مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثامن عشر من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثامن عشر
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثامن عشر
أخرج ورقة نقدية من حافظته أعطاها لعامل المقهى الذي أمده بكوبٍ آخر من الشاي، بعد أن منح جميع العاملين بداخل دكان ابن خالته ما ينقصهم من مشروباتٍ ساخنة. فرك "تميم" جبينه براحة يده لبضعة مراتٍ، ثم نظر بشرود إلى المارة قبل أن يتطلع إلى ساعة هاتفه المحمول. ما زال ماكثًا بالخارج كعادته، لا يعود إلا عند اللزوم، أو في وقت النوم، تجنبًا لأي محاولات للقاء بها ولو مصادفة، خاصة بعد أن عرف بتوليها مهمة تزيين المنزل من أجل مراسم عقد قران شقيقته به.
كان يقتله الشوق، ويعذبه البُعد عنها؛ لكن لا مهرب من الوفاء بعهوده، تحتم عليه إبقاء تلك المسافة إلى أن يشاء المولى، ويجمعهما سقف واحد. التفت برأسه نحو الجانب حين سمع صوت "هيثم" يناديه من مسافة شبه قريبة:
-"تميم"!
أشــار له بيده وهو يرد:
-تعــالى.
سحب مقعدًا وجلس إلى جواره متسائلاً بصوتٍ لاهث:
-إيه الأخبار؟
أجابه مستخدمًا يده في التوضيح:
-اتعملت توصيلات التلاجة، واتقفلت علبة الكهربا، يعنيي فاضل كام حاجة ونخلص.
ردد مبتسمًا في سعادةٍ:
-طب كويس، كتر خيرك يا ابن خالتي، ليل نهار متابع مكاني.
لوى ثغره متحدثًا بعد زفيرٍ بطيء:
-وأنا ورايا إلا كده.
حمحم "تميم" بعدها يسأله وهو يعقد ساعديه أمام صدره:
-وإنت الدنيا تمام معاك؟
أومأ "هيثم" برأسه قائلاً:
-أيوه.
سأله بنظراتٍ مترقبة:
-وريت جماعتك الشقة؟
كانت تعابيره مسترخية على الأخير وهو يجيبه:
-أه، الحمدلله عدت على خير.
امتدت يده لتربت على فخذه بربتة قوية معلقًا بابتسامة صغيرة:
-ربنا يباركلكم فيها، ويجعلها عتبة خير عليكم.
أمن عليه داعيًا:
-يا رب.
جاء عامل المقهى مرة أخرى ومعه كوب الشاي، وضعه أمام "هيثم" قائلاً بنبرة أليفة:
-شاي في الخمسينة للمعلم.
رد يشكره في ودٍ:
-تسلم يا "رزق".
انتظر ذهابه ليبدأ بعدها في توجيه الحديث إلى "تميم" بملامح مالت للوجوم:
-صحيح كان في حاجة عايز أقولهالك بخصوص الطاعون الأزلي قريب مراتي.
وكأن تعابيره قد حل عليها السواد، فبدا أكثر نفورًا وهو يتساءل:
-ماله البغل ده؟
ارتشف قدرًا من شايه، وأجابه بتأففٍ لا يخلو من الانزعاج:
-هو أنا مش متأكد، بس مراتي شاكة إنه يكون عامل لأختها عمل.
انتفضت كافة حواسه كأن عقربًا لدغه، وهتف بصوت أقرب للزئير من شدة غضبه:
-نعم! اتجن في عقله ده ولا إيه؟
لم يندهش "هيثم" من الثورة العارمة المستبدة بابن خالته، فهو مثله يمقته مقتًا شديدًا، وقد يتفق الاثنان معًا في ازدياد كراهيتهما له، أخرج هاتفه من جيب بنطاله، وعبث به قائلاً:
-استنى أوريك المنشور، ما أنا بعته ليا.
كور "تميم" قبضة يده ضاغطًا على أصابعه بغيظٍ مكبوت حتى ابيضت مفاصله، وما إن أمسك بالهاتف، ورأى ما احتل الشاشة حتى انفلتت منه سبة نابية يلعنه بها:
-ابن الـ ....!!!
ظن "هيثم" من فرط انفعال ابن خالته المرئي أنه سيحطم الهاتف في يده، فاستعاده منه، وقال بتحفزٍ واضح عليه:
-والصراحة أنا مش عاوز أفوتهاله.
بكل ما يستعر في صدره من غضب، وحقد، وغل، هب "تميم" واقفًا ليخبره بنظراتٍ مرعبة لا تبشر إلا بكل ما هو مخيف:
-ومين قالك إني هعديها.
انتبه ابن خالته في جلسته، يراقب ما يفعله وهو يخابر أحدهم، أنصت إليه عندما استطرد آمرًا:
-عايزك يا "ناجي" تجهزلي الرجالة في طلعة كده، تفضيهم لو مش فاضيين، سامعني.
بقيت أنظاره مسلطة عليه، و"تميم" يتابع مكالمته بنفس اللهجة الصارمة:
-استنى مني مكالمة تانية هاقولك تعمل إيه.
لم يلقِ التحية، وأغلق الخط ليشرع في الاتصال بأحدٍ آخر، تساءل "هيثم" في فضولٍ متحمس:
-إنت ناوي على إيه؟
اكتفى بالإشارة له بسبابته قبل أن يتحدث هاتفيًا بغموضٍ:
-أيوه يا أستاذ، عايزك في خدمة على السريع، بس ضروري تتقضى النهاردة.
جاءه صوت المحامي مُطيعًا:
-تحت أمرك.
انخفضت نبرته إلى حد كبير وهو يكمل:
-شوف يا أستاذنا...
في حين ردد "هيثم" مع نفسه بفضولٍ ما زال يتضاعف بداخله:
-شكلك هتولعها يا "تميم"!
........................................................
حتى لا تتكبد مشقة الذهاب والعودة، أقامت "فيروزة" عند شقيقتها خلال اليومين التاليين في غرفة الأطفال، ولم تمانع والدتها في المكوث أيضًا، وجاءت مع "رقية" لتقديم المساعدة للعروس المرتقبة. أصبح الجميع كخلية نحلٍ يتعاونون معًا من أجل تنظيف المكان، وإعداده للحفل العائلي الذي أصرت عليه "هاجر" عند عقد قرانها، بينما تمسك "سراج" برأيه في إقامة ليلة عرس كبيرة وقت زفافهما.
نهضت "آمنة" من على الأريكة بعد أن أنهت تطريز منديل عقد القران، وعرضته على العروس متسائلة:
-ها يا حبيبتي، أزود حاجة عن كده؟
تأملت ما صنعته يدها من إعادة تجميل المنديل القماشي السادة الذي ابتاعته "فيروزة" بشكلٍ رقيق وجذاب، ثم هتفت تشكرها في حبورٍ ممتن:
-الله، حلو أوي، تسلم إيدك يا طنط، دي حاجة حلوة أوي، أنا تعبتك معايا.
علقت قائلة بلطافةٍ:
-على إيه يا حبيبتي، دي حاجة بسيطة، أطلبي وأنا أعملك الحلو كله.
نظرت إليها بعينين مشرقتين وهي ترد:
-ربنا يخليكي.
طوت "آمنة" المنديل، وأكملت موضحة لها:
-ناقص بس يكوى عشان الكرمشة، وتثبيت الفصوص، هاطلع أفرده فوق عند "همسة"، وبالمرة أنيم "كوكي"، عينيها نعوست.
مع كلماتها الأخيرة كانت تنظر نحو الصغيرة "رقية" التي واصلت التثاؤب مرة بعد مرة، قبل أن تميل برأسها على مسند الأريكة العريض لتستريح عليه. ركزت "هاجر" نظرها عليها، وقالت في تعاطفٍ:
-حبيبتي، طول اليوم أعدة بـ "سلطان".
قالت "آمنة" ضاحكة، وهي تستحث الصغيرة على النهوض:
-دي فكراه لعبتها.
ردت عليها "هاجر" مبتسمة ابتسامة صغيرة:
-ربنا يبارك فيهم.
أومأت برأسها مرددة:
-يا رب.
ثم استدارت نحو ابنتها المنهمكة في تثبيت قماش الستان الأبيض المطعم بوردات بيضاء حول عمود الجرانيت الجانبي، وسألتها في اهتمامٍ:
-إيه الأخبار عندك يا "فيروزة"؟
كانت الأخيرة منحنية عليه وهي تجاوبها:
-أنا قربت أخلص، فاضل الحتة دي، ويبقى كله تمام.
هتفت "آمنة" قائلة في سرورٍ:
-على بركة الله.
ثم أتبعت كلامها بإطلاق بضعة زغاريد عالية ابتهاجًا بالمناسبة السارة، لتتوقف بعدها وهي تدعو:
-ربنا يتمم على خير.
جاءت إليها "ونيسة" وهي تحمل كومة من الثياب المطوية بعد أن انتهت من جمعها، لتهتف بضحكاتٍ قصيرة:
-أيوه بقى الزغاريط الحلوة.
تسابقت معها في ملء المكان بعشرات الزغاريد؛ وكأنهما تريدان للعالم بأسره أن يشاركهما الفرحة العارمة. غادرت "آمنة" المنزل، وبقيت ابنتها عاكفة على أداء عملها بكل إتقانٍ ودقة، بالإضافة إلى محبة خالصة؛ كأنما وجدت متعتها في إسعاد غيرها. انبهرت "ونيسة" بما تفعله، وأثنت عليها قائلة:
-نتعبلك كده نهار فرحتنا بيكي يا قمراية.
علقت عليها بتلقائية:
-أنا خدت حظي خلاص.
عبست "ونيسة" معاتبة إياها برفقٍ:
-ماتقوليش كده، كل حاجة ليها وقتها، وبعدين اقرصي "هاجر" في ركبتها عشان تحصليها في جمعتها.
علقت عليها "هاجر" بمكرٍ، وتلك الابتسامة العابثة تتراقص على محياها:
-من غير قرص يامه، ربنا هيعدلهلها مع حد يستاهلها بجد، وهتشوفي.
كانت الإيحاءات المبطنة، والتلميحات المتوارية تعزز ما راود عقلها مؤخرًا بشأنه تحديدًا، وإن جاهدت لإنكار شعورها المتزايد بداخلها؛ لكن هذا الإحساس العجيب الذي يغمرها ينبئها أنه المقصود، ولم تكن ممانعة، بل بدت مرحبة به بصورة استغربت منها، كأن الحجاب الحاجز الذي فصلها عن رؤية ما يضمره القلب لها قد تفتت، وأصبحت مشاعرها قابلة للتأثير. رسمت تعابير جامدة على وجهها، وقالت بلهجةٍ أرادت أن تكون جادة:
-طيب نسيبنا من حكاية جوازي دلوقتي، ونركز في الديكور.
بنفس الابتسامة العابثة ردت عليها "هاجر":
-ماشي يا حبيبتي.
انحنت "ونيسة" لجمع بعض البقايا غير الضرورية من على الأرض، ووضعتها بداخل صندوق صغير للمهملات كانت تستعين به "فيروزة" طوال عملها، حتى لا تسبب الفوضى في المكان، ثم اعتدلت واقفة لتقول بعدها:
-أنا هاروح أشوف جدك يا "هاجر"، ولو في حاجة نادي عليا.
رفعت رأسها إليها وقالت سريعًا:
-حاضر.
ثم أخفضتها مجددًا لتواصل لصق الورود الصغيرة، أعلى الهدايا المغلفة بورق السلوفان، حيث تُعدها لإعطائها للمدعوين بدلاً من الحلوى التقليدية. استطردت "فيروزة" متسائلة فجأة:
-بأقولك يا "هاجر" أنا عاوزة إبرة وخيط، محتاجة أتقل على الطرف ده، أخاف يفك.
دققت "هاجر" النظر في المفرش الذي تمسكه، وسألتها في توجسٍ:
-هو اللزق مش ماسك؟
حركت التطريز الموجود على الأطراف بخشونةٍ طفيفة وهي تخبرها:
-كويس، بس مضمنش يحصل إيه!
بحثت "هاجر" بعينيها سريعًا عنهما بين الأشياء الكثيرة الموضوعة قبالتها على الطاولة، ثم خاطبتها بعد لحظاتٍ:
-هما مش قصادي، يبقى أنا سيباهم على التسريحة في أوضة "تميم".
ذكر اسمه عفويًا أمامها جعل قلبها يقصف كأن الحرب اندلعت به، لم تكن هكذا من قبل! شعرت باندفاع الدماء إلى وجهها، حتمًا ظهر التورد في بشرتها، لم ترغب "فيروزة" بإظهار ربكتها الغريبة، وادعت انشغالها بضبط طرف المفرش؛ لكنها في نفس الآن اختلست النظرات نحو "هاجر"، تنفست الصعداء لكونها لم تلحظ تلبكها، وسمعتها وهي تقول ناهضة من مكانها:
-هاروح أجيبهم من الأوضة.
تقدمت بضعة خطوات نحو الردهة؛ لكن ما لبث أن توقفت فجأة عن السير، حينما سمعت صراخ رضيعها قادمًا من غرفتها، ليعلن عن استيقاظه بعد غفلة معقولة، غيرت في اتجاهها هاتفة في لوعة:
-يا حبيبي.
راحت تهدهده، ومع هذا لم يتوقف عن البكاء، فتساءلت في عبوسٍ مصطنع:
-إنت جعان يا قلبي؟
اتخذت مكانها على الفراش لتبدأ في إرضاعه، وصاحت بصوتٍ شبه مرتفع:
-معلش يا "فيروزة" هاتيهم إنتي، الأوضة إنتي عارفاها، أنا مشغولة مع "سلطان" شوية.
أتاها صوتها من الخارج محتجًا:
-بس أصل آ....
قاطعتها بنبرة حاسمة:
-مافيهاش حاجة، البيت فاضي، متقلقيش، بس عشان معطلكيش عقبال ما يرضع، هو مش هيسكت خالص.
لم تجد "فيروزة" بدًا من الرفض، وهتفت قائلة في استسلامٍ:
-طيب.
..................................................
على مِشنَّة من الخوص، فردت "سعاد" أرغفة العيش التي ابتاعتها عليها لتبرد، بعد أن أمضت ما يقرب من الساعة أمام المخبز تنتظر دورها لتحصل على حصتها منه، التفت برأسها نحو ابنها المنشغل بمشاهدة التلفاز وهو يستلقي واضعًا ركبته أمام صدره، تنهدت بزفيرٍ متهمل، وسألته بوجهٍ متعب:
-مش هتبعت قرشين لعيالك؟ قابلت جدتهم في الطابونة، وسألتني عن ده، الشهرية فاتت يجيلها مدة.
انتفض صارخًا بها بعصبيةٍ بعد أن أخفض ساقه:
-كمان، ده أنا أبقى مَرَة، وألبس طرحة على راسي لو عملت كده.
حملقت فيه مدهوشة، وعاتبته في استهجانٍ:
-ليه بس يا "فضل"؟ ده حقهم!
أصر على رفضه هاتفًا بتشنجٍ:
-ماليش فيه، وأخلى خيري لغيري ليه؟ يتفلقوا.
استنكرت قساوة قلبه، وعنفته دون أن ترتفع نبرتها:
-مش دول عيالك بردك؟ ده واجب عليك تصرف عليهم.
هدر فيها بخشونةٍ غير مراعٍ لمنزلتها:
-بمزاجي مش لوي دراع.
خاطبته بنفس النبرة غير المحتدة:
-وفين اللوي بس؟
أخبرها بحمئةٍ، وقد اشتاطت قسماته:
-لما الولية تكلمك ببجاحة كده وسط الناس عشان تكسفني، وتبقى عايزاني أدفع بالغصب، وأنا مش هعمل كده، ومش دافع.
ردت متسائلة في استنكارٍ أكبر:
-يعني عايز الناس تاكل وشنا؟
بسماجةٍ غير مبالية قال، وبصوتٍ غير منخفض:
-وياكلوا قفانا كمان ...
ثم استخدم يديه في الإشارة عندما تابع بسخطٍ:
-ما هما معاهم أد كده، ولا لقمة العيال هتضلعهم.
نظرت إليه في غير رضا؛ لكنه لم يكترث، وتابع تهكمه الساخر:
-ولا أقولك خلي عريس الغفلة يدفع هو؟ طالما شال، يبقى ياخد الشيلة كلها، ده على قلبه أد كده مكنزهم رزم فوق رزم.
قبل أن تهم "سعاد" بالاعتراض عليه أخرسها بترقيق نبرته ليبدو كالمغلوب على أمره:
-وبعدين يامه أنا محتاج كل قرش دلوقتي عشان أتجوز بيه، يعني لازمًا أمسك إيدي في المصاريف حبتين.
نكست والدته رأسها، وقالت في ضيقٍ:
-أنا مش عايزة حد يقول عنك بخيل يا ابني، الناس هنا لسانها وحش.
استفزه ذلك اللقب، فاهتاج مدافعًا عن نفسه:
-بخيل، فشرت عينهم، ما أنا بنزه نفسي أهوو ومش بستخسر فيها حاجة.
كان محقًا في اعترافه هذا، فدومًا يغدق على ملذاته، ومساراته بكل ما يوجد في جيبه؛ لكن مع غيره كان شحيحًا بدرجة واضحة. غير "فضل" مجرى الحديث، وانحنى نحو والدته يستميل رأسها بزيف الكلام المعسول:
-سيبك منهم، وشوفي هتخطبيلي "فيروزة" امتى يا حجوجة، ده إنتي الخير والبركة!
ردت في اقتضابٍ لم يشعره بالارتياح:
-ربنا يسهل.
.....................................................
نشوة عجيبة متحمسة أصابت بدنها كليًا حين وطأت غرفته، شعرت برائحته المميزة عالقة في جوها، كأنما تؤكد لها بشكلٍ غير مباشر أنها مملوكة له، ولدهشتها أحبت هذا الشعور، كانت مترددة بعض الشيء، تخشى التقدم داخلها، وقفت لهنيهة مستندة بيدها على إطار الباب، متحرجة من الإمساك بها وهي تتجول بأرجائها، وإن حازت –رغم هذا- على التصريح بدخولها، والتفتيش مجازًا في محتوياتها. تنفست بعمقٍ وملأت رئتيها بتلك الرائحة الندية، ثم أغمضت عينيها ليكتمل هذا الشعور الغريب –والمستحب- الذي استحوذ عليها.
خلال اليومين الماضيين كانت تتوق لرؤيته ولو مصادفة؛ لكنه كان كالغائب الحاضر، تتكرر سيرته أمامها، ومع هذا لا يظهر في محيطها، كم رغبت في التطلع إليه وهو يرمقها بتلك النظرات التي تحتويها وتدفعها لاختبار هذا النوع الجديد من الشعور، ذاك الذي أصبح يروقها. تلك المرة تأملت "فيروزة" محتويات غرفته على مهلٍ، كأنما تريد حفظ تفاصيلها، لم يكن إحساس الرهبة مسيطرًا عليها، وإنما كتلة من الأحاسيس الغريبة التي تدعوها لتذكر ما يخصه جبرًا، وأيضًا لم تكن ممانعة! استلذت هذه الرغبة النابعة منها.
وقعت عيناها على الكومود، وتحديدًا الدرج الذي اكتشفت فيه احتفاظه بمتعلقاته، واربت الباب إلا من فرجة صغيرة بعد أن ألقت نظرة سريعة نحو الخارج، وجدت ساقيها تتحركان من تلقاء نفسيهما نحو الكومود، امتدت يدها لتفتحه؛ لكنها تجمدت للحظاتٍ، ترددت في فعل هذا، وكأن ضميرها يعاتبها لاقتحام خصوصيته دون إذنٍ منه، غالب ترددها الفضول المستبد بها، لذا تشجعت وسحبت الدرج للخارج، فبرقت عيناها في صدمة جعلت حواسها تنتفض فرحةٍ، ما زالت مشابكها موجودة، ومنديل رأسها كذلك.
أحست ببهجة سارة للنفس تتفشى في أوصالها، وبخفقات طربة تصيب قلبها، ويا لهذا التماوج في المشاعر الرقراقة الجميلة التي بدأت تغلف كيانها! أعادت "فيروزة" غلق الدرج وهي غير مدركة أنها تبتسم ابتسامة أضاءت وجهها، وأضفت البهاء على نظراتها اللامعة. قررت ألا تزيد من فترة بقائها، يكفيها ما ظفرت به من شعور مريح وممتع، اتجهت نحو مرآة التسريحة لتفتش عن صندوق الخياطة الصغير. وجدته إلى جانب إطار صورة صغيرة تخصه، تلقائيًا أمسكت به، ورفعته نصب عينيها لتتأمل ملامحه المبتسمة بتدقيقٍ، مسحت بإبهامها على وجهه، وتساءلت مع نفسها بحيرةٍ:
-فيك إيه بيشدني ليك؟
سرعان ما انفلت الإطار من يدها بغتة وسقط على الأرض حين انفتح باب الغرفة على مصراعيه لتجده واقفًا عند عتبته مرددًا في صدمة تفوقها:
-إنتي ....................................... !!!
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا