مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الرابع عشر من رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل الرابع عشر
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل الرابع عشر
خرقت مبادئه السامية حول أهمية العائلة بالنسبة له، وخربت كل شيء اعتبره مثاليًا للتضحية من أجله، فقط لترضي نزعتها التملكية في الاستحواذ على شخصه؛ وإن كان في ذلك إيذائه. ترك ما تعهد تجنبه ليغدو شخصية أخرى غير المتعافية، ليصبح على ما كان عليه سابقًا، عل حينها تدرك الخطأ الجسيم الذي فعلته، ودفعه بكراهية للتحول للنقيض. شتت "خلود" تفكيرها عنه، وحافظت على بسمتها الزائفة لتسير في اتجاه بعض الشابات، حيث استوقفتها إحداهن تسألها:
-عاملة إيه دلوقتي؟
ردت بنفس البسمة المحافظة:
-الحمدلله
كانت تعلم في قرارة نفسها أن تلك الشابة تحاول أن تشبع فضولها بتحري المزيد من أخبارها الخاصة، جراء الفضيحة الأخيرة، وبكل جراءة سألتها أخرى:
-صحيح، جوزك عامل معاكي إيه بعد اللي حصل؟ احنا شايفينكم زي السمنة على العسل!
كركرت "خلود" ضاحكة قبل أن تقضم ضحكتها لترد بخجلٍ مفتعل:
-هو في زي المعلم "تميم"، ربنا يخليهولي.
ركزت الشابة أنظارها عليها، وتابعت أسئلتها الصريحة:
-يعني مش زي ما اتقال عنه؟ أصل في كلام داير في الحتة عن إنه آ.....
قاطعتها "خلود" مؤكدة بتعابير مرتخية وهي تتدلل بكتفها:
-دي كانت ساعة شيطان وراحت لحالها...
ثم أخفضت نبرتها، ووضعت يدها أمام فمها لتوحي بأن حديثها يحتوي على عباراتٍ مخجلة قبل أن تكمل:
-وبيني وبينكم أنا زودت العيار معاه، وادلعت عليه، وهو مايستغناش عني.. ما إنتو عارفين الرجالة
افتعلت الضحك، وشاركتها الشابات في ذلك، بعد أن تحول مجرى الحوار عن أمورٍ شبه جامحة بين الزوجين. بقيت معهن لبعض الوقت تتبادل معهن الحديث الودي العابر؛ وكأنها زوجة محبة، تُلقي بالنصائح الإرشادية اللازمة، لتستحثهن على استرضاء أزواجهن. اختطفت نظرة سريعة نحو زوجها على أمل أن يرمقها بعينيه، لكنه بدا مشغولاً بالحديث مع اثنين من معارفه، لم تدقق النظر فيهما، وصرفت –مؤقتًا- انتباهها عنه.
.............................................................
بابتسامةٍ مبتهجة، ونظرات فرحة حقًا، أقبل "تميم" على ضيوفه الأعزاء ليرحب بهم واحدًا تلو الآخر بحرارةٍ طغت على مشاعره المنزعجة من تصرفات زوجته، تبادل مع اثنين منهما الأحضان الرجولية عن الأخرين، ليتراجع خطوة عنهما وهو يتابع ترحبيه بهما هاتفًا:
-حمدلله على السلامة، نورتوا المكان.
رد "منذر" بصوته الأجش وهو يمسح بنظراته المكان برمته:
-يا عم المكان منور بأصحابه، فين العريس أومال عشان نباركله؟
أجاب عليه مستخدمًا يده في الإشارة:
-بيجهز للزفة.
علق "دياب" مازحًا وهو يلوح بذراعه:
-آه مين أده.
التفت "تميم" نحوه ليرد غامزًا له بطرف عينه:
-يا سيدي احنا فيها، انوي إنت بس، والتساهيل على الله.
لمعة خفية غطت عينا "دياب" قبل أن يدمدم بتنهيدة بطيئة:
-ربك كريم.
انشغل الاثنان في حوارهما المازح، بينما تباعدت نظرات "منذر" عنهما، على ما يبدو كان محدقًا بنظراتٍ مطولة بأحدهم، زادت نظراته تجهمًا، وقد انعكس الضيق على محياه، فبعض الوجوه كانت مألوفة له، تربطه بينهم معارك سابقة، ومشادات عنيفة، وحتى يقطع الشكوك التي تساوره استدار نحو رفيقه "تميم" ليربت على كتفه، ثم سأله بهدوء، وعيناه ترتكزان على وجهي كلاً من "فتحي" و"اسماعيل":
-بأقولك إيه إنت تعرف الناس دي؟
جال "تميم" بنظراته على معظم الأوجه المتجمعة في هيئة تكتلات بشرية متسائلاً بحيرة:
-أنهو ناس؟
أومأ بعينيه متابعًا توضيحه الغامض:
-اللي هناك، قاعدين نواحي الحاج "عوف".
ضاقت عينا "تميم" بشك وهو محدق بهما، سكت للحظاتٍ؛ وكأنه يعتصر ذهنه لتذكرهما، وللواقع كانت مرته الأولى التي يلاحظ فيه وجودهما، لذا رد نافيًا:
-لأ.
أطبق "منذر" على شفتيه، وتبادل نظرات غريبة –شبه صارمة- مع أخيه الذي بقي صامتًا هو الآخر، رغم تبدل تعابيره للتجهم أيضًا؛ وكأن بينهما إشارات غير منطوقة. تنحنح "تميم" قبل أن يتابع مجددًا من تلقاء نفسه:
-بس شكلهم من قرايب العروسة، خالها واقف معاهم.
رد "منذر" بوجهٍ مقلوب:
-طيب.
كان يملك من الفراسة ما يؤكد له حدسه بوجود خطب ما بهما، صمتهما المستريب، نظراتهما الحذرة، وحتى هدوئهما غير الاعتيادي الذي ساد فجأة. لاحظ "تميم" امتعاض وجهيهما، فتساءل باهتمامٍ:
-في حاجة قلقاك يا "منذر"؟ إنت تعرفهم؟
أجابه بتحفظٍ بعد زفيرٍ بطيء:
-بص من الآخر كده، الجماعة دول بتوع مشاكل وحوارات كانت معانا من قريب، فخد بالك منهم!
قال "دياب" دون احتراز:
-بس احنا علمنا عليهم.
استرعت كلماتهما الجادة كامل انتباه "تميم"، وتساءل مستوضحًا:
-مشاكل إيه بالظبط؟
لم يكن الظرف مناسبًا للتطرق لمثل تلك المسائل الشائكة، وبالتالي رد "منذر" متهربًا منه:
-بعدين .. هتقابل معاك ونتكلم على راحتنا.
التفت "تميم" برأسه نحو أحد الرجلين، وكان يحدق بـ "منذر" بكراهية واضحة، بدا ذلك جليًا على تقاسيم وجهه، ولم يكلف نفسه عناء إخفاء مشاعره، توقف عن التحديق به ليلتفت نحو "دياب" حين هلل مازحًا وهو يصفق بيديه:
-يا جدعان احنا في فرح، خلونا نفرفش، ونروق على العريس ،قبل يرجع يندم ويغني ظلموه.
ضحك "تميم" على طرفته، وأيده غامزًا له بطرف عينه:
-ده ليلته الكبيرة
هز "دياب" رأسه مضيفًا بعبوسٍ زائف:
-مظبوط، لأن الغم جاي بعدين، إنت ناسي إن النكد أسلوب حياة الحريم عندنا.
............................................................................
في القلب ضغائن ما زال يحملها في طياته، لا يقدر الزمن على محوها، لكونها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمشاعر الحسية والوجدان. توقفت "حمدية" بالركن تدعي ابتسامها لمن اجتمع بالقرب من زفة العروسين، ومع هذا تشتت أنظارها عن الجميع، وشردت تتذكر ماضيها البعيد. كعادة معظم العائلات بالمناطق الريفية يتم تزويج الإناث في سن مبكرة؛ بمجرد بلوغهن، وقد لا تصلن أعمارهن لسن الخامسة عشر في بعض الأحيان، وبالتالي يلقى على كاهلي تلك الفتاة الصغيرة مسئولية أفراد عائلة بأكملها، وتتحمل عبء تأسيس أسرتها بالإنجاب.
في تلك الفترة الزمنية البعيدة، كانت "حمدية" في الرابعة عشر من عمرها، تكبرها "سعاد" إحدى بنات البلدة بعامين، لم يكن الفارق المادي بينهما كبير، كلتا الفتاتين من عائلات بسيطة؛ لكن تمتاز الأولى بحرص عائلتها على ذهابها للمدرسة، وكلتاهما كانتا مرشحتين لنفس الشخص؛ "اسماعيل" الابن البكري لعائلة "أبو المكارم". وقعت "حمدية" في حبه منذ اللحظة الأولى، وتمنت بشغف أن تكون زوجته، لما يمتاز به من سمات جسمانية جيدة، بالإضافة لطباعٍ كيسة، وشخصيته القوية غير الاتكالية. جاءت الصدمة حينما رفض الارتباط بها، وفضل عنها "سعاد". نبعت الكراهية نحوها من أعماقها، خاصة مع إنجابها لأول أبنائها، والذي من المفترض أن تكون هي من تحمله بين أحشائها.
وقبل أن تتعاظم الكراهية بداخلها، وتأكلها الغيرة أكثر، سعت للموافقة على أول من يطرق بابها، حتى لا يطاردها لقب العانس. كان المرشح آنذاك فقيرًا، شبه معدم، وقبلت به. استمرت خطبتها له لبضعة سنوات ريثما يعود من الخارج نهائيًا بعد جمع ما يمكنه من أموال لبناء منزل الزوجية، وللأسف قُتل زوجها المستقبلي في حادث عرضي يخص الثأر قبل أسبوع من عرسها. عزفت عن الخطبة لبعض الوقت حدادًا على الفقيد، رغم عدم وجود أي مشاعر تربطها به، ومع هذا جددت سعيها للارتباط بغيره. وبسبب أطماعها وافقت على الزواج من رجل ثري –وإن كان يفوقها عمرًا- نكاية بغريمتها القديمة، لتظهر لها ثرائها، فقد ظلت "سعاد" تعاني من عثرات مادية مع زوجها لوقت لا بأس به.
أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، ومات الزوج قبل موعد الزفاف ببضعة أيام .. وقتها خشيت معظم العائلات من تكرار نفس المصير الأسود المشؤوم الذي اقترن بها، وعزف أغلبهم عن ترشيحها لأي شاب يسعى للزواج، إلى أن ابتسم لها الحظ بعد سنواتٍ عجاف، وتعرفت إلى "خليل"؛ صهر عائلة "أبو المكارم"، حيث تزوجت شقيقته "آمنة" من الشقيق الأصغر لـ "اسماعيل". بعد فترة وجيزة كانت تُزف إليه، لتصبح تتبع عائلة حبيبها القديم بشكلٍ غير مباشر.
تبدلت الأحوال، ورأت على أرض الواقع ما حظيت به "سعاد" من ترفٍ، ونعيم، وأربعة أبناء؛ ذكر، وثلاثة إناث، بالإضافة للمشاعر المحبة من زوجها نحوها، بينما كانت لا تزال قابعة في بؤسها وشقائها، مع انعدام مشاعر اللطف بينها وبين "خليل"؛ أصبحت حياتها جحيمًا يوميًا. لم تتغلب "حمدية" على مشاعرها الناقمة، وركزت أهدافها على تحقيق الثراء بأي وسيلة، لتناطح "سعاد" الرأس بالرأس، اعتقدت حين تتباهى في حضورها بأنها أنجبت من الأبناء الذكور ثلاثة، فقط لتظهر تفوقها عليها في تلك المسألة، أن مشاعر الغيرة ستظهر لديها، لكنها ببساطة لم تهتم، بل لم تكترث مطلقًا، وبدت هانئة في حياتها المرفهة. ورغم ابتعادها عنها لسنوات إلا أن مشاعرها الحاقدة لم تخبت يومًا؛ وإن كانت لا تظهر ذلك علنًا.
أفاقت من شرودها الحانق على صوت إحداهن تهنئها، ابتسمت بتكلفٍ، وردت عليها:
-الله يبارك فيكي.
لمحت "سعاد" من زاويتها، فغمغمت مع نفسها بحقدٍ:
-كان زماني مكانك، لولا الحظ!
رأت "سعاد" نظراتها نحوها، فتقدمت نحوها متسائلة بابتسامتها الودية:
-مالك يا "حمدية"؟ إيه اللي مضايقك؟
ردت بتجهمٍ:
-مافيش حاجة تقدر تضايقني.
ناكفتها بمزاحٍ:
-أصله باين على وشك، في حد قالك كلمة كده ولا كده؟
علقت عليها بسخطٍ، وهي تترفع في نظراتها نحوها:
-محدش يقدر! ده أنا أعكنن على بلد وما اتعكننش.
ابتسمت وهي ترد:
-في دي معاكي حق، ربنا يصلح حالك.
نظرت لها بعينين تتقدان غيظًا قبل أن تنطق بتبرمٍ:
-ما هو متصلح، خلي دعوتك لنفسك.
................................................................
-الحكاية جت بسرعة.
تعلل "خليل" بتلك الجملة السخيفة حين لم يتوقف "اسماعيل" عن معاتبته بين الحين والآخر، لعدم التزامه بالقواعد المتبعة عند قيام أحدهم بالتقدم لخطبة إحدى بنات العائلة، بدا رده سمجًا، وغير مراعٍ لضيفه، فامتلأ وجهه بأمارات الضيق، واستمر يلومه:
-مكانش يصح بردك، ده أنا عمها الكبير، يعني عصبها على طول، في مقام أبوها، ولا إنت نسيت الأصول يا "خليل"؟
نفخ في سأمٍ من مناقشته العقيمة معه، وتكرار نفس الجمل السخيفة كلما رأه؛ وكأنه ارتكب جرمًا لا يُغتفر، وبتبرمٍ رد عليه:
-لا مانستش، وأنا خالها .. والخال والد يا حاج "اسماعيل"، وعملت الصح والمناسب معاها.
لم يشاركهما الحوار في البداية، كان مشغولاً بمراقبة خصمين استفزاه من قبل، وأحرجاه علنًا، أبعد نظراته عنهما ليدير رأسه في اتجاه "خليل"، بدا "فتحي" متعصبًا ومتحيزًا ضده، ثم لكز بعكازه على الأرضية معبرًا عن احتجاجه، وحاوره بصوتٍ غلفه التزمت:
-بس كان المفروض عريسها يخطبها من عندنا.
استدار نحوه مبتسمًا ابتسامة باهتة، ورد بدبلوماسية:
-تتعوض يا حاج "فتحي" في اللي جاي.
لم يستسغ الأخير رده، وأضاف بنبرة حاقدة متعمدًا تصعيد الغضب بين القريبين:
-ولا شكلنا مانشرفش نسايبكم؟
رمقه "خليل" بنظرة قوية حانقة، كان يعلم جيدًا أنه من النوع المثير للمتاعب بأسلوبه المستفز والمحفز للحمية الذكورية، وكل من تعامل معه يُدرك براعته في توغير النفوس، وملء الصدور بالغل، لذا ببرودٍ شديد رد عليه:
-لأ إزاي، ده إنتو فوق راسنا.
ولكون "اسماعيل" يعلم أنها وسيلته المعتادة لإثارة الشغب، خاصة فيما يتعلق بقريبته "أسيف"، وما حدث مؤخرًا من شجار دموي عنيف، ربما قد يتكرر إن صمت ولم يوقفه عند حده. تنحنح بخشونة، واستطرد يقول له بهدوءٍ:
-خلاص يا حاج "فتحي"، مالوش لازمة العتاب دلوقتي، اللي حصل حصل.
اضطر على مضض أن يبتلع "فتحي" حنقه الذي تعاظم بمجرد رؤية كلاً من "منذر" و"دياب"، وكيف تمت إهانته أمام العامة، فحاول صب جم غضبه المشحون وتوجيهه نحو "خليل"، لكن الأخير كان أذكى قليلاً ليتجنب الانسياق ورائه، تجاهله ليرد على صهره:
-تسلملنا يا حاج "اسماعيل".
..................................................
بكل ما فيها من حماسٍ وشغف، اضطرت أن تدعم موقف من اعتبرته أقرب أصدقائها –رغم الفارق العمري- في اهتمامه الواضح برفيقتها، وبالرغم من كونها تكن له المشاعر النبيلة والغالية، إلا أنها لم ترغب أبدًا أن تكون سببًا في تعاسته. اعتبرت حبها العذري له سريًا، مقدسًا، نقيًا، مترفعًا عن أي أهواء، ذي نوعية متفردة، ولا يجب البوح به أبدًا. لهذا لم تتردد في إظهار تعاطفها معه، حين اعترف لها بانجذابه نحو "فيروزة". قاومت مشاعرها، وقررت مساعدته في التقريب بينهما، دون أن تخبو رغبتها أيضًا في أن يدرك ما تكنه له، وطالما أنها تحتفظ بمكانتها المميزة في حياته، لن تتوانى عن الوقوف بجواره. كانت أجدر الناس على قراءته، حيث دومًا يفضل اختبار العلاقات الغريبة عليه، كما لو أنها تمنحه شعورًا بالقوة والسيطرة؛ لكنه لم يستمر في أي علاقة انخرط بها مطولاً، فقط نزوات عابرة تحت أي رباط رسمي لتنتهي مثلما بدأت في لمح البصر، ولكونها تعرفه جيدًا، كانت واثقة أن ارتباطه برفيقتها لن يدوم، سيشعر بجفائها، وجديتها، وسيضجر منها بعد بعض الوقت، حسنًا لتتركه يتذوق فقط نوعيتها المستعصية عليه قبل أن يلفظها كغيرها. جلست "علا" على مقربة من "آسر"، لم ترفع عينيها عنه، وراقبت وسامته بابتسامة رقيقة، التفت نحوها متسائلاً بتوترٍ:
-يعني أطلبها من خالها ولا أفاتحها الأول؟ شوري عليا؟
رمشت بعينيها، وقالت بصوتٍ رقيق، لكنه جاد:
-على حسب معرفتي بـ "فيروزة" مش هترضى بجو الفريند والحاجات دي، وعشان يبان إن كلامك جاد، ومش مجرد تسالي.
ضاقت نظراته نحوها متسائلاً:
-قصدك ماديهاش فرصة ترفضني؟
هزت رأسها مؤكدة:
-أيوه.
ضغطت على شفتيه ليرد باقتضابٍ موجز بعدها، والحيرة تملأ تعابيره:
-أوكي..
ســاد الصمت بينهما لبعض الوقت، نظرت إليه "علا" بين الحين والآخر في جلستها معه بنظرات تعكس رغبتها الشديدة في الانتباه لها، لكنه كان أبعد حاليًا من وضعها في تفكيره، ابتسمت لنفسها في سخافة، قبل أعوام كان ليكون أبعد شخص عن خيالها لتتمنى الارتباط به، ولكن لشيء لا تعلمه تسلل حبه إلى قلبها، وبات الوحيد الذي تهواه؛ وإن كان لا يعلم ذلك. قطعت بغتةً حاجز السكون لتقول بنزقٍ، عله ينتبه لأهمية وجودها في حياته:
-تعرف.. أخويا لو مكانش واثق فيا مكانش واقف على صداقتنا دي.
لاحت ابتسامة عذبة على محياه، ورد بعينين تحملقان في وجهها:
-"ماهر" أنا قدامه زي الكتاب المفتوح، وهو عارف غلاوتك عندي، وأنا استحالة أضرك، إنتي زي أختي.
غصة مريرة عصفت بحلقها، مكانتها لن تتبدل أبدًا، وترتقي للمستوى الأعلى، حافظت على ثبات بسمتها، وتابعت ببطءٍ حتى لا تظهر ارتباك صوتها:
-أكيد، ده غير إنه يهمني سعادتك.
امتدت يده لتمسك بكفها، داعبها بأصابعه بالربت على أناملها، أسبل عينيه نحوها، وقال بعذوبةٍ زادت من عذابها الداخلي:
-مش عارف أقولك إيه يا "لولو".
سحبت بتمهلٍ يدها من أسفله، وهتفت بصدرٍ مختنق متحاشية النظر إليه:
-لما خالها تلاقيه واقف لوحده اتكلم معاه.
هز رأسه موافقًا وهو يرد:
-تمام ..
التفت لتبتسم له بعينين تلمعان بعبراتٍ خفيفة، وأكملت قولها:
-و Good Luck
شكرها "آسر" في امتنانٍ:
-ميرسي يا "لولو"
منحته نظرة دافئة من عينيها قبل أن تحدق أمامها، لمحة خفية من الحزن طفت على صفحة وجهها الناعم رغم إنكارها ذلك، لكنها كانت واثقة أن الأمر لن يصل للنهاية تحت أي ظرف.
...................................................
كان محنكًا في اختيار نوع الضحية التي سيرتبط بها، أرادها معدومة الخبرة فيما يخص الشأن الرجالي، غير اجتماعية تقريبًا، لا أصدقاء لها، محدودة العلاقات حتى في النطاق الأسري. باتت "فيروزة" الخيار الأنسب بمجرد أن جمع المعلومات التي احتاجها عنها، وتبقى له فقط القيام بالخطوات الجادة لإتمام الأمر. لم يكن "آسر" غبيًا كي لا يلاحظ مدى اهتمام شقيقة رفيقه به؛ "علا". أدرك شغفها به منذ اليوم الأول من وقت تبدل طريقة تعاملها معه، وتحولها لنوعٍ من الحميمية الزائدة، حتى في توافه الأمور؛ ومع هذا عِمد إلى تجاهل كل ما يصدر عنها، وحصرها في منطقة الصداقة الأخوية؛ حفاظًا على الروابط الأسرية مع عائلتها، كما أنها تبعد كل البعد عن مخططاته بشــأن عروسه المستقبلية. وباستشارات ساذجة مُلحة مع "علا" -للحصول على مبتغاه من صديقتها- حقق نتائج باهرة في استقطابها لصالحه.
تهادى في خطواته وهو يتجه نحو "خليل"، كان الأخير مقروءًا بالنسبة له، حفنة من النقود ربما تُذهب عقله، الطمع أسمى أهدافه، ما عرفه من "علا" عن طريق الحديث العفوي بين الصديقتين كان كفيلاً ليرسم صورة تمهيدية عنه، ويستنتج الباقي بسهولة. وببسمة واثقة استطرد يقول له حين أصبح في مواجهته، وهو يمد يده ليصافحه:
-مساء النور
صافحه "خليل" على عجالة، ثم رمقه بنظرة مستطيلة متفحصة قبل أن يرد متسائلاً:
-مساء الخير، أيوه؟ في حاجة؟
قال "آسر" بنفس الصوت الهادئ المليء بالثقة:
-هو حضرتك مش فاكرني يا أستاذ "خليل"؟
بوجومٍ رد عليه الأخير:
-لأ..
تابع موضحًا حتى يساعده على التذكر:
-احنا كنا اتقابلنا قبل كده في المطعم، أنا المحامي "آسر وهبة".
عقب عليه بسخافةٍ:
-طيب.. تشرفنا، وعاوز إيه؟
تنحنح قائلاً بربكة مصطنعة:
-احم .. أنا كنت عايز حضرتك في... موضوع شخصي يخص الآنسة "فيروزة".
اتسعت حدقتاه على الأخير، ورد مدهوشًا بقلقٍ:
-"فيروزة"! مالها؟
لاحظ تعابيره المنزعجة، وقال مطمئنًا إياه:
-متقلقش يا فندم، ده كل خير.
تقلصت عضلات وجهه في امتعاضٍ، بينما تابع "آسر" حديثه مسهبًا:
-أنا عارف إن الظرف مش مناسب، بس فكرت إنها فرصة إني أتشجع وأتقدم، وأطلب من حضرتك إيد الآنسة "فيروزة"؟
استنكر ما تفوه به، وزجره بحدةٍ:
-نعم .. بتقول إيه؟ على كده بتقابلها من ورانا وآ...
قاطعه على الفور بعد أن اتجه تفكيره بابنة أخته لشيء آخر قد يفسد ترتيباته، وهتف موضحًا:
-مش عايز حضرتك تسيء الظن، هي متعرفش أصلاً بطلبي ده، أنا جاي من نفسي أكلم حضرتك.
هتف في استهزاءٍ رافضًا تصديقه:
-يا سلام!
أكد عليه بثباتٍ وثقة:
-أيوه يا فندم، حضرتك اللي قصاد ده محامي كبير، ليا لي اسم وسمعة، مش حد عادي والسلام.
لانت ملامح "خليل" قليلاً، استشعر جديته في تلك المسألة، وانتابته حالة من الانتشاء، في حين استرسل "آسر" مادحا إياها:
-كمان الآنسة "فيروزة" مثال للأدب، والأخلاق العالية.. وكل الحكاية إنها صاحبة "علا" قريبتي، وكنت شوفتها معاها وسألتها عنها، وعرفت هي مين، وده شجعني أتقدم لها بشكل رسمي، لأن عارف إن مالهاش لا في اللف ولا الدوران.
عزز "خليل" من مكانته ليقف مستقيمًا بشموخٍ زائف، وكتفاه منتصبان نوعًا ما، ثم قال بقليلٍ من العنجهية:
-شوف يا أستاذ آ...
توقف عن إكمال جملته لتحرجه من عدم تذكره لاسم من يحاوره، كان في هذا نوعًا من عدم اللباقة، فساعده "آسر" على ذلك، معرفًا بنفسه مرة أخرى:
-"آسر وهبة" يا فندم..
رد بنبرة شبه هازئة:
-تشرفنا..
وتابع بعد توقف دام للحظة:
-بس عاوز تتقدم لبنت أختي، يبقى تمشي حسب الأصول، مش كلمتين على الواقف كده!!
رد عليه يؤيده:
-تمام، وده اللي بأعمله، جيت أتكلم مع حضرتك.
أردف موضحًا أكثر، ونظراته تحولت تلقائيًا نحو "اسماعيل":
-لأ معلش، أنا صحيح خالها، بس عمها موجود، وهو المسئول عنها.
لم يظهر "آسر" اعتراضه، وبدا متشجعًا وهو يقول:
-معنديش مشكلة، وأنا جاهز أتكلم معاه.
اكتسبت نبرته إيقاعًا مختلفًا يميل للترحيب حين رد عليه:
-حلو .. يبقى تسيبلي رقم تليفونك وأنا هاكلمك بمعرفتي.
تبادل كلاهما أرقام الهواتف قبل أن يعلق "آسر" في حبورٍ:
-تمام يا أستاذ "خليل"، وهستنى أسمع منك قريب.
لم تذبل ابتسامة الأخير وهو يرد متحمسًا:
-إن شاءالله طبعًا.
أومأ "آسر" برأسه خاتمًا حديثه معه:
-ومبروك للعرسان.
قال وهو يمد يده لمصافحته كنوعٍ من المجاملة:
-الله يبارك فيك.
..........................................................
تكتلات بشرية تجمعت في حيز السرادق المقام به حفل العرس، مع استمرار فقرات الحفل لساعات طويلة، بعد عقد القران. انسحب "منذر" و"دياب" مبكرًا لاضطرارها للسفر باكر لأجل بعض الأعمال؛ وإن كان يشك "تميم" في وجود ما يخفياه عنه، بينما امتدت تلك السهرة لمنتصف الليل تقريبًا، وتخللها عشاءً وفيرًا يكفي لمئات الأفراد. بقيت "فيروزة" خلف توأمتها معظم الوقت على الكوشة، راقبت المشهد من زاويتها، كانت نظرات "خلود" الحاقدة مسلطة عليها، لم تخفِ الأخيرة مقتها الشديد نحوها، ومع هذا لم تولِ لها أي اهتمام، وركزت انتباهها مع المتوترة الجالسة قبالتها، أما والدتها كانت من حين لآخر تعرج عليها لتشد من أزرها، وتشجعها على تبديد أي رهبة تنتابها بشـأن هذا اليوم، أما العريس فقلما جلس، سحبه رفاقه للرقص باستخدام العصي تارة، وبالأسلحة البيضاء تارة أخرى؛ وكأنها مبارزة رجولية بحتة.
اتجهت عينا "هيثم" نحو "تميم" وهما يرقصـان سويًا، أظهر الأول احترامه لابن خالته لصراحته الواضحة معه، فبعد مشاجرتهما الأخيرة، التقى به في نفس اليوم بالدكان –بحضور الجد "سلطان"- ليعتذر منه أولاً على تهوره، ثم ليعده بإصلاح ما أفسده؛ وإن كان في ذلك عدم رضائه. قدر مشاعره النبيلة تجاه شقيقته، وتجاوز كلاهما بوادر تلك الأزمة العائلية، دون الإفصاح علنًا عن تصالحهما.
أشهر "تميم" مديته، رفعها أمام وجه العريس يتحداه:
-جاهز يا عريس ولا هتكسفنا؟
تناول "هيثم" من "ناجي" الواقف على مقربة منه خاصته، وأشهرها معلنًا قبوله:
-الكسفة دي للحريم
هلل في انتشاءٍ ليستحثه على مبارزته:
-طب ورينا الجدعنة يا رجولة!
تشكلت حلقة دائرية حول كليهما ليبدأ الاثنان في الاستعراض بقدراتهما على استخدام المطواة باحترافية ومهارة عالية، خلال بعض الحركات الراقصة، وتعالت الصافرات والهمهمات الذكورية المتحمسة. سدد "تميم" بمديته ضربة قاتلة في اتجاه ابن خالته دون أن يمسه، لمجرد إرهابه، أبدى "هيثم" إعجابه بسرعته، وقال:
-معلم طول عمرك.
أخفضها "تميم" حتى لا يتسبب في إحراجه، بالرغم من تركه له في بعض الأوقات الأسبقية للتفوق عليه، لكنه لم يكن بارعًا مثله، ومع استمرار القتال الزائف بينهما سيبدو ضعيفًا، وغير قادر على مجابهته، تراجع للخلف تاركًا لبقية الشباب مهمة إحاطة العريس والاحتفال معه، وقف عند الجانب يلتقط أنفاسه، وفي نفس الآن يختلس النظرات نحوها، لم ينكر أنه في بعض الأوقات وجد صعوبة في التركيز لاحتلالها بطلتها الفاتنة مشهد الكوشة، لو لم يكن في مأزقٍ مع زوجته الحالية لاختلفت الأمور كثيرًا. أخرج علبة سجائره، والتقط منها واحدة ليشعلها، حرر دخانها الحارق من صدره دفعات متتالية. لمحته "خلود" وهو محدق بـ "فيروزة" بنظراتٍ شبه مترددة، فاشتعلت نيران الغيرة بها، إنها زوجته، ومن حقها ألا يرى غيرها، وإلا لماذا انتظرت كل تلك السنوات لتحظى به في الأخير، وبكل وقاحةٍ اقتربت منه تسأله:
-إيه عجباك؟
تنفس بعمقٍ حتى لا يتصرف بردة فعلٍ غير محمودة أمام جملتها المستفزة. اعتبرت صمته نوعًا من التأكيد على مزاعمها، وهتفت مقترحة بمرارةٍ:
-طب ما أروح أطلبهالك من قرايبها؟ مش فكرة برضوه؟
قال ببرودٍ، وبعبارات موحية، وتلك الابتسامة المتسلية تعلو زاوية فمه؛ وكأنه يحرقها حية بكلماته:
-روحي.. أنا مش ممانع، وأقدر أفتح بيتين، طالما في الحلال.
احتقن وجهها على الأخير، لم تتوقع مثل ذلك الرد مطلقًا، ظنت أن الإنكار كالعادة سيكون وسيلته لتبرير نظراته العادية؛ لكنه باغتها بإبداء ترحيبه باقتراحها، تحولت للنقيض، واختلج تعبيراتها المزيد من الحنق لتنطق بحدةٍ:
-إنت هتجنني؟ عاوز تجوز عليا؟ لأ.. والبتاعة دي!
قال بتهجمٍ وهو يستدير نحوها ليرمقها بنظرة محذرة:
-صوتك ما يعلاش..
ثم لفظ دخان سيجارته في وجهها وهو يكمل بنبرة جادة:
-مش إنتي اللي قولتي؟ زعلانة ليه؟
تراجعت عن حدتها أمام جديته الظاهرة على قسماته، لعقت شفتيها، ولجأت لأسلوبها الساهم في الحديث لتستميله:
-أنا بأهزر معاك يا حبيبي، مقدرش استحمل واحدة تانية تبصلك، فما بالك لو لاقيت وحادة جت تاخدك مني، أو حتى تشاركني فيك؟ وبعدين احنا مش خلاص اتصالحنا، وبقينا سمنة على عسل؟
نظر لها مليًا بغموضٍ استرابت منه، ولم ينبس بكلمة. تعلقت في ذراعه وأسبلت عينيها نحوه قائلة:
-إنت بتاعي أنا لوحدي، من حقي أنا وبس.
استل ذراعها منها ليرد باقتضابٍ جعل الخوف يدب في قلبها:
-هنشوف.
....................................................
تدربت عشرات المرات على ذلك المشهد الذي بات متكررًا على مسامعها في الآونة الأخيرة، لن تسمح له برؤيتها عارية حين يختلي بها، لن تتركه يلمسها؛ وإن كانت تحبه، لن تتمكن من النوم معه بسبب مفاجأة غير سارة نالت منها قبل مجيئه. أغلق "هيثم" باب المنزل بعد مشقة واضحة عليه لصرف المدعوين الذين انتقلوا لمنزله لتوديعه مع عروسه، نفخ في إرهاقٍ محدثًا نفسه بتبرمٍ:
-إيه ده الناس مابتخلصش؟ مش يراعوا إن لسه ورانا ليلة تانية هتبتدي.
راقبته "همسة" من مسافة بعيدة، وهي لا تزال ترتدي ثوبها، رفضت خلعه، وما إن رأته متجهًا إلى الردهة الطويلة حتى توارت عن أنظاره، وأغلقت الباب خلفها. لمحها زوجها، وارتسمت على شفتيه ابتسامة مبتهجة، فرك كفيه معًا مرددًا لنفسه:
-أيوه بقى..
نزع سترته، وحل رابطة عنقه التي خنقته، ثم حرر ياقتي قميصه، وحل أزراه حتى برز معظم صدره، تنحنح يناديها بعذوبة غريبة عليه:
-"هموسة"، يا عروسة!
وقف أمام باب غرفة النوم، ودق بظهر كفه عليه مستئذنًا في الدخول بصورة مازحة:
-اللي خالع راسه يغطيها.
تنحنح بصوتٍ شبه مرتفع وهو يدير المقبض، ثم أطل برأسه أولاً وهو يدير نظراته في الغرفة باحثًا عنها، كانت تجلس على طرف الفراش تحتضن كفيها في حجرها، استقام في وقفته، ومسح كامل جسدها بعينين يملأوهما الرغبة واللهفة، استطاعت أن تسمع هسيسه المنخفض رغم صمته، أبعدت نظراتها عنه، ولكنه استمر في التقدم نحوها، وتنهد مادحًا جمالها:
-مافيش بعد كده يا "هموس".
بلعت ريقها وردت:
-شكرًا.
جلس إلى جوارها على طرف الفراش يسألها، كنوعٍ من إذابة الجليد والتوتر السائد بينهما:
-إيه رأيك في اليوم؟
همست بلعثمة:
-حلو
امتدت يده ببطءٍ لتلامس كفيها، وبدأ في مداعبة جلد بشرتها الناعم بأصابعه، انتفضت هاربة من جواره كمن صعقه تيارًا كهربيًا، ثم رفعت سبابتها تحذره بصوتٍ متلجلج:
-بص أنا مش جاهزة لأي حاجة النهاردة
نهض واقفًا قبالتها ليحاصرها مرددًا بهدوءٍ:
-ده احنا هناخد وندي بشكل ودي يا "هموسة".
ورغم الرجفة المسيطرة عليها إلا أنها أصرت على وضع مسافة آمنة بينهما، وأضافت بلهجة جادة لم ترق له.
-ودي بس .. تاتش وحركات تانية مش هاينفع.
رفع حاجبه للأعلى في استنكارٍ قبل أن يعترض بملامح شبه عابسة:
-ليه؟ ده حتى قرب حبة تزيد محبة.
زادت ربكتها، وانعكست على بشرتها فتخضبت بحمرة حرجة، همهمت مع نفسها في خجلٍ كبير:
-مش عارفة أقولهاله إزاي..
دنا منها "هيثم" ولامس بكفيه جانبي ذراعيها، داعبهما صعودًا وهبوطًا بحركة بطيئة متأنية، ثم أحنى رأسه عليها، كما لو كان على وشك تقبيلها:
-إنتي مكسوفة مني ولا إيه؟
دفعته من صدره بقبضتيها رافضة اقترابه الحتمي منها بأي شكل، وصاحت محتجة:
-بص أنا .. Out of service (خارج نطاق الخدمة) النهاردة.
تعقدت ملامحه متسائلاً في حيرة:
-وده معناه إيه؟
قضمت شفتها السفلى، وأدركت أنه لم يفهم المغزى من جملتها المتوارية، ومع ذلك تشجعت لتقول له، ليكف عن ملاحقتها في تلك الليلة:
-هات ودنك، وأنا أقولك.
اتسعت عيناه في صدمةٍ حين همست له بزيارة استثنائية لضيفتها الشهرية بعد تأخرها لبضعة أيام بسبب توترها الزائد في الفترة الأخيرة، واليوم تحديدًا قد أتتها لتقضي على كامل فرصته في التودد لها، تهدل كتفاه، وحل العبوس على وجهه، نظر لها في غيظٍ لاعنًا بضيقٍ منزعج:
-يادي الحظ ..
ربتت على كتفه قائلة بربكةٍ لطيفة؛ وكأنها تواسيه:
-معلش، أنا أسفة.
فرك مؤخرة عنقه متسائلاً بوجهه المكفهر:
-ودي بتقعد كتير؟
هزت كتفيها قائلة ببساطة:
-يعني.. ممكن أسبوع
هنا انفجر صائحًا بغيظٍ غلف حتى نظراته:
-حسبي الله ونعم الوكيل.
وضعت "همسة" يدها أعلى منتصف خصرها ترمقه بنظرة لائمة، وعاتبته:
-بتقول إيه؟
زفر متبرمًا وهو يدعي كذبًا:
-خلينا ناكل أحسن، مش هايبقى جفاف عاطفي، وجوع كمان.
أخفت ابتسامة متسلية كانت تحاول الظهور على شفتيها بسبب تذمره الذي بدا طفوليًا عنه رجوليًا، راقبته وهو يخرج من الغرفة مجرجرًا أذيال الخيبة ورائه لتتنفس بعمقٍ، مستشعرة أنها ربما تكون فرصة جيدة للتفاهم أكثر، وللتقارب وجدانيًا عنه جسديًا.
.................................................................
أصر عليها أن ترتديه خصيصًا له هذه الليلة، وافقته دون نقاش، بدا الأمر يستهويها أيضًا، وبالتالي عاد كلاهما إلى منزله ليحصلا على المزيد من الخصوصية بعيدًا عن نظرات عائلته المراقبة لهما. وقفت "خلود" عند حافة الفراش، بثوب ليلة دخلتها الأبيض، مزدانة بمساحيق التجميل، وتتمايل في ميوعة مغرية بجسدها الذي انتفخ قليلاً، نثرت العطر النفاذ على جانبي عنقها، وتخيلت في عقلها بقضاء ليلة حميمة دافئة، في أحضان زوجها، تعيد ترميم الشروخ بينهما، خاصة أنه بدا رائق المزاج قبيل انتهاء العرس. التفتت نحو "تميم" الذي ولج للغرفة بعد أن نزع سترته، وبقي بقميصه الأبيض، سألته بأنفاسٍ مضطربة من انفعالها:
-إيه رأيك يا حبيبي؟
دار على تفاصيلها الأنثوية المشوقة -والبادية من خلف قماش ثوبها- بنظرات متمهلة، بطيئة للغاية، أصابتها بالحماس والإثارة، وتنهد يقول بخفوت:
-جميلة من برا زي تملي.
في البداية لم تستشعر الغرابة من جملته المركبة، وأصابتها لوسة مؤقتة بتغزله الغريب منها، لم يكن على عادته معها، لكن لمدى احتياجها الشديد إليه اعتقدت أنها سلبت عقله بمفاتنها المثيرة، وبالتالي لن يقاوم إغراء جسدها الفاتن، مهما ادعى تجاهله لها، ستدفعه الأشواق الراغبة إليها. منحها "تميم" تأكيدًا على رغبته فيها بإيماءة إعجاب أخرى من رأسه، وأضاف يسألها بجدية:
-لسه عاوزاني؟
ردت دون تفكير:
-أنا مقدرش أستغني عنك، إنت بتاعي وبس.
سألها معمقًا نظراته نحوها؛ وكأنه يختبرها:
-حتى بعد اللي حصل بينا؟
أجابت ببساطة رغم ملاحظتها للنفور الظاهر على تعبيراته:
-وإيه يعني؟ طالما بيعجبك، أنا تحت رجليك يا حبيبي.
ران الصمت في الغرفة للحظة، شرد يفكر في خطوته التالية؛ وكأنه يمنح نفسه الفرصة لحسم أمره قبل الإقدام عليه فعليًا. راقبته "خلود" بإمعانٍ حائر، حيث استغربت من انجرافه وراء شهوته بتلك السهولة، كان يقاوم توددها المُلح عليه في الأيام السابقة، محتجًا ببغض على محاولاتها المضنية لجره للفراش، أما في تلك الساعة فكان على النقيض؛ مختلفًا كليًا، نهمًا، طامعًا فيها، لم تترك ترددها يحيرها، وقالت بتنهيدة مفعمة بالرغبة:
-أيوه..
تبين من أنفاسها مدى حاجتها أيضًا إليه، وبذل ما في وسعه لتأجيج مشاعرها نحوه. خلع قميصه بروية، ونظراته الغامضة ما زالت عليها، ثم استل بنطاله، وتقدم نحوها ليبادر بتقبيلها من شفتيها بقبلة عميقة بث فيها مشاعرًا قوية، وأغرقها بعشراتٍ من القبلات الناعمة على كامل وجهها حتى تأوهت من الشوق والحماس. سحبها برفق نحو الفراش ليستلقيا سويًا، ومنحها نظرات والهة لعاشق أضناه عذاب الحب. ترك أصابعه تتجول على بشرتها، وأعطاها المزيد من المحفزات المثيرة التي أطلقت شرارات الحب في أنحاء جسدها، وأشعلته بحاجته الماسة إليه ليروي ظمأه.
خاضت معه تجربة حالمة ومختلفة أطلقت فيها العنان لكل مشاعرها المكبوتة، تناست ما حولها مستسلمة لتيار الحب الجارف، وتجاوب حواسها بطريقة لينة وطامعة في غرامه الذي يُذهب عقلها، ويدفعها لحافة الجنون .. وقبل أن يجرفه طوفان الشهوة لأبعد من ذلك، تباطأت لمساته، وتوقف عن ممارساته الزوجية لتشعر "خلود" بشيء مريب ينتابه. انطفأت الرغبة فيها فجــأة، وتحولت للوح من الجليد المتصدع حين نطق "تميم" في أذنها، بصوت أقرب للفحيح:
-إنتي.. طالق ..................................................... !!
تابع من هنا: جميع فصول رواية دموع هواره بقلم لولو الصياد
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا