مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة والقصص الرومانسية مع رواية اجتماعية واقعية ومثيرة جديدة للكاتبة صفية الجيار علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل التاسع من رواية أفيندار بقلم صفية الجيار
رواية أفيندار بقلم صفية الجيار - الفصل التاسع
رواية أفيندار بقلم صفية الجيار - الفصل التاسع
_"يسر" ،لا أصدقكِ،ألم تستعدي للآن! "مراد" على وشك الوصول.
على سرير دافئ للغاية عكس ما تشعر بداخلها، تستلقي "يسر"؛ على السرير بإنهاك، فجسدها لم يغادره منذ ثلاثة أسابيع سوى لتلقي العزاء،والتحرك لبضعة أمتار ثم العودة مسرعة تدثر بالغطاء جيدًا،حتى تدفئ جسدها الذي هربت منه الدماء بسبب شعورها بالبرودة حد الصقيع،برودة أحدثها غياب مصدر الأمان لروحهالروحها.
سحبت طرف الدِثار الذي تتدثر به حتى تواري وجهها خلفه، ثم تململت وهي تزفر بضيق علامة منها على رفض حديثه؛ فجلس جانبها وقال في محاولة منه لحثها على الوثوق به والتحدث فيما يقلقها:
_حبيبتي ألا تثقين بي؟ألم نتفق أن ننقذ اسم عائلتنا مهما كلفنا الأمر ،زواجكِ من مراد أمرٍ مفروغ منه ،لقد بات محتمًا عليكما تأكيد ما أعلنه بذلك اليوم ،حسنًا لا أقول لكِ قومي بحفل زفاف واذهبي لتستقري بمنزله ،وعيشي معه الحب الأبدي ،لنعقد القران حتى نخرس الألسنة التي تشكك بتصريحه.
حاولت تمالك نفسها ولم تنبس بحرف فقط أغمضت عينيها،وانكمشت ملامحها، التجاعيد التي ظهرت بوجهها تلك اللحظة بفعل انعقاد حاجبيها وارتجاف شفتيها، أظهرتها كعجوز بعمر التسعين،فما مرت به ابنه الخمسة وعشرون عامًا،كفيل أن يقضي على شبابها ويسرق عمرها،تملكها الغضب من "مراد"وتسرعه وتصريحه،واللحظة التي تعرفت عليه بها، أرادت الصراخ والرفض لكنها تمالكت نفسها كعادتها، ودفنت أوجاعها بداخل قلبها فصمتت، وراحت تبكي بصمت كما تفعل منذ ثلاثة أسابيع،شعر "كرم" أن عنادها ورفضها للحديث منذ وفاة والدها سيودي بها إلى الهاوية؛ فقرر أن يجعلها تخرج ما دفنته بقلبها، أن تفصح عن أوجاعها ومخاوفها؛ فقال وهو يسحب الدِثار من فوق جسدها ليلقيه أرضًا:
_ هو سؤال واحد فقط، أترفضين الزواج من مراد لأسباب تتعلق بالظروف الراهنة،أم لأن عقلك الغبي ما زال متعلقًا بمن لا يستحقون وقلبكِ الضعيف يأمل بعودة ذلك الحقير بعد أن تخلى عنكِ؟
أرأيتم شمس ساطعة بسماء صافية، وجو ربيعي هادئ يعانق رمال الشاطئ المستوية وكأن أحدهم قام برسمها بدقة، ومياه البحر الهادئة تداعبها،هذه كانت حالة الغرفة قبل أن تهب عاصفة قوية هوجاء وتقلب "يسر" غرفتها رأسًا على عقب بعد أن نهضت تصرخ بانفعال ومع كل صرخة تقوم بركل مقعد أو القاء مستحضرات تجميلها من على المنضدة، أو زجاجات عطرها التي حطمت زجاج المرآه والنافذة،هدرت به وهي تلكمه بحدة على صدره:
_لا أنتظر أحد، ليته لا يعد ليته يمت مثلهم، لما يبقى حيًا للآن؟لما أتعذب دومًا ولا يشعر بي أحد! ألم يرحل الجميع عني!، أسرتي بأكملها ماتت، لم يتبقى لي سوى ماما وأنتَ،حتى أنتَ يا "كرم"سرقتك الأعمال مني،كل أحبابي يرحلون،لما بقى حيًا للآن! لا أريد الزواج مرة أخرى، فعلتها وفشلت قلبي تحطم، حب طفولتي تركني في أكثر أوقاتي احتياجًا له ورحل،لما أفعل، لما أخوض تجربة مقرر لها الفشل؟ سأحمل لقب مطلقة للمرة الثانية يا "كرم"أترضى هذا على ابنه شقيقتك، أترضى؟لن أتزوج من أحدهم شفقة،لم يبقى لي شيء لأخسره، سمعتى لا أحتاجها بشيء ليحدث ما يحدث لا يهمني.
_لكن أنا يهمني أن يرقد زوجي في قبره بسلام،ستتزوجين "مراد" حتى يبقى اسم والدك شامخًا،هل في كل مرة أفقد أحد من عائلتي سيرافق رحيله فضيحة يا "يسر"؟ اقسم لكِ إن لم تتزوجيه ،سأسافر مع أخي ولن أعد إلى هنا إلا كجثة بصندوق.
هذا ما قالته "سمية"بعد أن استمعت لجدال ابنتها وشقيقها "كرم الدالي"العائد من الخارج خصيصًا للوقوف بجانبها بعد محنتها الأخيرة،"كرم"يبلغ من العمر أربعون عامًا،سبق له تجربة مريرة مع الزواج، قريب جدًا من "يسر" بحكم أنه نشأ بمنزلها فـ"سمية"هي من قامت بتربيته بعد وفاة والدتهما ولم تتخلى عنه حتى عندما تزوجت اشترطت على "طاهر"أن يبقى تحت رعايتها.
تألمت "يسر" من تهديد والدتها بالرحيل فقالت:
_ هل ستتركينني بمفردي أنتِ الأخرى؟
_ أنا لن أتحمل وصمة عار أخرى يكفينا ما حدث،أن يشكك أحدهم في شرف ابنتكِ شيء صعب، صعب يا بنيتي ولا يمكن احتماله،"يسر"لكل روح قدرة تحملت ذقت مرارة فقدان الأبناء،ووفاة الزوج،ابنتي تركها زوجها قبل الزفاف بأيام،اسمنا شوه الصحف لسنوات،ليرضي ربي عنكِ وافقي على الزواج منه،لقد تحدثت معه هو رجل تحسب عليه كلمته،وعدني أن لا يحدث إلا ما يرضيكِ،حتى أنه طلب التحدث معكِ اليوم،قبل أن يتم أي اجراء بأمرِ عقد القران.
قاطعها "كرم"وقال بعد إن طرأت فكرةُ ما بعقله:
_"يسر"سأذكركِ بأمر غاب عنكِ،الصحف تتحدث عن زواج ابنة طاهر الدالي للمرة الثانية،الجميع علم بزواجكِ،ألا تخشي أن يعود المسافر؟
لكل منا نقطة ضعف والغائب الراحل هو نقطة ضعف وألم "يسر"،فمجرد أن ذُكر أمر عودته تشنجت ملامحها وانعقد ما بين حاجبيها وقالت:
_لهذا السبب لا أستطيع أن أتزوج،لن أتحمل أن أكون زوجة لغيره،لم أرى نفسي امرأة إلا له ،إن كان سيعود لا أستطيع أن أنظر بعينيه وأنا زوجة لغيره.
الجميع يعلم أن يسر منذ صغرها مسحورة به،كأنه ألقى عليها تعويذة حبه،رغم أخطائه وتجاوزاته،من يراها وهي ترفض الزواج يعلم أنها مازالت أسيرة له والسنوات الماضية ما كانت سوى انتظار لعودته،شعرت "سمية"أن ابنتها غرقت بدوامته وعلى أعتاب العودة لأسره مرة أخرى؛ فكان لابد من انتشالها من غرقها فلم تملك سوى صفعة قوية منها كانت كفيلة أن تعيد هذا القلب الجامح إلى صوابه،حدقت بها زوجين من الأعين بعدم تصديق بعدما هوت يدها على وجه ابنتها، فصرخ "كرم" قائلًا:
_ سمية،ما بكِ،لثاني مرة تفعليها،إن مات "طاهر" وتعتقدين أن لا يوجد من يدافع عنها،تخطئين،مازلت هنا،أقف بوجه من يحاول إيلامها،ليس لها ذنب بكل ما يحدث.
_ذنبها غبائها ،هذا الحقير هرب عندما أغرق شركات والدها،وتكبدنا خسائر فادحة، ولم يكترث لا لها ولا لمصير أسرتها ،لقد نسى صلتنا به ،وتركها قبل زفافها،والآن تفكر به وبعودته،هيا سأخرج وأنت معي ،مراد سيأتي وستقابله،هذا آخر حديث بهذا الأمر،أتقبل كل شيء إلا انتظارها عودة هذا الخائن الحقير.
**
بغرفة استقبال الضيوف،تجلس سمية تتشح بالسواد حزنًا على رفيق دربها،وبجانبها "كرم"،رفقة مراد الذي شعر باضطرابهما وقرر أن يكسر الصمت فاسترسل بالحديث قائلًا:
_ اعتذر أعلم الظروف لا تسمح،يبدو أنني وضعت "يسر" أمام الأمر الواقع بإنقاذي للموقف بهذا اليوم،صدقًا لم أجد حلًا لهذه المعضلة سوى ما قلته .
_لا عليك يا بني ، أعلم جيدًا نيتك،تحدثنا بهذا الأمر من قبل،لكن يقلقني أمر عائلتك،أمتأكد من موافقتهما؟
_كما أخبرتكِ سابقًا،عائلتي هم شقيقتي وأمي،وهناك قبول من جانبهما للأمر.
اقتنعت "سمية"بما قاله،حيث زيارة "شروق"والدة مراد لتقديم واجب العزاء كانت دلالة على مواقفها على تلك الزيجة مشوهة المعالم،و لم يكن لديها فرصة لرفض عرض "مراد"،فقد نفذ السهم بما أعلنه للصحافة بذلك، اليوم قال الأخير بعد أن لاحظ توترهما:
_يبدو أنها ما زالت رافضة للحديث معي.
_لا يا بني هي رافضة للحياة،لذلك إن كنت جاد بما أخبرتني به سابقًا عندما تحدثنا،أكون شاكرة لكَ، وسأعمل جاهدة أن أنفذ ما اتفقنا عليه لن أطمئن على ابنتي سوى معكَ،أنتَ وكرم،العمر ينتهي بلحظة ولا نعلم متى ستحين ساعة الرحيل، أخشى عليها من بعدي.
_أطال الله بعمرك أختي.
هذا ما قاله "كرم"قبل أن يذهب ليستدعي ابنة أخته،وبعد عدة دقائق عاد بصحبتها،هيئتها أصابت "مراد" بالصدمة،شعرها البني الحريري معقوص للأسفل يبدو أن المشط لم يزوره منذ عدة أيام،عيناها العسلية، متورمة من يراها يتيقن أنها تبكي منذ عامٍ مضى،وجهها شاحب حاله كحال شفتيها،جسدها هزيل كمن أصابه الداء،نهض واقفًا فور مرورها إلى داخل الغرفة،قال وهو يتجه نحوها مادًا يده ليسلم عليها،قال بعد أن شعر بغصة بحلقة بسبب حالتها المزرية:
_ البقاء لله يا "يسر"،حزنت من أجله.
جلست دون أن تتطلع به و قالت:
_لو سمعت كلامي،ما كان حزن أحد من أجله.
حدق بها فاغرًا فاه،وقال:
_نعم،لم أفهم!
_ألم أطلب منك أن تبتعد،ألم أخبرك بمخاوفي من الصحافة!انظر لقد مات بسببي.
اتخذت والدتها القرار بردع تصرفاتها الهوجاء ،انفرجت شفتيها لتعنفها لكن أشار "مراد"بيده وكأنه اتخذ حمايتها من اختصاصاته وقال :
_كرم أستأذنك،سأصطحب "يسر"إلى الشرفة،يبدو أنها بحاجة للهواء النقي.
لم يمهلها الفرصة،قبل أن ترفض سبقها ونهض؛ فتبعته دون أن تنبس ببنت شفه.
جلست على مقعد معتادة الجلوس عليه رفقة أمها وأبيها بالشرفة،احتل "مراد"المقعد الآخر,بمجرد أن نظر إليها علم أنها تجاهد لكبح دمعاتها،فقرر ألا يضغط عليها مطلقًا واسترسل بالحديث قائلًا:
_أعلم جيدًا أن الظروف لا تسمح، وأنكِ لا تقبلين بالزواج مني،لكن ماذا نفعل الظروف تطلبت هذا.
_لن أتزوج منك شفقة،أنا أرفض هذه الزيجة.
_ليست شفقة،أنا من عرضت الأمر،ولابد أن يتم هذا الزواج من مصلحة الجميع ،وبأسرع وقت.
_عن أي مصلحة تتحدث؟
_"يسر" والدتك قررت إما نتزوج أو تغادر البلاد،وأنا وأنتِ من مصلحتنا الزواج بعد ما نُشر،اسم والدكِ يستحق تلك التضحية.
_وعائلتكَ؟
_ ماما كانت ستأتي معي لكن أرجأت هذا ليوم عقد القران.
تنبهت لكلمة عقد القران فأرادت تذكيره بماضيها فقالت :
_ هل ستتزوج من فتاة سبق لها الزواج؟
عقد ما بين حاجبيه وتطلع بها بغضبٍ وقال:
_ كان عقد قران فقط،كنت خارج البلاد لكني أعلم كل شيء عن سنواتكِ السابقة،ودعينا لا نتحدث عن هذا الأمر من بعد الآن.
_لا سنتحدث، سأوافق على هذه الزيجة بثلاث شروط إما توافق عليها أو ننسى كل هذا ولتفعل الصحافة ما يحلو لها.
_ طلباتكِ أوامر.
_ هي شروط إن وافقت عليها كان بها،وإن لم أتوافق على راحتك ،وبالمناسبة أتمنى ذلك،سأبقى بمنزلي لن ابتعد عن أمي،سيبقى زواجنا فقط على الورق لن تدخل في شئوني ،سننفصل ويتم الطلاق فور أن يكف الناس عن ذكر سيرتنا.
ألجمته الصدمة،فلم ينبس ببنت شفة؛لقد ضربت باتفاقاته مع أمها عرض الحائط، تخيلت أنه رفض شروطها ،لذا نهضت وهي تحمد الله بداخلها أن الرفض سيكون من جانبه ثم تمتمت وهي تغادر الغرفة:
_ كنت أعلم لن توافق، أنرت سيد "مراد"وشكر الله سعيك.
لكن جاءت كلماته كالصعقة لها وهو يقول:
_ موافق سأنفذ جميع شروطكِ،يكفي أن أحميكِ من مكرهم.
**
فيلا نجيب الدالي
كان الخلاف على أشده بين نجيب وزوجته،أن تحظى يسر بتلك الزيجة شيء يعكر صفو "منار"،فهي لا تريد لها سوى الذل والإهانة وكيف سيحدث هذا وهي أصبحت زوجة "مراد عزام،صرخت بزوجها عندما قرر الرحيل وإنهاء الحديث:
_"نجيب" هل ستتركني هكذا وتذهب دون أن تخبرني الحقيقة؟
هدر بها منفعلًا،بسبب تدخلها في أمور لا تعنيها وقال:
_ إن تزوجته أم لم تتزوجه هذا أمر لا يعنينا، كفي عن ملاحقاتها يا "منار"هذه ابنة أخي الذي مات وبيننا قطيعة،والفضل يعود لكِ،لا تنسي هذا مطلقًا.
دافعت عن نفسها،حيث يصر الجميع أنها السبب فيما نشر بالجريدة :
_ اقسم لكَ بحياة ابني الذي حُرمت منه بسبب تلك الحرباء لم أفعل شيئًا،أنسيت خطبة رهف،كيف لي أن أشوه سمعة العائلة بينما ابنتي على مشارف اتمام زواجها،اقسم لكَ يا "نجيب" ليس لي شأن بهذا الأمر نعم أتمنى تحطيمها لكن هذه المرة لم أفعل.
تطلع بها بحيرة ،هو يعرف زوجته حق المعرفة ويعلم مدى حبها لابنهما،و طالما اقسمت بحياته إذًا صادقة،وهذا ما أثار ريبته وشكوكه،ترى من غيرها يريد ليسر كل هذا الشر؟ حدق بها لبرهة ثم أولاها ظهره وقال:
_منار يسر تزوجت مراد ولا يهمني كيف ومتى حدث،ما يشغلني حقًا أمانة أخي،أنا لن أقف مكتوف الأيدي،سأنهي هذا الخلاف وسأصل رحم طاهر.
توجهت نحوه والشرر يتطاير من عينيها وقبضت على ذراعه وقالت:
_هل ستذهب إلى سمية؟
نفض يدها عنه وقال:
_نعم سأفعل قبل أن تكون زوجة أخي هي ابنة عمي،إن لم أقف بجانبها الآن متى سأفعل!.
**
بعد مرور أيام،،،،،،
مازالت يسر لا تغادر فراشها،وترفض التحدث مع أحد،فبعد أن وافقت على زواجها من مراد تبدل حالها إلى الاسوأ،والحرب الدائرة بداخلها لم تحسم نتيجتها بعد، فجولة يفوز العقل وتقرر اتمام الزيجة،وجولة أخرى يفوز القلب وتقرر الرفض والعيش على ذكرى الخائن ،لذا سقطت بدوامة التفكير ولم تنجو منها.
سمعت عدة طرقات على الباب،فأذنت للطارق بالدخول
أطلت رهف برأسها من الباب قبل أن تمر بكامل جسدها وقالت:
_هل تسمح لي ابنة عمي بالدخول؟
رهف نصفها الآخر،مصدر الجنون بحياتها،من تشعرها بالمسؤولية تجاهها،من تتماسك وتبدو أقوى في حضرتها،رهف بها رائحة الراحلين الغائبين لذا حضورها أعاد قلبها ينبض بالحياة مرة أخرى،قالت وهي تتطلع بها بيأس:
_ليت الجميع يخرج من حياتي،وتبقي أنتِ فقط.
أغلقت الباب ثم توجهت إلى الفراش عانقتها بحبٍ ثم قبلت جبينها وقالت:
_ أنا معكِ دومًا،لا تنسي هذا،كما أن مراد يستحق أن تفتحي له الباب ليصبح حائط متين تستندين عليه حينما يخذلكِ الجميع.
تنهدت "يسر"ثم ألقت بثقل جسدها على الفراش مرة أخرى ثم انخرطت بنوبة بكاء،تدمي القلوب،وكأن رهف
كبست على زر أوجاعها لتسيل أنهر دموعها الفياضة،تركتها تخرج ما بقلبها لعل تلك الدموع تغسل روحها مما يؤلمها وبعد أن انتهت قالت وهي تربت بحنو على ركبتها:
_لا عليكِ يا حبة القلب،أعلم ما يؤرق مضجعكِ،ويؤلم قلبكِ،لقد مررت بألمٍ مشابه،أتتذكرين؟وأنتِ من نصحني أن أخوض التجربة فالحياة تستحق، أليس هذا حديثكِ؟
أزاحت يديها من على وجهها الباكي الحزين وقالت:
_الأمر يختلف ياسين رحل ولم يكن بينكما سوى خطبة لم تتم،أما أنا هو حب طفولتي، زوجي،حلم حياتي حدث بيننا الكثير،"حمزة"اختاركِ أنتِ،طلب الزواج منكِ بمحض إرادته،أما "مراد"مجبر على ذلك،كيف سأتطلع بوجه عائلته؟
_ حب طفولتكِ لا يستحق التضحية،أنسيتِ ما فعله بكم،أنسيتِ فستان زفافكِ،وبطاقات الدعوة،أنسيتِ منزلكما،أنسيتِ تخليه عنكِ؟إن فعلتي أنا لن أفعل،أما بخصوص عائلة عزام،"حمزة"بالخارج هو من أحضرني إلى هنا وأخبرني أن مراد أخبر عائلته أنه بالفعل بينكما علاقة حب وكان ينتوي خطبتكِ لكن الصحافة لم تعطيه الفرصة وتسرعوا بما نشروه،وهو متمسك بكِ بشدة؛لذا لا يوجد مشكلة اثنان يعشقان بعضهما البعض وسيتزوجان.
انهمرت الدموع على وجنتيها وقالت:
_لكننا لسنا كذلك،لسنا حبيبين،وزواجنا لن يكون كما تتخيلون.
_أعلم ذلك لكنه بات أمر واقع،غدًا عقد القران،"منار" ستجن وتعلم متى تزوجتما،وغالبًا هذا حال الجميع ليتم الأمر في تكتم وعجالة وبعدها يحدث ما يقدره لكما الله.
نهضت "يسر"وجالت بالغرفة وهي تزفر بحنق ثم هوى جسدها على الأرض فاستندت على الباب بظهرها بيأس،كطفلة تخلى عنها الجميع بعرض البحر، وقالت:
_كيف سأفعلها بهذا الوقت تحديدًا؟أنسيتِ حبيب القلب،بابا، ياسين وياسمين،آآآآه ياسمين جرح العمر،اشتقت إليها كثيرًا،كثيرًا،لولا أمي لانضممت إليهم منذ ثلاث أسابيع،لكن كيف سأتركها بعد أن رحل عنها الجميع
فيلا مراد عزام
اعتمد "مراد" على خطة موحدة نفذها مع الجميع ،والأسلوب ذاته ليتم عقد قرانه على "يسر" كما خطط له وهو الاحتيال والتهديد، حاله كحال "سمية" فقد قامت بذات الشيء مع ابنتها،في الظاهر"مراد"رجل تم وضعه موضع اختبار لرجولته وأصالته وقد أظهر أنه أهل لهما ولم يتخلى عن فتاة وضعه الله في طريقها ولم يخذلها،لكن في الباطن "مراد"رجل سخر منه القدر فامتثل له،راح ينفذ ما أملاه عليه ضميره وتطلبته الظروف طواعية،ليس مجبرًا، و؟إنما برضاء تام، وفقًا لنواياه الخفية المسبقة والتي لم يعلم بها أحد ،وعندما حقق مراده وتم ما سعى من أجله لأيام وقف بشرفة منزله،شامخًا، يضع يده بجيب بنطاله،يجوب بنظراته بالحديقة وهو يسترجع كم الاتفاقات والمؤامرات التي تمت ،داعبت نسمة هواء يناير الشافية للقلوب وجهه؛ فاعتلت ثغره بسمة مكسورة قلقة مما سيحدث لاحقًا،لكنه أرجأ خوفه وقلقه لبعد عقد القران ومعرفة نتيجة ما قام به.
سمع صوت واقع أقدام تأتي نحوه كدبدبة القطط؛ فعلم أنها لصغيرته،تمسك بهدوئه ليرى ردة فعلها،فلقد شغلت حيز من تفكيره وقلبه الفترة الماضية ،شعر بقبضتها الصغيرة تتشبث بقدمه،التفت إليها وغافلها،
وانحنى بجزعه نحوها وقال وصوته يغلفه السعادة :
_أمسكت بكِ يا قطتي.
ختم جملته بقهقهة دوى صداها بأرجاء الفيلا ثم حملها ونهض بها،بادلته الضحك حتى دمعت عينيهما،دار بها حول نفسه ثم ضمها إليه وسألها بجدية:
_ماذا تفعل قطتي ببنطالي؟
_ نلعب .
طبع قبلة حانية على وجنتها،قبلة أبوية حُرمت أن تنعم بها من أبيها،لكن ربها رحيم سيعوضها خير إن شاء الله،قال وهو يتوجه بها إلى الأعلى:
_دعينا نرى كيف تم الأمر وبعدها سنلعب سويًا.
صعد "مراد"إلى الأعلى لكي يتأكد أن خطته تسير على أكمل وجه،بينما هناك من يشتعل قلبها غضبًا بسبب اكتشافها لبعضٍ من حقائقه.
**
كانت "سمية"تتيقن أن الفجوة التي أحدثتها بينها وبين ابنتها يصعب تجاوزها؛وعلى الرغم أن ما فعلته كان في صالحها إلا أنها شعرت بالذنب حيالها،فـ"يسر" تستحق الأفضل من كل شيء، لكن كتب لها ربها أن تمر بتجارب مريرة ،ومع فقدان والدها كانت الخسارة فادحة،لذا قررت مداواة جراح ابنتها قبل الغد، فلا أحد يعلم ما ستؤول إليه الظروف،طلبت من "كرم"أن يذهب ويحضر ما طلبته منه دون أن يلفت الأنظار إليه،فلقد عاهدت "طاهر"أن تحافظ على أمانته وتقوم بدور الأب والأم معًا وفعلت.
مازالت غرفتها وسريها الوثير هما ملاذها من حياة قاسية، وأيام تعاني من تحملها ،من أشخاص انتزع من قلوبهم الرحمة ووضع بدلًا منها الحقد،الكره والظلم،تستلقي على جانبها وجهها باتجاه النافذة وظهرها باتجاه الباب،وكأنها رسالة منها للجميع أنها اختارت وحدتها،وترفض تواجدهم،سمعت صوت الباب يفتح فشددت من قبضة يدها على قطعة ذهبية كانت تربطها يومًا ما بمعذبها،اعتصرتها حتى ابيضت مفاصلها،أرادت تحطيمها كما حطم قلبها وفر هاربًا،وتركها تعاني من بعده،شعرت بأيدي أمها تلتف حولها لتحتويها؛ فأغمضت عينيها لتنهال دمعاتها وبغزارة على وجهها،دمعات بطعم مرارة الأيام،لم تنبس أمها ببنت شفة فقط استلقت بجانبها واحتوتها بين ذراعيها،رأت اهتزاز جسدها،وسمعت صوت شهقاتها تتعالى،فعلمت أنها تبكي ،أرادت أن تتركها لتتخلص من ثقل روحها.
إنه لمن الصعب على أم أن تتحمل دموع ابنتها أن تراها تتعذب لسنوات،أن تتجرع مرارة الفقدان لعزيز تلو الآخر،أن تقسوا عليها حتى وإن كان لحمايتها،أن تغادر منزل والدها تتشح بالسواد بدلًا عن الأبيض،أن تسوقها نحو المجهول دون أن تعلم هل تدفعها إلى حياة سعيدة،أم ترسلها إلى الهاوية؛لذا لم تتحمل هي الأخرى كل هذا بالاضافة إلى دموع ابنتها وانهيارها فشرعتا معًا في نوبة بكاء انتهت بنهوض يسر ومعانقة والدتها واسترسالها بالحديث ،حديث لأول مرة ستفصح عنه:
_ماما،أعلم جيدًا مدى حزنكِ مني وعلي،لكن أقسم لكِ القدر هو ما جمعني به،لست السبب في وفاة بابا،إن كنتِ تزوجيني لتعاقبيني،حسنًا فكرة الزواج بحد ذاتها عقاب.
ابعدتها عنها ثم كفكفت دموعها بيديها، وقالت محاولة رسم ابتسامة مؤقتة على محياها سرعان ما اختفت:
_ اقسم لكِ لم أحملكِ المسؤولية يومًا،وإن كان على ما حدث بالمشفى ،هذا من خوفي عليكِ،كنت أخشى أن يستغل الحاقدون تصرفاتكِ الرعناء تلك ضدكِ وقد حدث بالفعل،أؤمن الموت قضاء وقدر لم أحمل ابني ذنب وزره منذ سنوات هلى سأحمله لكِ الآن!
تعالت أنفاسها وتسارعت نبضات قلبها ثم قالت وهي تجاهد ليخرج صوتها:
_ أحلفكِ بغلاوتهم،لنعتذر من مراد،لا أريد الزواج مرة ثانية.
_ أزوجكِ من مراد،لأحافظ على أمانتهم،مراد رجل بمعنى الكلمة،انظري إليه فكري بأفعاله،لم يتخلى عنكِ ولا يوجد أي رابط بينكما،بينما هناك من تخلى عنكِ وبينكما جميع الروابط المقدسة،وفي ظروف أشد قسوة وألمًا وظلمًا،ابنتي غاليتي،لا أختار لكِ سوى الخير،والخير هو مراد،وسيأتي يوم وتشكريني على ما فعلته.
_لا أستطيع.
_مع الوقت ستعتادين على وجوده،جاء إلى بعد انتهاء استقبال واجب العزاء بوالدكِ واتفقنا على عدة أمور ضمنت من خلالها سلامتكِ،وأنه لن يفعل سوى ما يرضيكِ،أعطيت كلمة،وسمية الدالي لا تعود في كلمتها لو كلفها الأمر روحها.
علمت أن لا جدوى من حديثها وتوسلاتها؛ فقررت الاستسلام،لقدرها،ورغبة كل من حولها،قالت وهي تهم بالنهوض:
_حسنًا يبدو أنني لن أستطيع اقناعكِ،اعتذر منكِ،سأذهب لأتوضأ لصلاة العشاء .
_ سأعد لكِ شطائر الجبن بالخيار والخص مع كوب شاي بالحليب، لنتناول الطعام معًا، إلى متى ستقاطعينني، دعيني أشبع عيني منكِ غدًا ابنتي ستتزوج .
_ماما لا تنسي دم أبي لم يجف بقبره بعد، عن أي زواج تتحدثين!
_ لو كان "طاهر"هنا لامتدت مظاهر الاحتفال لشهر كامل،كل ما أطلبه منكِ تناول الطعام كأم وابنتها، والاشتراك بإطلالة أفيندار إلى متى ستنقطعين عنها؟
أومأت برأسها وهي تغادر الغرفة وتمتمت:
_ اعتصري قلبكِ من الألم يا ماما،وتظاهري بالقوة أمامي أعرفكِ جيدًا،ستحين اللحظة التي تنهارين بها لنري كيف ستخفي حزنكِ.
فور غيابها عن أنظار أمها،سقطت دمعات "سمية" وقالت وهي تنظر إلى الأعلى:
_ يا رب أعطيني القوة،لأطمئن عليها وأسلمها لزوجها قبل أن يحدث ما أخشاه.
*****
**أفيندار**
{أفيندار ليتكِ تعلمين أنني أحمل فوق طاقتي،زوج أناني مهمل،لا يقدر ما أعنيه من ألم،كلما انتظرته بشوق بادلني بجفاء ،نعم عمري صغير لكنه جعلني أكبر بكثير،تمنيت أن يشاركني ما أحمله له لكن هيهات،ذبلت مثل وردة نضرة تنتظر أجلها عما قريب، تحملت الضرب والإهانة من أجل طفلي،وما زلت،أردتك أن تعلمين ما أعانيه ليس لي صديق،طمست كل شيء داخلي حتى أصبحت اتنفس من أجل طفلي لمن سأتركه.
أنا متزوجة على الورق وكم تمنيت كلمة طيبة،حضن يحتويني، يشعرني أنني أنثى، وفوق كل هذا أبحث عن الأمان،كلما نظرت لكِ أشعر أني قوية بكِ كم ألم بداخلي أريد أن أسحقه،لكن ما يعتريني ليس ألم بل وجع أصبحت قريبة من أن أسحقه،أرسل لك مثقال ذرة مما أحمله،أحبكِ} .
"ليتك تعلمين أنني أحمل فوق طاقتي" علمت وشعرت وتأكدت أنكِ تحملين فوق طاقتكِ من الألم الظاهر من بين حروفكِ،لن أخفيكِ سرًا أنا ايضًا أحمل فوق طاقتي هذه الأيام،عندما قررت إنشاء كيان أفيندار كان الهدف أنا أقدم النصيحة لقلوب لم تمد لها يدي العون، لم تجد من يطبطب عليهم،لم يبث الدفء بروحهم،وحتى لا يسقطون ضحية لمن لا قلب لهم،أفين ليست بالقوة التي تتخيلونها،أفين لها نقاط ضعف،وباتت رسائلكم نقاط ضعفها وحزنها، والله ما من حرف قرأته لكم حتى مزق قلبي، وبنهاية كل رسالة أنهار باكية، عاجزة أنا أمام وجعكم، وما باليد حيلة ولا يسعني سوى النصيحة ،ورحابة صدري أمام رسائلكم وأوجاعكم.
عزيزتي وصديقتي مؤكد أنكِ كذلك،أثق تمام الثقة أن ما بيننا ليس صاحبة مدونة ومتابعة لها وحسب،لذا سأحدثكِ كصديقة،هذا الزوج مؤكد أفعاله العدوانية ليست من فراغ مؤكد لها سبب،أنا لدي قناعة شخصية يرفضها الكثيرون ومن الواضح أنكِ تؤيديها،الأطفال يستحقون التحمل والتضحية بالكثير،والسعي من أجل نشأتهم بجو أسري دافئ أب،أم،أخوة،ومحبة،دومًا ما أقول لابد أن تسعى الأم لمعالجة مشاكلها مع زوجها وتنقذ ما يمكن انقاذه،وتبتعد عن مصادر الاختلاف،الأطفال بالعادة تكون حضانتهم لها،لكنها بانفصالها تسرق منهم حياتهم في يوم لعين يطلق عليه يوم الرؤية أو دعونا نقول سويعات الرؤية، ساعتان من الاسبوع يمارس الأب من خلالهما أبوته.
في حالتكِ هذا الزوج لديه مشكلة ما إما معكِ أو مع الحياة، أي هذه شخصيته،إن كان يتعامل مع الجميع بهذا الجفاء توجب عليكِ محاولة أخيرة في مساعدته على التغير والأساليب كثيرة إما باللين،أو عن طريق الدين وهناك طرق كثيرة،أنا اعتقد أن هذا الجفاء لكِ أنتِ فقط،لذا من مصلحة طفلكِ أن يحيا حياة صحية سليمة ،وطالما تتم اهانتكِ وضربكِ وتحملتِ لسنوات إذًا بنظري ليس عليكِ حرج من الانفصال من أجلكِ ومن أجل صغيركِ،الطفل الذي يرى أمه تعنف سيصبح العنف جزء لن يتجزأ من شخصيته،لا يوجد سبب لتضحيتك إن حاولتِ من قبل إصلاح هذا الزوج ولكن كل المحاولات باءت بالفشل ،اطلبي الطلاق،لعله يتراجع عن عنفه وجفائه،وإن لم يفعل توجب عليكِ الحفاظ على ما بقى من كرامتكِ، لكن احذري أن يدفع الصغير ثمن مشاكلكما، خصصي له وقت كافِ يقضيه مع والده،إياكِ وأن تعاقبيه بطفله، الطفل سيدفع الثمن وليس الأب،وأخيرًا ابتسمي للحياة من جديد وعيشي حريتكِ رفرفي بجناحيكِ بسماء الحب؛ لعل العشق يدق بابكِ مرة أخرى مع من يستحق،إياك ودفن روحك في مقبرة مجتمعنا العقيم ،المطلقة امرأة من حقها الحب والحياة،مادامت لا تختا سعادتها على سعادة أبنائها،مادامت تضع دينها بكل خطوة تخطوها.
{ أشعر بكِ ،بحزنكِ ووجعكِ
أتألم لألمك،أبكي لدمعكِ
أدعو تجدي فرحكِ
هذا ما يسعني فعله من أجلكِ
لن أنكر قتلني كلامكِ
ليتك تجدين السعادة
أمثال زوجك يستحقون ابادة
بلا هوادة
الزوج دفء وحنان
معاملة طيبة وكل الأمان
بينه وبين ذاك شتان
لذا حرري روحكِ من سجنه
عيشي فرحكِ اطلقي لقلبك العنان
لا تقلقي أنا معكِ أحبكِ أساندكِ
أشد عضدكِ
يكفي أن تطلقين سراح الطفلة التي بداخلكِ
على تحملكِ سيكافئك ربك
تذكري
الطيور على أشكالها تقع
يبدو أنكِ لم تقابلي طيركِ
للآن
لا تقف حياتكِ على علاقة
تفتقر الأمان
سيعوضكِ ربكِ برمز الأمان
فيض الحنان}
_سيعوضك ربك برمز الآمان فيض الحنان.
تلك هي كلمات "سمية"التي همست بها لابنتها وهي تعانق وجهها بكفي يدها،ترقرقت عينيها بالدموع،وارتجفت شفتيها فور رؤيتها للحزن الكامن بأعين "يسر"،حزن على حبيب غدر،على فرحة لم تكتمل،وأخرى مكسورة،حزن يتخلله خوف من حياة مقبلة لكن عزائها الوحيد أنها لن تغادر كنف أمها،نعم تتألم لشعورها أن "مراد" يتفضل عليها بزواجه منها،أين نجد فتاة تتقبل زواجها من رجل غريب عنها إنقاذًًا للموقف ولا تشعر بالانكسار؟لكنها لا تعلم ما يخبئه لها القدر رفقة "مراد"،قالت بعد أن وضعت يدها فوق يدي أمها:
_ "أمثال زوجكِ يستحقون ابادة"تلك الكلمة كتبت خصيصًا لي يا ماما.
_لا يا حبة القلب، يكفي أن تطلقين العنان للطفلة التي بداخلكِ،تلك هي الكلمات التي كتبت من أجلكِ.
أزاحت يدي أمها بيديها ثم أخفضتها بمستوى شفتيها وطبعت عليها قبلة وقالت:
_ تلك الخاطرة كتبت بأكملها من أجلي.
ربتت سمية على كتفها وقالت:
_ يكفي بكاء إلى هذا الحد،عائلة عزام ستأتي غدًا،لا أريد لشروق أن ترانا منكسرين أو نظهر بمظهر غير لائق،سنستيقظ غدًا باكرًا جدًا،لنرتب منزلنا وتتجهزين،حتى لا تنظر لكِ بتعالي أنتِ ابنة طاهر الدالي .
قضت "يسر"ليلتها تتقلب بمضجعها وكأنها تستلقي على جمر،احتلتها ذكريات مضت يتخللها الكثير من البكاء ،الحزن،اللحظات السعيدة،والكثير من الحب والخداع.
**
فيلا "نجيب الدالي"
تأنقت رهف بملابس كلاسيكية روعة باللون الأسود ما زادتها إلا جمالًا وإشراقًا،مع حذاء يتناسب مع الحلة الكلاسيكية باللون الأسود ذو كعب عالٍ؛ مما جعلها تلفت الأنظار،حدقت بها والدتها وهي تراها تهبط الدرج بخطوات هادئة؛ فتعجبت من هيئتها فسألتها مستفهمة:
_ إلى أين بكل هذا التألق يا ابنة الدالي؟
قبل أن تجيب أجاب والدها:
_ قام "حمزة" بالاستئذان،سيأخذ "رهف"بنزهة بالخارج ثم يتناولون الطعام ،للترفيه عنها،يكفيها شهر من الأحزان.
تمتمت بغيظ وهي تومئ برأسها قائلة:
_ما شأننا بأحزانهم ليفطس من يفطس.
التقطت أذن "نجيب" ما قالته وقبل أن يوبخها على فظاظتها وتطاولها،دخلت الخادمة تخبرهم أن حمزة في طريقه إليهم،فابتلع ما كان سيقوله وهو يتوعد لها.
جلس "حمزة"مع عائلة رهف لدقائق ثم استأذن حتى لا يتأخران،كانت "منار"لا تقتنع بالأمر برمته،ملابس كلاسيكية وخروج من المنزل بعد صلاة الجمعة مباشرة،نزهة فجائية،لذا قررت أن تستجوب ابنتها فور عودتها للمنزل.
**
سيارة "حمزة"
بصحبة أنغام فيروز التي يعلم "حمزة"جيدًا أنها المفضلة لرهف ومدى حبها لكلماتها،اتجها سويًا إلى منزل "يسر"في تكتم فلقد أراد مراد أن يتم عقد القران دون أن يعلم عنه أحد؛ حتى لا يتم كشف كذبه،جالت فكرة ما بعقله فابتسم بخبث ومال نحوها وقال:
_ هذا المراد ليس بقليل ،لم يأسر نفسه بفترة خطبة يتلقى بها كل أنواع العذاب.
عقدت حاجبيها وقالت ببراءة غافلة عن مكره:
_عذاب، عن أي عذاب تتحدث!
_ أن ترى الجمال بعينيك وتعلم جيدًا حلاوة قربك منه، وتتمنى ذلك ،لكنك لا تستطع الاقتراب وإلا احترقت.
استوعبت مغذى حديثه،فصوبت أنظارها بنقطة ما بالطريق وقالت:
_ حسنًا انظر لطريقك وإلا احترقت يا مهندس حمزة.
قهقه بصوت مرتفع وقال:
_احترقت منذ زمن يا صغيرتي،لكن مهد صديقي الطريق سنسير على خطاه إن شاء الله.
تطلعت به بجدية وسألته:
_"حمزة"،أقلق حيال "يسر"،هل مراد أهل بها،أم يتزوجها حتى ينقذ سمعتها؟
_ "مراد" نصفي الآخر، أعرفه حتى لو لم يتحدث،نعم يتزوجها بهذه السرعة حتى ينقذ سمعتها هي قبل سمعته.
حدق بها ثم تابع:
_ضعي أسفل بهذه السرعة ألف خط.
_لا أفهم
_ لولا تلك الأزمة لتزوجها لكن بوقت آخر وظروف مختلفة،لقد رأيت هذا النور بعينيه.
تهللت أساريرها ،فهي تثق بحديثه لم يكذب عليها قط،وحمدت ربها أن ابنة عمها ستحصل على السعادة التي تستحقها،بعد عناء مرارة الخذلان.
**
منزل "طاهر الدالي"
تم الانتهاء من التجهيزات البسيطة التي قامت بها سمية ليبدو منزلها بأفضل حال،إنه دومًا كذلك على الرغم من صغر مساحته إلا أن من يدخله ويرى أثاثه يعلم أن ساكنيه هم من الطبقة المخملية.
وقفت "يسر" والشرر يتطاير من عينيها وتقبض بيدها بشدة على فستان كانت قد أوصت أمها "كرم"أن يحضره من دار أزياء لإحدى أشهر مصممي الأزياء تجمعها به صداقة قوية، حدقت بكرم بلوم وعتاب شديد لما بدر منه ثم هدرت به:
_"كرم" لا أصدقك كيف تفعل هذا؟ ماما وبت أفهمها جيدًا تتخطى أحزانها من أجلي،من أجل أن نتدارك تلك الفضيحة،أما أنتَ كيف تطاوعها على هذا؟كيف تحضر لي هذا الفستان بينما دماء أبي لم تجف بقبره!
_ما شأني،أمك طلبت وأنا نفذت،كما ما به إنه محتشم للغاية،منذ الصباح نخبركِ،والدته لا تعرف ما يدور بيننا،إنها تعتقد أن بينكما علاقة حب حقيقية.
ألقت الفستان من يدها وقالت بانفعال:
_ عذر أقبح من ذنب.
جذبتها والدتها من ذراعها وقالت وهي تجبرها أن تطلع بها،لينتهي هذا الجدال عند هذه النقطة:
_"يسر" ليس هناك عذر أو ذنب تخجلين منه، ليس لكِ شـأن بما حدث،إن افترضنا أن "مراد"يتزوجكِ انقاذًا للموقف،فهو ينقذ سمعة عائلته أيضًا ولا يتفضل عليكِ،غم أن هناك رواية أخرى بخصوص هذا الأمر لن أتخطاه وأتحدث بها،أما بخصوص هذا الفستان،لن أتحمل أن تنظر لكِ والدته بتعالي، أنتِ ابنة الحسب والنسب،وابنها من ترجانا لنقبل به،ما به الفستان محتشم ليس به أي مظاهر الاحتفال،ولونه يناسب حدادنا على والدكِ،اقسم لكِ لولا ظروفنا لخرجتِ من منزلنا بالأبيض،وبحفل زفاف يتحدث به الناس لسنوات،لكن يفعل الله ما يريد،لن يحزن أحد على زوجي وأبنائي أكثر مني،لذا تجهزي يا حبة القلب،اتصل مراد بكرم إنهم بالطريق،لا تُحني رأسكِ يا بنيتي،إن كان والدكِ توفى أمكِ معكِ "سمية الدالي"
بظهركِ تقف شامخة لا يكسرها أحد،حتى الموت لم يستطع فعلها.
هذا ما كانت تحتاجه "يسر" الدعم والإحساس بالأمان،أن يطمئنها أحدهم بوجوده جانبها، نعم كرم يفعل لكن حنان وأمان الأم لا يضاهيه حنان،ارتمت بين ذراعيها ليغوصا بعناق دافئ كان بمثابة الدفعة القوية ليسر لتكمل ما بدأته والدتها ،قبلت رأسها وقالت:
_ هيا استعدي سنخرج لنستقبل عائلة العريس.
**
بغرفة استقبال الضيوف يجلس مراد يتوسط أمه وشقيقته،بينما الصغيرة تجلس بحجره تطلع بالجميع ببلاهة،وبين الفينة والأخرى تشرئب بعنقها لتهمس له بعدة كلمات بأذنه فيميل عليها ليبادلها الهمس مبتسمًا،ثم تضع كفيها الصغيرين الرقيقين على فمها لتكتم ضحكاتها التي أضافت بهجة للأجواء المرتبكة،أطلت هديل بصحبة حمزة الذي قام بتهنئة صديقه ووالدته ثم والدة العروس وكرم،طلب الأخير من رهف أن تذهب لتستدعي رفيقتها وبالفعل ذهبت لاستدعائها، فقد حضر المأذون منذ وقت،وجلستهم هكذا باتت دون معنى بدونها.
دلفت إلى الغرفة دون استئذان،فقلبها سبق يدها وركض إلى الداخل، وأخيرًا ستكتمل سعادتهما وستتخلص من احساسها بالذنب تجاهها، وقفت تتطلع بها بذهول واختفت ابتسامتها ثم قالت بنبرة غاضبة للغاية:
_ "يسر" هلى ستخرجين من الغرفة هكذا بيوم عقد قرانكِ،هل جننتِ ؟!
_ بل السؤال لكِ هل أصابك الجنون! فقدت بابا منذ عدة أيام،لذا دعينا ننهي هذه المهزلة،لم أنم منذ البارحة،ليرحلون ومن بعدها أنعم بنوم هادئ،سأنفذ لكم ما تريدون ،واتركوني بشأني.
علمت رهف،أن الجدال معها لن يجدي بأي فائدة لذا قالت وهي تجذبها من ذراعها:
_هيا يا قدري، تأخرنا، كان الله بعونك يا مراد.
**
نهض مراد مندفعًا وهو يحدق بتلك الحورية التي تأتي نحوهم بعد أن خطفت أنفاسه وسلبت لبه بجمالها الأخاذ،وطلتها البديعة الرائعة بفستان أزرق محتشم ذو أكمام طويلة،بقصة رقيقة تبرز جمالها،تعمدت والدتها اختياره ؛حتى تظهر بمظهر لائق أمام عائلة عزام،انسدل شعرها البني الحريري ليغطي معظم ظهرها وهناك خصلات انسابت على وجنتيها فزادتها براءة،اختارت "يسر"ألا تضع أي من مساحيق التجميل،فحالتها النفسية لا تسمح بهذا وهذه الزيجة ما هي إلا إجراء ستقوم به لتلبي رغبة والدتها، سلامها مع الجميع كان باردًا للغاية مما أغضب والدتها،لكن فور جلوسها،ركضت إليها ليان،ووقفت أمامها واستندت بذراعيها على ركبتي "يسر"،ثم نظرت لها بسعادة وحب وتعالت ضحكاتها بالمكان وقالت:
_ ملاد لوسا ميلة.
"مراد العروس جميلة"
لم تفهم "يسر" ما قالته لكن الجميع فعل تضرج وجه مراد بالخجل بسبب ما رددته الصغيرة ،فأشار لها لتعود إليه مرة أخرى لكنها رفضت وأومأت برأسها علامة على رفضتها،وكأنها اختارت وجهتها وصديقتها من الآن.
**
بعد مرور ثلاث ساعات، أي قبل غروب الشمس بحوالي النصف ساعة،بجو ملبد بالغيوم،غابت الشمس ليتبدل الجو وتقرر الأمطار الهطول على هيئة دموع تلك البريئة التي تفننت الحياة بإيلامها،لدرجة تجعلها تجلس بيوم عقد قرانها رفقة عريسها أمام قبور أقرب ثلاثة أشخاص إلى روحها،بدلًا من جلوسهما بين المهنئين كأي عروسين،وبدلًا من أن تقذف عليهما الورود تلطخت ملابسهما بالأتربة ،لكن حسبها ربها سيفعل ما يراه في صالحها،ليس بوسعها شيء فعله سوى البكاء والانتظار.
تلك الرجفة المهلكة التي اجتاحت جسدها ولم تستطع السيطرة عليها كانت كفيلة أن تسقطها بين ذراعيه، لكنها أبت تفضله عليها أكثر، فوجوده بحياتها على هيئة حائطًا متين تتكئ عليه،أو ملاذًا تلتجئ إليه لا يروق لها؛لذا اختارت أن تحتويها أكثر البقاع المحببة إليها،أرض ضمت قلبها وتوأم روحها وسندها،انهارت أرضًا ،لتستند بظهرها على جدار يفصل بين القبور عن بعض البعض وبمقابلها قبور عائلة"الدالي"،خارت قواها فأغمضت عينيها وأطلقت العنان لدموعها لعلها تبرد روحها المعذبة،لم تكن تنوي تلك المواجهة لكن قدره من أرسله لها ودومًا ما تنصاع لقدرها.
جلس جانبها ثم خلع سترته أحتوى بها كتفيها ليحميها من البرد،لا يعلم أن البد كامن بداخلها،ثم ضمها إليه وقال:
_لما اخترتِ هذا المكان خصيصًا؟فقط طلبت منكِ أن نتحدث على انفراد،لم أقصد أن نبدأ حياتنا بين الموتى.
_فكت كلماته لجام لسانها،فالتفتت إليها بنظرات باردة للغاية، خالية من الروح،خيل له أنها ليست سوى تمثال بلا روح،قالت وهي ترسل كل طاقاتها السلبية إليه:
_ وأنت لما وافقت على المجيء معي لهذا المكان،لما بدأت حياتنا بين الموتى؟
فعل مثلها وحذا حذوها،وأسند رأسه الذي أرهقه الصداع من حالتها المأساوية تلك على الجدار، ثم قال وهو يبادلها النظرات:
_أنتِ قلتيها حياتنا، مجبرين أن نتشارك بها بحلوها ومرها،وهناك سبب آخر أيضًا،جئت أخبر والدكِ أني حافظت على أمانته.
تطلعت به بريبة وقالت:
_أي أمانة؟
_ بالليلة التي قمت بزيارتكِ بالمشفى أتتذكرين؟بعد ذهابي توجهت لغرفة والدكِ مستخدمًا علاقاتي،وللصدفة الجميلة استعاد جزءًا من وعيه،و أول اسم لفظه كان اسمك"يسر".
ضغط على حروف اسمها وكأنه يتذوق حلاوته وتابع:
_ ظل يردد اسمك فطمأنته،لكنه قال جملة واحدة وبعدها غفى بثبات،"كن معها لا تتركها بمفردها"،وها أنا فعلت ووفيت بوعدي له.
_يعني زواجنا وفاء لوعدك لأبي،حسنًا يكفيك تقليلًا من شأني أكثر من ذلك،أنت محظوظ للغاية أتعلم هذا؟
_ أعلم أني محظوظ جدًا، لعدة أسباب لكن ما سبب قولك هذا؟
_أنتَ أول وآخر من تحدث مع أبي بعد أن رأى تلك الأخبار وسقط على اثرها.
حدق بها مستفهمًا،أدرك أنه سيتحدث بأمور ستقلب الموازين رأسًا على عقب، لكنه أرجأ هذا لوقتٍ آخر
فتابع:
_يسر" لما جئنا إلى هنا؟
_جئت بكَ إلى هنا لأعاقبك على زواجك مني،وتصميمك على ما اتفقت عليه أنتَ وماما ولم تخبراني به إلا بعد اتمام القران، ووضعتموني أمام الأمر الواقع،جئت بكَ حتى أضع حقيقتي المرة نصب عينيك،لأجعلك تشعر بالخذى لزواجك من فتاة فقدت عائلتها بظروف مشينة.
حاول النهوض وهو يتمتم:
_يكفي إلى هذا الحد،هيا لنذهب.
جذبته من ذراعه مرة أخرى،وأجبرته على الجلوس وهي تقول:
_لما الهرب هل الحقيقية مؤلمة يا ابن عائلة عزام.
جلس فتابعت بصراخ تغلفه النيران التي تحترق بها منذ سنوات، وهي تشير إلى الألواح الرخامية البيضاء واحدًا تلو الآخر، وكأن مراد أشعل فتيل نيرانها ولن تنطفئ قبل أن يحترقا سويًا.
_انظر هؤلاء عائلة زوجتك المصون، جميعهم رحلوا بظروف مخجلة للغاية،وهي تركها زوجها قبل الزفاف بأيام خوفًا من الفضيحة،على الرغم أنه كان عشق طفولتها،هذا "طاهر الدالي" والدها أصيب بالشلل بعد ما فعله ابنه الوحيد به،ثم جاءت فضيحتك مع ابنته لتكمل ما بدأه الابن وأنهت حياته،وهذه هي "ياسمين طاهر الدالي"ابنة الثامنة عشر،عثر عليها شقيقها رفقة شاب بوضع مشين بشقة قيل عنها أنها لممارسة الفحشاء،فقام بقتلها بعد أن هرب العشيق،وهذا هو الأخ الذي قتل أخته ولم يتستر عليها واختار قتلها وتدمير سمعة ومستقبل عائلتها،دون أن يستمع إليها ولم يكفيه هذا بل قابل ربه منتحرًا،وترك أخته أي زوجتك تعاني من الناس والصحافة والأهل،تعاني نظراتهم السيئة وأحاديثهم الكاذبة،تعاني مرارة الشوق والفقدان، تعاني الوحدة وتحمل مسؤوليات فوق قدرة تحملها، تركها بلا مال بلا مأوى، انظر أنا للآن رحيمة بكَ و لم أتحدث عن ذاك الذي تركني وحيدة بوسط هذه الحرب ا الظالمة،فقط لأني أعلم التفكير بآخر منذ أن جمعتنا تلك الوثيقة خيانة، ها اكتفيت أم أخبرك أكثر؟اكتفيت أم أتمادى بكشف زوجتك التي لا تليق بك بالمرة.
لم ينبس ببنت شفة لكنها راحت تدفعه على صدره وتصرخ به:
_ هيا اكتفيت أم ماذا؟أمجنون أنتَ لتتزوج مني؟كيف تفعل هذا بي وبكَ وبعائلتك،ثمن وفائك لوعدك ستدفعه غاليًا.
*********************
إلي هنا ينتهي الفصل التاسع من رواية أفيندار بقلم صفية الجيار
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا