مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثالث عشر من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثالث عشر
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثالث عشر
أزاحت الستائر البيضاء الحاجبة لضوء الشمس للجانب، لتتمكن من فتح باب البلكون الواسع، وتدلف للداخل وهي تسحب شهيقًا عميقًا ملأت به رئتيها بالهواء المنعش الذي غزاها بترحيب استحبته، مشت حتى بلغت حافة السور الحجري، ومدت ذراعيها على طوله لتستند عليه. كانت "فيروزة" محظوظة لوجدها في تلك الغرفة المطلة على هذا المشهد الخلاب الجامع بين الخضرة النضرة لحديقة الدار، والزرقة المبهجة لمياه البحر. ربما نجح تأثير الطبيعة في منحها قدرًا من السلام النفسي الداخلي، فأصبحت إلى حد كبير هادئة الانفعالات بعد مرور بضعة أيام، وحين انقضى على وجودها ما يقرب من ثلاثة أسابيع كانت متوازنة، متماسكة، وقادرة على الكلام.
التفتت برأسها للخلف لتتطلع إلى القادمة من ورائها وهي تسألها في نبرة مهتمة:
-عاملة إيه النهاردة؟
ابتسمت لها، فتابعت "ريم" بلطفٍ:
-أحسن؟
أومأت برأسها وهي ترد:
-الحمدلله.
طردت دفعة من الهواء ونظرت إلى ثوبها الأبيض الطويل الذي امتدحته "ريم" كذلك:
-اللون ده عليكي حلو، كان عندي حق إني أصمم تغيري الألوان الغامقة.
ردت بتهذيب:
-شكرًا ليكي.
ثم سألتها وهي تشير بيدها نحو باب البلكون:
-هننزل تحت ولا ..؟
قاطعتها حاسمة الأمر دون أن تفتر ابتسامتها:
-لأ خلينا نتكلم في التراس، حتى المنظر من عندك تحفة.
تشكل على ثغرها بسمة لطيفة وهي ترد:
-ده حقيقي.
تحركت الاثنتان معًا لتجلسا على المقاعد المريحة الموضوعة في الركن أسفل تعريشة خشبية لحجب الشمس قليلاً، خاصة حين تكون في ذروة وهجها،
لم تتعجل "فيروزة" الكلام، بل مسحت بنظراتها المتأنية التفاصيل الآسرة لنظراتها، مانحة لنفسها الفرصة للاستمتاع بالمزيد من نقاء الطبيعة، استطردت "ريم" مهمتها تناديها بهدوءٍ بعد مرور لحظات من السكوت الغريب:
-"فيروزة".
خرجت من شرود لا تعرف كيف توصفه؛ لكنه حتمًا يريحها بشكلٍ كبير، وردت باقتضابٍ:
-نعم.
تشجعت لتطلب منها في صيغة تساؤلية بهدوءٍ حذر:
-مجاش الوقت اللي تتكلمي فيه؟
تحفزت "فيروزة" في جلستها، فتابعت موضحة لها؛ كأنما تستحث نزعة المقاومة بداخلها، بنفس الحرص:
-أنا عارفة إنه مش بالساهل نطلع اللي جوانا، بس طول ما إنتي رافضة تتجاوبي معايا، ولا مليون علاج هينفع، هنفضل واقفين عند نقطة البداية، بنلف وندور حواليها؛ لكن مش بنتقدم.
اشتدت قبضتا "فيروزة" المستريحتين على مسندي مقعدها، وظهر التشنج على تعبيرات وجهها، ومع هذا استمرت "ريم" في مخاطبتها بنبرة لم تتبدل، وبوجود ابتسامتها الرقيقة:
-عاوزاكي تطمني، وبأقولك من تاني، اللحظة اللي هتقرري تتكلمي فيها، هي دي اليوم اللي بترمي فيها الماضي ورا ضهرك.
اتسعت بسمتها أكثر حين أكدت عليها:
-وبرضوه مش هضغط عليكي .. هسيبك براحتك، وكله راجع لاختيارك، وأنا معاكي في أي.
ثم توقفت عن الحديث تتأمل تعابيرها الجامدة؛ لكن عيناها نطقت عن حزنٍ عميق وراسخ، بعد ما يزيد عن دقيقتين نطقت "فيروزة" أخيرًا بنبرة غلفها الألم:
-هو أنا وحشة؟
تفاجأت "ريم" من تجاوبها، ولم تظهر تعبيراتها أدنى تغير، بل ارتدت قناع الثبات وهي تسألها بهدوءٍ شديد:
-مين قالك كده؟
اختنق صوتها، وبدأت الدموع في التجمع في مقلتيها وهي تتابع بصعوبة بائنة عليها:
-هو أنا .. ماينفعش أكون سـ... ست؟
مالت "ريم" نحوها، ووضعت يدها على قبضتها لتربت عليها بحنوٍ، ثم أخبرتها بنفس التعابير المبتسمة:
-إنتي جميلة جدًا، وآ..
قاطعتها بنهنهة شاهقة وهي تنفض يدها عنها لتضم ذراعيها إلى صدرها:
-أنا مسخ من جوايا، مشوهة.
لاحظت "ريم" عدم انتظام أنفاسها، وتلاحقها بشكلٍ أقلقها، فنهضت من مكانها تقول في جدية:
-خدي نفسك.
وقفت قباله مقعدها، وأخذت تمسح على جانبي ذراعيها في رفقٍ صعودًا وهبوطًا، بحركة متكررة، لتشعرها بالأمان. استمرت على ذلك تهدئ من روعها لدقيقة أو أكثر قبل أن تدعمها لفظيًا:
-إنتي في كل حالاتك حلوة، شعلة من النشاط، والقوة، والمثابرة.
بكت "فيروزة" في أنينٍ موجوعٍ وهي تعترف لها:
-قتلني بكلامه، قضى على كل حاجة كنت مفكراها حلوة، خلاني شوفت عيوبي الحقيقية.
من وجهة نظرها إفصاحها عما تكبته في أعماق أعماقها كان الخطوة المنشودة، السبيل لإخراجها من بئر الظلام الغارقة فيه، عليها فقط أن تكون حذرة في سحبها إلى النور. تراجعت عنها لتجلس من جديد في مقعدها، وسألتها دون تغير في رنة صوتها:
-وإيه هي عيوبك؟
أطبقت "فيروزة" على عينيها بقوةٍ، مقاومة ألم إحياء الذكرى، وألم معايشة التخيل، ارتفع صوت شهقاتها عندما تابعت:
-مسخ، نص ست، ماينفعش حد يقرب مني.
كانت "ريم" تملك من المعلومات، ولديها من الفطنة والذكاء، ما يخولها لربط أطراف الخيوط معًا، استنبطت أن لانتكاستها الصادمة ارتباطًا وثيقًا بسفرها غير الآمن خارج البلاد، خاصة في فترة زيجتها، تلك التي أخبرها عنها "ماهر" بتفاصيل مسهبة تعتمد على ما جمعه من معلومات أمنية متنوعة المصادر؛ لكنها كانت منقوصة لديها، اكتمل جزء كبير من الأحجية الناقصة، وأصبحت ترى بوضوح ما قد بدا محجوبًا عنها منذ بدء خطة العلاج الطويلة مع مريضتها. علمت أنها مجازفة غير محمودة العواقب، ومع هذا سألتها بنزقٍ، كمن يضغط على بثرة للتخلص من صديدها حتى تلتئم:
-ده كلام "آسر" ليكي؟
علا الشهيق الباكي، وزادت الانتفاضات، فطلبت منها بصوتٍ جاد:
-اهدي .. خلاص.
لكنها لم تستجب لها، مما دفعها للنهوض مجددًا، والمسح على جانب ذراعها بنفس الحنو وهي تردد في أذنها بصوتٍ قوي ثابت باعث على الأمان:
-"فيروزة"، متخافيش، اللي قالك كده مش موجود معانا، مش هيعملك حاجة، وكلامه ده كله مالوش قيمة.
رفضت الإصغاء لها، وهتفت في حرقةٍ موجوعة:
-دي الحقيقة أنا وحشة من جوايا، أنا آ....
صاحت بها "ريم" في صوتٍ بدا مرتفعًا نسبيًا:
-ماتخليش كلام إنسان مريض زي ده يحطمك.
فتحت عينيها لتنظر إليها من بين دموعها، وكررت باختناقٍ عبر عن مدى الألم المستبد بها:
-أنا مشوهة يا دكتورة، مشوهة، ومن زمان أوي ...
تلك المرة لم تقاطعها، تركتها تستفيض في إخراج ما يؤذيها، فباحت لها:
-من وقت الحريقة، اتحرقت من برا، وبعد كلامه بقيت من جوا كمان.
استرعى انتباهها الغموض المغلف لحديثها، فقالت بهدوءٍ، وفضولها يزداد بداخلها لمعرفة تفاصيل بزوغ المشكلة:
-طيب ممكن تحكيلي ظروف الحريقة دي.
لا مهرب الآن من تعرية نفسها المهشمة، وروحها الممزقة، لطالما أرادت فعل هذا، التخلص من العبء الثقيل على كتفيها، علَّها تنشد بذلك راحتها الضائعة، بدأت في سرد ما خاضته من معاناة لازمتها منذ اللحظة التي اختبرت فيها موت أحدهم حرقًا نصب عينيها، بكل ما اعتراها من ألم وأذى، جسدت هذا بحركات جسدها المرتعشة، بلمساتها المرتجفة لبقعة من كتفها، كأن الألم اختزل في هذا الجزء، تلك المرة تركتها دون مقاطعة، لم تسألها، ولم تستحثها على الهدوء، تركتها تفرغ مكنونات صدرها حتى سكنت وسكتت. حينئذ جاء دورها المهني لتعالج تلك الشروخ العميقة، وترأب الصدع في روحها المنهزمة. تكلمت "ريم" بصوتٍ لا يحمل الشفقة؛ وإنما أظهر الاعتزاز:
-"فيروزة" هو قال كده عشان يهز ثقتك في نفسك، إنتي لو اتأذيتي زمان، والأثر فضل معاكي، فده لأنك عملتي حاجة بطولية، حاجة تخليكي تفخري بنفسك ...
من وسط أنهار دموعها تطلعت إليها في قهرٍ عاجز، فأكملت "ريم" على نفس الشاكلة:
-طبيعي طفلة في السن ده تكون مرعوبة، خايفة، مش عارفة تتصرف، بس إنتي كنتي شجاعة، تصرفك أكبر من سنك، ضحيتي بنفسك عشان تنقذي غيرك، ده الأهم هنا.
للغرابة لاحظت خبوت شهقات بكائها، فواصلت القول وهي تشير بيدها إلى كتفها الذي كانت تضغط عليه بيدها:
-الأثر موجود عشان يفكرك أد إيه إنتي قوية، شجاعة، مختلفة.
ارتخت أصابعها المتشنجة عن كتفها، وبدأ ذراعها في الهبوط حتى استقر في حجرها، بينما استأنفت "ريم" حوارها معها:
-وياما ناس كانت حلوة ومزوءة من برا، ولما سقط القناع عنهم طلعوا أسوأ ما يكون.
لاذت "فيروزة" بالصمت، إلا من صوت بكائها، فبكل تهكمٍ ناقم أعلنتها "ريم" لها:
-ده وصف "آسر"، شياكة، لباقة، مظهر مخادع، أما على الحقيقة ففيه كل الموبقات.
رأت تبدل ملامحها للدهشة والاستغراب، فأوضحت لها بابتسامة ما زالت ساخرة:
-ماتستغربيش إني بقولك كده، أنا عارفة كل حاجة عنه من "ماهر"، ولأنه مهتم جدًا بيكي، مابخلش عني بأي معلومة تساعدك تتجاوزي أزمتك.
ارتفع حاجبا "فيروزة" للأعلى في صدمةٍ؛ لكن "ريم" تجاوزت تلك النقطة لتمتدح شجاعتها في تفاخرٍ شديد:
-النهاردة بس أقدر أقول إنك البطلة الحقيقية.
ثم نهضت من مكانها، وقالت بوجهٍ بدا أكثر إشراقًا عما مضى:
-كفاية كلام، وتعالي معايا.
هزت "فيروزة" رأسها بالرفض وهي ترد:
-مش عاوزة.
أمسكت بكف يدها، وحاولت إجبارها على النهوض وهي تخبرها:
-لأ، ده احنا عاملين يوم رياضي على البحر، خلينا نطلع الطاقة السلبية من جواكي.
ما زالت باقية على عنادها؛ لكنها ألحت بما يشبه النصيحة:
-يالا يا "فيروزة"، صدقيني ده هيفرق معاكي، إنتي هتحسي بده.
طاقتها للمقاومة والاحتجاج نفذت مع آخر اعترافاتها الخطيرة، لهذا بضغطٍ لطيف استطاعت إقناعها، فنهضت مستسلمة للطاقة الأخرى التي تحاول إحلالها بداخلها كبديلٍ للانكسار والألم.
.................................................................
في جنح الليل، حين خفت حركة الأرجل بهذا الطريق المؤدي للمقابر، كان يسير متسللاً وهو يتلفت حوله؛ كأن هناك من يتربص به في الظلام، الاهتزازة المزعجة في هاتفه الموضوع بجيب بنطاله جعلته يبطئ السير، وينزوي خلف أحد الأشجار ليجيب على هذا الاتصال المنفر، بمجرد أن نطق بالتحية، جاءه صوت "فضل" المقيت يهزأ به:
-إيه يا عم الشيخ، كل ده عشان تخلص العمل؟ هما الأسياد غضبانين عليك ولا إيه؟
خرج صوته كهسيس الأفعى وهو يخبره:
-مش كنت مستني أما حد يموت ويدفن وتبقى تربته مفتوحة طازة.
سأله بسخريةٍ واضحة في نبرته:
-ها ولاقيت؟
بعد زفيرٍ مسموعٍ له أجابه:
-أيوه، مجمع كام عمل ورايح أدفنهم فيه.
علق في تهكمٍ سافر:
-كمان، يعني مش رايح مخصوص عشاني، أومال قابض مني شيء وشويات ليه؟!!
كاد الرجل أن يخرج عن شعوره، فارتفعت حدة الغضب في صوته وهو ينذره:
-"فضل"، احنا فيها، نفكنا من العمل ده وآ...
قاطعه متراجعًا:
-لأ خلاص، هي جت على دي ..
شتمه الرجل بصوتٍ خفيض للغاية، و"فضل" ما زال يكلمه:
-كمل يا شيخ، وطمني لما تدفنه.
بصبرٍ نافذ قال:
-طيب.
ثم ضغط على زر إنهاء المكالمة ليتابع سيره الحثيث وسط المزروعات حتى بلغ وجهته، مقابر البلدة. من جديد نظر حوله بنظراتٍ سريعة متوترة، قبل أن يتعجل في خطواته متجهًا نحو وجهةٍ بعينها، رأى أحدهم في انتظاره يلوح له بيده من مسافة بعيدة، وبالذراع الآخر يرفع مصباحًا لينير به الظلمة المنتشرة في المكان، أقبل عليه وهو يومئ برأسه. ما إن بات على بُعد بضعة خطواتٍ منه، حتى شعر بثقلٍ يجثم على كتفه؛ كأن أحدهم قد ضربه بعنفٍ عليه، تأوه في ألمٍ يخالطه الفزع الشديد، والتفت برأسه لينظر في هلعٍ إلى من تسبب في هذا، معتقدًا أن أشباحه لها كامل الدور في إرعابه، انتفض مرة أخرى مع الصوت الجهوري القائل:
-وقعت يا حلو.
بدأ وعيه في استيعاب ما يحدث، واختطف نظرات شاملة على من ظهروا أمامه، تساءل سريعًا وهو يحاول تبين ملامحهم القاسية:
-إنتو مين؟
ابتسم صاحب الصوت الأجش، وأخبره وهو يزيد من قبضته على كتفه:
-احنا الحكومة يا سيدي، وجايين نوجب معاك إنت والأسياد.
جف حلقه كليًا، وابتلع ريقه قائلاً بكذب:
-يا باشا أنا معملتش حاجة، جاي أقرى الفاتحة على روح حد قريبي.
رفع الضابط حاجبه للأعلى هاتفًا في استهجان متهكم:
-السعادي؟
رد عليه بتوترٍ:
-هو في مانع؟
أكد عليه بلمحةٍ من السخرية:
-أه طبعًا، وخصوصًا لما يكون معاك البلاوي دي.
ألقى بالكيس الصغير من يده، وتلعثم مدعيًا:
-دول مش .. آ...
دفعه الضابط بغلظةٍ قاسية من كتفه، ليرتد تلقائيًا للأمام وهو يخبره:
-بقولك إيه، احنا هنزعج الأموات؟ لينا قسم نتكلم فيه!
وقبل أن يبادر بالاعتراض أتاه صوت الضابط آمرًا:
-خدوه على البوكس.
حذره الرجل بصوتٍ مرتعش وهو يقاوم الاعتقال من القبضة الأمنية:
-اللي عملتوه ده مش هيعدي على خير.
أشــار الضابط بيده لأفراد قوته بالتحرك وهو ما زال يخبره بسخريةٍ هازئة منه:
-وماله، خلي عفاريتك توكلك محامي من عندهم عشان يطلعوك.
دمدم الرجل في غيظٍ وهو يسير مكبلاً بالأصفاد، ومنكس الرأس:
-منك لله يا "فضل"، عملك فقر زيك .............................. !!!
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا