مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السادس من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل السادس
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل السادس
غصة جارحة مؤلمة آلمت حلقها وجعلت لقمة الطعام تشق طريقها شقًا كما يجرف المحراث الزراعي الأرض الجافة الجرداء إلى أن ابتلعتها بعد كلمته المقتضبة التي حطمت سور الأحلام الوردية وهدمته على رأسها لتشعر بمدى قساوة واقعها المحيط .. كان الهواء قارصًا، لكنه لا يقارن ببرودته المميتة للقلوب في تعامله الجاف معها، سبحت عينا "خلود" سريعًا في أبحر من العبرات الدافئة، تركتها تنساب في قهرٍ وبؤس، فقدت قدرتها على منعها أو الصمود أمامه، بدا صدرها وكأنه ينهج من اجتهادها لكتم ألمها، عجزت عن تجاوز الأمر وتخطيه، فلملمت أشيائها، ودست ما تبقى من السندوتش في حقيبة يدها، كانت عازمة على تصعيد الخلاف غير المقصود لمداه، فإن كان لا يريدها فلن تذل نفسها من أجله، لينفصلا في هدوء، وتجتر وحدها مرارة الانتظار .. هبت ناهضة من مكانها قائلة له ببقايا كرامةٍ وبصوتٍ مجروح:
-أنا عاوزة أمشي!
تطلع إليها "تميم" في ندمٍ، كان غبيًا بدرجة كبيرة لينطق برعونة بذلك الرد الفظ الذي أفسد الليلة وأنهاها فجأة لتكون عبارتها التى تعكس ألمها مؤثرة على سمعه ووجدانه، أي حماقةٍ دفعته للتصرف هكذا معها دون تفكيرٍ مسبق! وهو المشهود عنه ببراعته في إدارة أعمال التجارة وإنهاء الصفقات الكبيرة بمعسول الكلام .. تحرك ليقف قبالتها حتى يعترض طريقها بعد أن بدأت بالسير بعيدًا عنه، نظر لها بعينين غائمتين وهو يعتذر منها:
-أنا أسف يا "خلود"، مقصدش المعنى اللي في دماغك!
رفعت وجهها الباكي إليه لتشعره بالمزيد من الندم، ثم قالت بإصرارٍ وصوتها المتقطع يعبر عن حالها:
-تقصدش ولا متقصدش إنت حر! خلينا نروح...
ما لبث أن تحولت نبرتها للرجاء الشديد:
-لو سمحت، أنا عاوزة أرجع البيت، كفاية كده!
أدرك أنه دفعها لتعيش حزنًا جديدًا بسبب طريقته الجافة في التعامل معها بالرغم من سعيه لإثبات اهتمامه بها، لكن محاولته كانت فاشلة بشكلٍ ذريع .. لم يكن منه إلا أن سايرها وتحرك معها بخطواتٍ تميل للركض حتى يجتازا الطريق، سعى لاجتذاب أطراف الحديث مبتسمًا، فلم يجد منها إلا سكونًا ضاعف من إحساسه بالضيق، فالتزم الصمت أيضًا عله بذلك يفكر بعمقٍ في طريقة لاسترضائها.
..........................................................................
بضعة دقائق وكان الاثنان يقتربان من البناية التي تسكن بها "خلود" والصمت سائد بينهما، لم تودعه وأسرعت هاربة منه متجهة ناحية المدخل، وضعت يدها على الدرابزين وبدأت تصعد الدرجات الأولية، أردات أن تختلي بنفسها لتنخرط في تعاستها البائسة بمفردها، شهقة خافتة خرجت من بين شفتيها وقد جذبتها قبضة رجولية بقوةٍ فأعادتها مجبرة للخلف، التفتت كالملسوعة للجانب وقد استندت بظهرها على الحائط لتجد معشوقها قريبًا منها حد إتلاف الأعصاب، كانت الإضاءة خافتة، فبعثت نوعًا من التوتر اللطيف، اهتز صوتها وهي تتوسله:
-سيبني يا "تميم".
رنت في أذنيه نبرتها الجريحة فاعتذر منها بأسفٍ أكبر وقد امتدت يده لترفع وجهها إلى عينيه:
-حقك عليا، أنا فعلاً كنت غبي في كلامي.
قالت له بصعوبةٍ ظهرت في نبرتها وهي تنظر له عن قربٍ خطير، لكنها أرادت أن تزيح ذلك الثقل الجاثم على قلبها وتترك له حرية الاختيار:
-لو إنت معنتش بتحبني.. فبلاش تربط نفسك بيا و..
رفع "تميم" يده عنها ليستند على الحائط فأصبحت شبه محاصرة من ذراعه، تهدجت أنفاسها اللاهثة أكثر، وتوقعت منه عصبية شديدة لكنه قال بعتابٍ رقيق مبددًا شكوكها التي ساورتها بالفعل:
-يا ستي أنا بأحبك، فبلاش تقولي كلام يزعلني.
انخرطت في بكاءٍ مرير امتزج مع شهقاتها، تمنت لو تدفس رأسها في صدره فتسمع خفقات قلبه ليشعر بصدق حبها العميق له، نظر لها في ضيقٍ وهو يغمغم متسائلاً:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، بتعيطي ليه دلوقتي يا بنت الناس؟
أجابته بنهنهة وهي تحاول استعادة هدوئها بعد أن سيطرة عليها نوبة المشاعر المتأثرة:
-صعبان عليا نفسي.
تعقدت تعابيره متابعًا رجائه حتى تغفر له زلة لسانه وهو يتراجع عنها خطوة للخلف:
-يا ستي أنا غلطان ومحقوقلك، كلامي دبش ومبعرفش أعبر، ها مبسوطة؟
حملقت فيه من جديد مكفكفة دمعاتها بظهر كفها، وشردت متأملة نظراته التي تهواها حينما تكون مرتكزة عليها فقط، ومع ذلك لا تزال تشعر بالرهبة والقلق، لذا عبرت بصراحةٍ عن مخاوفها التي تنتابها منذ لحظة لقائه بها:
-أنا مش حابة أحس إني مفروضة عليك، أنا أقل حاجة منك بترضيني، وبرضوه أقل كلمة بتجرحني، متخلنيش في يوم أحس إني عبء عليك.
نفخ مطولاً كتعبير عن ضيقه من لومها المبرر، كيف يقنعها أنه لم يكن ينعم بحياة الرخاء في محبسٍ عفن الرائحة مع عتاة الإجرام؟ يقضي نهاره الطويل بصحبة لا تدعو للخير، أما ليله فكان ثقيلاً مليئًا بالأوجاع والحنين .. حاول أن يرد عليها بتمهلٍ عقلاني علها تزيح أفكارها السوداوية عن مخيلتها فتفكر بصفاءٍ وحكمة:
-يا "خلود" ما أنا مفهمك على الوضع، لسه مبقاليش كتير طالع من المخروب السجن، وطبيعي تلاقيني مدب معاكي، إنتي وشطارتك بقى تنسيني الغم ده كله.
سألته بقلبٍ مرتعش من تأثير كلماته الأخيرة التي لامست كيانها وداعبت مشاعرها المرهفة:
-يعني إنت لسه بتحبني وعاوز تتجوزني؟
أجابها بابتسامةٍ صغيرة وهو يومئ:
-أيوه يا ستي، وهتنيل على عيني أتجوزك.
عبست تعاتبه من جديد:
-شوف بتكلم إزاي؟!!!
ضرب "تميم" كفًا بالآخر في استنكارٍ مزعوج من تصيدها الدائم لأخطائه وإن كان يتحدث عفويًا، لوح لها بيده وقد تراجع هابطًا على الدرج خطوتين:
-لا إله إلا الله! اطلعي فوق عند أمك الله يرضى عليكي!
ســاد بينهما جوًا من المرح اللطيف الذي أذاب ما كان في القلب من أحزانٍ وأعاد البسمة والضحكة الصافية للوجدان، لم ينتبه كلاهما ذاك الذي يتابعهما خلسة من الدور العلوي .. كان "هيثم" في طريقه للخروج لقضاء سهرة متأخرة كعادته يعود منها قبيل الفجر بقليل، لمحهما وهما يتبادلان عتاب المحبين، فوسوس له شيطان رأسه بفكرة جهنمية مدهشة لكنها في نفس الوقت هشة إن لم يوظفها بالطريقة التي تؤتي بنتائجها الوهمية، تحفز وشحن حواسه مستدعيًا انفعالات هائجة وهمية تعبر عن رفضه الناقم لاختلاء أخته مع ابن خالته في تلك البقعة المعتمة على السلم، هدر صائحًا بصوتٍ أجش وخشن:
-بتعمل إيه عندك يا "تميم"، ومع أختي يا ابن الأصول؟!!!!
لطمت "خلود" على خديها كردة فعلٍ طبيعية لظنه السوء بها، ارتعدت وتلبك بدنها وهي تهتف شاهقة:
-يا نصيبتي!
زوى "تميم" ما بين حاجبيه في دهشة مستنكرة متلفظًا باسمه بسخرية مقصودة:
-"هيثم"!
هبط الأخير الدرجات ركضًا وأوداجه منتفخة جدًا، وقف قبالة ابن خالته يرمقها بنظرات شريرة، ثم سأله بكلمات موحية تحمل إهانة جمة:
-حد قالك عني إني مركب قرون؟ ولا رافع الإريال؟!
اِربد وجه "تميم" بالغضب من أسلوبه المرفوض شكلاً وموضوعًا لإتهامه بالتجاوز في علاقته العفيفة بـ "خلود"، استشاط حنقًا وهو ينهره بلهجته الخشنة:
-اتكلم عدل يا "هيثم"، مافيش حاجة من اللي في دماغك دي، احنا أنضف من تفكيرك الوسخ ده!!!
تجاهله عن عمدٍ موجهًا حديثه المسيء إلى أخته وذراعه ترتفع عاليًا في الهواء مهددة بصفعها:
-ليكي حساب معايا يا بنت الـ ...... !!
وقبل أن تحط على وجهها كانت قبضة "تميم" ممسكة به من معصمه، شده ناحيته في شراسةٍ وعيناه تطقان شررًا، ثم استطردت ينذره بقساوة عدوانية:
-قسمًا عظمًا لو إيدك اتمدت عليها لأقطعهالك!
ثم أشــار لـ "خلود" بعينيه لتهرب صاعدة للأعلى قبل أن يتطاول عليها أخيها باليد وتثور ثائرته دون داعٍ، احتقن وجه "هيثم" بشدة، وبدا وكأن ما رسمه من خطة ماكرة قد ضاع هباءً، والأسوأ من ذلك أنه استصغره أمام شقيقته فربما تتمرد عليه .. انتزع يده من قبضته ونظر له شزرًا يصيح فيه:
-إنت هتعرفني ألم أهل بيتي إزاي؟
عاجله بنظرة مستهجنة كادت تجمده في مكانه، ثم رد عليه بصوته القوي الذي ينم عن شخصية مليئة بالبَأْس:
-هي مغلطتش...
وما لبث أن تحولت نبرته للتحذير الشديد حينما أكلم:
-وبلاش أحسنلك تعمل نَمرة عليا، عشان الكلام ده مايكولش معايا.
كز "هيثم" على أسنانه في غيظٍ وقال:
-إنت بـ ...
أطبق "تميم" على فكه بغتةً ضاغطًا بكل قوته عليه حتى كاد أن يحطمه ليجبره على ابتلاع تهديداته الفارغة متابعًا إنذاره شديد اللهجة:
-"تميم سلطان" مش عيل كَوِرك يتاكل على قفاه، فخد بالك مني!
تلبك من أسلوبه العدائي ونظراته المليئة بالشر فبدا كما لو كان قد تراجع عن موقفه الرجولي المصطنع، فضحته نظراته المهتزة وإيماءاته المذعورة. أرخى "تميم" يده عنه ليقف مزهوًا بنفسه، منتصبًا بشموخٍ يُحسد عليه، تنحنح "هيثم" متسائلاً بحدةٍ أخف:
-أنا .. خايف على أختي، إيه مش من حقي؟
قال له بحزمٍ دون أن يرتد له جفن:
-وأختك على عيني وراسي ومتصانة، وكلها كام يوم وهتبقى مراتي!
رد عليه بوجهٍ متجهمٍ للغاية عله بذلك يظهر حرصه الزائف على سمعتها:
-ماشي .. بس لحد ما تبقى في بيتك هي رجلها مش هتخطي الشارع ولا هتخرج معاك، مفهوم؟!
أطلق "تميم" ضحكة عالية مستهزأة بكلماته تلك مما استفز ابن خالته، هدأ قليلاً وربت على كتفه يسخر منه:
-لأ حِمش يا "هيثم"! شنبك على راجل بصحيح!
احتقنت نظراته من أسلوبه التهكمي المتحقر فصاح يسأله بانفعالٍ:
-إنت بتتريق عليا؟
ابتسامة جانبية مقتضبة على زاوية فم "تميم" لاحت بشكل استثار أعصابه، أولاه ظهره قائلاً له بما يحمل في مضمونه الازدراء لشخصه التافه:
-سلامي لأمك!
تكورت قبضة "هيثم" من غيظه المحتدم وضرب بها على الحائط كطريقة سريعة للتنفيس عن غضبه المحموم، تهدجت أنفاسه وهو يتوعده بقلبٍ يضمر الشر:
-ماشي يا "تميم"، بكرة "هيثم" اللي مش عاجبك ده يوريك مقامك ويرجع البُرش تاني!
.........................................................
يومًا بأكمله قضته باكية معتكفة في غرفتها رافضة تناول الطعام أو حتى الجلوس مع أسرتها، لم يكن من السهل عليها أن ترى حلمها مُحطم، عادت المشاهد المستفزة لوجه خالها بقوة إلى مخيلتها فزادت من حالتها سوءًا، بكت بقلبٍ مفطور مرة أخرى، فكرت في إعادة إصلاح العربة وتجهيزها من جديد، لكن سيكلفها ذلك مبلغًا من المال، وهي لا تملكه من الأساس .. بالكاد استطاعت أن تدخر ما أعانها على شراء العربة، وتدبرت الباقي من تلك الجمعية التي اشتركت فيها مع رفاقها.
وجدت "فيروزة" نفسها واقعة في ضائقة مالية؛ فمن ناحية عليها سداد الاشتراك الشهري للجميع، ومن ناحية أخرى تحتاج لتشغيل العربة .. تجدد إحساسها بالقهر العاجز وازداد احتراقها خاصة مع سطوع طيف ابتسامة خالها المقيتة في عقلها، لم تستمع إلى دقات الباب ودفنت رأسها في الوسادة ضاربة بيدها في عصبية عليها، استطاعت أن تلمح توأمتها من بين رؤيتها الضبابية وهي تطل عليها، تقلبت على جانبها لتتجنب نظرات الشفقة منها، وإن كانت شريكتها فهي لم تكن متعلقة مثلها بذلك الحلم الضائع.
حاولت "همسة" مواساتها فجلست إلى جوارها على الفراش تربت على ذراعها برفقٍ، ثم قالت لها بما يبعث على النفس الملتاعة القليل من التفاؤل:
-إن شاء الله كل حاجة هترجع زي الأول وأحسن.
كانت فاقدة لرغبتها في تقبل مثل تلك النوعية من المواساة، أدارت رأسها قليلاً نحوها وقالت لها بصوتها المتشنج بنبرة عبرت عن يأسها الشديد:
-إزاي؟ مافيش حاجة بترجع يا "همسة"، كل حاجة ضاعت!
كانت متفهمة لانفعالها والإحباط المسيطر عليها، حاولت أن تبدو متماسكة أمامها، فادعت زيفًا:
-متقوليش كده، مشكلة وهتعدي.
-فوقي من الوهم ده!
قالتها "فيروزة" بنبرة أقرب للصراخ وهي تعتدل في رقدتها قبل أن تبدأ من جديد بفاصلٍ من العويل والنواح الممتزج بالندب، أشفقت عليها "همسة" وضمتها إلى صدرها لتبكي على كتفها دون أن تطلب منها ذلك، تأثرت أيضًا بحالها الملكوم وشاركتها حزنها بقلبٍ مفطورٍ .. على أعتاب الغرفة تطلعت إليهما "آمنة" بحرقة واضحة في نظراتها لهما، تضرج وجهها وتقلصت تعابيرها بما يعبر عن حنقها الرافض لما فعله أخيها، أيحق له تدمير أحلامهما لمجرد نزعة رجولية فارغة؟ فإن كان لا يقبل أن يمس أبنائه بسوءٍ فهي مثله، أم أنه مباحٌ له فعل ما يريد دون مراجعة أو اعتراض؟ لن تسمح له بفعل ذلك بهما، لن تقف مكتوفة الأيدي تشاهد تدمير ابنتيها دون أن تتخذ موقفًا مغايرًا له ينصفهما، هكذا قررت في قرارة نفسها، وبكل ثباتٍ اقتربت منهما تقول بصوتٍ اكتسب إيقاعًا مختلفًا لا ينم أبدًا عن الانهزام أو الكَسرة:
-ما تعيطيش يا "فيروزة"، لا عاش ولا كان اللي يقهر بناتي وأنا لسه حية وعلى وش الأرض!
نظرت الاثنتان إلى أمهما في حيرة، بينما تابعت "آمنة" مرددة بنفس النبرة العازمة:
-بكرة الصبح مشكلتك هتتحل..
تساءلت "فيروزة" في تلهفٍ وكأنها تبحث عن طوقٍ للنجاة:
-إزاي يا ماما؟
وضعت والدتها يدها على الأساور الذهبية التي تزين معصمها، انتزعت بقليلٍ من الجهد تلك التي تشبه الثعبان من رسغها لترفعها نصب عينيهما وهي تضيف:
-بكرة هنروح محل الصاغة نبيعها، وبفلوسها يا بنات هترجعوا عربيتكم زي ما كانت وأحسن.
انفرجت شفتا "فيروزة" عن تعبيرٍ مذهول، ثم ازدردت ريقها ولعقت شفتيها متسائلة في عدم تصديق:
-هتبيعيها يا ماما؟!
أجابتها بكلمة واحدة ناهية لأي نقاش:
-أيوه.
تساءلت "همسة" في استغرابٍ حائر:
-بس يا ماما دول دهبك اللي طلعتي بيه، وإنتي سيباهم عشان لا قدر الله لو حصل حاجة، هتفرطي فيهم كده بسهولة؟
ثبتت عينيها عليها وأجابتها مبتسمة في حنوٍ:
-مافيش حاجة تغلى على بناتي، إنتو عندي أغلى من أي دهب!
انتفضت "فيروزة" ناهضة من على الفراش لتركض نحو والدتها، ارتمت في أحضانها تضمها بقوةٍ، حاوطتها "آمنة" بذراعها ومسحت برفقٍ على رأسها، ثم تابعت حديثها الدافئ فقالت لها:
-مش عاوزة أشوفك مكسورة تاني
ردت عليها بصوت متقطعٍ وقد امتزجت عبراتها بامتنانها لها:
-ربنا يخليكي ليا يا ماما.
انضمت إليهما "همسة" وقد فاض الدمع من عينيها تأثرًا بذلك المشهد العاطفي الملامس للقلوب، ثم جلست "آمنة" على الفراش أولاً، وعلى جانبيها استقرت الفتاتان يتحدثن في مرحٍ وتفاؤل عن مخططات المستقبل الناجحة .. لكن عاد الخوف يتسلل إلى "همسة" فتساءلت وكأنها تفكر بصوتٍ مسموع:
-طب افرضي خالنا بوظ العربية تاني، هنتصرف ساعتها إزاي؟
التفتت والدتها نحوها وأجابتها على مهلٍ وبثقة واضحة تحمل الغموض في نبرتها:
-ماتشيلوش هم، أنا فكرت في حل للحكاية دي..
سألتها "فيروزة" بتلهفٍ أكبر وقد تلاشى الكدر من ملامحها تدريجيًا:
-حل إيه ده؟
تابعت موضحة بعد أن أخرجت تنهيدة بطيئة من صدرها:
-عارفين أوضة البدروم المقفولة اللي جمب السلم؟
رددت الاثنتان معًا:
-أيوه.
أكملت توضيحها بابتسامة مشرقة:
-احنا بقى هنضفها ونوضبها ونخليها زي الفل عشان نعملها مخزن تحطوا العربية فيه، ده غير الأدوات والحاجة اللي بتستخدموها، وهنقفلها بالمفتاح وقفل نحطه على الباب من برا، وبكده خالكم مش هايقدر يقرب منها.
كانت فكرة عظيمة أشعلت الحماس في نفس كلتيهما، عفويًا احتضنت كلتاهما "آمنة" وهما تنهالان على وجهها بالقبلات الممتنة، أحس ثلاثتهن بدبيب السعادة يطرق بابهن من جديد ليعلن عن بدء مرحلة استقلالية مليئة بالإنجازات .. ربما لن تخلو من بعض الصعوبات والمشاكل، لكن معًا سيتخطونها.
................................................................
اهتزت ساقه بعصبيةٍ واضحة والدخان الكثيف يخرج من جوفه ليشكل غمامة خانقة أعلى رأسه، ومع ذلك لم يكن راضيًا، ألقى بخرطوم نارجيلته على طاولة القهوة المعدنية الرفيعة لتصدر جلبة مزعجة، تبعها مغمغمًا بسبة نابية .. تلفت "هيثم" حوله باحثًا عمن يفرغ فيه غضبه المكبوت، لم يكن أمامه سوى عامل المقهى البائس لينال النصيب الأكبر من توبيخه اللاذع بالرغم من كونه لم يخطئ في شيء، بل على العكس كان ملبيًا لكافة أوامر زبونه الدائم، وتلك الليلة كان متقلب المزاج بشكلٍ لا يحتمل، تطلع إليه "نوح" في تعجبٍ وقد بدا إلى جواره باردًا كلوح الثلج، تنحنح بصوتٍ متحشرجٍ ثم سأله مستفسرًا:
-مالك؟ مزاجك متعكر ليه؟
أجابه بحشرجة واضحة في أحبال صوته جراء سعاله المتصل:
-هباب البرك جايبلي تعميرة أي كلام، مش عارف أظبط دماغي.
بدا غير مقتنع بإجابته فغمز له كتعبيرٍ عن رفضه تصديق تلك الحجة الفارغة، واستطرد متسائلاً في مكرٍ:
-لأ التعميرة زي الفل، إنت اللي مش طبيعي من أول ما أعدنا على القهوة، هو أنا مش حافظك، في حاجة حصلت؟
قال مقتضبًا وعبوسًا مريبًا يغطي وجهه:
-مافيش.
عمق من نظراته المستريبة وهو يلح عليه بإصرارٍ ماكر مستدرجًا إياه في الحديث:
-شكلك بيقول غير كده، إيه الحاج "بدير سلطان" سمعك كلمتين مالهومش لازمة زي تملي؟ ما هو إنت ميقلبش البونديرة معاك غير هو!
هتف محتجًا بوجهٍ اربد غضبًا:
-ولا يقدر يبُخ معايا، ده أنا أقفله هو وابنه اللي عامل فيها دكر!
غمزة أخرى لئيمة صدرت من عينه اليمنى معلقًا عليه:
-"تميم"، شكلك ملبخ معاه!
صاح فيه بعصبيةٍ مرئية للعيان:
-بأقولك إيه قفل على سيرة العكننة دي، أنا مش ناقص حرقة دم.
تدارك الأمر وسحب ناعمًا معه حتى يمتص ثورته المتأججة، فقال ملطفًا:
-يا سيدي بكرة تحلو معاك وتعرف تعلم عليهم بطريقتك.
لاذ "هيثم" بالصمت، بينما استمر "تميم" في وسوسته مضيفًا بنبرة أقرب لفحيح الأفعى:
-ما هو اللي زي دول يجوز فيهم أي حاجة، وخصوصًا فلوسهم اللي زي الرز دي، وكل مدى عمالة بتزيد..
نجح بأسلوبه الملتوي في الحديث في استسقاء المعلومات منه، فنطق بغموضٍ وعيناه تبرقان بوهجٍ متحمسٍ:
-أنا في دماغي فوكيرة (فكرة) إنما إيه، لو ظبطت هتروق على الآخر!
سأله في فضولٍ وتلك النظرة المتشككة تعلو تعابيره:
-قولي اللي بيدور في دماغك.
رد بابتسامة تهكمية مقتضبة على جانب شفتيه:
-بعدين، أنا بس سايبها تخمر شويتين تلاتة
صفق "نوح" بيديه ليستدعي عامل المقهى وهو يضيف بانتشاءٍ مريب:
-وأنا دايس معاك في أي مصلحة!
ابتسم له "هيثم" دون أن يضيف المزيد، لكن خياله جسد له مشاهدًا مُركبة لخطته التي ستصير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع عما قريب.
...........................................................
ســارت والفرحة تملأ صدرها في الطريق مع والدتها لتتجه كلتاهما نحو امتداد منطقتهما الشعبية القريبة من منزلهما المنعزل عمن حوله، حيث تتزاحم البيوت وتتلاصق جدرانها، بالإضافة إلى الحركة اليومية الروتينية في الشوارع والطرقات الضيقة .. جلبة صاخبة سيطرت على الأجواء في ساعة الظهيرة، خاصة أن الطقس كان إلى حد ما يميل للاعتدال مما شجع الناس على الخروج. حانت من "فيروزة" نظرة عابرة على الوجوه الكادحة المنهمكة إما في البيع أو الشراء أمام المحال التجارية المجاورة لبعضها البعض، كم لوحت والدتها معتذرة بيدها تارة وبلسانها تارة أخرى لأكثر من بائع يعرض عليها الدخول لآخذ نظرة سريعة على معروضاته فربما تشتري منه! انتبهت لها وهي تقول بصوتٍ أقرب للهاث من المجهود المبذول لتسير على عجالةٍ حتى تستثمر الوقت ولا تضيعه هباءً:
-محل الصاغة آخر الشارع ده، إن شاء يكون فاتح دلوقتي.
ردت بهدوءٍ ونظراتها تجول حولها:
-إن شاء الله، ويا رب الفلوس تكفي!
قالت لها:
-هتكفي بإذن الله، ولو نقص حاجة ربك هيدبرها.
تأبطت في ذراع والدتها لتميل عليها تهمسها في امتنانٍ:
-ربنا ما يحرمني منك أبدًا
اكتفت "آمنة" بالابتسام لابنتها وتابعت السير نحو وجهتها المحددة، لكن استوقفهما شخصًا مهيب الطلة تبدو من هيئته الوقار والاحترام. تحولت عينا "فيروزة" ناحيته حيث حركته المتهادية التي تنم عن ثقة غريبة، كان وجهه مألوفًا رغم عدم تذكرها له، وجدت نفسها تطالع والدتها حينما بادرت مرحبة به بودٍ وألفة:
-إزيك يا حاج "بدير"؟
في البداية نظر لها بعينين ضيقتين وكأنه يعصر ذهنه ليتذكر هويتها، ما لبث أن ارتخت تعابيره ليقول بابتسامةٍ وقورة:
-يا أهلاً بيكي يا حاجة، فينك؟ مش بنشوفك خالص نواحينا؟!
أجابته متعللةٍ بنفس النبرة الودودة:
-مشاغل الحياة يا حاج، والحاج "سلطان" عامل إيه؟
أومأ برأسه يجيبها في رضا:
-نحمد ربنا .. في أحسن حال
-يدوم يا رب
قالت له معتذرة وقد أطرق رأسها خجلاً منه:
-حمدلله على سلامة ابنك ولو إنها متأخرة، كان المفروض أروح أبارك للحاجة "ونيسة" لما عرفت بالأخبار الحلوة دي من حبايبنا في السوق، بس ملحوءة إن شاءالله!
حرك عكازه بيده القابضة على رأسه وهو يقول مجاملاً:
-كتر خيرك، اعتبري المباركة وصلت
أضافت في حرجٍ خجل:
-كلك ذوق يا حاج، ربنا ما يضركم فيه أبدًا ويفرحكم بيه عن قريب.
هز رأسه قائلاً:
-يا رب .. واحنا قريب هنجوزه، وأكيد هنتشرف بيكي إنتي والبنات
ردت على الفور دون أن تمنح نفسها فرصة للتفكير:
-طبعًا يا حاج "بدير"، هانكون أول الموجودين إن شاء الله.
اتسعت ابتسامته يُجاملها:
-تسلمي يا حاجة، دعواتك بقى.
قالت في تضرعٍ:
-والله بأدعيله وبأدعي لبناتي ربنا يجبر بخاطرهم ويراضيهم.
أطبقت "فيروزة" على شفتيها مكتفية بمتابعة حوارهما دون أن تعلق بكلمة واحدة وإن كانت مجاملة لتتخذ موقف المشاهد الصامت، انتظرت حتى استأذنت والدتها وهمت بالانصراف لتتحرك على خطوتها البطيئة وعيناها ترتكزان على لافتات المحال تبحث بينهم عن ضالتها المنشودة.
..................................................................
في تلك الأثناء، كانت إحدى الشاحنات الضخمة تسد الزقاق الجانبي المؤدي لمحل الصاغة بشكلٍ عرضي مما جعل الطريق ضيقًا للغاية ويتعذر السير فيه، كذلك وضعت عشرات الأقفاص المليئة بالخضراوات والفاكهة الطازجة في تلك المساحة المحدودة فأجبر السائرون على المشي بحذر لتفادي الاصطدام بهم .. بينما انقسم العاملون ما بين واقفًا أعلاها وأسفلها ينقلون الأقفاص الثقيلة فيما بينهم عن طريق إلقائها عاليًا بطريقة يدوية تنم عن خبرة مهارية واحترافية ليلتقطها الآخر بنفس البراعة والقدرة. ومن بين المتواجدين بالأعلى كان يقف "تميم" ليشرف بنفسه على سير العمل بدقةٍ وإتقان حتى ينتهي تجهيز الشحنة المطلوبة وتسليمها في أقرب وقت، صفق بيده محفزًا رجاله بصوته الجهوري:
-شهلوا يا رجالة، عاوزين نرص العدايات دي كلها.
رد عليه أحدهم بلهاثٍ:
-قربنا نقفل النقلة التانية يا معلم، ربعاية وكله هيكون خلصان
قال بتحمسٍ ظاهر على محياه:
-قول يا رب!
جالت عيناه عفويًا على السائرتين في مطلع الزقاق بحكم وقفته العالية، لاحظ انشغال الشابة المجاورة لوالدتها بالتطلع على ما حولها على عكس الأخيرة المنتبهة جيدًا لخطواتها، خُيل إليه أنها لو لم تحتط لربما فزعت من إلقاء القفص أعلى رأسها وتعثرت في مشيتها وانكفأت على الوحل المتراكم بسبب سقوط الأمطار وتلطخت ثيابها، لذا بكل مروءةٍ جلجل صوته يحذرها:
-خدي بالك يا أبلة وإنتي ماشية.
تحركت رأس "فيروزة" ونظراتها نحو مصدر الصوت الرجولي الأجش، تقلصت تعابيرها وضاقت عيناها مع رؤيتها لذلك الشاب ذو الملامح الجادة، تيقنت أنه يخاطبها من عينيه المثبتة عليها، قرأت فيهما صرامة ممتزجة بالقوة، عاد ليشير لها برأسه لتتجه عيناها تلقائيًا -وكأنها واقعة تحت تأثير تعويذة سحرية- نحو الأقفاص الطائرة، اشتدت قسماتها توترًا وتحفزت حواسها بالكامل وقد فطنت لمقصده، ســارت على حذرٍ تام، ثم تطلعت إليه مجددًا وابتسامة صغير متكلفة تلوح على شفتيها مع نظرة أخيرة عابرة لتتجاوزه بصحبة والدتها وتختفي بداخل المحل وصوته المشجع لرجاله يتردد صداه بين جدران البيوت .............................................. !!
تابع من هنا: جميع فصول رواية دموع هواره بقلم لولو الصياد
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا