مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الخامس من رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل الخامس
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل الخامس
جلسا متقابلين على المقاعد المتاحة في الردهة بالمشفى بعد إيصــال "تميم" لذاك السمج الذي تعرض لحادث السير وتولي الطاقم الطبي مهمة التعامل مع حالته، لم تتركه "فيروزة" وظلت باقية تنتظر بتوترٍ نتائج فحص حالته، بالطبع اضطرت أن تهاتف رفيقتها "علا" لتطلعها على الأمر، لكونها أيضًا لا تعرف أصدقاء له أو حتى أي أقرباء سواها، نفخت في سأمٍ وهي تنظر لساعة هاتفها المحمول، مر الوقت بطيئًا عليها، وكانت في حالة قلقٍ واضحة، خشيت من وقوع الأسوأ. راقب "تميم" ما يصدر عنها بنظراتٍ حذرة آملاً ألا تمسك به وهو يتطلع إليها خلسة، كان على دراية بحدة طباعها، وعصبيتها الوشيكة، ناهيك عن تحفزها للانقضاض في التو على من يتجرأ عليها.
لاحظ الإرهــاق البادي على ملامحها، ما زال بها ذاك الشيء الغامض الذي يستحثه على النظر إليها دون ضجرٍ وفي صمتٍ لذيذ، حتى عيناها كانتا متعبتين، كل بضعة لحظات تفركهما بأناملها، تأهب في جلسته وقد نظرت إليه بغتةٍ لتسأله:
-في حاجة؟
تنحنح بخفوتٍ قبل أن يجيبها متعللاً:
-مكانش ليها لازمة تتعبي نفسك وتيجي، أنا بأعرف أتعامل في المواقف اللي زي دي و...
قاطعته وهي تشيح بوجهها للجانب:
-شكرًا.. كان لازم أجي، أنا أعرفه، بس إنت لأ.
ورغم إحراجها الواضح له إلا أنه لم ينزعج من صراحتها، لكن أغضبه اهتمامه الزائد بذلك الغريب الذي على ما يبدو لم تلتقِ به سوى بضعة مراتٍ ليستحوذ على ذلك القدر من قلقها، شعوره بالغيرة منه تعاظم بداخله، انصــرف عن التفكير في تصرفاتها معه حين أطل عليهما الطبيب، نهض واقفًا لينظر إليه، وقبل أن يبادر بالسؤال عن أحواله كانت "فيروزة" تتساءل بتلهفٍ:
-خير هو عامل إيه دلوقتي؟
كان "تميم" كالقابض على جمرٍ في راحته، كظم تلك الأحاسيس المنزعجة في صدره وحاول أن يبدو هادئًا، ما زال ذلك السؤال الغريب يلح عليه في رأسه، لماذا هو حانق هكذا بشأن اهتمامها بغيره؟ أليست غريبة عنه وأمرها لا يعنيه؟ كيف تنتابه تلك المشاعر المستاءة وتكاد تفتك بصدره؟ انتبه لسؤال الطبيب الروتيني المستفهم:
-إنتو قرايب المريض؟
تبادلت معه "فيروزة" نظرة مترددة قبل أن تعاود التحديق في وجه الطبيب لتجيبه:
-أيوه.. أنا أعرفه، وكلمت معارفه وهما في الطريق.
استفاض في شرح حالته موضحًا:
-عمومًا هو بخير، مافيش غير كسر في الساق، وهيتحط في الجبس لمدة شهر، مع شوية رضوض وكدمات طبعًا ده نتيجة الارتطام العنيف بالأرض، احنا عملناله أشعة مقطعية على المخ، والحمد لله مافيش ضرر.
تنهدت في ارتياحٍ وهي تجيبه:
-الحمدلله.
تابع الطبيب حديثه قائلاً:
-هو دلوقتي واخد مسكنات ونايم، وعلى الصبح هايكون فاق وتقدروا تتكلموا معاه.
هزت رأسها في تفهمٍ وهي ترد:
-تمام .. شكرًا يا دكتور.
قال مجاملاً قبل أن ينصرف:
-ربنا يطمنكم عليه.
ظلت "فيروزة" متسمرة في مكانها وقد بدت إلى حد ما شــاردة ومستغرقة في أفكارٍ تخصها .. حك "تميم" مؤخرة عنقه متسائلاً في اهتمامٍ، ونظراته مرتكزة عليها:
-أومال هتعملي إيه بعد كده؟
على ما يبدو أنها لم تنتبه له، صمتت مطولاً فلوح بيده أمام وجهها قائلاً:
-يا أبلة سمعاني؟
تقلصت تعبيراتها من حركته تلك، وعلقت بتهجمٍ:
-في إيه؟
تحدث من زاوية فمه قائلاً:
-بأقولك هو إنتي آ....
لم يتمكن للأسف من إتمام عبارته بسبب صياح رفيقتها المزعج:
-إيه الأخبار يا "فيروزة"؟
نظر لها في ضيقٍ وهي تلاحقها بأسئلتها:
-"آسر" عامل إيه دلوقتي؟ كويس ولا جراله إيه؟
ربتت على كتفها في رفقٍ، وأجابت بابتسامة صغيرة حتى تهدأها:
-اطمني يا "علا"، الدكتور لسه مخلص كلام معايا، وقالي حالته كويسة وتمام.
تنفست رفيقتها بعمقٍ لتزيح تلك الكتلة المقلقة الجاثمة على صدرها، وقالت بتضرعٍ وهي تضم قبضتيها معًا:
-الحمدلله يا رب.
غمغم "تميم" مع نفسه في سخطٍ:
-إيه المبالغة دي؟ هو داسه قطر وأنا معرفش؟!
بينما رفعت "فيروزة" أنظارها نحو أخيها الذي جاء بصحبتها، وسألته من تلقاء نفسها:
-إزيك يا "ماهر" بيه؟
سألها الأخير بصوتٍ جاد:
-إيه اللي حصله يا "فيروزة"؟
هزت كتفيها في عفوية وهي تجيبه:
-مش عارفة بالظبط، بس الظاهر إنه كان بيعدي الشارع وماخدش باله من العربيات، لأن شوفناه مرمي جمب الرصيف والناس حواليه.
حرك رأسه معقبًا عليها بلهجته شديدة الجدية:
-دلوقتي هنتكلم معاه ونفهم بالظبط إيه اللي حصل.
ردت عليه مشددة:
-لأ مش هاينفع، الدكتور قال على بكرة هنقدر نشوفه.
وضعت "علا" يدها على ذراع رفيقتها لتقول بنبرة ملتاعة، وعيناها تحبسان الدمع فيهما:
-كويس إنك كلمتينا.. أنا هاتجنن بصراحة عليه.
عضت "فيروزة" على شفتيها مبررة تصرفها في حرجٍ طفيف:
-ما هو أنا معرفش قرايب ليه، وبما إنه عارفكم فأكيد هتعرفوا تتعاملوا.
هزت رأسها في استحسانٍ وكأنها تشكرها على لجوئها إليها لمساعدته في أزمته المفاجأة، بينما تحولت كافة الأنظار إلى "تميم" الذي أشــار إلى وجوده حين استطرد هاتفًا:
-شدة وتزول.
ضاقت عينا "ماهر" بشكٍ وهو يسأله بما يشبه التعالي:
-هو إنت؟
لوح "تميم" بيده بحركة عسكرية مرحبًا بالضابط:
-مساءك فل يا باشا
قال باقتضابٍ وترفع:
-أهلاً..
أشــار "تميم" بيده إلى صدره متابعًا:
-أنا اللي لفحته على كتفه وجيبته هنا على فكرة.
التفتت "علا" نحوه لتشكره ببسمة متكلفة:
-ميرسي على تعبك.
رد عليها بفتورٍ:
-مافيش فيه حاجة خطيرة، هيعدي منها على خير يا أستاذة.
اكتفت بهزة خفيفة من رأسها قبل أن تنظر ناحية شقيقها لتطلب منه برجاءٍ كبير:
-عاوزين نطمن عليه ونشوفه يا "ماهر"، بليز خليهم يوافقوا ندخله.
استسلم أمام إلحاحها فقال على مضضٍ:
-حاضر.
شعرت "فيروزة" أن وجودها لم يعد مجديًا، بالإضافة إلى تأخرها كثيرًا في العودة إلى منزلها، وحتمًا ستقلق والدتها، لذا تشدقت قائلة:
-طيب أنا هستأذنكم هامشي دلوقتي، مش هاينفع أقعد أكتر من كده، وفي البيت قلقانين عليا.
ردت عليها "علا" وقد تفهمت أسبابها الشخصية:
-مش عارفة أقولك إيه يا "فيروزة"، وجودك فرق معاه حقيقي.
ابتسمت وهي ترد:
-ربنا يقومه بالسلامة.
اقترح عليها "ماهر" بلباقةٍ:
-تحبي أوصلك؟
اعتذرت بتهذيبٍ:
-المشوار مش بعيد ولا حاجة يا "ماهر" بيه، خليكوا إنتو مع الأستاذ "آسر"، وإن شاء الله يبقى كويس.
تضرعت "علا" مرددة في رجاءٍ:
-يا رب.
حافظت "فيروزة" على ابتسامتها المرسومة على شفتيها، وقالت:
-هاكلمك آخر النهار يا "لولو".
ردت وهي تومئ برأسها:
-أوكي.
تبادلت الاثنتان القبلات على الوجه لتعلق بعدها "فيروزة" حقيبتها على كتفها، اتجهت بخطواتٍ شبه سريعة إلى الدرج لتهبط عليه، ولكن استوقفها "تميم" الذي لاحقها مناديًا:
-يا أبلة..
استدارت لتنظر نحوه بوجومٍ:
-خير.
مرر يده على رأسه في ربكةٍ ظاهرة نسبيًا عليه، وقال مقترحًا عليها بأسلوب جاهد ليبدو لطيفًا للغاية:
-أنا رايح على الدكان، ممكن أوصلك في سكتي لو مش هيضايقك.
نظرت له بغرابةٍ قبل أن ترد معتذرة:
-شكرًا، هاركب من على أول الشارع.
وكأن برحيلها يصيبه فارغًا عجيبًا، فأصر عليها ممازحًا:
-يا ستي الطريق واحد، اعتبريني تاكسي لو ده يريحك.
التزمت برفضها، وعلقت عليه:
-مش هاينفع.. عن إذنك!
لم تتمهل في خطواتها وهي تهبط الدرجات سريعًا لتختفي من أمامه، تباطئ "تميم" في سيره مرددًا لنفسه بما يشبه المدح، وملامحها القريبة المليئة بالتفاصيل المشوقة قد باتت محفورة في ذاكرته:
-دماغك حجر .. بس بنت بلد وجدعة.
.........................................................................
على الأريكة المريحة أمام شاشة التلفاز العريضة جلست "خلود" بشرودٍ واجم تحدق بعينين غير مكترثتين المشاهد المتتابعة التي تُعرض أمامها، حادثتها خالتها لأكثر من مرة، وكأنها ترغب في مشاركتها التعليق على الأحداث، لكنها ظلت صامتة، تسرح في عالم خاصٍ بها، انتبهت لها "ونيسة" واعتدلت في جلستها لتسألها مباشرة، ونظراتها مثبتة عليها:
-مالك يا "خلود"؟ مضايقة من إيه؟
زفيرٌ مهموم خرج من جوفها قبل أن ترد باقتضابٍ:
-مافيش.
أثارت في نفسها الشكوك بردة فعلها الحزينةة التي تحمل الكثير من الدلالات المقلقة، لذا أصرت عليها علها تنجح في سبر أغوارها:
-إزاي مافيش؟ هو أنا عامية مش شايفة شاكلك عامل إزاي؟
نكست "خلود" رأسها لتبدو أكثر حزنًا، واستندت بوجهها على راحة يدها دون أن تنطق فتثير من فضول خالتها، تحركت الأخيرة من مكانها لتجلس إلى جوارها، مسحت برفقٍ على كتفها وجانب ذراعها، ثم قالت:
-قولي يا حبيبتي، في إيه اللي حصل؟
حاولت أن تستدعي عبراتها لتحجزها في محجريها وهي تجيبها:
-أنا حاسة إن "تميم" واخد جمب مني.
قطبت "ونيسة" جبينها متسائلة في قلقٍ:
-ليه بتقولي كده؟
استرسلت مستفيضة في توضيح أسباب استيائها:
-معرفش.. بس من ساعة ما جيت هنا وهو زي ما يكون مصدق، طول النهار برا، لا بيجي ياكل ولا حتى بيعدي يسأل عليا..
قصدت أن يظهر صوتها مختنقًا وهي تكمل شكواها:
-ويدوب لو جه يغير هدومه آخر يوم بينزل تاني على طول..
انفجرت باكية لتواصل حديثها بصعوبة فتقنع من يصغي إليها:
-ده أنا مابلحقش أشوفه ولا اتكلم معاه، زي ما أكون غريبة عنه، ده غير إنه قاصد يبات برا، وأنا زعلانة منه بصراحة، هو أنا مش مراته ومن حقي أقلق عليه؟!
ربتت مهونة عليها حزنها، وقالت بنبرة مواسية:
-يا عيني يا بنتي .. كل ده شيلاه في قلبك وساكتة.
أخفت عينيها الباكيتين عنها براحة يدها، وعللت بلؤمٍ:
-ما أنا خايفة اشتكي تزعلوا مني.
ردت عليها خالتها بحزمٍ، وقد بدت داعمة لها:
-لا مالوش حق، إنتي مراته مش حد غريب، أنا هاكلم عمك "بدير" وهاخليه يشد عليه.
رفعت أنظارها نحوها، ثم ادعت النحيب وهي ترجوها بأسلوبٍ ماكر خبيث:
-لأ بلاش يا خالتي، "تميم" يزعل مني إكمني اتفكيت معاكي بكلمتين.
ابتسمت تقول عن ثقة وقد سقطت بسذاجةٍ في فخها البسيط:
-متخافيش، مش هاجيبله سيرة، أنا أمه وليا لي كلام معاه، والليلة هايكون في حضنك.
على الفور احتضنتها في امتنانٍ زائف وهي تشكرها:
-ربنا ما يحرمني منك يا خالتي.
تراجعت عنها الأخيرة لتنظر إليها وهي تكفكف عبراتها، ثم قالت بوداعةٍ:
-ده إنتي غالية عندي..
وربتت على كتفها مجددًا قبل أ، تداعبها في ودٍ:
-شوفي الضحكة نورت في وشك إزاي.. ربنا ما يجعلها تفارقك
تنهدت معقبة عليها:
-يا رب يا خالتي.. يا رب.
..................................................................
أتت شكواها بنتائجها المرجوة، فحين حل المســاء، كان "تميم" عائدًا بصحبة أبيه إلى منزل الأخير ليقضي ساعات الليل به، بالطبع تلقى توبيخًا لا بأس به من أبويه، ولم يبرر لهما تصرفه في الانزواء عن زوجته، كان كعادته يُبقي ما يخصه سرًا لا يبوح به لكائنٍ من كان .. ولج إلى غرفته بتباطؤٍ، أزاح سترته عنه وأسندها على المِشْجب ليلتفت نحو زوجته التي باغتته باحتضانه وضمه إليها، بدا كالصنم للحظة من المفاجأة غير المرغوبة، لم يحاول حتى محاوطتها، تجمد في مكانه وهي تقول له باشتياقٍ:
-وحشني حضنك أوي.
أبعدها عنه برفقٍ ليقول ببرودٍ واضح في نبرته ونظراته إليها:
-أنا لسه ماصفتش من ناحيتك.
غالبت غيظها من قساوته، وسألته بنبرة مستكينة تدعي من خلالها براءتها:
-وهو أنا غلطت في إيه يا حبيبي؟
أجابها بما يشبه الهجوم:
-إنك تخبي عليا حاجة ولا تستغفلني ده أنا مقبلوش!!!!
عادت لتضمه، واستندت برأسها على صدره معتذرة منه بصوتها النادم:
-حقك عليا، أنا عمري ما أقدر أزعلك، إنت حبيبي وبس.
مل "تميم" من سماع مثل تلك العبارات المستهلكة، خاصة أنها لم تكن تلامس مشاعره، ولم يصل مضمونها الصادق إليه، أزاح ذراعيها عن جسده وتحرك نحو الدولاب ليأتي بملابسه، تبعته مختلقة المزيد من الأكاذيب:
-إنت عارف "هيثم" أخويا، مستهتر ومابيهموش حد، وإنت أكيد اتكلمت مع أمي وقالتلك على عمايله، أنا نفسي حاله يتصلح.
دمدم مع نفسه بصوت خفيض ظن أنها لن تسمعه:
-ما جايز تكونوا مطبخينها سوا، الله أعلم بنواياكم!
انقبض قلبها مما التقطته أذناها، ورددت والخوف يكسو تعبيراتها:
-نعم.. مش فهماك؟
التفت ليواجهها قائلاً، وتلك النظرة المتشككة تملأ حدقتيه:
-شوفي أخوكي فيه كل العبر، بس سكة المنشطات دي غريبة عليه، ومالوش فيها.
لعقت شفتيها، واستطردت مدافعة عن كذبتها:
-إنت.. بتقول إيه؟ يعني .. أنا هاكدب؟
لوى ثغره مرددًا بجمودٍ:
-الله أعلم..
وحدث نفسه في شكٍ دون أن يبعد نظراته النافذة عن وجهها المرتبك في تعبيراته:
-مسيرى هسأله في مرة.
استندت "خلود" بيدها على ضلفة الدولاب وقد شعرت بدوارٍ عجيب يلف رأسها، ترنحت في وقفتها، وقالت وهي تضع يدها على جبينها:
-مش عارفة مالي.. أنا دايخة كده.
علق "تميم" في تهكمٍ وهو يبتعد عنها:
-ما إنتي كنتي زي القردة من شوية.
ردت بأنفاس مضطربة، وهي بالكاد تحاول الوقوف ثابتة:
-لأ.. مش قادرة أقف على حيلي.
دقق النظر في هيئتها، لم تكن طبيعية بالمرة، عاد إليها وعاونها على السير ليمددها على الفراش، تأوهت أكثر من التعب، ألقى نظرة حائرة عليها، ثم قال:
-استني أشوفلك برشام ولا حاجة في الدرج.
فتح الكومود الملاصق لفراشه فوقعت عيناه على منديل الرأس والمشبكين، تلبك بشكلٍ متوترٍ وأغلقه على الفور، سلط أنظاره القلقة على زوجته المستلقية في حالة من الإعياء محدثًا نفسه:
-دي لو شافتهم هتقلبها حريقة.
تنحنح يقول لها:
-مافيش هنا، أنا هاطلع أشوفلك دواء يناسبك عند أمي.
ردت بوهنٍ وبصدر متهدجٍ:
-ماشي.. يا حبيبي.
خرج "تميم" من الغرفة و"خلود" تتطلع إليه بنصف عين، وما إن اختفى حتى اتسعت حدقتاها وزفرت كتلة من الهواء دفعة واحدة، وكأنها تخلص من شيء يجثم على أنفاسها، تحسست وجهها المتعرق بعرقه البارد قائلة بصوتٍ خفيض:
-كنت هاتكشف.. ربنا عداها على خير.
.............................................................
لليوم الثاني على التوالي، ولم تظهر على الساحة، اكتفت بمكالمة عادية لرفيقتها لتطمئن منها على وضعه دون القيام بأي زيارة استثنائية له مبررة بأنها المسئولة حاليًا عن إدارة المحل في غياب صاحبته التي تفرغت للبقاء بجواره.. ظهرت علامات الإحباط واضحة على وجه "آسر"، ورغم تعافيه قليلاً إلا أن انزعاجه كان واضحًا، حاولت "علا" تسليته، فاقترحت عليه:
-تحب أجيبلك شطرنج؟ أنا عارفة إنك بتحب تلعبه، أنا ممكن أغلبك كمان و..
قاطعها في فتورٍ:
-لا ماليش مزاج.. أنا عاوز أفضل كده.
ضمت شفتيها بيأسٍ وصمتت لتراقبه في صمتٍ، حملق "آسر" في الفراغ مستعيدًا في ذاكرته مشهد تشجع قليلاً ليسألها بأسلوب مراوغ:
-مافيش حد سأل عليا؟
هزت رأسها بالنفي وهي ترد:
-لأ..
ابتسم قائلاً بما يشبه المزاح:
-صاحبتك مش جدعة على فكرة، مفكرتش تيجي تزورني مرة، كإنها مصدقت خلصت مني.
أوضحت له بعفويةٍ:
-غصب عنها، هي شايلة الشغل كله مكاني، وأنا مابروحش خالص، بس كذا مرة اتصلت تسأل عليك.
انتبه لجملتها الأخيرة فتأهبت حواسه، وسألها بتلهفٍ:
-بجد؟ سألت عليا؟
ردت مبتسمة في رقةٍ:
-أيوه..
ثم عمدت إلى تغيير مجرى الحوار، وسألته:
-قولي مش عطشان؟ أجيبلك عصير؟ في نكهات كتير هنا.
تنهد معلقًا بحماسٍ:
-شوفي اللي يعجبك، أنا راضي بيه.
أحست "علا" بفيضٍ من السعادة يتسلل إليها لاستجابته لطلبها بأسلوبه المعتاد الذي يجذبها دومًا إليه .. لم تعلم أن حماسه الغريب راجعًا لاهتمامه بـ "فيروزة"، تلك التي شغلت تفكيره أكثر مما مضى بإنقاذها لحياته.
.................................................................
بعينين طامعتين يملأهما الشره والجشع حدقت "حمدية" في صواني الطعام المعبأة بالأطباق الشهية وهي تتجه نحو بناية عائلة "سلطان"، زمت "حمدية" شفتيها لأكثر من مرة ولعابها يكاد يسيل طمعًا في الاستحواذ على كل تلك الخيرات، مالت برأسها على زوجها ليبدو صوتها قريبًا من أذنه وهي تقول بحقدٍ:
-باين عليهم صارفين ومكلفين، شايف الأكل يا "خليل".
جاب زوجها بنظراته على الأوجه المألوفة المتراصة على المقاعد الخشبية حول المدخل في تجمعات بشرية ليرد عليها بانتشاءٍ:
-اللهم صلي على النبي، لأ وكبار التجار منورين كمان..
انخفضت نبرته محدثًا نفسه بنوعٍ من التفاخر:
-وقريب هابقى قاعد معاهم ومنهم لما نوضب الدكان وأتعرف عليهم.
توقفت "حمدية" عن السير لتخبره بما يشبه الأوامر:
-طيب أنا هاطلع مع الحريم فوق وإنت خلي العيال معاك بدل ما يلبخوني.
هتف معترضًا بنبرة متذمرة:
-بس دول هيصدعوا دماغي.
زجرته قائلة بصوتٍ خافت وبضيقٍ وهي تكز على أسنانه:
-يا خويا بأقولك عشان أعرف أعبي الأكل براحتي، إنت مش واخد بالك من الهلومة دي ولا إيه؟!
رد على مضضٍ وهو يحك رأسه:
-طيب.
نظرت "حمدية" من خلف كتف زوجها لتأمر أخته بنبرة مهتمة:
-مدي رجليكي شوية يا "آمنة"، هنتأخر على الجماعة.
لوحت لها الأخيرة بذراعها مرددة بابتسامتها الودودة:
-أنا وراكي أهوو.
نفخت "فيروزة" معلقة بقليلٍ من السخط:
-هي مستعجلة على إيه؟
مازحتها "همسة" بضحكة حذرة:
-تكونش نسايبها واحنا منعرفش!
أضافت توأمتها ساخرة منها بأسلوبها المتهكم:
-هي مرات خالك كده، تحب تتحشر في اللي مالهاش فيه، وفي الآخر بتاخد على دماغها لما تتزنق.
أخفضت "همسة" من صوتها لتقول:
-طب أقولك تلاقيها جاية مخصوص عشان تاكل وتلغ.
ردت عليها مؤيدة إياها في الرأي:
-أيوه، وتعبي في شنطتها، هي عادتها ولا هتشتريها.
استمعت "آمنة" إلى ثرثرتهما الخافتة فنهرتهما محذرة:
-بطلوا يا بنات بدل ما تسمعكم
كتمت الاثنتان ضحكاتهما العابثة ولحقتا بوالدتهما لتصعد ثلاثتهن الدرجات على مهلٍ حتى وصلن إلى منزل "بدير" .. استقبلت "ونيسة" ضيفاتها فاتحة ذراعيها في الهواء، وهي تردد بصوتها المهلل:
-يا مراحب بالغاليين.
مدت "حمدية" يدها لمصافحتها، وقالت بعشمٍ مبالغ فيه:
-مبروك يا حاجة "ونيسة" يتربى في عزكم، وربنا كأنه ابننا بالظبط، ده احنا من ساعة ما سمعنا الخبر واحنا الفرحة مش سيعانا.
جاملتها في الرد هاتفة:
-الله يبارك فيكي، تعالي عشان تسلمي على أم العريس.
ربتت على ذراعها في لطفٍ وهي تقول بضحكة مفتعلة:
-طبعًا، دي الغالية أم الغالي، عريسنا الصغير.
ثم أسرعت في خطواتها لتقدم التهنئة لـ "هاجر"، وقفت "آمنة" عند أعتاب باب المنزل تقوم بدورها في المباركة، ابتسمت مستطردة حديثها معها:
-إزيك يا حاجة، ربنا يبارك في الحفيد الصغير.
انحنت عليها "ونيسة" لتقبلها من خديها بعشرات القبلات المتتابعة قبل أن تشكرها:
-الله يبارك فيكي، وعقبال ما تفرحي بالبنات وعوضهم.
هزت رأسها معقبة:
-إن شاء الله.
قدمت كلاً من "فيروزة" و"همسة" مباركاتهما لها قبل أن تستقر الاثنتان بجوار والدتهما على المقاعد الشاغرة .. توالى دخول البقية ملقين التحيات والتهنئات ليبدأ بعدها الحفل المعتاد بترديد أغاني السبوع الشهيرة بواسطة فرقة شعبية ملأت الأجواء صخبًا وحماسة .. بعد ما يزيد عن نصف الساعة هدأت الضوضاء لتبدأ "ونيسة" وقريباتها في توزيع الحلوى والفول السوداني على الحضور كتقليد متبع عند الاحتفاء بالمولود الجديد .. انتظرت "حمدية" ريثما اقتربت منها صاحبة المنزل لتسألها بوقاحة ودون أدنى تمهيد:
-بأقولك إيه يا حبيبتي؟ عاوزين كده نبص على الشقة اللي هتتجوز فيها عروستنا، مش بردك هي هنا في العمارة؟
ورغم استغرابها من طلبها الذي لا يعد مناسبًا في مثل هذا الظرف العائلي إلا أنها ردت بتهذيبٍ:
-أيوه .. إديني لحظة أقول للحاج "بدير" يجيبلي المفتاح.
سألتها "حمدية" مستفهمة وقد ضاقت نظراتها:
-هو إنتي مش معاكي نسخة؟
جاوبتها بالنفي وموضحة أيضًا:
-لأ، هو اللي متولي موضوع الشقة من الألف للياء .. مش كان متفق معاكو على كده؟!
رفعت "حمدية" حاجبها للأعلى، وأضافت بوقاحةٍ سمجة:
-طب احنا كمان عاوزين نسخة.. يعني العروسة محتاجة تطل كل شوية عليها تشوف ناقص إيه وتحطه، مش معقول في الراحة والجاية هنعدي عليكم.. زدي حقها بردك! ولا أنا غلطانة؟!
استنكرت "ونيسة" طريقتها المبتذلة في التوضيح، وردت بوجهٍ عابس:
-ماهي بتاعتها، محدش قال غير كده.
قالت "حمدية" مُلطفة حين لاحظت تبدل تعبيراتها للضيق:
-أنا مش عاوزاكي تضيقي مني يا حاجة، ده إنتي على راسي من فوق والله...
ثم سحبتها من ذراعها بعيدًا عن الضوضاء والأعين المراقبة لها لتهمس بمكرٍ مخادع:
-بس هاعمل إيه أخت جوزي عمالة تزن عليا، وأنا الصراحة محروجة منك وفي نص هدومي.
هزت رأسها في تفهمٍ دون أن تنطق، بينما ابتسمت لها الأولى قائلة بخبثٍ:
-تعيشي يا حاجة، وعقبال ما نفرح بعوض المعلم "تميم".
ردت مجاملة باقتضابٍ:
-يا رب.
نظرت "فيروزة" شزرًا إلى تلك السمجة التي تتطفل بلا داعي فيما يخص شئون عائلتها، وانزعجت أكثر حين رأتها تنفرد بمضيفتهن، تمتمت بضيقٍ معكوسٍ على قسماتها المشدودة:
-الولية دي إيه اللي حاشرها معانا، مش فاهمة بصراحة، لولا الفضايح كنت قومت اتخانقت معاها.
قالت "همسة" بصوتٍ خفيض محاولة تهدأتها:
-كبري دماغك منها، هي حابة تعمل نمرة قصادهم، ما إنتي عارفاها، ماتستهلش إننا نسأل فيها، دي تلاقيها متغاظة مني عشان موضوع السلسلة.
نفخت عاليًا وباستياءٍ ضجر منها، انتبهت "فيروزة" لتلك الاهتزازة في حقيبتها، فتحتها لتخرج منها هاتفها المحمول، نظرت إلى شاشته فوجدت اسم رفيقتها يحتله، نهضت واقفة ووضعت حقيبتها مكانها لتقول بوجهٍ جاد في تعبيراته:
-ثواني هاشوف "علا" بتتصل، هاطلع أكلمها من برا.
أومأت "همسة" برأسها:
-طيب يا "فيرو".
بحثت وسط الزحام المتزايد في المنزل عن منفذٍ يمكنها من الخروج، لكن بدا الطريق مسدودًا بسبب المقاعد الكثيرة المتراصة حتى المدخل، التفتت تبحث عن مخرجٍ آخر لها، فلمحت الردهة، اتجهت إلى هناك لتقف عند بقعة شبه خالية من الضيوف، وقبل أن تجيب على الاتصــال بدأت الفرقة الشعبية تشدو أغانيها من جديد مما أفسد عليها الفرصة لسماع الطرف الآخر بوضوح، تابعت سيرها في الردهة الطويلة حتى نهايتها عند غرفة ما بابها موارب، سدت أذنها بيدٍ، ووضعت الهاتف على الأذن الأخرى تُجيبها بعبارات متلاحقة:
-ألو.. أيوه يا "علا" معلش يا حبيبتي مش عارفة أسمعك كويس، أنا برا مع آ...
بترت عبارتها وقد اعتلى تعبيراتها صدمة كبيرة، ثم قالت في ذهولٍ:
-أستاذ "آسر"؟
وعلى ما يبدو أنها لم تدرك وجودها بالقرب من غرفة الجد "سلطان" حيث كان حفيده بالداخل معه يدثره في فراشه بعد أن قضى الأول بعض الوقت بالخارج مستقبلاً المهنئين مع ابنه ليتمكن منه التعب فيستأذن ليستريح .. فتح "تميم" باب الغرفة على مصرعيه ليتفاجأ بها قبالته، خفقة كالصاعقة ضربت قلبه وانتشر كامل تأثيرها في كيانه، ابتسمت شفتاه تلقائيًا، ولمعت عيناه بشكلٍ عجيب، ما لبث أن اختفى ذلك في لحظة وقد التقطت أذناه اسم هذا اللزج تردده، وبكل ما اعتراه من مشاعر مغتاظة اندفعت بغتةٍ لتغزي عروقه تجرأ ونادها مجردة من أي ألقــــاب:
-"فيـــروزة" ................................................ !!
تابع من هنا: جميع فصول رواية دموع هواره بقلم لولو الصياد
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا