مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السادس والأربعون (الأخير) من رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل السادس والأربعون (الأخير)
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج3 بقلم منال سالم - الفصل السادس والأربعون (الأخير)
سكت كثيرًا حتى نال منه حزنه، فلم يعد يقوى على كتمان ما يُطبق على صدره أكثر من هذا، لكونه يسحبه نحو حافة الانهيار، وهذا ما لم يرغب فيه. تابع "هيثم" بعينيه الكسيرتين زوجته وهي تسير على مهلها حاملة صينية الطعام لتأتي بها إليه في غرفة نومهما، نهض من على الفراش ليحملها عنها، وهتف يشكرها:
-تسلمي يا "همسة".
ردت بوجهها المبتسم لتستحثه على تناول الطعام:
-عايزاك تخلص ده كله، إنت بتتعب طول اليوم.
بادلها الابتسام، وقال مظهرًا طاعته:
-ماشي.
جلسا معًا على جانب الفراش، تفصل بينهما صينية الطعام، وشرعا في تناول لقيمات مما هو موضوع، إلى أن بادر زوجها مستطردًا بنوعٍ من الغموض:
-كنت عاوز أحكي معاكي في حاجة.
قفزت علامات الاستفهام إلى تعبيراتها، ونظرت إليه متسائلة بأسلوبٍ لطيف عكس اهتمامها:
-خير يا حبيبي؟
لفظ الهواء من صدره هاتفًا بملامح شبه عابسة:
-أنا عرفت حقيقة أمي.
زاد الفضول بداخلها، وتابعت ما يقوله باهتمامٍ أكبر؛ لكن التردد ظل بائنًا في صوته عندما قال:
-هي مكانتش صادقة في كل حاجة ...
غلف صوته الاختناق، ووجد صعوبة في بلع الطعام وهو يبوح لها:
-ضحكت علينا من زمان، ومليت نفوسنا غل وحقد ضد جوز خالتنا.
نظرت له في تعاطفٍ شابه الصدمة، بالكاد منع نفسه من البكاء عندما استمر في إخبارها:
-واكتشفت من قريب إني كنت عايش في وهم كبير، وهي أكبر ممثلة استغلتنا كلنا عشان تكوش على الفلوس وتلمها.
رأت العبرات تملأ حدقتيه، فمدت يدها لتربت على كفه المرتجف قليلاً، بثت الطمأنينة في نفسه بقولها:
-سيبك من اللي فات كله، المهم دلوقتي يا "هيثم"، احنا وجودنا مع بعض هو الأهم، وده اللي فارق معايا.
انبعجت شفتاها عن ابتسامة راضية وهي تضيف بتفاؤل:
-خلينا نفكر في مستقبلنا، ومستقبل البيبي اللي جاي.
ظل الألم يوغر صوته وهو يحاول إفشاء ما خبأه كثيرًا:
-في حاجة كمان لازم تعرفيها، أنا مش عايز أخبي عليكي أي حاجة نهائي.
توترت تعبيراتها من هيئته المستريبة، بينما بلع "هيثم" ريقه، ونطق بتلعثمٍ:
-أنا ... آ..
سكت ولم تسكن أوجاعه، كان بحاجةٍ لتفريغ ما اعترته نفسه من هموم، استجمع جأشه ليكمل جملته، والدموع تنساب من طرفيه تأثرًا بالذكرى الأليمة:
-السبب في موت أبويا.
شهقت "همسة" مصدومة، وارتفع حاجباها للأعلى في ذهولٍ، سرعان ما وضعت يدها على فمها تلقائيًا لتكتم أنفاسها، واستمرت تتطلع إليه بنظراتٍ متسعة لبرهةٍ، إلى أن تمالكت أعصابها، خفضت يدها، وسألته بقلبٍ واجل:
-طب إزاي؟
نكس رأسه في ندمٍ، وحادثها بصوتٍ شبه متقطع:
-هاقولك.
.........................................
بدت في بعض الأحيان مأخوذة وشاردة، تتأمل بعينين فاحصتين الأوجه المحبة المتطلعة إليها؛ كانت مشاعر البغض والحقد أبعد ما يكون عنهم، حقًا تخلل تحت جلدها إحساسًا عميقًا بأنها تنتمي إلى هذه العائلة، وإن لم تجمعهم صلة الدم أو القرابة! رأت في نظراتهم المهتمة كافة مشاعر الود، الألفة، والحب. انتبهت "فيروزة" وسط تأملاتها إلى صوت "بدير" الذي يخاطبها:
-عايزك يا بنتي في كلمتين كده.
أدارت رأسها في اتجاهه، وأبدت ترحيبها قائلة:
-اتفضل يا حاج.
نهضت معه متجهة إلى الخارج، وأشارت له ليجلس بالبهو، على أحد المقاعد، تتبعته بنظراتها وهو يخرج من جيب جلبابه محفظته الجلدية العريضة، ليناولها ورقة مطوية، وهو يستطرد:
-ده يخصك.
أخذتها منه متسائلة في استغرابٍ:
-إيه ده؟
فتحتها لتقرأ ما كُتب فيها، وصوته يوضح لها:
-وصل أمانة.
ما زال وجهها يعكس دهشتها وهي تسأله:
-بتاع إيه؟
بدا وديًّا لأقصى الحدود وهو يخبرها:
-رد اعتبار عن اللي حصلك.
فهمت من تلميحه الحذر مقصده، فأعادت الورقة إليه مبدية رفضًا شديدًا:
-مش عايزاه.
أصر عليها بهدوءٍ:
-ده حقك، وضمان إنه مايكررش اللي عمله.
هتفت بعنادٍ يشوبه الغضب:
-أنا مش هاخد حاجة من الكلب ده.
استمر في إقناعها قائلاً بعقلانية:
-خديه يا بنتي، ولو أي حد كان اتظلم، ولجألنا، كنا هنجيبله حقه بنفس الطريقة.
تمسكت برفضها، فقالت بصوتٍ امتزج بحنقها:
-يا حاج "بدير"، أنا متعودتش ....
قاطعها بتشددٍ:
-دي مافيهاش يا حاج "بدير"، الاتفاق تم في وجود الرجالة كلهم، وعمك موافق على ده، مش هنرجع فيه إلا لو كنتي عايزاه ميت!
برقت عيناها مذهولة من تصريحه، فأكدت عليها:
-دي الحاجة الوحيدة اللي تخليني أوافق أرجع الوصل.
أطرقت رأسها قائلة بنبرةٍ شبه جريحة:
-أنا تعبت من المشاكل يا حاج، مابقتش مستحملة حد يضغط عليا بأي شكل.
بنظرته الخبيرة، تدارك ما تمر به من تخبط، فأوضح مبتسمًا:
-وأنا مش بأضغط عليكي ...
ثم صمت لهنيهة ليتابع بأسلوبه الرزين؛ وكأنه يرمم بطيب كلامه نفسها المتخاذلة لتتخلى عن هذا الشعور المحبط:
-أنا عايزك ترفعي راسك، وماتفرطيش في حقك عشان حد داسلك على طرف، إنتي بنتنا، ولو كان حقك في بطن السبع هنشقه ونجيبهولك.
لامس حديثه الأبوي روحها، بالفعل كان قادرًا على إيقاظ نزعة الصمود بداخلها، فعلقت وهي ترفع رأسها لتنظر إليه:
-مش عارفة أقولك إيه يا حاج "بدير" ...
قتلت الغصة المتأرجحة في صوتها وهي تخبره:
-اللي من دمي معملوش كده معايا.
بحكمته المتروية خاطبها:
-يا بنتي القرابة مش لازمًا تكون بالدم، لأ بالود والمحبة.
افترت شفتاها عن بسمة صغيرة، كتعبيرٍ عن إعجابها بحديثه، فأضاف على حديثه قائلاً:
-الراجل اللي بجد يعرف امتى يشد، وامتى يرخي، امتى يحمي أهل بيته، وامتى يقف للظالم.
أومأت برأسها تأيده:
-معاك حق.
أجلى "بدير" صوته من الخشونة العالقة بأحباله، وسألها مباشرة دون تمهيد:
-صحيح، هتنزلي الدكان امتى؟
تنهدت وهي تجيبه بما يشبه المراوغة:
-هشوف الظروف.
برزت الجدية في حدقتيه وهو يسألها بتحذيرٍ محسوس في نبرته:
-اوعي تكوني غيرتي رأيك؟ لأ كده هازعل منك.
ضغطت على شفتيها للحظةٍ قبل أن تحركهما قائلة بردٍ بدا دبلوماسيًا:
-ربنا يسهل.
لم يضغط عليها لإقناعها بالنزول، لكنه استخدم معسول الكلام لتليين رأسها:
-عايزك تنوري الحتة، ده احنا بنتباهى بيكي، بنقول بنتنا عملت وسوت، ماتحرميناش من طلتك.
ابتسمت مجاملة عندما ردت:
-إن شاء الله.
ربت "بدير" على جانب ذراعها، وامتدح رزانتها:
-ربنا يكملك بعقلك، ويرزقك بالخير كله ...
دفع جسده لينهض من جلسته، ثم اختتم جملته قائلاً ببسمة مليئة بقوة اليقين:
-وخليكي فاكرة إن عوض ربنا مالوش حدود.
نهضت "فيروزة" بدورها، وعقبت عليه بتنهيدة صغيرة:
-ونعم بالله!
............................................
ابتعادها عنه -وإن كان مؤقتًا- سحب معه كل مباهج الحياة ليشعر بخواء يصيب قلبه، دبت الروح في جسده المحموم بحبها عندما رأى وجهها المشرق يعود إليهم، تعلقت عينا "تميم" بقسماتها محاولاً رؤية أي تغيير طرأ فيها، ولِحَظه كان إيجابيًا، اختفى الكدر والوجوم من وجهها، فبدت أكثر نضارة، حيوية، وجاذبية، راقب يدها وهي تنخفض لتطرح طرف حجابها الأسود المتدلي، لتعيده إلى كتفها، كم أحب رؤيتها تزدان به!
تلون وجهه بحمرة متحرجة عندما ناداته والدته عاليًا:
-يا "تميم"، إنت مش معانا ولا إيه؟
تساءلت "هاجر" في لؤمٍ، وهي تتعمد إظهار بسمتها الماكرة على ثغرها:
-سرحان في إيه كده؟ مين شاغل بالك؟
اكتسبت ملامحه جدية رهيبة، ورمقها بنظرة قاسية محذرة، قبل أن يدير رأسه ليخاطب "ونيسة":
-خير يا ست الكل؟
أجابته وهي تشير بيدها:
-الحاجة كانت بتسأل على حد بيركب تند، ويكون مضمون، ما تعرفش حد كويس؟
بدلاً من النظر إلى وجه "آمنة"، ارتكزت عيناه على "فيروزة"، وأجاب عن ثقة:
-أعرف، أحسن واحد في البلد، شوفوا عايزين تعملوا إيه وأنا تحت أمركم.
ردت "آمنة" تشكره:
-يبقى كتر خيرك يا ابني.
أكد عليها، وعيناه تحيدان بصعوبة عن وجه الطاووس الغَض:
-متقلقيش يا حاجة، أنا موجود معاكو في أي وقت، إنتي بس أشري.
ضحكت "هاجر" معلقة عليه:
-سيد المعلمين بصحيح ...
ثم حولت بصرها نحو "فيروزة" وتشدقت قائلة عن عمد؛ لكن بصوت شبه خافت، وصل إلى مسامع معشوقته:
-ربنا هيراضيها اللي هتتجوزك بجد، هتشوف معاك الهنا كله.
التفتت "فيروزة" على إثر جملتها الموحية إليها، نظرت إليها بنظرة حائرة، فرأتها تبتسم لها بحبٍ وألفة، تصنعت الابتسام المجامل لها، وفي رأسها يدور سؤالاً بعينه، أُضيف إلى سابقه من تلميحات مختلفة كانت على لسان الجد والأب، كلها لفت في دائرة واحدة، خشيت من استنباط ماهيتها؛ وإن كانت قد خمنت فحواها، وسبقتها العين قبل العقل في تأكيدها، حيث انتقلت نظرتها إليه، وجدته يهيم بنظراته العميقة على وجهها، نظراتٌ أجبرت القلب على الخفقان في ربكةٍ لطيفة، لم تنبذها، ولم تستنكرها، بل إلى حد كبير حركت الركود المستعمر في كيانها، وحولته إلى شيء مشوق جعل حواسها تستفيق من سباتٍ طويل، لتدرك بغتةً أن ما يضمره نحوها ليس بأكاذيب!
............................................................
تطلعت بعيدًا خلال استلقائها على الفراش، كأنما نُقلت روحها إلى عالمٍ آخر، فعكست نظراته المثبتة على سقف غرفتها المعتمة شرودًا واضحًا، فبدت مستغرقة كليًا في تفكيرها العميق، حيث دهمها وابل من الذكريات المتعلقة به وحده، كان "تميم" حاضرًا وبقوة -في تلك الليلة- في ذهنها، كأن الدنيا خلت من الجميع إلا إياه، راحت "فيروزة" تستحضر كافة مشاهد مروءته في مخيلتها، فبزغ في قلبها ميلاً خفيًا نحو شهامته، جعل بدنها يتلبك في توترٍ، اعتصرت عقلها عصرًا لتفسر سبب تصرفاته معها، باحثة عن جواب منطقي ينافى ما استشعرته، فتساءلت بخفوتٍ وهي تتقلب على جانبها:
-إنت عايز مني إيه بالظبط؟
كانت في أعماقها تخشى من مواجهة الحقيقة والاعتراف لنفسها بأنه يحمل لها شيئًا في قلبه، رفضت الانسياق وراء ذلك الاعتقاد، وقاومت التفكير فيه قدر المستطاع، حاولت تبرير دعمه لها بأنه نوع من الإشفاق والتعاطف العابر، سينتهي بمجرد أن تعود الأمور إلى مجرياتها الطبيعية. أطبقت على جفنيها ورددت بتكرارٍ متواصل لتقنع نفسها:
-هي دي الحقيقة، هو بيساعدني لوجه الله، مش أكتر من كده!
استجمعت شتات أفكارها، وأطلقت زفرة بطيئة، لتستعد بعدها للنوم، وهي تأمل بشدة ألا تتكبد خوض تجربة حسية جديدة، ليست مستعدة لها نفسيًا وذهنيًا بعد.
.....................................................
تلك اللحظات التي تنفرد فيها ليلاً بشخصها تمنحها مساحة من التفكير المتأني والرزين، أرجأت "هاجر" إمعانها في تدبر مسألة عرض الزواج المقدم من "سراج" حتى تختلي بنفسها، اعتبرت في البداية الأمر كنوعٍ من المزاح العادي؛ لكن جدية طرح الموضوع أكد لها عدم استهانة أسرتها بالأمر، هدهدت رضيعها بين ذراعيها عندما تململ لتدفعه للنوم في هناء، ثم تنهدت بعمقٍ، وسألت نفسها؛ كأنما تفكر بصوتٍ مسموع:
-طب إزاي؟ عجبه فيا إيه بعد اللي حصل؟
ضاقت عيناها بشكٍ حائر، وتابعت حديث نفسها:
-بيتهيألي هو متجوزش أصلاً من ساعة ما "تميم" خرشمه!
ضحكت رغمًا عنها، وأضافت ساخرة:
-شكله مكانش نافع وقتها
عادت الجدية الممتزجة بالحنق تكسو تعبيراتها وهي تكمل:
-وأنا أجيب لنفسي وجع الدماغ ليه؟ ده كفاية صدمتي في "محرز" الله ينتقم منه، بلاش منه حكاية الجواز دي.
زمت شفتيها مرددة:
-بس بردك أبويا مكانش هيسكتله لو نيته وحشة ...
تنهدت بزفيرٍ طويل مخاطبة نفسها:
-والله أنا احترت من كتر التفكير.
أراحت ظهرها للخلف، واستحضرت مقتطفات خاطفة من زيارة والدة "سراج" الاستثنائية لهم، لم تفهم آنذاك سبب قدومها؛ لكن والدتها رحبت بها بشدة، واستقبلتها بحفاوةٍ على غير المعتاد، شملتها الضيفة بنظراتٍ دافئة حنون، واستطردت تمدحها بضحكاتٍ مرحة:
-ماشاءالله، بنتك دي حتت سُكرة، ربنا يفرحك بيها قريب.
ردت "ونيسة" تجاملها:
-تسلمي يا حاجة.
استمرت في ثناءها عليها، وأضافت:
-يا زين ما ربيتي، فعلاً أبوها لازم يقعد ويتشرط.
علقت بلطفٍ:
-والله بتحرجينا بكلامك العسل ده.
سلطت "أم سراج" أنظارها على ابنتها، ودعت لها بصدقٍ:
-دي الحقيقة، ربنا يبختلك ابن الحلال اللي يسعدك يا بنت الغاليين.
تثاءبت "هاجر" وهي تتمدد على الفراش، لتنفض بعدها الذكرى من عقلها، لتركز نظرها على رضيعها، قبل أن يسحبها النوم في دوامته المغرية.
.........................................................
غرز ظفر إصبعه الصغير بين أسنانه، ليزيح العالق من الطعام بعد أن التهم كافة ما في الأطباق بشراهةٍ لا يسهل إشباعها، ثم سار بتكاسلٍ وهو يجرجر قدميه متجهًا إلى غرفته، استوقفه صوت الدق العنيف على باب المنزل، فاستدار "فضل" ناحيته، وصوته يأمر والدته التي أتت مهرولة في توجسٍ لترى من الطارق:
-استني يامه، أنا هاشوف مين.
ردت من خلفه بصوتٍ قلق:
-استر يا رب.
هلل عاليًا بتوبيخٍ:
-بالراحة يا جحش على الباب، هيتخلع في إيدك.
ثم أدار المقبض وفتحه ليتفاجأ بشخصٍ عريض المنكبين، سدَّ عليه الهواء من طوله الفاره، وانتصاب قامته. أُجبر "فضل" على إمالة رأسه للخلف لينظر إلى وجهه، رمقه بنظرة غريبة قبل أن يسأله بوقاحةٍ:
-إنت مين يا طِحش؟
حدجه الرجل الغامض بنظرة نارية عدائية، قبل أن يخبره بصوته الأجش:
-صحيح اللي قال عن لسانك زفر مكدبش.
انفجر فيه غاضبًا من تعليقه:
-إنت جاي تهزقني في بيتي يا بأف إنت؟
رد الرجل بتهديدٍ صريح:
-أنا جاي أربيك.
شهقت "سعاد" في ذعرٍ بعد أن وصل إلى مسامعها صوته الجهوري، ودنت من ابنها لتفهم سبب هذه المشادة الغريبة، في حين هدر "فضل" بعصبيةٍ:
-نعم ياخويا؟ تربي مين؟
زجره الرجل بإهانةٍ فجة غير مبالٍ به:
-لما واحد جالوس طين زيك يتطاول على حريمنا يبقى يستاهل الرباية.
صاح بتشنجٍ:
-حريم مين؟ هو رمي بلى؟
استقام الرجل واقفًا، فزاد طولاً، وخاطبه بنبرة اخشوشنت على الأخير:
-جماعتي الجديدة، ستك وست كل البنات، اللي إنت داير تلسن عليها بلسانك الـ ...!
قطب جبينه متسائلاً في دهشة:
-إنت قصدك على "سها"؟
أطبق على عنقه غارزًا أصابعه في جلده وهو يحذره:
-ما تنطقش باسمها يا ... !
هتفت "سعاد" بجزعٍ:
-هو في إيه يا ابني؟
انتفض "فضل" بقوةٍ ليتحرر من قبضته الدامية، وهتف يرد بعدائيةٍ حفظًا لماء وجهه:
-اغلط كمان، يا بجاحتك، واقف قصادي تتفرد وتتنى، لأ وبتتهجم عليا في قلب بيتي، وقصاد الخلايق، إنت مين يعني؟
اِربد وجهه بعلامات الغضب، وعرفه بهويته بصلابة جعلته يهابه:
-أنا "رشيد عبد المنعم"، عين أعيان البر الشرقي.
حاول الاستهزاء به، وقال:
-تشرفنا يا سيدي، إنت جاي بقى من غير إحم ولا دستور عشان طق الحنك ده؟
اندفع دون مقدماتٍ نحوه لينقض عليه، جذبه بشراسةٍ من ياقتي جلبابه وهو يتوعده:
-لأ يا روح أمك، ده إنت هتشوف نهار أسود من قرن الخروب.
صرخت "سعاد" في فزعٍ:
-يا نصيبتي! هتعمله إيه؟
في غمضة عين وجد "فضل" نفسه ملقى عند قدميه، والأخير يركله في بطنه بكل ما أوتي من قوةٍ، وصياح "سعاد" الصارخ من خلفه يتوسله:
-سيبه يا جدع إنت، هيموت في إيدك.
هدده "رشيد" بنبرة غير متهاونة أبدًا:
-لو سيرتها جت على لسانك تاني هجرسك وسط الخلق، هخليك ملطشة الصغير قبل الكبير!
ثم سدد له ركلتين أشد قساوة عما سبق أسفل معدته، ليتأوه الأخير باكيًا من الألم المبرح، ليلتفت بعدها نحو والدته ينذرها:
-ربي ابنك يا حاجة، ده لو مش عاوزة تترحمي عليه.
لطمت "سعاد" على صدرها، وانحنت جاثية على ركبتيها إلى جوار ابنها المتكوم تنوح عليه، بينما نفض "رشيد" كفيه معًا، وصاح عاليًا مخاطبًا القلة المتجمهرة على مقربة من المنزل:
-اللي يسمع فيكم الـ ... ده جايب سيرة حريمنا بكلمة يعرف بس أي حد من طرفي، وليه الحلاوة ...
ثم ركز بصره الحانق على "فضل"، وأتم جملته:
-وهو ليه الجِلة!
بصق عليه، وانصرف مخترقًا التجمهر المرابط في محيطهم، تاركًا "فضل" يئن في شكوى وسط همهمات الناس الفضولية، والتي كانت غالبيتها شامتة فيما حدث له.
..............................................
أثرت تلك المرة أن تلتقي بها "ريم" في مكانٍ مفتوح، غير مكتبها التقليدي، لاستكمال جلساتهما العلاجية، وأيضًا كوسيلة غير مباشرة لحثها على تغيير روتينها الاعتيادي، وتقبل المجازفة بعد أن انغلقت على نفسها، خاصة عندما أطلعها "ماهر" على خلفية أزمتها السابقة خلال فترة سفرها. أحست "فيروزة" بنسمات الهواء المنعشة تداعب وجنتيها وهي تدور برأسها في الحديقة المورقة تتأمل إبداع الخالق فيها، التفتت ناظرة إلى طبيبتها عندما سألتها:
-مش كده أحلى؟
أومأت برأسها موافقة، فأضافت "ريم" متسائلة بابتسامتها اللطيفة:
-مش ناوية تخرجي برا دايرة العزلة اللي إنتي حابسة نفسك جواها؟
غامت نظراتها قليلاً، ورفضت التجاوب معها، فاستحثتها على نبذ انطوائها بسؤالها التالي:
-مزهقتيش؟ مانفسكيش تجربي حاجة جديدة تعمليها:
سحبت شهيقًا عميقًا، ولفظته دفعة واحدة قبل أن ترد:
-مش عايزة.
بحذرٍ لاحقتها بسؤالٍ آخر:
-ليه؟
جاوبتها بوجهٍ منزعج:
-ده أحسن ليا.
صمتت لبعض الوقت قبل أن تتساءل في اهتمامٍ لا يخلو من الحيطة:
-إنتي خايفة من إيه يا "فيروزة"؟
بعد فترة من السكوت نطقت في ألمٍ:
-خايفة اتجرح تاني، وأنا معنتش مستحملة أذية.
علقت بهدوءٍ:
-طبيعي تحسي بالخوف بعد كل اللي شوفتيه، بس صدقيني إنك تحاولي وتجربي أحسن بكتير من إنك تستسلمي لخوفك.
احتجت عليها بصوتٍ شبه مختنق، وعيناها تلمعان تأثرًا:
-يا دكتورة "ريم" اللي شوفته كفيل يخليني أكره الدنيا باللي فيها، أنا مصدقت رجعت أفوق شوية من الدوامة اللي غرقت فيها، مش عايزة أتصدم في حد تاني.
بنفس النبرة العقلانية خاطبتها:
-ما هو زي ما في الوحش، في الحلو برضوه.
أشاحت بوجهها تحملق في الفضاء المزدان بالخضرة، فاستمرت "ريم" في حوارها معها:
-ليه مانبصش على ده ونركز معاه؟
لازمت الصمت؛ لكن امتلأ رأسها بصخبٍ تعذر عليها إسكاته، استدارت تحدق في وجه "ريم" عندما شددت عليها بأسلوبها اللين:
-"فيروزة"، إنك تعدي أزمتك مش بس بالكلام، لازم يكون في خطوة فعلية وإيجابية على أرض الواقع.
حافظت على بسمتها الناعمة وهي تؤكد بإصرارٍ:
-جربي، ومش هتخسري حاجة ...
تطلعت إليها بتحفظٍ، فمدت "ريم" يدها نحو ذراعها لتربت عليها وهي تكرر على مسامعها:
-واحنا كلنا معاكي.
جملة لطالما ترددت منه شخصيًا على أذنيها، أشعرتها لحظتها بخفقة سريعة داعبت قلبها، تغاضت عما أصابها، وقالت بوجومٍ مقتضب:
-هاشوف.
...............................................
احتاجت إلى كامل شجاعتها وعزيمتها، لتنفذ ما عقدت النية عليه؛ انتشال نفسها من العتمة المؤذية لها. ارتدت "فيروزة" ثيابها السوداء، وضبطت حجاب رأسها عليها قبل أن تودع والدتها لتغادر المنزل، وتتجه إلى دكانها الجديد، لم تنكر أن التردد ظل يلازم خطواتها، كانت تقدم قدمًا وتؤخر الأخرى، ترتاب من تبعات إقدامها على مواجهة البشر بعد سقوطها الأخير. للغرابة استقبلها بعض الجيران خلال مرورها بهم بالترحاب والسؤال المهتم، دون الخوض في أي تفاصيل تتطرق إلى مواقفها الحرجة؛ وكأن شيئًا لم يحدث معها مطلقًا، تشجعت أكثر في سيرها، وأحست باكتسابها للمزيد من الثقة.
قادتها قدماها إلى طريق دكانه عفويًا، وتفاجأت بنفسها متواجدة في نفس الشارع، شعرت بالتخبط والحرج في نفس الآن، رفعت عينيها لتنظر إلى واجهته، فرأت "تميم" مشغولاً مع عماله، يأمرهم تارة بصرامةٍ، ويساعدهم تارة أخرى بسخاء، انزوى ما بين حاجبيها في دهشة، فكيف لها أن تطالعه بتلك النظرات المهتمة، كما لو أن في رؤياه نشيطًا طاقة عجيبة يبثها لغيره!
سرعان ما خفضت نظراتها، وتوارت عن محيطه لتهرع إلى دكانها بحماسٍ، ووجنتاها تكتسيان بحمرة خفيفة. لم تدرك "فيروزة" أن قلبه رأها قبل أن تبصره، استشعر وجودها بإحساسه المرهف، فاستدار في اللحظة التي أبعدت وجهها عن دكانه ليجدها تخطو في رشاقة نحو دكانها، احتواها بعينيه، وضمها بقلبه المتقافز في سرورٍ شديد، لاحقها بنظراته حتى اختفت عن مدى بصره، وهتف مرددًا مع نفسه في حبور عظيم، وابتسامة عريضة تزين محياه:
-طب هي رايحة الدكان، أنا قلبي بيرقص ليه؟
ناداه أحد العمال لسؤاله عن أمرٍ ما فتجاهله، وأسرع باحثًا عن أبيه وهو يبرطم:
-وأنا هيجيلي قلب أكمل شغل؟!
وجد "تميم" والده يقرأ إحدى الفواتير، فاستطرد يُعلمه بابتهاجٍ:
-شوفتها يا حاج، دي رايحة الدكان.
سأله مستفهمًا:
-مين دي؟
أخبره بوجهٍ تحول للبشاشة:
-الأبلة يابا.
أثنى على حُسن اختيارها قائلاً:
-يا زين ما عملت.
حمحم ابنه قائلاً بما يشبه الرجاء:
-يا حاج ممكن آ...
فهم ما يريد فعله دون إيضاح كامل، فأعطاه موافقته المشروطة وهو يشير بإصبعه:
-روح .. بس ماتطولش، مش عايزين الناس تتكلم.
على الفور قال وهو ينتفض سائرًا في خفة:
-حاضر يا حاج.
.................................................
سعلت سعلة صغيرة، حينما اندفع الهواء المكتوم الممتلئ به المكان، ليقتحم رئتيها وهي تفتح باب الدكان على مصراعيه، كما اقتحم ضوء النهار المدخل فأناره دون الحاجة لإشعال إضاءته. وطأت "فيروزة" داخل الدكان، والتوتر يشع في كيانها، مسحت جوانبه بنظراتٍ سريعة؛ كان كما تركته، على وشك الافتتاح، تنهدت على مهلٍ، وخطت نحو المكتب الخشبي الموضوع في الزاوية، لتحمل علبة كرتونية ممتلئة ببضائع تحتاج للرص، انتفض جسدها مع صوت الرجولي المألوف المرحب بها:
-صباح الفل.
التفتت تنظر إلى "تميم" بتعابيرٍ غير مرتخية، ثم ردت التحية:
-صباح الخير.
كان لقائه بها يلفه إحساس بالألفة والمودة، أسرع في خطاه ناحيتها ليحمل عنها العلبة وهو يقول بإصرارٍ:
-عنك يا أبلة.
حاذر وهو يأخذه منها، فابتسمت في رقه وهي ترد:
-شكرًا.
يا لسعادته! أصبحت لا تبخل عليه بابتساماتها الساحرة، فكيف لا يعشق البسيط منها؟ تنحنح مضيفًا بلهجةٍ جادة:
-هابعت أجيبلك حد يمسح المكان ويروقه.
رفضت عرضه بلباقةٍ:
-مالوش لزوم، أنا هاشتغل بنفسي.
هتف مستنكرًا وقد عبست ملامحه:
-وده يصح؟
ما لبث أن تحولت قسماته للطف وهي يكمل جملته:
-وأنا روحت فين؟
اعترضت بحرجٍ ظهرت آثاره على بشرتها:
-مافيش داعي آ...
قاطعها بإصرارٍ، وعيناه تبصران ذلك التورد الناعم:
-مش هايحصل، عايزة الكرتونة دي فين؟
قالت وهي تشير بيدها:
-خلاص والله.
تلفت "تميم" حوله باحثًا عن موضع شاغر ليضعه به، وهو ما زال يصر عليها:
-أبدًا.
يئست أمام عناده الذي بدا طفوليًا، فاستسلمت تخبره:
-اسندها هناك.
برزت أسنانه من خلف ابتسامته المتسعة وهو يقول:
-عينيا.
راقبته وهو ينقل العلبة حتى فرغ من مهمته السريعة، ليستدير بعدها ناحيتها، ووجهه ما زال محتفظًا بابتسامته المشوقة، تكلمت في هدوء:
-ممكن سؤال؟
أبدى استعداده الكامل لتلبية رغبتها مهما تكلفت بقوله:
-أؤمري.
رغم ما مرت به، اكتسب حضورها بهاءً مغريًا، تسلل إلى أعماقه، ونشط خلاياه الحسية بالمزيد من الأشواق. ملأ الفضول نظرات "فيروزة" وهي تسأله مستفهمة:
-إنت لاقيت دبابيس شعري إزاي؟ أكيد ماخدتهمش من عندي.
صمت قليلاً كأنه يزن ما ينوي قوله حتى لا يفسد بوادر الوصــال معها، فأردف معترفًا لها بهدوءٍ:
-هتصدقني لو قولتلك إن كل حاجة فيهم جت عندي بالصدفة.
تطلعت إليه مليًا بنظراتٍ ثابتة، حتى كادت الهواجس المقلقة تستبد به جراء سكوتها المريب. نطقت "فيروزة" أخيرًا بغمو ضٍ:
-أيوه.
اقتضابها في الرد عاث في نفسه القلق، لذا سألها في دهشة حائرة:
-أيوه إيه؟
ابتسمت وهي تقول في نعومة سحرت كيانه:
-مصدقاك.
وكأنها أهدته عطيةً من السماء، فهلل في فرحة أدهشتها:
-الله أكبر! والله العظيم أنا بأحلم.
لم يكتمل تعبيره عن فرحته بسبب ظهور والده المفاجئ المصحوب بسؤالٍ معاتب:
-دول الـ 5 دقايق بتوعك؟
أحنى رأسه على صدره مرددًا في حرجٍ:
-منور يا حاج.
ثم تراجع بضعة خطوات عن "فيروزة"، تاركًا المجال لأبيه ليتقدم منها، تساءل الأخير في اهتمامٍ:
-إزيك يا بنتي؟ عاملة إيه؟
قالت في لطفٍ وهي تبادله ابتسامة مهذبة:
-الحمدلله يا حاج "بدير"، اتفضل.
هز رأسه معقبًا عليها وهو يشير بيده:
-تسلمي، أنا هتفضل جوا، والمعلم ده هيتفضل برا.
تنحنح "تميم" في حرج أكبر قبل أن يغمغم:
-احم .. ليه الإحراج ده يابا؟
ضرب والده على كتفه بضعة مرات، ليخبره بعدها بصرامةٍ؛ كأنما يطرده:
-في كوم أقفاص مستنيك في الدكان، يالا.
أومأ برأسه في طاعة، ثم رد بامتعاضٍ، وعلامات التبرم تنطلق في وجهه:
-ماشي يا حاج، اللي تؤمر بيه.
في هذه المرة، كانت البداية مبشرة، باعثة بقوة على الأمل، أحس "تميم" باستجابة دعواته المتواصلة، بعد صبره الطويل، وبأنه تلقى البُشرى عندما خاطبته في ودٍ كان يتوق إلى تحقيقه في أقصى أحلامه. تنهيدة عميقة خرجت محملة بالأمنيات والرجاوات من صدره، ليكلم نفسه بيقينٍ بات واثقًا من اقتراب حدوثه:
-مسيرها تروق وتحلى .......................................... !!
..........................................................
-تمت-
يتبع الجزء الرابع
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا