته المهذبة ليبدو حينما تستحضر صورته في ذهنها المحامي المحترم، لوحت له بيدها وظلت متسمرة في مكانها لبعض الوقت، وكأنها قد عادت لتستغرق في أفكارها المهمومة من جديد .. لم تعلم "فيروزة" بوجود من يراقبها من على السلم، أصــر "تميم" على البقاء تاركًا "هيثم" يعود بمفرده، ووقف في بقعة تمكنه من متابعتها دون أن تلتقطه عيناها، توهجت غرائز الفتك والعنف بداخله وكأنه في معركة البقاء للأقوى، كبح ما يعتريه بمجهودٍ عنيف، أنبئه حدسه بعد ملاحظة ما يدور من تلميحات وحركات مفتعلة بأن وراء تلك التعابير الوديعة لذلك الرجل ثعلبًا ماكرًا، ولم يخطئ إحساسه -بشأن أحدهم- يومًا.
................................................................
اتجه عائدًا إلى منطقة الجلوس الخاصة بأهالي المرضى في الردهة الواسعة، جاب بعينيه على أوجه المتواجدين باحثًا عن عائلته، كانت "بثينة" تتخذ المقعد الخلفي وإلى جوارها ابنتها، ســار "هيثم" صوبها وجلس على يسارها ليلتقط أنفاسه، سألته الأولى بفضولٍ وبنبرة أقرب للهمس وهي تتفرس في قسماته المرتخية بشكل ملحوظ:
-كنت فين كل ده؟
أجابها بزفير مرهق:
-موجود يامه هاروح فين.
سألته بخبث وذاك الوهج يحتل عينيها:
-ها عرفت تتصرف في فلوس؟!
هز رأسه يجيبها بغموض:
-أه الحمدلله
لم تتقبل مراوغته في الكلام، فألحت عليه بنظرتها المتشككة:
-منين يعني؟
رد بعفويةٍ ودون أن يفصح عن مصدر مساعدته:
-من باب الله.
ابتسامة غير مريحة داعبت شفتيها وهي تحاصره بأسئلتها:
-قولي، استلفت من جوز خالتك؟ مظبوط؟ إنت روحت كلمته؟
نفخ يجاوبها في سأم:
-يامه متركزيش في الحاجات دي، وادعي ربنا يقوم "همسة" بالسلامة.
زمت شفتيها محتجة بقنوط:
-وأدعيلها ليه؟ ما أمها موجودة! هي عدمتها؟
نظر لها بعينين تلومان قساوة مشاعرها، وعاتبها بضيقٍ ظاهر في نبرته وملامحه:
-لله يامه، لله! ادعي لله!
ضجرت "خلود" من مكوثها غير المجدي، فنهضت من مكانها وعلقت حقيبتها على كتفها لتقول بنبرة عازمة مستخدمة يدها في التلويح:
-بأقولك إيه يامه، أنا هاروح البيت ألحق أعمل لقمة لـ "تميم"، أعدتي هنا زي قلتها.
رد عليها "هيثم" من تلقاء نفسه ودون أن ينتبه:
-لأ متتعبيش نفسك، جوزك موجود هنا.
وكأن يدها لامست سلكًا مكشوفًا يسري فيه التيار الكهربي فأصابعها بصاعقة مميتة، حدث ما لم يخطر على بالها، أو تضعه في الحسبان .. انتفض كامل جسدها وتخشبت في مكانها ساهمة للحظة قبل أن تفيق من دهشتها الكبيرة، حدقت فيه بعينين جاحظتين، ثم عاجلته متسائلة بوجه شاحب وأغلب مخاوفها تقتحم رأسها حاليًا:
-إنت بتقول إيه؟ جوزي بيعمل إيه هنا؟
أدرك "هيثم" أنه بغبائه وتسرعه تلفظ بحماقةٍ ربما تكشف فأمره فبادر يصلح خطأه بالإدعاء كذبًا:
-اقصد.. أنا شوفته مع جوز خالتي، والبت أخت "همسة"، كانوا بيتكلموا سوا.
هتفت "خلود" بصوت مرتجف وقد أصبح الهواء ثقيلاً عليها:
-هـاه! بيتكلموا سوا؟
اكتفى بهز رأسه فتضاعفت مخاوفها، هربت الدماء من عروقها وقد تحقق ما خشيت منه وحدث اللقاء بينهما، فماذا إن تهورت تلك الحقودة وأخبرته بإساءتها إليها؟ أو ما نطقت به لها على لسانه؟ حتمًا ستقع في مأزق كبير، ازدحم رأسها بهواجسها المذعورة، ولم تعد قادرة على تمالك نفسها، تشوشت الرؤية لديها وشعرت بظلام غريب يغلف عقلها، وما هي إلا لحظة ومادت بها الأرض لتسقط فاقدة لوعيها.
....................................................................................
كانت الغرفة غارقة في الهدوء إلا من صوت أنفاسها المنزعجة، ألقت "بثينة" نظرة متحسرة على ابنتها التي ما زالت نائمة على الفراش في حالة سكون عجيبة وإن كانت لا تشكو من شيء جدي، مجرد توتر زائد أتلف أعصابها، تأهبت في جلستها حين سمعت صوت أنينها الخفيض، مالت نحوها ومدت يدها لتمسك بكفها المسنود إلى جوار جسدها المسترخي، واستطردت تنوح في سخطٍ:
-كان مالك بالهم ده يا بنتي؟
مسحت بيدها الأخرى على جبينها حين أدارت رأسها نحوها، ابتسمت في حماسٍ وقد رأتها تحاول فتح جفنيها، نادت عليها بتلهفٍ:
-يا "خلود"! سمعاني يا بنتي؟
ردت بوهنٍ:
-أيوه يامه.. أنا فين؟
جاوبتها بحنوٍ:
-إنتي يا حبة عيني وقعتي فجأة من طولك قصادنا، ونقلناكي على الأوضة دي عشان نشوف جرالك إيه.
ابتلعت ريقها في حلقها المرير، وتساءلت بصوتها الضعيف:
-"تـ.. تميم" يامه..
أجابت بتبرمٍ وكأنها غير راضية عنه:
-مع الضاكتور بره بيطمن منه عليكي.
سألتها في خوارٍ وقد وضعت يدها على رأسها ال:
-عرف حاجة عن خناقة النهاردة؟
قالت وهي تهز كتفيها بالنفي:
-مافتكرش، وبعدين هو احنا في إيه ولا إيه! ما كفاية المصايب اللي نازلة على دماغنا من الصبح.
دقة خفيفة على باب الغرفة جعلت الاثنتان تتوقفان عن الحديث الخافت، وبابتسامة متفائلة ولجت ممرضة رشيقة إلى الحجرة، نظرت في عدم تصديقٍ حين أمعنت النظر في وجهيهما المألوف، وهتفت ترحب بهما:
-مش معقول خالتي "بثينة"، والله ما أعرف إنكم اللي هنا، ألف سلامة على "خلود".
نهضت "بثينة" من مكانها لتحتضن الممرضة "عائشة" والتي تربطها معرفة جيدة بوالدتها الخياطة، حيث كانت تأتي إلى منزلها ومعها الأقمشة المزركشة لتقوم بحياكتها لها، ابتهجت الأولى، وقالت في حبور:
-الدنيا صغيرة بصحيح يا بت يا "عيشة"، مجاش في بالي إنك شغالة هنا.
أخبرتها عن أحوالها باستفاضة:
-أنا لسه منقولة مبقاليش شهرين للمستشفى دي، حبوا يكرموني فجابوني هنا، والحمد لله أنا مبسوطة.
ربتت على ظهرها تدعو لها:
-ربنا يكرمك بالأحسن.
عادت "عائشة" لتطمئنها بثقةٍ:
-متقلقيش يا خالتي على "خلود"، دي حاجة عادية، خليها ترتاح وماتضغطش على نفسها، مافيش حاجة مستاهلة
زمت شفتيها وعلقت:
-قوليلها، دي واخدة كل حاجة على أعصابها ومغلباني معاها
أضافت تؤكد لها:
-عمومًا الدكتور هيجي يشوفها تاني وهيكتبلها على خروج.
تنهدت تدعو لها مرة أخرى:
-ربنا يصلح حالك ونفرح بيكي قريب.
تصنعت العبوس وعقبت عليها:
-أه والنبي ادعيلي، لأحسن حاسة إني هافضل كده من غير جواز.
لكزتها بخفةٍ في جانب ذراعها وهي تضيف بتهكمٍ:
-ياختي اللي اتجوزوا خدوا إيه غير الهم والنكد
أخفضت نبرتها لتقول في دلال وتلك اللمعة تكسو نظراتها المرحة:
-بردك يا خالتي.. حد يقول للجواز لأ.
ابتسمت "بثينة" وهي ترد:
-ماشي يا "عيشة"..
اقتربت الأخيرة من "خلود" لتتابع سريان المحلول في الإبرة الطبية الموصولة برسغها، وألقت نظرة عابرة على "هيثم" الذي دخل الغرفة متسائلاً باهتمامٍ:
-عاملة إيه دلوقتي يا "خلود"؟
ردت بوهنٍ:
-الحمدلله، فين "تميم"؟
جاوبها مازحًا حتى يخفف من توتر الأجواء:
-بيجيب أكل وجاي، ما هو احنا ماشاء الله علينا، معسكرين كلنا هنا، اخدين المستشفى مقاولة لينا.
سألته "بثينة" على مضضٍ:
-وإنت طبعًا كنت لازق للمحروسة وأهلها
قال بشفاه مقلوبة:
-أيوه يامه، والحمدلله خرجت بالسلامة من العمليات
أضافت بنبرتها الساخطة:
-هي يعني كانت أول واحدة تعمل الزايدة؟ إنت بس اللي مدلوق عليهم.
هتف محتجًا وقد ارتفع الكدر في عينيه:
-مش خطيبتي يامه، ده الواجب!
انتهت "عائشة" من مهمتها الروتينية، وقالت بابتسامتها وهي تضع يدها على كتف "بثينة":
-طيب يا خالتي أستأذن أنا.
رمقتها بنظرة ذات مغزى قبل أن تأمرها:
-استني يا بت.
أرادت الأخيرة أن تظهر بمظهرها السخي معها، لذا تحركت صوب "هيثم" وأمسكت به من ذراعه، سحبته نحو الزاوية وهمست له:
-شوفلي معاك عشرين جنية كده.
تقلصت تعابيره، وسألها مندهشًا:
-ليه يامه؟
قالت بلهجة صارمة، لكنها خافتة، وهي تكز على أسنانها:
-هاتهم بس.
دس "هيثم" يده في جيب بنطاله الخلفي وأخرج من حافظته ورقة بفئة العشرون جنية، ثم ناولها إياها، طوتها "بثينة" في راحتها، ورسمت تلك البسمة المستهلكة على شفتيها وهي تدنو من "عائشة"، ثم تأبطت في ذراعها لتدفعها للسير معها، وما إن وصلت أعتاب الغرفة حتى وضعت في راحتها المغلقة النقود، واستطردت قائلة بإلحاحٍ:
-خدي دول يا حبيبتي
تصنعت الحرج منها، وردت:
-مالوش لازمة، خيرك مغرقني يا خالتي.
أصرت عليها بتجهم زائف كتعبير عن عدم تقبلها للرفض:
-يا بت ينفعوا في مواصلاتك، هما دول حاجة
أخذت "عائشة" النقود منها ووضعتها داخل جيب معطفها الأبيض وهي تشكرها:
-تسلميلي يا رب.
علق "هيثم" متبرمًا بعد أن رحلت الممرضة:
-مش لازم الفنجرة الكدابة دي يامه!
نظرت له بتنمرٍ قبل أن توبخه:
-ملكش دعوة.. أنا بأعملنا قيمة.
أخفض صوته وقال متهكمًا:
-من جيبي!
تنفس بعدها بعمقٍ، وأضاف:
-بأقولك إيه يامه أنا هاروح أشوف "همسة" فاقت ولا لسه.
وبخته بنفس أسلوبها الذي يكيل بمكيالين:
-ياخويا اتنيل اقعد جمب أختك اطمن عليها الأول، مسربع على إيه!
رد في انزعاجٍ، وقد ظهر على تعابيره علامات الاستياء:
-ما جوزها معاها، أنا هاعملها إيه
صاحت مستنكرة:
-هو فينه ادلعدي ده؟ محدش شاف طلته البهية.
أولاها ظهره وقد بدأ يتحرك نحو الخارج:
-زمانته جاي.
ارتفعت نبرتها القانطة لتلاحقه حين خــرج من الغرفة:
-طبعًا بيجيب طفح للي ما يتسموا.
أدار رأسه للخلف لينظر نحو باب الغرفة بنظرات مستهجنة، ثم هتف لنفسه ساخرًا، وكأنه يهزأ بقولها:
-أل يعني هيطفحوا لواحدهم، ما إنتو قبلهم!
..............................................................
-دي اللي عملناها للست إياها من يومين يا دكتور؟
تساءل أحد الأطباء بتلك العبارة وهو يضع نظارته على أنفه قبل أن يغوص في مقعده ليتابع باهتمامٍ تفاصيل إحدى العمليات الجراحية التي قام بها لإحدى السيدات اللاتي بلغت من العمر أربعين سنة، رد عليه زميله بجديةٍ، وقد كان مكلفًا بمتابعة وضعها الصحي:
-أيوه، للأسف سنها كبير، مع الجراحة دي كمان فرصها للإنجاب هتقل.
قال في أسف:
-ربنا يتولاها.
في تلك الأثناء، أتت الممرضة "عائشة" لتستدعي أحدهما لمخاطبة مدير المشفى لأمر عاجل، ودون قصدٍ منها أرهفت السمع لحديثهما الغامض منتظرة أن ينتهيا منه، لفت انتباهها حين أضاف الأول متعجبًا:
-مع إن عملية الزايدة تعتبر حاجة بسيطة اليومين دول، لكن مكوناش هنشوف ده ونعرف، أكيد ربنا ليه حكمة محدش عارفها.
علق عليه زميله موضحًا:
-التكيسات عندها على المبايض عالية، وحتى بالعلاج المكثف برضوه مش هاتخلف، فرصتها ضعيفة أوي.
رددت في نفسها باستغرابٍ:
-يا ترى بيتكلموا عن مين؟
وقبل أن تشرد في أفكارها الحائرة رفع الطبيب الأول أنظاره نحوها متسائلاً:
-خير؟ في حاجة يا "عيشة"؟
أجابته بربكة طفيفة:
-سيادة المدير عايزك يا دكتور.
أشار لها بيده قبل أن يرد:
-طيب أنا جاي وراكي.
لم تكن "عائشة" لتلقي بالاً لتلك الحالة المبهمة أو تعبأ بتفاصيلها لولا أن رأت "هيثم" يستوقف نفس الطبيب الذي يسير معها ليستعلم منه عن حالة أجرت الزائدة الدودية اليوم مما استرعى فضولها، انقبض قلبها فجــأة وقد خُيل إليها أنه يتحدث عن الحالة الميؤوس من إنجابها، بهتت ملامحها وقالت لنفسها في جزعٍ وعيناها ترتكزان عليه:
-يا نصيبتي لو طلعت خطيبته!
...................................................................
دموعها الحارقة كانت سلاحها الفعال الذي ينجح دومًا في استرقاق قلبه واستمالته نحوها، بكت "خلود" في لوعةٍ تشكو له انعدام الأخلاق لدى "فيروزة" لتبادر باتهامها بإفساد الخطبة قبل أن تكتمل متمنية التعاسة لشقيقها الوحيد، فما كان منها إلا محاولة منعها في فرض سطوتها على أختها قليلة الحيلة، حقًا كانت بارعة في إعادة سرد المواقف وتطويعها لتضعها في قالب الضحية المتجني عليها، وضعت يديها في حجرها بعد أن أسندت الوسادة خلف ظهرها، وقالت مجازفة وهي تسبل عينيها نحوه:
-أنا حتى خوفتها بيك، بس ولا همها حد.
أرادت بتلك الجملة الضمنية أن تتبين مدى معرفته بتفاصيل المشاجرة التي دارت بينهما في المطعم، لكنه نطق بغموضٍ لم يشعرها بالارتياح وهو يفرك أصابعه معًا:
-ماشي يا "خلود"، هنتكلم بعدين.
لم تعرف ما الذي يشغل تفكيره ليبدو بذلك الوجوم المثير للريبة، كانت عضلات وجهه مشدودة، نظراته غائمة، حتى صوته كان مغلفًا بالقتامة، بلعت ريقها وسألته بحذرٍ:
-إنت كويس؟ في حاجة مضيقاك يا حبيبي؟ أنا بخير متقلقش..
لم ينظر نحوها "تميم"، واكتفى بالتحديق أمامه، لكن تقلصت تعابيره حين أجابها بسؤالٍ مباغت:
-إنتي قولتيلها إيه بالظبط؟
اصفر وجهها وهي ترد بصوت مهتز:
-قولت لمين إيه؟
أدار رأسه ناحيتها، ثم ثبت عينيه المغلفتين بظلمة مُقلقة عليها وهو يوضح:
-للأبلة .. "فيروزة"!
عادت الدماء الهاربة لتغزو عروقها باندفاع غاضب حين رددت شفتاه اسمها من جديد، شعرت بتلك الحرقة تجتاح أحشائها عندما تطرق لسيرتها، استشاطت غيظًا وكمدًا، وبلا وعيٍ صرخت تهاجمه بعصبيةٍ:
-إنت بتنطق باسمها تاني قصادي؟ إنت عاوز تجنني؟ في إيه بينك وبينها؟ ولا الموضوع جاي على هواك؟
هب واقفًا من جلسته ليطالعها بنظراتٍ قوية نفذت إليها وأرعبتها، ثم أشــار لها بسبابته وهو ينذرها بنبرة اكتسبت صرامة شديدة متعمدًا تكرار ترديد اسمها مجردًا دون ألقاب:
-لآخرك مرة بسألك، قولتي لـ "فيروزة" إيه .......................................... ؟!
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا