مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السادس والثلاثون من رواية الطاووس الأبيض بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل السادس والثلاثون
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض بقلم منال سالم - الفصل السادس والثلاثون
تجمعت هموم الدنيا وأحزانها على ملامحه التعيسة، فكلما حاول بجهدٍ فتح بابًا للسعادة انغلق بقوة في وجهه ليحاصره أكثر داخل تلك الدائرة السوداء، وكأن الحياة تأبى منحه فرصة أخرى للنجاة من حياة العبث التي كان يعيشها. بعينين تحبسان الدموع الحارقة خرج "هيثم" من المشفى وكلام "همسة" الأخير الذي يلوم والدته يتردد صداه في رأسه، وقف في مكانه كالعاجز يفكر فيما سيفعله، مسح بيده ما يشوش رؤيته من عبرات ليهم بالتحرك، نظرة خاطفة للجانب جعلت قدماه تتسمران، رأى والدته تجلس على الرصيف القريب في غرابةٍ، لم يكترث أبدًا بما تفعله بمفردها، اتجه ناحيتها قاصدًا سؤالها عما اقترفت، وبكل عنفوانه هتف عاليًا ليخرج صوته غاضبًا مشحونًا:
-عملتي في "همسة" إيه يامه؟
لم يظهر عليها المفاجأة، بدت متوقعة لثورته الهائجة، طالعته "بثينة" ببرودٍ، وردت:
-اللي المفروض أي أم تعمله لو عايزة مصلحة ابنها
وقف قبالتها مواصلاً صراخه بها:
-إنتي قولتيلها إيه بالظبط؟
نهضت بتكاسلٍ من جلستها غير المريحة مستندة على ذراعه حتى تعتدل، رمقته بنظرة قاسية قبل أن تجيبه بقلبٍ متحجر:
-عرفتها الحقيقة، المحروسة ما بتخلفش!
انقباضة عنيفة لوت قلبه واعتصرته بعد جملتها الصادمة تلك، انفرج فمه في ارتعابٍ، وسألها غير مصدقٍ:
-إنتي بتقولي إيه؟
تابعت بنفس المشاعر الجليدية:
-اللي سمعته يا ضنايا، الضاكتور اللي عملها العملية قال إنها ما بتخلفش، وأنا الصراحة مكدبتش خبر، ما هو أنا معنديش غيرك إنت وأختك، مش هاجوزك لواحدة أرض بور مافيش فيها أمل مهما زرعت فيها من تقاوي!
لم يتحمل سمومها التي تبثها، وكأنها حقيقة مطلقة، فصاح مستنكرًا تقريرها لمصيره معها:
-حرام عليكي يامه، هو إنتي دخلتي في علم الغيب؟ محدش عارف إيه اللي هيحصل بكرة.
قالت بتعابير أشد قسوة:
-ربنا قال ناخد بالأسباب، وده اللي عملته!
اختنق صوته وهو يرد:
-افرضي ده كان فيا؟!!!!
هتفت في جزع:
-بعد الشر، إن شاءالله هي!
نظر لها في استهجانٍ وعيناه تحتقنان بشكلٍ كبير، ثم ردد في يأسٍ:
-ها أقولك إيه غير حسبي الله ونعم الوكيل
لطمت على صدرها متنمرة على جملته تلك:
-يا نصيبتي؟ بتحسبن على أمك، وفي وشي كمان!
نظرة أخرى مصدومة مليئة بالقهر سددها لها قبل أن يتركها ليمشي في كامل إحباطه الممتزج بحسرته، تهدل كتفاه، واسودت تعابيره، نظرت له "بثينة" في تعجبٍ، ثم هتفت تناديه عله يقف:
-خد هنا يا واد..
وكأنها تُحادث الفراغ اجتاز الطريق دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليها، مصمصت شفتيها، وقالت في تأفف:
-ده اتجنن ده ولا إيه؟!
عادت لتجلس على الرصيف متابعة بجمود قاسٍ:
-بكرة يعرف إن كان عندي حق!
..........................................................................
رأى علامات الإرهــاق، التعب، والغضب مجتمعة سويًا مع لمحة جمال خفية لا يبصرها إلا المراقب لها باهتمامٍ وكلها تنعكس على خلجاتها الناعمة، استغرق في تأمله الملي لها وهو لا يدرك أنه يبوح بما يفكر فيه عقله علنًا، تقلصت تعابير وجه "فيروزة" لترمقه بحدةٍ حين لاحظت نظراته الساهمة نحوها، وزاد انزعاجها مع جملته الأخيرة، عبست تسأله بلهجةٍ رسمية:
-أفندم؟!
كانت تبدو خلابة من بعيد، وآخذة للعقول من قريب، سَرح "تميم" يتأملها بعينين مضيئتين بلمعة غريبة، وبفمِ شبه مفتوح، كان مبهوتًا بها، أحس بالضياع وهو شاردٌ في ملامحها، صاحت فيه بصوتٍ ظهر مُتشنجًا حين لازم الصمت بهذا الشكل العجيب:
-أنا بأكلمك، أنا فيا إيه؟! مش فهماك!
استعاد وعيه، وأفاق من شروده ليرد بربكةٍ طفيفة وهو يحك مؤخرة عنقه:
-قصدي يعني جريئة، ومابتخافيش من حد.
رفت ابتسامة مغترة على شفتيها عندما ردت:
-صاحب الحق مابيخافش يا معلم "تميم".
قال مندفعًا وقد راقه تلفظها باسمه:
-طالعة حلوة منك..
ضاقت نظراتها بشكلٍ حاد فهتف متصنعًا الجدية:
-يعني إنتي معاكي حق.
أومــأت برأسها في استحسانٍ قبل أن تستدير لتدور في نفس الحلقة المفرغة وعينا "تميم" تتبعها باهتمامٍ مبالغ فيه، وكلما عادت لتتطلع إليه ادعى انشغاله بالتحديق في سقفية الممر حتى لا تمسك به وهو يُملي عينيه برؤيتها، توقفت "فيروزة" عن الحركة حين سمعت صوت "خلود" يتساءل في ضيقٍ واتهام مستتر:
-إيه اللي بيحصل هنا؟!
حل الوجوم على قسمات "تميم" فور أن رأها، تحفز في وقفته، وزجرها بخشونةٍ قبل أن تبادر بإلقاء التهم جزافًا عليها:
-في إيه يا "خلود"؟
سألته دون أن تبعد عينيها المتشككتين عن عدوتها:
-هي بتعمل إيه معاك؟
رمقتها "فيروزة" بنظرة نارية وهي تجيبها بأسلوب وقح:
-مستنية أتأكد من اللي أمك قالته عن أختي.
تقدمت بثباتٍ نحوها، وسددت لها نظرة احتقارية ثم علقت عليها بفظاظةٍ غير مقبولة:
-أمي مغلطتش، من حقها تتطمن على مرات ابنها، وأنا معاها في ده!
اغتاظت "فيروزة" من طريقتها المستفزة في تبرير سوء تصرفها فناطحتها الند بالند، وردت بانفعالٍ:
-دي لو مراته أصلاً، احنا ما يربطناش بيكم أي حاجة!
وعلى عكس ما كان يظن، اكتشف "تميم" مصادفة تورط زوجته في تلك المسألة الخسيسة، انتقل من مكانه ليغدو قبالتها، قبض على ذراعها بيده القوية، جذبها منه بعيدًا عن "فيروزة"، وضغط عليها بقساوة حتى تأوهت من الألم، ثم هزها بخشونة وهو يسألها:
-يعني كنتي عارفة يا "خلود"؟
تحرجت من انكشاف أمرها بسبب رعونتها، فحاولت الابتسام لتخفي تلبكها، وقالت برقةٍ وصوتها مضطرب:
-"تميم" حبيبي، هنتكلم بعدين و...
قاطعها بصوته الآمر وقد احمر وجهه غضبًا:
-لأ دلوقتي!
استجمعت نفسها، ونظرت في تردد له، ثم حانت منها نظرة سريعة جانبية لوجه "فيروزة" المشدود، تجددت غيرتها القاتلة وتصاعد الدم في عروقها، وبكل برود نطقت:
-الممرضة سمعت الدكتور وهو بيقول إن أختها عندها مشاكل ومش هتخلف، وحابت توجب معانا!
استنكار عظيم سيطر على نظراته نحوها، وبغيظٍ مفهوم هدر في عصبيةٍ:
-بتقولي إيه؟ وإزاي أصلاً تجي تقولكم الكلام ده؟!!
لوت ثغرها في تهكمٍ وهي تعلق عليه:
-عادي يعني.
كانت "فيروزة" تغلي في الخلف وأذناها تلتقطان حديثها الأرعن، اِربد وجهها بمزيد من الحنق، وهدرت تعنفها بشراسةٍ:
-لأ مش عادي اللي عملتوه! دي جريمة هحاسبكم عليها.
لم يختلف حال "تميم" كثيرًا عنها، كان مغلولاً من برود زوجته ومشاركتها في تلك الجريمة الأخلاقية، فصاح يؤيدها وموبخًا زوجته:
-هي معاها حق تقلب الدنيا فوق دماغكم..
قست نظراته بشدة وهو يتابع بزمجرة مجلجلة:
-لأنه لو اتقال عليكي مكونتش هاقبله، وهانفخ اللي قاله! محدش يلوم على الأبلة لما تهد الدنيا!
أحست بالخوف من عدائيته الصارخة، ابتلعت ريقها ورققت من نبرتها وهي تحاول خلق التبرير لوالدتها:
-هي غرضها آ....
قاطعها بصرامة جعلتها ترتجف خوفًا منه:
-ولا كلمة! اتكتمي!
التفتت "خلود" برأسها للجانب لتلقي اللوم على "فيروزة"، فاتهمتها بوقاحةٍ:
-هي اللي عاملة الشبورة دي عشان تلبسنا في أختها المعيوبة!
لم يجد "تميم" بدًا من الكلام المجدي معها، كانت وقحة بشكلٍ سافر لم يتخيل أبدًا أن يصدر منها، تخطت كل الحدود والأعراف، وتجاوزت آداب الحوار المنطقي، كان آخر حديثها كالقشة التي قسمت ظهر البعير، فأصبح رده المناسب لإخراس لسانها الدنيء صفعة مؤلمة على صدغها، تفاجأت "خلود" بفعلته، وحملقت فيه مصدومة، تهدج صدرها واغرورقت عيناها بالعبرات سريعًا، لقد فعلها حقًا وصفعها أمام تلك اللعينة التي أفسدت حبها الأفلاطوني له، زادت كراهيتها العدائية لها، أحست بنيران تنبعث من رأسها، وقبل أن تلوم زوجها وتبدأ في نوبة بكائها المقهور تركها الأخير تحترق كمدًا في مكانها واتجه إلى "فيروزة" يعتذر منها:
-أنا أسف يا أبلة على اللي حصل.
وبالرغم من محاولته لرأب الصدع فيما حدث إلا أن "فيروزة" قالت بحسمٍ:
-احنا معرفتنا بيكم انتهت، لا خطوبة ولا دياوله...
تركزت نظراتها على "خلود" حين أكملت باقي جملتها:
-بلغ قريبك و.. أخو المدام بده.
غامت عيناه، وقال يرجوها:
-بس آ....
ولكنها هتفت تقاطعه بصلابة وقد توحشت نظراتها:
-خلاص!
شعر "تميم" بكآبة تثقل صدره بعد كلمتها تلك، اكتست تعابيره بحزنٍ غريب، نكس رأسه في خزيٍ، وتسمر مكلومًا في مكانه، ابتعدت عنه "فيروزة" لتتجه إلى زوجته التي ما زالت تضع يدها على وجنتها الملتهبة، رمقتها الأولى بنظرة نارية مستحقرة، وبادلتها الأخيرة نفس النظرات الناقمةن ثم دست يدها في حقيبتها وأخرجت النقود المطوية، أمسكت بيدها عنوة ووضعتهم بها قائلة لها:
-وقبل ما أنسى، ادي لجوزك فلوسه، مابنقبلش الشفقة من حد!
صدمة هبطت على رأسها لتفقدها صوابها، شخصت أبصارها هاتفة:
-إيه؟ هو ..!
تركتها تغمغم بكلماتها المتقطعة دون أن تكترث بها، اتجهت إلى باب مدير المشفى الذي انفتح ليناديها:
-يا أستاذة
تطلعت إليه وهي تتنفس بعمقٍ لتكتم نوبتها الانفعالية التي طفت على السطح، سألته بأنفاس متهدجة:
-أيوه
أجاب الطبيب مشيرًا بيده:
-ممكن تتفضلي جوا عشان نفهمك سوء التفاهم اللي حصل في حالة أختك.
هزت رأسها مرددة:
-طيب
ولم تلتفت للوراء لتخلف ورائها الاثنين وهما على وشك الانفجار ما بين غضبٍ شديد، وهياج أكبر، انغلق الباب فهرولت "خلود" نحو زوجها تسأله بجنونٍ:
-إيه ده يا "تميم"؟!
سحب النقود منها ودسها في جيبه دون أن يمنحها المبرر المناسب، بلغت ذروة غضبه منها أقصاها، فتحت شفتيها لتسأله لكن الكلمات تحولت لتأويهات وأنات حين انغرست أصابعه في ذراعها ليشدها منه، نظر لها بعينين خاليتين من العطف وهو يأمرها بصوتٍ أجوف، كأنه قادم من عمق سحيق:
-تعالي معايا على البيت، مش هانتكلم هنا!
.......................................................................
قادته قدماه إلى منزله، كان كبارقة الأمل الأخيرة المتبقية ليلجأ إليه قبل أن يسقط في بئر آثامه دون رجعة، استقبلته خالته في اندهاشٍ، أصر "هيثم" على الجلوس مع الحاج "سلطان" فقط، اعتبره كجده الذي افتقده، عل كلماته المواسية تطيب من أوجاع قلبه، وبكل ترحاب وود دعاه الكهل العجوز للجلوس معه على سجادة الصلاة، أمسك بسبحته يفرك حباتها بحركة ثابتة مصغيًا له ليفرج عن همومه، فاستفاض ببكاءٍ صادق:
-يا جدي أنا تعبت، معنتش قادر .. طريق الحلال صعب أوي، أنا كل ما حاول أمشي فيه المصايب تكتر عليا والدنيا بتقفل في وشي.
ربت على كتفه مهونًا:
-هتدوق حلاوته في النهاية، اصبر إنت بس.
تساءل في يأسٍ:
-لحد امتى؟ وإزاي؟
زادت نحيبه وهو يتابع بأسى:
-ده أنا مصدقت إنها واقفت ترجعلي بعد الهباب اللي عملته فيها، وقولت خلاص أهي اتحلت وهنبقى لبعض.
ردت عليه "سلطان" متسائلاً:
-قصدك على البنت إياها اللي روحنا كلنا خطبنهالك؟
هز رأسه يجاوبه مسهبًا في الحوار:
-أيوه يا جدي، جت أمي وعملت الفورتينة، وبدل ما تكحلها عميتها، راحت قالتلها إنها مابتخلفش، والله أعلم إن كان ده صح ولا لأ!
بدا الامتعاض المنزعج على وجه "سلطان"، لم يتقبل تصرفها غير المحمود، وقال:
-مايصحش اللي عملته ده.. فين عقلها؟
أخفض نظراته ليتأمل "هيثم" الذي كان غارقًا في أحزانه، فحاول إعادة الثقة إليه فأضاف بتفاؤلٍ ورضا:
-ربنا وحده اللي عالم بالغيب، عارف إيه اللي ينفع فلان، وإيه اللي يضر غيره، منَّه (إحسانه) عطاء، وأخذه عطاء، ماينفعش احنا ندخل في مشيئته.
رد بتنهيدة مهمومة:
-ونعم بالله.
أكد عليه متسائلاً بصوته الجاد:
-سيبك من اللي أمك عاملته، وقولي إنت عاوز إيه؟
أجابه دون ترددٍ أو تفكير:
-أنا عاوزها هي.
ابتسم "سلطان" في حبورٍ، وحثه بتشجيعٍ واضح في نبرته ونظراته إليه:
-خلاص توكل على الله، وماتسيبهاش.
لم تتغير ملامحه العابسة، واستطرد مهمومًا:
-بس مين هايقف معايا بعد ما الليلة باظت؟!
قال بابتسامة واثقة:
-متقلقش، الحبايب كتار، وبعدين ربنا كرمه واسع، خليك واثق في فرجه القريب.
أعـــاد إلى روحه الملتاعة السكينة بحديثه المفرج للهموم، مال عليه ليحتضنه، ثم أحنى رأسه على كفه الذي التقطه بين راحتيه ورفعه إلى فمه قبل أن يشكره:
-ربنا يخليك ليا يا جدي.
...............................................................
نقل والدتها أولاً إلى منزلها دون أن ينبس بكلمةٍ، ولم تحاول "بثينة" الحديث معه، لقد نالت غرضها، والحديث لن يجدي فيما مضى وانقضى، نظرة مليئة بالغيظ منحها لها حين ترجلت من سيارته، كان غاضبًا بما فيه الكافية لينزع فتيل حنقه فينفجر إما في وجهها أو وجه ابنتها، راقبت "خلود" جفاء معاملته وقساوته البادية على تعبيراته، لذا أطبقت على شفتيها مرغمة، ونظرت إليه بطرف عينها وهي تعتصر ذهنها اعتصارًا لتستدرجه من جديد إلى منطقة مشاعرها المستفيضة، ضغط "تميم" على المكابح فجأة ليأمرها دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليها:
-إنزلي
همست بتلعثمٍ وكأنها تتسول عطفه:
-أنا أسفة .. مكونتش آ.....
لم يرغب في سماع هرائها اللزج فهتف مقاطعًا بنفاذ صبر:
-مش عاوز أتكلم، يالا انزلي!
ارتجفت من صراخه العالي، وسألته بحذرٍ، وذلك الهاجس المستعر بشأن عودته لمقابلتها يشتعل بقوةٍ في رأسها:
-طب إنت رايح فين؟
أجابها بصوته الأجوف وهو لا يزال محدقًا أمامه:
-أنا مش ملزم أديكي تقرير بخطواتي.
اختنق صوتها وبكت وهي تصيح فيه:
-بس أنا مراتك، مش واحدة من الشارع، يعني من حقي أعرف إنت رايح فين وجاي منين.
استدار برأسه ليرمقها بنظرات غريبة مليئة بالقسوة والإظلام، ثم قال بغموض أجفل قلبها:
-هنتكلم في ده لما أرجع.
أحست بثقلٍ مرعب يجثم من جديد على صدرها وقد حملت كلماته دلالات مقلقة، أجبرت نفسها على عدم الضغط عليه ريثما تعيد ترتيب أفكارها حتى تجذبه إليها، وبيدٍ مرتعشة فتحت باب السيارة وترجلت منها، أحست بانسحاب روحها مع ابتعاده السريع، وقالت وهي تجز على أسنانها، وكأنها تجدد بهذا الوعد القسم الذي قطعته على نفسها:
-مش هاسيبك يا "تميم" تضيع مني، أنا مراتك، وإنت من حقي أنا وبس!
.....................................................................
علمت الحقيقة كاملة من الطبيب نفسه الذي أجرى العملية الجراحية لأختها، لم يكن الحديث الدائر في مكتبه يخصها، بل عن واحدة أخرى أجرت نفس العملية قبل يومين وتعاني من مشاكل أخرى، وتسببت الممرضة المتواجدة أثناء ذلك النقاش في إحداث سوء التفاهم والإضرار بتوأمتها، اقترح مدير المشفى ليبدد أي شكوك تساورها، وكذلك كتعويض عن الإساءة التي جرت:
-احنا مستعدين نعمل تحليل هرمونات دقيق لأختك، ده غير السونار والأشعة على الرحم عشان تتطمن.
بدا اقتراحه مناسبًا لردع من يتجرأ على المساس بها، فوافقت دون تفكيرٍ:
-وماله، أنا معنديش مانع
رد عليه مدير المشفى مشددًا:
-المهم موافقة أختك، ده غير إننا هنعمل تخفيض 20% من تكاليف العمليات والإقامة، ونرد الفرق ليكي، كتعويض مننا كإدارة عن تقصيرنا في حماية أسرار المرضى
شعرت بالرضا من سعيه الدؤوب لإصلاح الخطأ، وقالت بهدوء:
-كده يبقى عداكم العيب
طلب منها برجاءٍ:
-وأتمنى مايبقاش في تصعيد للأمور، لأن الغلط من الأساس مكانش مننا
قالت على مضضٍ:
-ده مفهوم، بس أنا أختي اللي اتأذت وسمعت كلام جارح مكانش ينفع يتقال
رد مؤكدًا:
-وعشان مايتقالش إن في تغاضي مننا عن التجاوز ده، فالممرضة خدت جزا كمان
هزت رأسها في خفةٍ، وعلقت باقتضاب:
-تمام..
أضاف مدير المشفى أخيرًا:
-عامة يا أستاذة احنا منتظرين موافقة أختك وهنقوم باللازم على طول.
ردت تشكره وقد عادت البسمة لتحتل شفتيها:
-شكرًا على تفهمكم وتقديركم للي حصل.
قال بلهجة رسمية قبل أن ينهي اجتماعه بها:
-ده دورنا.. وربنا يقومها بالسلامة
................................................................................
قبلت أعلى جبينها وهي تمسح بكلتا يديها على وجهها الباكي لتزيح دمعاتها التي بللته، أغدقت عليها بحنانها الأمومي الغزيز، ثم جلست على طرف الفراش ملتصقة بها، اعتذرت "آمنة" لابنتها عن تركها لها ورحيلها، فقالت بنبرة آسفة يختلط بها بكائها:
-حقك عليا يا ضنايا، أنا لو مكونتش سبتك مكانش ده حصل، منهم لله الظلمة، هيروحوا من ربنا فين؟!
تجربة قاسية من كافة الجوانب انخرطت فيها بجوارحها فانعكست آثارها بالسلب عليها، ولم تكن حالتها النفسية تسمح بتخطي الأمر، ما زالت تلك الرجفة تنتابها كلما تذكرت وقع كلامها المؤلم عليها، امتدت يد "همسة" لتتشبث بكف والدتها، وردت تستعطفها بصوتها المبحوح:
-ماتسبنيش يا ماما.
احتضنت كفها بين راحتيها وقالت بصوتها الدافئ وهي ترمقها بنظرتها الحانية:
-أنا جمبك يا حبيبتي، مش هاتنقل من هنا.
ولجت "فيروزة" إلى داخل الغرفة وهامتها مرفوعة للأعلى، ابتسمت متسائلة وقد حققت انتصارها:
-عاملة دلوقتي إيه يا "همسة"؟
أجابت بقهر لم تخفه:
-زي ما إنتي شايفة، قلبي وجعني أوي.
احتلت "فيروزة" الجانب الآخر من الفراش، لكن جلست عند قدمي أختها، وبرفقٍ مسدت على جسدها وهي تقول لتخفف من أحزانها:
-الحمدلله ربنا قدرني وعرفت أرجع حقك، وكمان المستشفى هنا مستعدين يعوضوكي عن اللي حصل.
نظرت إليها من بين دمعاتها الحارقة، ونطقت في انهزامٍ:
-صعب يا "فيروزة"، أنا جوايا حاجة اتكسرت و...
قاطعتها بحزمٍ لتمنع شكوكها من التدفق في عقلها وغزو تفكيرها:
-الدكاترة أكدولي إنهم يقدروا يثبتوا بالتحاليل إنك كويسة، ومحدش هيقدر يفتح بؤه معاكي.
غلف صوتها شجن محسوس حين سألتها مباشرة لتبوح بمخاوفها:
-وافرضوا طلعوا عندهم حق؟
هتفت مستنكرة محدودية تفكيرها وانسياقها وراء تلك الأكاذيب المضللة:
-إنتي هتصدقي الست المجنونة دي؟ كلنا فاهمين هي عملت كده ليه؟ هي مش عايزاكي لابنها، واحنا من الأساس رافضينهم!
انفجرت في نوبة بكاءٍ جديدة وهي تعقب عليها:
-وأنا مش عاوزة أعمل أي تحاليل، خرجوني من هنا، أنا مش عاوزة أفضل في المستشفى دي، رجعوني البيت
أشفقت والدتها على حالتها البائسة، فقامت من جلستها واحتضنتها بذراعيها لترتمي ابنتها على صدرها، ثم حاولت تهدئتها قائلة:
-حاضر يا "همسة"، هنعمل كل اللي إنتي عايزاه، بس بلاش تقطعي قلبي بكلامك ده.
شاركتها البكاء ولكن بنهنهات أقل، لم تتحمل "فيروزة" ضغط المشاعر المستنزف لأحاسيسها، وقالت بجمودٍ زائف:
-ماشي اللي يريحك.
خرجت من الغرفة ودموعها تسبقها، انتقت أول مقعد شاغر بعيد عن الغرفة لتلقي بجسدها المثقل بالهموم عليه، ورمت حقيبتها بإهمالٍ إلى جوارها، بكت بمعزلٍ عنهما، أحست كم هي متعبة ومستنزفة القوى! دفنت وجهها بين كفيها حتى لا يلمح حزنها أحدهم، فقط وحده من رأى لحظة ضعفها واستسلامها المتوقع بعدما خاضته. كان "تميم" في طريقه مصادفة إلى غرفة أختها ليعتذر منها مجددًا وبندمٍ واضح عما بدر من زوجته، لكن قلبه كان الأسبق في التنبؤ بوجودها، دار بعينيه في المكان ليتأكد مما يراوده من شعورٍ موتر، ووجدها هكذا في تلك الحالة اليائسة، مزيج من الغضب والضيق سيطر عليه، تجمد في مكانه يراقبه من زاوية خلفية منزوية لا تستطيع الإمساك به إن رفعت رأسها وتطلعت أمامها، تردد في الحديث إليها، كان يعلم أن حالتها المزاجية المتقلبة لن تسمح بأي تعاطفٍ أو مسامحة، لذا انسحب مضطرًا ليرمم الشرخ مع أختها ووالدتها ربما تكون قد هدأت حينها.
........................................................................
لم تكن توأمتها صعبة الإقناع، بل كانت شابة لينة، طيبة، خلوقة، رقيقة، ومرهفة المشاعر، أشبه بوالدتها عن أختها شعلة النار المتقدة دومًا، ارتضت "همسة" بجمله القليلة المعتذرة وتغاضت عن الإساءة مُسلمة أمرها للمولى، لذا بمجرد أن فرغ "تميم" من حديثه اللبق معها عاود أدراجه ليكمل باقي مهمته الصعبة مع نصفها الآخر، وجدها لا تزال جالسة في مقعدها، ولكنها أراحت ظهرها للخلف، وأغمضت عينيها وقد استندت برأسها على الحائط، اقترب منها ليتأملها عن كثب متسائلاً في توجسٍ شبه خائف:
-هي مالها؟!!
استطاع أن يرى خطين رفعين من الدموع لم يجفا بعد، بل بدا وكأنهما يتجددان باستمرارٍ، أحقًا تبكي في صمت؟ حز ذلك في قلبه بشدةٍ، غصة مريرة اجتاحت حلقه مرددًا لنفسه، وكأنه يلومها:
-احنا السبب.
كور قبضة يده المرتجفة غيظًا وتنفس بعمقٍ حتي يثبط مشاعره الغاضبة حيث اهتاجت من جديد راغبة في الثأر لها، بالطبع ما مرت به واختبرته لتعيد حق أختها ليس بالهين، بينما ما اقترفته خالته أو زوجته لا يمكن المسامحة فيه أو الغفران.
تقدم نحوها وهو يراجع أفكاره في رأسه، لا يعرف لماذا ينشغل كثيرًا بأمرها، وهي التي لا تطيقه أو تمنحه لحظة لُطف عابرة، لكنه كان مهتمًا بشأنها، وقف قبالتها في ارتباكٍ، ثم قال مبادرًا:
-سلامو عليكم.
وعلى ما يبدو لم تشعر به، كانت لا تزال على وضعيتها الساكنة، ظن أنها غفت قليلاً فتشجع للجلوس إلى جوارها، وهنا استطاع أن يرى حزنها عن قربٍ فآلمه ذلك الإحساس العاجز، هو أيضًا متورط في إيذائها معنويًا، ودَّ لو استطاع تعويضها ومحو أحداث اليوم الكئيبة من ذاكرتها، زفر ببطء وقد زادت تعابير تكدرًا، أخفض نظراته ليجد حقيبتها إلى جوارها، راود عقله فكرة متهورة، نفذها دون ترددٍ، حيث استلها بحرصٍ شديد دون أن تشعر به، وتمكن من فتح سحابها وأعاد وضع نقودها بها، وبنفس الحذر أعادها إلى جوارها، تنفس بزفيرٍ مسموعٍ نسبيًا ليلفت انتباهها إلى وجوده، لكنها ما زالت في غفلتها المتعبة والقصيرة، فجازف مناديًا باسمها بصوت هامس يميل للعذوبة تسلل إلى وعيها فأوقظها:
-"فيروزة" ........................................... !!!
تابع من هنا: جميع فصول رواية دموع هواره بقلم لولو الصياد
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا