مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السابع عشر من رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل السابع عشر
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج2 بقلم منال سالم - الفصل السابع عشر
طفرت الدموع من عينيها بغزارة وهي تنوح نادبة حظ ابنتها التعس، وكأن الحياة تأبى منحها السعادة التي تستحقها، لم تعلق "همسة" بشيء على زيارة حماتها المفاجأة، فقد فرضت الأخيرة حضورها عليها بأسلوب متطفل، غير عابئة برغبة العروسين في التمتع بقدر من الخصوصية، ومع هذا استقبلتها بودٍ وترحيب. رفعت "بثينة" أنظارها نحوها، وأمرتها بنوع من الازدراء:
-قومي هاتلي مياه، هاتفضلي أعدة كده بوزك في بوزي؟
صدمت "همسة" من وقاحتها الفجة، وردت بغصةٍ شعرت بها في حلقها:
-حضرتك قدامك المياه، تقدري تشربي براحتك.
وأشــارت بيدها نحو زجاجة المياه الموضوعة على الطاولة الدائرية الصغيرة التي تنتصف غرفة الصالون، ورغم ذلك علقت "بثينة" بسخطٍ:
-طعمها ماسخ، مش عاجبني، هاتي غيرها، ولا مستخسرة فيا شوية مياه عدلين..
ثم التفتت نحو ابنها تشكو له:
-شايف مراتك، بتعامل أمك إزاي؟ ده بدل ما تاخد بخاطري وتطبطب عليا.
كان "هيثم" يعلم جيدًا –وفي أعماق نفسه- أنها ستسعى لإفساد صفو حياته الهانئة مع عروسه قبل أن ينعم بها، كعادتها اللئيمة. استرخى في مقعده، وببرود قال لها جعلها تستثار غيظًا:
-وهي "هموس" عملت إيه؟ ما المياه قدامك يامه.
انفجرت صارخة فيه بأسلوب وقح، شبه مهين:
-إنت هتاخد صفها من دلوقتي؟ طرأها يا واد، عاوزة أقولك كلمتين على انفراد، ياباي!
لم تتحمل "همسة" تجريحها بهذا الشكل، وردت بكبرياءٍ محاولة لملمة كرامتها المبعثرة، وهي تنهض من أريكتها:
-على فكرة حضرتك ممكن تطلبي ده ببساطة، مش لازم تغلطي فيا؟
نهض "هيثم" هو الآخر ليعاتب والدته بضيقٍ لم يخفه:
-عيب كده يامه، دي مراتي، ومحبش حد يجي عليها ولا يضايقها
لوت "بثينة" شفتيها في استهجانٍ صريح، ورمقت كلاهما بنظرات احتقارية، خاصة حينما أحنى ابنها رأسه على جبين زوجته ليعتذر منها بابتسامة صغيرة:
-حق عليا يا "هموسة"، متزعليش.. تمشي بس وأنا هصالحك.
غمغمت "بثينة" معلقة بتهكمٍ صارخ:
-رجالة شُرابة خُرج بصحيح!
التفت برأسه مانحًا والدته نظرة محتجة، لكنه أبعد نظراته عنها ليتطلع إلى زوجته التي قالت بخفوت:
-خليك مع مامتك، وأنا جوا، ناديني لو عوزت حاجة
هز رأسه هامسًا:
-ماشي يا حبيبتي
تتبعها بعينين ملهوفتين وهي تختفي بالداخل، وتلك التنهيدة البطيئة تتسرب من جوفه، ليعاود بعدها التحديق في وجه والدته الغائم، اختفت ابتسامته البلهاء، وسألها بعبوسٍ:
-عاوزاني في إيه يامه؟
أجابته متسائلة بملامحها المتجهمة، ونظراتها اللئيمة:
-هاتسكت عن اللي حصل لأختك؟
رد ببساطة:
-مش إنتي كنتي عاوزاها تطلق؟ وأهو "تميم" عمل ده، زعلانين ليه بقى؟
وكزته في ذراعه بغيظٍ وهي تخبره:
-إنت جايب البرود ده منين؟ ياخي حس على دمك، أختك مقهورة، وإنت نايم في العسل جوا مع اللي تتشك في قلبها مراتك.
فرك ذراعه المتألم، وعلق بامتعاضٍ:
-يامه ماتغلطيش فيها، ده بيزعلني!
وبخته بحدةٍ:
-اِتلهي، أل يعني غلطت في البخاري
-لا حول ولا قوة إلا بالله
نظرت له بعينين حانقتين، فنفخ قائلاً في حيرة:
-والله إنتو غلبتوني معاكو، يرجعلها مش عاجب، ويطلقها برضوه مش عاجب، حددوا عاوزين إيه بالظبط؟
ردت بعصبية:
-إنت أخوها، وراجل البيت، اتصرف..
نظر لها مليًا بضيقٍ، ثم استنشق الهواء المكتوم بعمقٍ، ولفظه على مهلٍ، ليهمهم بعدها لنفسه بخفوت، والتعاسة تزحف على وجهه:
-شكلي مش هخلص من ليلة "تميم" و"خلود".
......................................................
استرابت من غيابها العجيب، والذي لا يتوافق مع تلك المناسبة السارة التي تخصها تحديدًا، فمن المعهود أن تنضم العروس لعائلتها؛ وإن كانت تجلس مع النساء، خلال تقدم أحدهم لخطبتها، لسماع رأيها في حضور رجــال الأسرة من أعمامها وأخوالها، ومن له صلة بها .. انسحبت "سعاد" بهدوءٍ من الأجواء الصاخبة لتبحث عنها في أرجــاء المنزل، توقعت وجودها في الغرفة الخاصة بـ "أسيف"؛ حيث تم استضافة الأخيرة فيها، أرهفت السمع لصوت النحيب القادم من الداخل، تضاعفت ريبتها، ووضعت يدها على المقبض لتديره؛ ولكن الغريب في الأمر أنها وجدته موصودًا، دقت عليه منادية:
-يا "فيروزة"! إنتي جوا يا بنتي
أتاها صوتها الباكي مستغيثًا بها:
-أنا محبوسة يا مرات عمي هنا.
رددت متسائلة في دهشة عظيمة:
-محبوسة؟ ومين عمل كده؟ وعشان إيه؟
صاحت متجاوزة عن إجابة تساؤلاتها:
-طلعيني يا مرات عمي لو سمحتي.
على الفور نطقت موضحة لها:
-حاضر يا بنتي، المفاتيح الأوض زي بعض، بتفتح بنفس المفتاح، هاروح أجيب واحد وأرجعلك.
استمعت لها وهي تعقب عليها:
-بسرعة الله يخليكي.
طمأنتها قائلة بنبرتها المتلهفة:
-متخافيش يا بنتي، أنا جيالك تاني ..
ثم ابتعدت عن الباب، لتتجه إلى غرفة نومها الرئيسية، وهي تغمغم مع نفسها بتبرمٍ منزعج:
-على آخر الزمن بناتنا يتحبسوا في بيوتنا!!
..................................................
يُقال أن لكل شخص نقطة ضعف، إن ولجت له منها لتستغله لخدمة مصالحك الشخصية، فهناك خياران متاحان لك؛ إما أن يلين ويرضخ، وإما أن يحدث العكس، ومعه تحول من الطبيعة المستكينة للوحش الهوجائي الكامن بداخله، هاجت دمائه المشبعة بحنقه وغزت كل شرايينه لتجبره على الانتفاض ثائرًا فيه. جحظت عينا "تميم" الملتهبتان بشكلٍ موتر، وهدر بذاك الوضيع يسأله؛ وكأنه يمنحه الفرصة الأخيرة للتراجع عن حماقته، قبل أن ينفذ فيه حكم الموت:
-مين دي اللي بتقول عليها كده؟
نظر له "آسر" باستخفافٍ وهو يجاوبه:
-اهدى عليا يا معلم...
ثم بتر عبارته ليراقب حمئته الثائرة بنظرات مليئة بالحقد والغيرة؛ فإن كان يملك مقومات الذكورة مثله، لما فكر مطلقًا في اصطياد ضحاياه من الفتيات السذج، معدومات الخبرة، للارتباط بهن، بعد أن أدرك عجزه الجسدي؛ لن يستطيع مطلقًا أن يمنح أي امرأة الشعور بالكمال والرضــا، خلال ممارسته الحميمية معها. اكتشف ذلك مبكرًا، ومن وقتها أصبح ناقمًا على الجميع، ولهذا حول شعوره بالنقص إلى نوع من الاستفادة المادية، ليخرج رابحًا في النهاية، ولهذا لجأ لوسائل أخرى غير شرعية للإتجار بما لا يملكه، وقد وقع الاختيار على "فيروزة"؛ الضحية المناسبة، ليتمتع معها لبعض الوقت قبل أن يقايضها على حريتها، أو يمنحها لمن يدفع الثمن، ومن خبرته المحنكة في قراءة لغة الجسد، استطاع أن يلاحظ الاهتمام الكبير من قبل "تميم" نحوها؛ وإن كان الأخير ينكر ذلك .. عاد من شروده المؤقت ليتابع حديثه قائلاً بوقاحة:
-إنت فاهمني كويس، العروسة .. "فيروزة"..
تلفظ اسمها مجردًا؛ وكأنه مشاعٌ للعامة، ناهيك عن إيحائه المهين لكينونتها المقدسة بالنسبة له، جعل غضبه المتدافع بداخله ينفجر على الفور، انقض عليه "تميم" قابضًا عليه من عنقه، وهزه بعنف ناهرًا إياه بصوته المتشنج:
-إنت إزاي يجي في مخك تكلم عليها معايا؟
أصاب هدفه، وتيقن من دقة اختياره، وهو يرى كيف شقلب كيانه ببضعة عبارات موحية ليستثير تلك النزعة الرجولية فيه. تحول جسد "آسر" المتراخي لكتلة من العضلات المشدودة، وقاومه مرددًا بنفس النبرة المستفزة:
-يا سيدي، اعتبرني باخد رأيك في بضاعة حلوة.
أشهر "تميم" مديته بعد أن أخرجها من جيبه، رفعها للأعلى، وغرز نصلها المدبب في جلد عنقه، حدجه بنظرة خالية من الحياة، وهو يهدده بلهجة تحولت للقتامة، ويخيم عليها الموت المحتوم:
-كلمة زيادة عنها ومحدش هيبص في خلقتك نهائي، هاشرَّحك! ومش فارق معايا أخش فيك اللومان تاني!
شعر "آسر" بوخز جارح يخترقه، وقال متراجعًا بحذرٍ، دون أن تخلو نبرته من السخرية:
-بالراحة على عضلاتك يا "تايسون"، احنا بناخد وندي مع بعض!
زجره "تميم" بزمجرة هادرة:
-إلا في عرض الحريم! ده مافيش فيه تفاهم معايا!
......................................................
في تلك الأثناء، وفي مكانٍ ليس ببعيد .. شهقت مصدومة من اندفاعها المباغت نحوه، واستندت بكفيها على صدره، محدقة فيه بنظرات مشدوهة ممزوجة بالخجل، تحول لون بشرة "بسمة" إلى حمرة صريحة، بادلها "دياب" نظرة شغوفة متلهفة لاقترابها الساحر. نجحت خطته، وباتت معه، قريبة منه حد الهلاك، وإن كان الأمر مفتعلاً، لكنه حاز على مراده في الأخير. عمق نظراته المتقدة حبًا نحوها، استشعرت بأصابعها المسترخية على صدره دقات قلبه العنيفة، أحست بتأثيره عليها، وبارتباكٍ موتر يسيطر عليها لتغلغل ذلك الشعور اللطيف فيها. لم يتحرك من مكانه، وبقي كالصنم يتمعن فيها، ومسلطًا فقط كل عينيه عليها. بحذرٍ ملبك لها، انسلت متراجعة للخلف، ومتحررة من قيده الاختياري، لتبدي انزعاجها من تصرفات الصغيرين الطفولية التي وضعتها في موقف محرج كهذا.. أرخى الطفلان أذرعيهما عنها بإشارة صريحة من "دياب" لتحرر "بسمة" كليًا، تنحنحت معتذرة له بتلعثم:
-أنا.. أسفة، مقصدش!
ثم أخفضت عينيها بحرج أكبر، لتتجنب نظراته، شاعرة بتلك السخونة المربكة المنبعثة من وجهها، لم ترغب في حدوث ذلك؛ ولكنه القدر. رد عليها "دياب" بهدوء، واضعًا يده على مؤخرة رأسه ليفركها:
-ولا يهمك، حصل خير!
انسحبت من أمامه دون إضافة المزيد، وقد سارعت في خطواتها، رغم عرجها الملحوظ .. ظلت أنظاره تتبعها ومتعلقة بها حتى اختفت من أمامه، فأخرج تنهيدة ملتهبة من صدره الملتاع بحبها الكبير، استدار للخلف ليحدق في الصغيرين بنظرات ممتنة، ثم فتح ذراعيه لهما ليندفعا في أحضانه، ضمهما قائلاً بثناءٍ عظيم:
-حبايب قلبي!
سأله "يحيى" ببراءة:
-أنا شاطر يا بابي؟
أجابه "دياب"، وهو ينحني نحوه ليقبله من وجنته:
-إنت أستاذ زي أبوك!
ثم ربت على كتفه ليأمره شقيقته الصغرى:
-خدي "يحيى" يا "أروى"، واسبقوني على جوا.. أنا هحصلكم كمان شوية.
ردت بانصياعٍ تام:
-حاضر يا أبيه ..
تسلطت نظرات "دياب" عليهما وهما يتسابقان في الركض للداخل، ليشرع بعدها في التجول في المكان لبعض الوقت، غير راغب في لفت الأنظار لتواجده بصحبتها قبل قليل. كان وجهه ما زال محتفظًا بابتسامته المتحمسة؛ ما لبث أن تلاشت حين رأى التلاحم البدني بين "تميم" وأحدهم، دقق النظر في اتجاههما ليتبين بالضبط ما يحدث، كان رفيقه ممسكًا بتلابيب الآخر، ويضع طرف مديته على عنقه، يريد نحره. دون أن يفكر، اندفع بهوجاء نحو ذلك الغريب ليضربه بخشونةٍ في جانب ظهره، ثم استخدم ذراعه في طرحه من صدره أرضًا، وسط أنينه المتألم من عنف الضربات الموجعة عليه. تدحرج "آسر" على جانبيه ليتفاداه، لكن أصر الأول على تقييد حركته، وإذلاله. تفاجأت "تميم" من حضور صديقه المباغت، وقبل أن ينطق كان "دياب" يجثو فوقه ينكزه في صدغه متسائلاً بنبرة جافة:
-الواد ده قل أدبه عليك يا "تميم"؟ قولي بس، وأنا وربنا ما هيطلع عليه صبح!
حاول "آسر" إزاحة ثقل جسده عنه، وهو يسأله في اندهاشٍ قلق:
-في إيه يا كابتن؟ هو حد داسلك على طرف؟
لكمه "دياب" في فكه بلكمة خشنة نوعًا ما، لكنها ليست قوية، وهو يحذره:
-اخشع ياض!
وقف "تميم" خلف رفيقه محاولاً جذبه من على ذلك الدنيء، قائلاً له بنبرة غير هادئة:
-سيبه دلوقتي يا "دياب"!
رد عليه صديقه بجراءة متهورة:
-متخافش يا صاحبي، هي ديته علقة محترمة، ونرميه في الترعة، ويدور على اللي مايته تسخن.
تفاجأ "آسر" من وحشية الأخير، ونيته المبيتة للتخلص منه، دون إبداء ذرة ندم واحدة، فهتف محتجًا، ومدافعًا عن حياته المهددة:
-أنا تتكلم معايا كده؟ إنت مين أصلاً؟
تشدق "دياب" مرددًا على مسامعه بنزقٍ:
-وأشقك ياله! في إيه!
ثم منحه وكزة مؤلمة أسفل ذقنه قبل أن يرغمه "تميم" على النهوض، ويزيحه بعيدًا عنه. اعتدل "آسر" في رقدته، وبدأ في النهوض نافضًا الأغبرة والأوسـاخ التي علقت بثيابه، ثم توعد كليهما هاتفًا بعصبيةٍ، لحفظ ماء وجهه فقط:
-أنا هوريكم يا غوغاء!
ضحك "دياب" على لفظه الأخير، وتنمر عليه بمزيدٍ من الاستهزاء:
-غوغاء! إيه الكلام ده؟ يبقى إنت كده غلطت فيا، يعني الليلة بقت عندي رسمي فهمي نظمي.
تشبث "تميم" بذراعه، وشده منه ليستوقفه قائلاً له من بين أسنانه المضغوطة:
-اركز يا صاحبي.
.........................................................
-الحقيني يا مرات عمي!
قالتها "فيروزة" وهي ترتمي في أحضــان "سعاد" التي فتحت باب الغرفة لها، لتنصدم الأخيرة برؤيتها على تلك الحالة الفوضوية، تطلعت إليها في خوفٍ حقيقي معكوس في نظراتها نحوها، ثم حاوطت وجهها الباكي بكفيها، وسألتها في جزعٍ:
-في إيه بنتي؟ إيه اللي حصل؟ ومين حبسك هنا؟
أجابتها بأنفاسٍ متقطعة:
-خالي عايزني أتخطب بالعافية، وأنا مش عاوزة ده!
انعقد حاجباها متسائلة في دهشة مستنكرة:
-"خليل"! طب ويعمل كده ليه؟!
احتشد في ذهنها كل المشاهد العنيفة التي جمعتها بخالها؛ حيث يقوم دومًا بإجبارها على ما لا تريد مستخدمًا القسوة، والإيذاء البدني، بغض النظر عن رأيها، لم يتناقش معها يومًا، ولم يحاورها ليعرف رغباتها، ربما لو حدث الأمر بشكلٍ آخر لتقبلته؛ لكنه يلجأ لاستخدام نفس الأسلوب الشرس لتذعن له، ووالدتها تقف على الحياد، لا تقوى على معارضته، تاركة له زمام الأمور ليتحكم في مصير ابنتيها، رفضت أن تستسلم كتوأمتها، وتخضع لجبروته، لهذا تمسكت برفضها؛ وإن بدا غير منطقي للبعض. تنفست "فيروزة" بعمقٍ لتضبط انفلات أعصابها، وتستعيد هدوئها المفقود، في حين تابعت زوجة عمها موضحة:
-ده بالعكس قالنا إنه شاب كويس، ومحترم، وعمك بعت يسأل عليه، وكلامه طلع مظبوط.
ردت مبررة لها سبب عزوفها:
-أنا مقولتش حاجة وحشة عنه، بس مش عايزة أتخطب بالشكل ده لحد ما أعرفوش.
سألتها لتتأكد منها:
-يعني إنتي مش موافقة عليه؟
أجابت بما لا يدع مجالاً للشك:
-أيوه، ولازم عمي يعرف بده.
هزت رأسها في تفهم وهي تعقب عليها:
-كله إلا كده، حاضر يا بنتي .. أنا هابعت حد يناديه، وقوليله على كل اللي إنتي عاوزاه، مافيش حد هيجبرك على حاجة مش حباها.
احتضنتها مجددًا، وهي تهتف في امتنانٍ:
-ربنا يخليكي ليا
استخدمت "سعاد" كم عباءتها لتزيح دمعاتها المرطبة لوجهها، ثم أوصتها بلهفة أمومية غير مصطنعة، أو حتى مكتسبة:
-اهدي كده، وأنا هاعملك كوباية ليمون تروقي بيها دمك لحد ما عمك يجي.
رفضت طلبها مرددة:
-مش عايزة حاجة.
حينما رفعت عنقها قليلاً ظهرت آثار الالتهابات على جلد عنقها، اتسعت حدقتا "سعاد" في صدمةٍ، وسألتها وهي تتفحصها بنظراتها، ولمسة حنون حذرة من أناملها:
-إيه ده كمان؟
ضغطت على شفتيها لترد بأسفٍ حزين:
-من خالي يا مرات عمي.
تبدلت نظراتها للقتامة، وعلقت بلومٍ:
-إخص عليه، حد يعمل كده في بنات أخته؟ أومال لو مكانش في مقام أبوكي الله يرحمه.
لفظت "فيروزة" الهواء الخانق من صدرها دفعة واحدة، ودمدمت باستياءٍ مُحبط:
-مافيش زي بابا، عمره ما هيتعوض.
تأثرت "سعاد" بجملتها الموجعة تلك، وعفويًا ضمتها إلى صدرها، ثم ربتت على ظهرها، وهي تقول لها بلطفٍ، على أمل أن تهون عليها الأمر:
-متزعليش يا بنتي، أنا جمبك، وعمك مش هايقبل أبدًا بإن حد يتعرضلك طول ما هو على وش الدنيا.
......................................................................
خرج يتفقده بالخارج بعد أن طـــال غيابه عنه، كان مشغول البال به، فعلى الأغلب قد يتوه في تلك الأرجاء غير المألوفة عليه، وخاصة مع حلول الظلام. انتبه "خليل" للأصوات الرجولية الصاعدة من مسافة تبعد عن المنزل نسبيًا، اتجه إلى هناك، ورأى تهديدات ضيف الحاج "اسماعيل" العلنية لـ "آسر"، انقبض قلبه في فزعٍ، وتشكلت أمارات الخوف على ملامحه، ســار بخطواتٍ أقرب للركض متسائلاً بصوتٍ شبه لاهث:
-في إيه اللي بيحصل هنا؟
وكأن نجدة من السماء قد هبطت إليه لإنقاذه، على الفور تحول "آسر" للشخصية الوديعة المسالمة، واستدار بجسده ليواجهه مرددًا بانكسارٍ حرج:
-الحقني يا أستاذ "خليل"، معارفك مبهدلني هنا، وأنا مش عارف أتعامل معاهم.
اعتذر منه بشدةٍ، دون أن يسأله حتى عن الأسباب التي دفعتهما للتشاجر معه:
-أستاذ "آسر"، أنا أسف جدًا عن اللي حصل.. حق عليا.
ثم التفت ناحية "تميم" الذي ظهرت تعابيره الواجمة بوضوحٍ، وسأله:
-هو فيه بالظبط يا معلم "تميم"؟ ومين ده كمان؟
كانت جملته الأخيرة موجهة نحو "دياب"، وبادر الأخير معرفًا بنفسه بنوعٍ من الغرور، وتلك الابتسامة الواثقة تلوح على زاوية فمه:
-أنا "دياب حرب"، أخو العريس اللي جوا يا حضرت ... إنت مين بقى؟
كانت لدى "خليل" بعض المعلومات المتناثرة على الألسن عن مدى قوة ونفوذ تلك العائلة، عرفه أغلبها من الحاج "اسماعيل"، وبالتالي كان من غير المحمود أن يتطرق معه لمعركة جانبية غير متكافئة مطلقًا، ومع هذا تمالك نفسه، وأظهر انزعاجه، حين سأله بصوته الغاضب:
-تشرفنا.. بس بتتخانق مع نسيبي ليه؟
أجابه "تميم" بنظراتٍ نارية مسلطة على "آسر":
-اسأله..
تلقائيًا تحركت رأس "خليل" نحو "آسر" الذي ادعى انشغاله بتنظيف بدلته المتسخة، متعمدًا تجاهل الرد عليه؛ وكأن الحديث غير موجه له على الإطلاق، بينما أردف "دياب" مهاجمًا، ونظراته لا تنتوي أي خير:
-إنت شكلك مش مريحني...
ردد "خليل" مذهولاً، وقد برزت حدقتاه في غيظٍ، معتقدًا أنه قد أساء إليه:
-أنا؟ عيب كده! إنت بتغلط فيا؟
نفى "دياب" بنبرة صارمة:
-لأ يا حاج..
صمت لهنيهة ليضيف بعدها بما يشبه الاستحقار:
-أنا كلامي مع البأف ده!
تركزت عيناه بالكامل على "آسر"، والذي تحولت تعابير وجهه للاحتقان من إهانته بهذا الشكل السافر. التوى ثغر "دياب" بابتسامة باردة مستفزة، وقال مواصــلاً استهزائه به:
-الهلومة اللي إنت فيها دي أونطة.
غضبًا عظيمًا زائفًا استبد بـ "آسر" وهو يرد:
-أنا كلامي مش معاك يا كابتن..
استشاطت نظرات "دياب"، واتخذ وضعية الانقضاض عليه، لهذا عدل عن مناطحته، فلا جدوى من إثارة المتاعب معه، والتفت يخبر "خليل" بقليلٍ من الشهامة المقنعة، متخيلاً بذلك أنه يستدعي رجولة حقيقية لا يمتلك منها أدنى ذرة،
-ولولا إني عامل خاطر ليك يا أستاذ "خليل" كنت رديت جامد، وقلبت الدنيا، بس أنا بأفهم في الأصول.
شعر مُحدثه بوجود خطب ما، حتى احترامه لم يكن مقنعًا، هناك شيء مريب يلوح في الأفق؛ تحيُز "تميم" -ومن معه- ضد نسيبه الجديد لم يأتِ من فراغ، هناك حلقة مفقودة في الأمر، لذا تساءل "خليل" بجديةٍ؛ عله يحصل على رد منطقي:
-أنا مش فاهم حاجة.. هو إنتو اشتبكتوا مع بعض ليه أصلاً؟
لم يمتلك "دياب" الرد المبرر، فقد تصــرف بناءً على ما رأه من التحام جسدي، وليس بناءً على حكمة وروية، في حين أجابه "آسر" متهربًا بزفيرٍ منزعج، ونظراته مثبتة على وجه "تميم" المخضب بحمرته الغاضبة:
-خلاص يا أستاذ "خليل"، بعدين نبقى نتكلم...
ثم سحبه بعيدًا عن كليهما، وأكمل حديثه بغموضٍ:
-أنا مضطر أمشي دلوقتي.
سأله "خليل" باستغرابٍ شديد:
-طب والجماعة اللي مستنين جوا.. هاقولهم إيه؟
بلباقة معهودة فيه -والتي يجيد إظهارها بالرغم من إذلاله قبل قليل- أجابه:
-اعتذرلهم بالنيابة عني، أصلاً في ظرف طارئ خاص بالشغل عندي، ومحتاجين وجودي ضروري.. ومش هاينفع اتأخر.
سأله "خليل" بتوترٍ:
-مشاكل يعني؟
مال على جانب رأسه ليهمس له في أذنه:
-حاجة ليها علاقة بالتأشيرات .. ولازم أكون متواجد بنفسي عشان تتحل.
شحب وجه "خليل" قليلاً، ولعق شفتيه مهمهمًا:
-ربنا يستر .. أنا مش عارف أقولك إيه؟
هز رأسه في تفهم، وقد انطلت عليه خدعته، ليعقب بعدها:
-أكيد إنت فاهم الوضع.
زم شفتيه متابعًا قوله:
-أنا عارف ومقدر، بس المفروض كنت هتقابل باقي عيلتنا وآ...
قاطعه "آسر" بهدوءٍ مظهرًا حزنًا غير صادق في نظراته:
-حظي وحش للأسف..
لكن ما لبث أن تحولت ملامحه لابتسامة مبتورة وهو يكمل:
-وعمومًا اللي حصل النهاردة ربط كلام، تعارف مبدأي زي ما بتقولوا، ولسه قدامنا وقت عشان نتمم الخطوبة، ومن بعدها كتب الكتاب.
حرك "خليل" رأسه في استحسان ليرد بعدها عليه:
-أكيد إن شاء الله
مــد "آسر" يده لمصافحته، وقال بتهذيبٍ لطيف:
-هستأذنك .. وفرصة سعيدة يا أستاذ "خليل".
بادله المصافحة، بحرارة شديدة، وبابتسامة متسعة ودعه:
-مع السلامة يا ابني، هنتقابل على خير إن شاء الله
-أكيد
اصطحبه إلى سيارته التي لم تكن بعيدة عن ذلك المكان المعتم، وظل باقيًا إلى جواره حتى أدار المحرك، وانصــرف متجهًا إلى مخرج البلدة. استدار "خليل" بعدها بجسده ليتفاجأ بوجود "تميم" خلفه، كان الأخير بحاجة إلى أجوبة حاسمة لما يدور في رأسه، خاصة بعد النوايا الخبيثة التي طفت على السطح تجاه الوضيع "آسر". تحفز في وقفته، ورمقه بنظرة عميقة، غريبة، تبعث على الخوف. حاول "تميم" أن يكبت نفسه؛ لكنه لم يستطع، تأهبت حواسه، واستنفرت بطريقة مريبة؛ وكأنه يريد قتله للتفريط فيها بتلك السذاجة المهلكة، تنفس بعمقٍ، مانحًا جوارحه لحظاتٍ من ضبط النفس قبل أن يسأله مباشرة، ودون مقدمات تمهيدية:
-إنت هتجوز قريبتك للبني آدم ده؟
ورغم غرابة السؤال على مسامع "خليل"، بالإضافة إلى علامات الاندهاش المرسومة على قسماته، إلا أنه أجاب بوضوحٍ:
-أيوه يا معلم .. في اعتراض ولا حاجة؟
دنا منه خطوة أخرى حتى باتت نظراته القاتمة تستحوذ كليًا عليه، أرهبته تقريبًا من التهابها البائن، ثم لاحقه مستفسرًا، وأسوأ الأفكار عن شخص "آسر" المقيت تهاجمه الآن:
-سألت عليه كويس؟
بلع ريقه، وأجاب:
-طبعًا.. إنت مفكرني هارمي بنت أختي في الشارع يا معلم؟!
لا يعرف كيف لم يحكم السيطرة على لسانه الذي لم يطاوعه وسأله بنزقٍ؛ وكأنه يفتش عن أمل أخير في أطلال حبه البائس:
-وهي موافقة عليه؟
لحظة استغرقها "خليل" في التفكير لينطق بعدها بما آلم الفؤاد ومزقه:
-أيوه، أومال عاملين الأعدة دي النهاردة ليه؟
وخزة قاتلة أخيرة اخترقت قلبه المتألم، لتقضي نهائيًا على حلم لم يتجاوز طيات الخيال، لذا لم يكن أمامه إلا أن يحذره بوجومٍ، أخفى خلفه ما يسري في بدنه من قهر عظيم:
-طب خد بالك منه!
سأله في حيرةٍ:
-ليه؟
لم يمنحه ما يشبع توق فضوله، وكرر عليه بلهجة الصارمة:
-من غير ما تسأل .. اسمع الكلام!
تدخل "دياب" في الحوار معلقًا:
-طالما المعلم "تميم" قالك كده يا حاج، يبقى ما تناقش!
وزع "خليل" نظراته بين الاثنين، فرأى استعدادًا جليًا لإشعال فتيل معركة شرسة، حتمًا لن تنتهي على خير، تنحنح في توترٍ أكبر، واستطرد مُلطفًا:
-واضح كده إن في سوء تفاهم مع نسيبي الجديد، ده محامي محترم وآ...
اشمئز "تميم" من الإصغاء لما يخص سيرته، وهتف مقاطعًا بلهجة مماثلة لتلك الخشنة التي يتعامل بها مع الأوغاد:
-مش هارغي كتير.. حافظ على أهل بيتك! سامعني؟
ما كان منه إلا أن رد بخنوعٍ:
-تمام يا معلم.
في تلك اللحظة يمكن أن تتبين مدى الألم الذي يطل من عيني "تميم" كمدًا على خسارته المحتومة، فلم يعد الأمر مجرد زيجة جيدة تليق بها؛ لكن بات مصيرًا مؤسفًا يحيق بحياتها، ووحده من يدرك ذلك ................................................ !!
تابع من هنا: جميع فصول رواية دموع هواره بقلم لولو الصياد
أو أرسل لنا رسالة مباشرة عبر الماسنجر باسم القصة التي تريدها
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا