مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السادس من رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل السادس
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل السادس
على ما يبدو أنها لم تنتبه إلى صوته المنادي باسمها مجردًا من أي ألقابٍ بسبب الضوضاء الصاخبة المحيطة بها مما منح "تميم" الفرصة لتدارك نفسه قبل أن يحدث ما لا يُحمد عقباه مع شخصية مندفعة مثلها، في حين استغرقت "فيروزة" في مكالمتها غير المريحة محاولة الإصغاء لصوت الطرف الآخر مما اضطره –وبناءً على رغبة ملحة بداخله- للتجرأ قليلاً والنقر بإصبعه على كتفها الأيمن لتشعر بتلك اللمسة الغريبة عليها، ربما لم يكن ليفعل ذلك مُطلقًا لولا سماعه لاسم هذا الكائن اللزج ينطلق من بين شفتيها، استشاط غضبًا وكأن بينهما عداوة غير مفهومة، استدارت كليًا للخلف لتتفاجأ به واقفًا ورائها، سريعًا ما احتل قسماتها الضيق، تحفزت لاختلاق المشاكل معه، وسألته بتلقائيةٍ:
-إنت بتعمل إيه هنا؟
ابتسم لرؤيتها محدقة به، وأجابها ببساطة، وبنبرة أقرب للمزاح:
-على حد علمي ده بيت أبويا.
تذكرت "فيروزة" أين هي، وشعرت بالحرج الشديد، ابتلعت ريقها ورددت معتذرة منه:
-سوري .. مخدتش بالي...
كذلك انتبهت أيضًا للمكالمة الدائرة مع "آسر" فأشارت بسبابتها لـ"تميم"، وأضافت:
-لحظة كده.
حافظ الأخير على ابتسامته اللطيفة مرسومة على محياه إلى أن استطردت قائلة بشكلٍ آلي:
-حمدلله على السلامة يا أستاذ "آسر"، مش هاينفع أتكلم مع حضرتك، لا الوقت ولا المكان مناسبين لده، بس دعواتي ليك بالشفاء، سلامو عليكم.
أحس "تميم" بالارتياح لأسلوبها الجاف في التعامل معه، وكأن كلماتها الجامدة قد أثلجت صدره، نظرت إليه مجددًا في استغراب حائر، بدا مستمتعًا على عكس طبيعته، انتبه لنظراتها الفضولية، واقترح عليها وتلك الابتسامة البلهاء تشكلت على ثغره:
-لو عاوزة تتكلمي براحتك فأوضتي القديمة هناك، مافيهاش حد وتقدري تاخدي راحتك.
لوحت بهاتفها المحمول أمام وجهه لتقول حاسمة الأمر:
-شكرًا.. المكالمة خلصت.
من تلقاء نفسه علق ساخرًا:
-أحسن برضوه.
لم تفهم كلماته المبرطمة فسألته وقد انعقد حاجباها:
-بتقول حاجة؟
حك جبينه قائلاً بأسلوب مموه:
-بأقول إن الطريق من هنا عشان ماتهويش.
هزت رأسها في تفهمٍ وهي ترد:
-أها.. شكرًا.
انتظر في مكانه ونظراته ترافقها إلى حيث اتجهت، خرج من صدره تنهيدة بطيئة مليئة بمشاعر أصبحت من طقوسه المميزة حين يراها، تحفز في وقفته وانتصب كتفاه حين سمع والدته تناديه عاليًا:
-"تميم"! تعالى عاوزاك.
اقترب منها متسائلاً، وعيناه تبحثان في خلسة عن "فيروزة" بين الحضور:
-خير يامه؟
أمسكت به "ونيسة" من ذراعه واشرأبت بعنقها للأعلى لتهمس له في أذنه بنبرة آمرة:
-انزل لأبوك قوله يجيب مفتاح الشقة اللي فوق، نسايب "هيثم" عاوزين يشوفوها.
توقف عن الدوران بعينيه حين حدد مكان جلوس "فيروزة"، عادت الابتسامة لتشرق على تعابيره وهو يرد:
-طيب.. هنزله.
ألقى "تميم" نظرة أخيرة عليها لينصرف بعدها لينفذ ما أملته عليه والدته من طلبات، بينما مالت "همسة" على توأمتها تسألها في اهتمامٍ بعد أن هدأت الضوضاء قليلاً:
-في حاجة مهمة حصلت مع "علا"؟
ردت نافية:
-لأ يا "همسة".
-أومال اتأخرتي ليه؟
أجابتها باقتضابٍ:
-هابقى أحكيلك لما نروح البيت.
هزت رأسها في تفهمٍ:
-ماشي.
......................................................
على الجانب الآخر، وبداخل المطبخ المزدحم بعشرات الصحون المليئة ببقايا الطعام والتي تم تجميعها في الحوض لغسلها لاحقًا بعد جمع الأوساخ في القمامة جلست "خلود" في حالة من الإعياءِ وإلى جوارها والدتها تمسح على ظهرها برفقٍ، حاولت الأولى رفع رأسها المحني للنظر إليها، لكن ظل ذاك الدوار المزعج ملازمًا لها مما أجبرها على تنكيس رأسها أغلب الوقت، تحسست بيدها بشرتها، وهتفت شاكية:
-مش قادرة يامه، من الصبح بطني قالبة عليا.
سألتها "بثينة" بجديةٍ:
-كلتي إيه؟
التقطت أنفاسها بصعوبة لتهبط من إحساس الغثيان الذي يعتريها، وجاوبتها نافية:
-ولا الهوا..
تأوهت من الألم، وتابعت القول:
-شكلي خدت برد.
نهضت والدتها لتتجه للدواليب الخاصة بأدوات المطبخ باحثة عن أعشاب ما في داخل البرطمانات المتراصة به، وقالت بنوعٍ من التبرم:
-دلوقتي اعملك حاجة سخنة تهدي معدتك، ما إنتي يا حبة عيني مفحوتة معاهم، إياكش يقدروا!
شعرت "خلود" أنها على وشك التقيؤ من تلك الرائحة النفاذة التي تزعج أنفها وتزيد من تحفيز تقلصات معدتها، عبرت عما ينتابها من تقلبات غريبة قائلة:
-في ريحة كده غريبة .. مخلياني كده قرفانة.
انتصبت "بثينة" في وقفتها بعد أن تركت ما في يدها لتستدير نحوها، دنت منها متسائلة في لؤمٍ وقد انخفضت نبرتها:
-لأحسن يا بت تكوني آ....
بترت عبارتها عن عِمد ليتفقه ذهن ابنتها لما ترمي إليه من كلمات مقتضبة ذات دلالات صريحة غير قابلة للتشكيك، برقت عينا "خلود"، وهمست بقلبٍ يدق في توترٍ:
-قصدك إنه حصل يامه؟
ظهرت ابتسامتها من خلف تلك الضحكة الماكرة وهي تؤكد لها:
-مش بعيد، كل كلامك يتفهم كده.
خفق قلبها بشدة وقد راقتها الفكرة كثيرًا، قبضت "بثينة" عن رسغها مشددة عليها بلهجة لا تقبل بالهزل وقد غامت نظراتها:
-بأقولك إيه إخفي على الخبر ماجور لحد ما نتأكد، واللي يسألك قوليله كلتي حاجة قلبت معدتك.
سألتها باسترابةٍ:
-ليه؟
أجابتها بنفاذ صبرٍ:
-عاوزانا نعمل هوليلة على الفاضي، ويطلع في الآخر مافيش حاجة، لازم نتأكد وبعد كده نرمي الخبر زي القنبلة.
هزت رأسها توافقها الرأي وهي ترد:
-حاضر يامه.
تابعت قائلة بصوتها الخافت، وكأنها تملي عليها أوامرها:
-ومن بكرة الصبح هعدي أخدك نعمل تحليل.
-طيب
قالتها وهي تعتدل في جلستها على المقعد، ناولتها والدتها كوبًا من الماء لترتشفه، وحذرتها مشيرة بنظراتها:
-وإنتي ماتخليش المحروس يقرب منك لحد ما نطمن.
تقلصت تعبيراتها بقليلٍ من الانزعاج، وتساءلت في ضيقٍ رافضة إطاعتها في مسألة علاقتها الحميمية بزوجها:
-ولو سألني؟ وكان عاوز آ.....
قاطعتها بفظاظة حاسمة المسألة عليها:
-ياختي حوش حوش كان مغرقك بحبه، ده ما هيصدق يا ادلعدي إنه يخلع.
وكأنها لامست وترًا حساسًا في علاقتها به، غلف وجهها تعابيرًا غاضبة، وردت بحزنٍ غطى صوتها:
-الله يامه، إنتي هتعتتي (توبخ) جتتي!
قالت لها بجمودٍ:
-لأ ياختي، عاوزة مصلحتك..
ثم ركزت أنظارها عليها لتتابع بنبرة أقلقتها:
-اسمعي كلامي وإنتي هتكسبي، غير كده هتخسري، وساعتها هتجيلي أصلحلك اللي فات.
لم يكن أمامها بدًا من الاعتراض أمام تعليماتها الواضحة، اضطرت أن ترضخ لها وتنفذ ما طلبته على غير رضا منها.
.....................................................
لمحه وهو يصطف بسيارته النصف نقل على مسافة قريبة من الحشد المرابط أمام مدخل البناية، لوح بذراعه لبعض المهنئين الذين قدموا لمباركة المولود الجديد .. لحظاتٍ واتجه "تميم" إلى ابن خالته وقد حصل على مفتاح المنزل من والده، انتظره حتى أوقف المحرك وترجل من السيارة ليسأله باهتمامٍ:
-إتأخرت ليه يا "هيثم"؟
أجابه مسترسلاً في الإيضاح بعد أن أوصد الباب:
-كان في شوية عكوسات في التوريد في المينا، بس ظبطت الدنيا.
أثنى عليه قائلاً وهو يربت على كتفه:
-الله ينور.
سأله "هيثم" مبتسمًا:
-السبوع خلص ولا إيه؟
رد نافيًا:
-لأ .. لسه شغال ..
ثم مد يده بالمفتاح ليقول له:
-خد المفتاح واطلع لنسايبك وريهم الشقة.
أشرق وجهه المرهق وهو يسأله بسعادة غريبة كست كامل ملامحه:
-هما جوم؟
تعجب من تبدل أحواله، ورد مشيرًا بيده:
-من بدري.
هندم "هيثم" من هيئته ليتأكد من ضبط ثيابه عليه، وقال بحماسٍ أكبر وقد همَّ بالتحرك:
-طيب هاطلعلهم على طول.
-ماشي
قالها وهو يستدير ليتبعه بخطواتٍ متهادية وهو ما زال متعجبًا من تأثير الوقوع في العشق عليه، إن لم يكن يعرف "هيثم" جيدًا لظن أنه يخادعه، ولكن إحقاقًا للحق خلال الفترة المنصرمة أظهر تغييرًا جذريًا في شخصيته المستهترة ليتحول للنقيض، أيمكن أن يفعل الحب المستحيل؟
......................................................
عبأت حقيبتها بما استطاعت حمله من أطعمة شهية حتى لم تعد قادرة على غلق سحابها، ابتسمت "حمدية" لفسها في انتشاء لكونها قد اختارت تلك الحقيبة الجلدية المتسعة لتستخدمها خلال الحفل، استعانت أيضًا بحقيبة بلاستيكة سوداء وضعت بها الحلوى والفول السوداني متعللة أنهم لصغارها الأبرياء، ولم تبخل عليها مضيفتها في منحها المزيد حتى تألمت عضلات ذراعيها من حجم الثقل الذي تحمله، ورغم الوزن الزائد أصرت على الصعود للطابق العلوي لتتفقد المنزل مع البقية، ارتفع حاجباها للأعلى في اندهاش من مساحة المنزل المتسعة، حاولت أن تخفي غيرتها بوضع قناع الجمود، لكن بقيت نظراتها الحاقدة ظاهرة عليها، غمغم مع نفسها في غيظٍ:
-يا بنت المحظوظة، كلي دي هتبقى بتاعتك.
تساءل "هيثم" عن الانطباع الأولي لما أجراه من تعديلات وهو يراقب ردة فعل خطيبته:
-إيه رأيك؟
وبنظراتٍ متأففة متعالية بادرت "حمدية" بالرد:
-مش بطال.
صححت "همسة" على الفور ببسمة رقيقة:
-ماشاء الله جميلة.
بينما احتدت نظرات "فيروزة" نحوها، لم تحبذ أبدًا وجودها المستفز، ناهيك عن تعليقاتها السخيفة المحبطة، حاولت قدر المستطاع تجاهلها حتى لا تتسبب في إفساد الوضع، لتبقى على الحياد كما اختارت إلا إن تطلب الأمر تدخلها، تجولت في أرجاء الشقة متفقدة غرفها، في حين تولى "هيثم" مهمة شرح ما تم إجرائه من تعديلات مؤخرًا فيها، فقال بصوتٍ مرتفع نسبيًا مستخدمًا يده في الإشارة:
-النجارين غيروا حلقان الأبواب والشبابيك، وخدوا مقاسات الشبابيك الجديدة وهيدهنوا ويكونوا جاهزين كمان كام يوم.
ردت "همسة" تجامله:
-تمام .. تسلم على تعبك.
وأيدتها والدتها الرأي فقالت:
-ربنا يعينك يا ابني، الحاجات دي بتاخد وقت ومجهود.
ابتسم لهما في سعادةٍ، وتابع بنفس النبرة المتحمسة:
-احنا عملنا البلاط فاتح عشان يدي وسع للشقة.
علقت عليه "حمدية" بشفاهٍ مقلوبة وهي تتجول بين الصالة والردهة:
-مايضرش.
رمقتها "همسة" بنظرة منزعجة منها، والتفتت نحو "هيثم" الذي واصل حديثه قائلاً:
-والعفش في أي وقت نروح المعرض ننقي ونشتال على طول.
زمت "حمدية" شفتيها معقبة عليه:
-وماله.
ظهر الضيق على "هيثم" من تدخلها غير المقبول في الحوار، وتساءل:
-في حاجة مش عجباكي يا "همسة"؟ حابة تغيري في الألوان؟
أجابته مشيرة بيدها نحو الحائط:
-ممكن نخلي الصالة بيج، مش بأحب الألوان الغامقة.
هز رأسه قائلاً:
-اللي تعوزيه، هاعدي عليكي بعد بكرة يكون البوهيجي جابلي الكتالوج نختار منه اللي يعجبك.
ابتسمت في حبورٍ وهي ترد:
-شكرًا.
وقفت "حمدية" أمام النافذة المفتوحة فضربت نسمات الهواء العليلة وجنتيها، تنفست بعمقٍ وأخرجت الهواء من صدرها مرددة بما يشبه الحسد:
-الشقة شرحة، وبرحة، وهواها بحري يرد الروح.
علق عليها "هيثم" بعفوية:
-ولسه لما تتقفل.. هتبقى حاجة تانية خالص.
ردت عليه "آمنة" في استحسانٍ:
-تتهنوا بيها إن شاءالله يا ابني.
ضجرت "فيروزة" من الانتظار فقالت:
-مش يالا بقى.
حدجها "هيثم" بنظرة حادة قبل أن يعترض عليها:
-أنا لسه مخدتش رأيها في الإيشاني بتاع المطبخ.
نفخت الهواء دفعة واحدة لترد عليه:
-أوكي ..
ثم وجهت حديثها لتوأمتها ووالدتها قائلة:
-أنا هانزل أستناكو تحت.
ردت عليها "آمنة" بإيماءة صغيرة من رأسها:
-ماشي يا "فيروزة".
خرجت الأخيرة من المنزل متجهة إلى الدرج لكنها تفاجأت باتصالٍ متكرر من "علا"، ظنت أن "آسر" هو من يحاول التودد إليها مجددًا، وبحزمٍ قررت أن توبخه، لكن خاب تخمينها مع سماعها لصوتها المألوف، بادرت بمعاتبتها بضيقٍ:
-ينفع كده يا "علا"؟ هو أنا بتاعة الحركات دي؟
صمتت لتصغي إلى تبريرها:
-هو طلب مني إنه عاوز يشكرك بنفسه..
هتفت فيها بقليلٍ من الضيق:
-ده أنا كنت هاحرجه والله.
احتجت على جفائها قائلة:
-يا "فيرو" أنا شايفة الموضوع عادي.
أيقنت أنها لن تصل إلى نتيجة معها في ذلك النقاش لكونها متساهلة بعض الشيء فيما يخص علاقتها بالجنس الآخر، على عكسها دومًا متحفظة فيما يخص شئون الرجال، زفرت ببطءٍ قبل أن تنطق:
-حصل خير.
استأذنتها "علا" في رقةٍ:
-بصي يا قلبي، أنا بكرة مش هاينفع أروح المحل، أنا عارفة إني تقلت عليكي اليومين دول و...
تفهمت أسبابها وقاطعتها قائلة:
-خلاص ولا يهمك، أنا هتعامل وهاخلص المطلوب
شكرتها بحماسٍ رهيب:
-حبيبتي يا "فيرو"، ربنا يخليكي ليا.
....................................................................
في تلك الأثناء، ظهر رفيقه القديم على الساحة ليقدم التهنئة له، تعامل معه "تميم" بفتورٍ واضح، وكأنه لا توجد صداقة بينهما امتدت لسنواتٍ كثيرة، ما زال صدره يحمل له الضغينة جراء تهوره الأرعن، رأى بصحبته كلاً من "حمص" و"شيكاغو"، كلاهما قد جاءا لتقديم المباركات، وبنفس الأسلوب الحذر المقتضب تعامل معهما، حاول "ناجي" ممازحته ليذيب الجليد السائد بينهما، فسأله بابتسامة عريضة:
-إيه يا عم لا بتعدي ولا بتسأل؟
رد عليه متسائلاً بوجومٍ، ونظراته تجوب على أوجه الثلاثة:
-عاوز إيه يا "ناجي"؟ وجايب جوز المقاطيع دول معاك ليه؟
تلقائيًا استدار برأسه للخلف لينظر إلى تابعيه، وعاد ليحدق فيه موضحًا بنفس الأسلوب المازح:
-قولنا نعمل الواجب مع الحاج "بدير"، مبروك يا خال، وعقبال فرحتنا بولادك.
اقتضب في الرد قائلاً:
-متشكر.
ثم تركه ليرحب بآخرٍ قبل أن يتجه إلى مدخل البناية، استوقفه "ناجي" الذي تبعه عند أعتاب المنزل صائحًا بنبرته الجادة:
-شكلك لسه زعلان مني من ساعة الحكاية إياها.
التفت نحوه "تميم" ليرد بحدةٍ:
-بصراحة أه...
لم يدرك الأخير بوجود "فيروزة" في تلك البقعة المعتمة نسبيًا حيث كانت تهاتف رفيقتها، انتبهت للأصوات المرتفعة خاصة حين تابع "تميم" بنبرته اللائمة:
-إنت لبستني ليلة ماليش فيها يا "ناجي"، والجماعة مفكرين إني حرقت عربية الأكل بسبب جوز البهايم اللي معاك
تقدم صديقه نحوه متحججًا:
-مكانوش يقصدوا يا سيدي، كانوا مفكرين إنهم بيوجبوا معاك لما حرقوها.
هدر به في غيظٍ:
-وهو أنا طلبت منك تعمل كده؟
أجابه نافيًا وقد نكس رأسه قليلاً:
-الصراحة لأ.
حذره مجددًا بلهجة يشوبها الصرامة:
-فهم الجوز اللي معاك إني مش عايز منهم أي مصلحة، مشاكلي بأحلها بنفسي!
حلت الدهشة المصدومة على تعبيرات "فيروزة" بعد أن عرفت الحقيقة كاملة بمحضِ الصدفة، وقالت مستنكرة حكمها المجحف في حق من نصبته عدو مصلحتها:
-معقول .. يعني أنا ظلمته؟
حاول "ناجي" تلطيف الأجواء، فقال بنبرته الهازئة وهو يربت على كتفه:
-طب روق يا خال، ده الليلة فل وحاجة آخر جمال.
رد عليه بجمودٍ:
-"ناجي" شوفلك سِكة دلوقتي عشان أنا مش رايقلك.
تفهم عزوفه عن مجاراته في الحديث، وقال بيأسٍ:
-ماشي يا صاحبي، مش هعاتب عليك، لينا أعدة سوا بعدين، سلام!
لوح له بيده باستخفافٍ:
-سلامين يا سيدي.
استدار "تميم" ليتابع سيره نحو الدرج ليتفاجأ بوجود "فيروزة" قبالته، نفس تلك الحالة المتخبطة تظهر من العدم لتربكه، استغرب من نظراتها التي تتأمله بشكلٍ غريب لم يألفه منها، أحس بانقباضة تضرب قلبه، وباهتمامٍ زائد سألها:
-خير يا أبلة؟ في حاجة حصلت فوق؟
باغتته بسؤالها المباشر، وعيناها مثبتتان عليه:
-إنت محرقتش العربية؟
تدلى فكه السفلي في صدمة لحظية من سؤالها، خاصة مع لمعان حدقتيها المتسعتين، تشوش تفكيره لثوانٍ، لم يتوقع أبدًا أن تكون حاضرة خلال تلك المحادثة التي ربما رتبها القدر له، وسألها كما لو كان يفكر بصوتٍ مسموع:
-إنتي سمعتي الحوار؟
تنحنحت مبررة وجودها بنبرة هادئة حتى لا يُساء فهمها:
-بالصدفة، مكونتش قاصدة يعني.
بدا مسرورًا للغاية من استكانتها العجيبة التي نادرًا ما يراها في حضوره، وكأنها ازدادًا فتنة وسحرًا بتلك الهالة غير الاعتيادية من الرقة الخفية، وجد نفسه يبتسم في ابتهاجٍ وهو يرد:
-مش مشكلة، المهم تتأكدي إني ماليش دخل في العوأ ده كله.
تصنعت الجدية وعقبت عليه:
-هو موضوع واتقفل، وأنا ما ببصش ورايا.
تشجع ليطلب منها قبول تعويضه فبحث عن الكلمات المناسبة لخلق جملة مرتبة، لكن على ما يبدو خانه لسانه من جديد، وبربكةٍ ظاهرة عليها حاول أن يقول:
-طب إن كان ينفع آ.....
فسدت جملته قبل أن تكتمل واكتسب وجهه لمحة عابسة حين سمع الصوت الأنثوي المنادي من الأعلى:
-نادي على خالك يا "فيروزة" لو شايفاه عشان احنا ماشيين.
أدارت رأسها للخلف، وردت:
-حاضر يا ماما.
عادت "فيروزة" لتحدق في وجهه المتجهم بشكلٍ غريب قائلة:
-عن إذنك، عاوزة أروح لخالي.
لم ينتبه "تميم" لجسده الذي سد الطريق عليها، وفهم من نظراتها وحركة يدها أنها تريد المرور، عاد عقله ليعمل بكامل إدراكه بعد حالة التخبط المستحوذة عليه ليقول بصرامة ونظراته الجادة توحي بعدم تقبله للرفض:
-خليكي إنتي.. هو قاعد وسط الرجالة، مايصجش تخشي وسط الزحمة.
فاجأته للمرة الثانية بردها الهادئ المغلف بالشكر:
-اوكي .. شكرًا يا معلم
ابتسم قائلا في انتشاء وقلبه يقفز طربًا بين ضلوعه، وكأن حفلة صاخبة تُقام الآن فيه:
-العفو.
أملى عينيه بتأمل وجهها في تلك الثواني المعدودة قبل أن يستدير خارجًا من مدخل البناية وهو يفرك رأسه ومؤخرة عنقه، بدا كالمراهق في تصرفاتها الغريبة تلك، ومع هذا كان مستمتعًا لأقصى الحدود بما يفعله.
.................................................................
ليلة كئيبة محبطة نالتها مرة أخرى بعزوفه عنها وقضائه معظم الوقت بصحبة الحفيد الجديد يدللـه ويداعبه، كظمت "خلود" كمدها في صدرها صاغرة لأوامر والدتها بعدم محاولة جذبه إلى أحضانها بالغنج أو بغيره، عليها أن تتخذ حذرها حتى تتأكد إن كانت تحمل في أحشائها طفله أم مجرد حالة إعياءٍ عابرة، وبأعصابٍ مشدودة انتظرت وحيدة في فراشها حتى أشرق عليها النهار، حينها نهضت وارتدت ثيابها لتقابل والدتها متعللة بحاجة الأخيرة للمساعدة في تنظيف وترتيب المنزل بعد اعتذار الخادمة عن المجيء، وفي المكان المتفق عليه التقت بها. توجهت كلتاهما إلى المختبر للقيام بتحليل للحمل، لم تفهم إحداهما نوعية التحليل المطلوب فوقع الاختيار على ذلك الذي تظهر نتائجه بعد نصف ساعة .. استلمت "بثينة" النتائج وقلبها ينبؤها بصدق حملها، أطلعتها الموظفة الموجودة بالمكان على إيجابية النتائج فغمرتها فرحة لا توصف، ومع ذلك أصرت على التوجه بابنتها التي بلغت عنان السماء بتلقيها مثل تلك الأخبار السارة إلى الطبيب النسائي، انتظرت الاثنتان دورهما الذي استغرق المزيد من الوقت، وبعد نظرة سريعة من الطبيب على ما في يده من تحليل استطرد يقول بهدوءٍ مريب:
-المدام فعلاً حامل.
أطلقت "بثينة" زغرودة عالية كتعبير عن اكتمالِ فرحتها قبل أن تهلل:
-الله أكبر.
أشار لها الطبيب بيده راجيًا:
-اهدي يا حاجة، احنا في عيادة.
بررت له "خلود" معتذرة، وسعادتها تتراقص في عينيها:
-معلش يا دكتور أمي فرحنالي، ودي عوايدنا.
هز رأسه في تفهمٍ قبل أن يضيف بلهجة روتينية:
-تمام، كل ده مفهوم، بس أنا عاوزك تعملي التحليل الرقمي.
تكشيرة عظيمة احتلت وجه "بثينة" التي بدت كمن تهاجمه حين سألته:
-وإيه الفرق؟ هي مش طلعتش حامل؟
رد موضحًا بتمهلٍ حتى تستوعب مقصده:
-أيوه، بس ده بيقول إن كانت حامل ولا لأ، لكن التاني بيطلع النسب المئوية بالظبط، وبيوضحلنا هرمون الحمل بيزيد ولا لأ.
تعذر عليها تفسير مقصده، فعلقت بتوجسٍ:
-إنت كده قلقتنا، يعني البت حامل ولا لأ؟
سحب شهيقًا عميقًا لفظه بتريثٍ وهو يخبرها دون أن يظهر الانزعاج على وجهه:
-يا حاجة التحليل بيقول حامل، لكن أنا عاوز أطمن إن الحمل ماشي في مراحله الطبيعية، مافيش فيه خلل.
زمت شفتيها لترد:
-طيب.. أما نشوف أخرتها إيه!!!
التفت الطبيب برأسه نحو "خلود" طالبًا منها وهو يدون شيء ما في الأوراق الموضوعة قبالته:
-هتطلعي من عندي تعملي التحليل الرقمي، وأنا كاتب اسمه في الروشتة هنا، وبعد يومين هتكرري التحليل تاني، وترجعيلي بالنتائج كلها.
ثم مد يده بالورقة لتأخذها منه وهي ترد:
-ربنا يسهل.
تبادلت "خلود" نظرات حائرة مع والدتها التي انتظرت انتهاء المقابلة لتردد بتزمتٍ:
-شكل الضاكتور ده مابيفهمش حاجة، هي كتر فلوس؟ تحاليل إيه دي اللي طالعلنا فيها؟
ردت عليها مفسرة الأمر لها:
-خلينا نطمن يامه، المهم إني حامل.
تنهدت تضيف في سأم وقد تعكر مزاجها:
-أيوه.
بضعة خطوات سارت بها نحو الأمام قبل أن تتوقف فجـــــأة لتعاود تذكير ابنتها وقد قست نظراتها نحوها بشكلٍ لئيم:
-بت يا "خلود"!
تطلعت إليها الأخيرة في اهتمامٍ والهموم المحبطة تنعكس عليها، فأوصتها والدتها مؤكدة من جديد بنبرة شديدة اللهجة حتى تلتزم بإبقائه سرًا:
-اوعي تتهفي في عقلك وتحكي عن اللي عملناه النهاردة! زي ما اتفقنا ماتقوليش لحد ما نقطع الشك باليقين، وساعتها هتبقي فوق دماغ الكل ................................................ !!!
تابع من هنا: جميع فصول رواية دموع هواره بقلم لولو الصياد
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا