مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السابع والعشرون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل السابع والعشرون
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل السابع والعشرون
بدت وكأن فراشات الحب تحلق فوق رأسها، فتوارت سريعًا عن الأنظار التي تلاحقها، خشية اكتشاف أمر قبولها غير المتوقع. اختبأت "فيروزة" وراء مكتبها، فجلست على المقعد، وتركت مهمة متابعة الزبائن وتلبية رغباتهم للفتاتين العاملتين معها. الزاوية الجالسة عندها لم تمكنها من رؤية "تميم" ومن معه، أمالت رقبتها لأكثر من مرة محاولة مراقبة ما يحدث؛ لنكها لم تتمكن رغم الفضول المستثار بها لتأمل تعابيره المبتهجة.
طردت الهواء من صدرها، وابتسامة نضرة تتراقص على ثغرها، يا ليت ذلك الشعور العارم بالفرحة يدوم للأبد! تحفزت في جلستها حين أقبلت عليها "همسة" تسألها بتطفلٍ:
-هو إنتي عملتي إيه يا "فيرو"؟
ادعت السذاجة، وردت متسائلة بنظراتٍ ثابتة:
-عملت إيه في إيه؟
سحبت المقعد من الجانب وألصقته بها خلف المكتب، وأجابتها على عجلٍ:
-عاملين على خالك رباطية كبيرة، والموضوع شكله يخصك.
استمرت "فيروزة" على ادعائها، وتساءلت:
-موضوع إيه؟ ويخصني إزاي؟
هزت كتفيها قائلة بتجهمٍ بسيط:
-ما أنا مش عارفة بالظبط، وعشان كده جاية أسألك.
ابتسمت في مكرٍ، ثم أجابتها بنظرة غامضة؛ لكنها مثيرة:
-شوية وهتعرفي.
زمت "همسة" شفتيها للحظةٍ، ثم دمدمت في حيرة:
-يا خبر بفلوس.
حافظت "فيروزة" على هدوئها الزائف، رغم الضجيج الثائر بداخلها، فالإقدام على مِثل تلك الخطوة الهامة في حياتها احتاجت لجهدٍ جهيد لاتخاذها، وها قد فعلتها!
...............................................
ساعد وجود بضعة مقاعد شاغرة إلى جواره على استقرار الجد "سلطان"، و"بدير"، ثم "تميم"، بعد اتفاقٍ سريع بين الثلاثة أولاً على مفاتحة خال العروس في مسألة خطبتها، ليكون طلبه وفقًا للتقاليد والأعراف المتبعة في مثل تلك المواقف الأسرية. جال "خليل" ببصره على وجوههم متسائلاً في تحيرٍ:
-خـ..ير؟
أجابه "تميم" ابتسامة أذابت ما اعتمر قلبه من لوعة سابقة:
-كل خير يا عم "خليل".
هتف "سلطان" قائلاً في حماسٍ:
-سمعونا الأول صلاة النبي.
ردد الجميع رغم تفاوت نبراتهم:
-عليه الصلاة والسلام.
أجلى "سلطان" أحبال صوته بنحنحة مسموعة، قبل أن يستأنف كلامه مخاطبًا "خليل" على مهلٍ وهو يشير بعينيه نحوه:
-شوف يا سيدي، حفيدي اللي قدامك ده، استخار ربنا، واتوكل عليه قبل ما يكلفني أفاتحك في موضوعه.
تحولت أنظاره نحوه قبل أن يرد بلعثمةٍ ملحوظة في نبرته:
-إنتو .. تـ..ؤمروا.
ابتسم الجد وهو يرد:
-الأمر لله وحده ...
ثم خاطب ابنه بلهجةٍ شبه آمرة؛ لكنها مازحة:
-ما تكمل إنت يا "بدير"، مش ابنك ده؟
أطلق "بدير" ضحكة قصيرة قبل أن يرد مبتسمًا:
-وده يصح يا حاج في وجودك، البركة فيك، ده إنت كبرنا.
كاد "تميم" أن يفقد صبره من المماطلة والمراوغة التي يقوما بها لإتلاف أعصابه، وقد انعكس هذا في نظراته العابسة نحوهما. عاد الجد ليتكلم في تريثٍ:
-ماشي .. احنا ملقناش أغلى ولا أعز من بنت أختك عشان حفيدي يتقدملها ويطلبها للجواز.
بديهيًا خمن عقله من المقصودة، ونطق لسانه باسمها، كأنما يفكر بصوتٍ مسموع:
-"فـ..فيروزة"؟
أومأ "سلطان" برأسه مؤكدًا:
-أيوه، هي اللي عليها العين والطلب.
في حين أضــاف "بدير" وهو يشير بيده:
-النهاردة بس مجرد فتح كلام، ونحدد معاك ميعاد مناسب نطلبها فيه رسمي حسب الأصول.
علق عليه والده مؤيدًا إياه:
-مظبوط، ما هو الأصول ماتزعلش حد.
ظهرت أمارات السعادة على وجه "خليل"، وأردف يخبرهم وهو يدور بنظراته على ثلاثتهم:
-احـ..نا نتشــ..رف بيكم.
رد عليه "تميم" في الحال، وقلبه يدق في لهفةٍ:
-الشرف لينا يا عم "خليل".
نظر إليه الأخير معقبًا بحذرٍ:
-بــ..س مش نـ..اخد رأيها الأول؟
هنا رد عليه "سلطان" مؤكدًا من جديد بتعابيره الجادة:
-طبعًا، ده لازم، هو في حاجة هتم من غير رضا العروسة؟ احنا نستأذن الحاجة والدتها تاخد رأيها، ولو ربنا رايد هنيجي نزوركم ونبل الشربات.
أراح صدره أجواء التفاهم السائدة، فالتفت برأسه للجانب لينادي على شقيقته:
-يا "آمـ..نة"!
جاءته الأخيرة سائرة بخطواتٍ شبه سريعة، نظرت إليه في استرابةٍ، قبل أن تسأله، وعيناها تتحركان على وجوه عائلة "سلطان" المحاوطة له:
-أيوه يا خويا.
تكلم ببطءٍ ليوضح لها:
-الحـ..اج "ســ..لطان"، والحـ..اج "بــ..دير" عاوزين يـ..خطبوا "فيروزة".
بمجرد أن سمعت نهاية جملته تبددت كافة مخاوفها السابقة بشأن احتمالية إلغاء "تميم" لعرضه، بدت قسماتها في تلك اللحظة تشع بالسرور، كما لو أنها حظت بالجائزة الأولى في اليانصيب، فهللت تلقائيًا في فرحةٍ كبيرة:
-يا نهار أبيض!
بالكاد منعت نفسها من إطلاقا الزغاريد ابتهاجًا بالنبأ السار، وحاولت السيطرة على انفعالاتها السعيدة وضبطها قدر المستطاع. استدارت "آمنة" برأسها نحو "بدير" عندما خاطبها:
-معلش يا حاجة هنتعبك معانا، تشوفي رأي العروسة إن كانت مرحبة عشان نمشي تبع الأصول.
هزت رأسها بالإيجاب قائلة:
-أيوه يا حاج "بدير"، هاروح أسألها.
شدد "سلطان" رافعًا سبابته نحو وجهها:
-على جمب كده، عشان ماتتحرجش.
قالت في طاعة:
-حاضر.
أدار "سلطان" وجهه نحو حفيده هامسًا له:
-ربنا يجعلها من نصيبك.
رد "تميم" بنفس الخفوت، وبابتسامة متسعة على الأخير:
-يــــا رب.
استمر أربعتهم في الحديث عن بعض التفاصيل الخاصة بالعمل في العموم، إلى أن أقبلت عليهم "هاجر" تاركة جانب النسوة، لتتساءل في فضولٍ وهي تميل نحو والدها:
-في إيه؟
بوجه بشوش وصوتٍ منخفض جاوبها "بدير":
-أخوكي نوى والنية لله إنه يتجوز.
برقت عينا "هاجر" في دهشة لا تخلو من فرحة، وسلطت كامل نظراتها على شقيقها متسائلة في مكرٍ عابث:
-مين يا ترى؟
ضيق "بدير" عينيه معقبًا بصوته الخفيض:
-يعني مش عارفة؟
ضحكت في تسلية قبل أن تعلق:
-لأ، بس حابة اتأكد.
هنا تكلم "تميم" في غيظٍ طفيف ظاهر على ملامحه:
-هي يا أم العريف.
حالة من الانتشاء والرضا غمرتها، لذا لم تمنع نفسها من تحرير زغرودة سعيدة لأجله، مما جعل الأنظار الفضولية تتجه نحوهم لمعرفة سببها. عاتبها "تميم" في نظرة صارمة وهو يكز على أسنانه:
-يا بنتي لسه، مافيش حاجة رسمي.
مازحته في استمتاعٍ وهي ترمقه بتلك النظرة المتسلية:
-ده أنا بزغرط لافتتاح المحل.
انضمت إليهم "ونيسة" بعد أن رأت ما فعلته ابنتها في العلن، مررت عينيها على أسرتها متسائلة في استغرابٍ:
-في إيه يا جماعة؟
اقتربت "هاجر" من والدتها، وأخبرتها في أذنها بعبارات موجزة بهذا الخبر السعيد، سرعان ما انعكست آثاره السعيدة على كامل وجهها، حينئذ التفتت ناظرة إلى ابنها بكل محبةٍ، وهتفت تسأله لتتأكد من صحة الأمر:
-بجد؟ خلاص يا ضنايا نويت؟
رد بهزة سريعة من رأسه:
-أيوه يامه ...
وقبل أن تستمر "هاجر" في استفزازه بأسلوبها العابث، هتف محذرًا وهو يقصدها تحديدًا بكلامه:
-نهدى بقى يا جماعة، ونستعين على قضاء حوائجنا بالكتمان، عشان الناس بدأت تبص علينا.
ردت وهي تبتسم ملء شدقيها:
-خلونا نفرح ونفرح الحبايب.
رمقها بتلك النظرة الجادة وهو يخبرها:
-هيحصل بس ننول الرضا الأول.
..................................................
تحركت حدقتاها مع إشارة الإصبع المرفوع أمام وجهها، والمصحوب بصوت تحذيرها الصارم بعدم الهبوط عن الرصيف، والاستمرار في اللهو بجانب مدخل الدكان، أومأت "رقية" برأسها في انصياع واضح لعمتها قبل أن تستأنف لعبها المرح مع مثيلاتها من بنات الجيران، في حين هرولت "آمنة" للداخل متجهة إلى ابنتها الجالسة وراء مكتبها هاتفة في حماسة متزايدة:
-يا "فيروزة"!
توقعت الأخيرة سبب لهفتها الواضحة، وحافظت على ثبات ردة فعلها، نظرت إليها متسائلة ببرودٍ؛ كأنها لا تعلم عن الأمر شيئًا:
-خير يا ماما؟
بينما تابعت "همسة" الحوار بينهما في بدايته بفتورٍ وغير اهتمام. واصلت "آمنة" التقدم حتى أصبحت مجاورة لها لتميل ناحيتها مرددة بلهاثٍ بائن في صوتها:
-عرفتي يا حبيبتي إن ابن الحاج "بدير" طالبك للجواز.
هنا شهقت "همسة" ذاهلة، وسلطت أنظارها المصدومة على توأمتها متمتمة في عدم تصديق:
-مش معقول؟ "تميم"!
استدارت ناظرة إليها بغموضٍ، وهذا السؤال الغريب ينطلق في عقلها، لماذا ينطق الناس بأسماء غيرهم دون ألقابٍ في حين يتعذر عليها هذا؟ أم أن للمسألة علاقة بالحب؟ حينها مجرد ترديد حروف الاسم على اللسان يعد كجهاز كشف لدرجات العشق في العاشق نفسه! انتبهت "فيروزة" لصوت والدتها المُلح عليها:
-ها يا بنتي رأيك إيه؟ الجماعة عاوزين يتقدموا رسمي، بس مستنين رأيك وموافقتك.
لم تعطها الجواب المباشر، وردت متسائلة ببرود أحرق أعصاب والدتها المتلهفة شوقًا لإتمام هذه الزيجة العظيمة:
-وخالي رأيه إيه؟
أخبرتها بتعابير احتوت على علامات القلق والترقب:
-هو اللي قال مش هيرد غير لما يسمع موافقتك الأول.
صمتت للحظاتٍ تتطلع إليها في هدوءٍ، أراحها قرار خالها الذي حافظ على حرية اختيارها، وفي نفس الوقت عزز من مكانتها، تنهدت مليًا قبل أن يأتيها ردها مصحوبًا ببسمة صغيرة ناعمة:
-قولي لخالي يتفضلوا في أي وقت.
لم تتمالك "آمنة" نفسها، ومالت على ابنتها تضمها إلى صدرها وهي تهتف في فرحةٍ شديدة:
-حبيبتي يا بنتي، ربنا يتمم على خير، صبرتي ونولتي.
ابتعدت عنها لتسرع في خطاها نحو الخارج حتى تُعلمه بقرارها السار، بينما حاوطت "همسة" شقيقتها بذراعها مرددة في حبورٍ كبير:
-الله! أنا فرحانة أوي عشانك يا "فيرو"، إنتي تستاهلي كل حاجة حلوة.
ثم تفرست في وجهها ورأت فيها لمحة من الغرور والثقة، فرفعت حاجبها للأعلى تسألها بنظرة متشككة:
-بس قوليلي، إنتي كنتي عارفة قبلها؟
هزت رأسها تجاوبها في ابتسامة ماكرة:
-يعني، حاجة زي كده.
قهقهت ضاحكة في سعادةٍ، لتردد بعدها بما يشبه الإعجاب:
-طول عمرك مش ساهلة يا "فيرو"!
أصوات أبواق السيارات الصادحة خارج الدكان، جعلت الأنظار كلها تتجه إلى حيث مصدر هذه الضوضاء الصاخبة. وضعت "فيروزة" يدها على ذراع شقيقتها تستحثها على النهوض بقولها، وعيناها تنظران نحو الحشد الذي زاد في تجمهره:
-تعالي نشوف في إيه.
.................................................
التعليمات كانت بسيطة ومحددة، تكليفه بابتياع اثنين من أجود أنواع المواشي وبمواصفات معينة من أجل ذبحها، وتوزيع لحمها على الفقراء، بعد الاتفاق مع أمهر الجزارين ومساعدين للقيام بهذه المهمة. نفذ "هيثم" المطلوب منه، وعاد إلى الزقاق في عربة ربع نقل تتبع المزرعة التي اشتراهما منها، وما إن بلغ وجهته حتى ارتفع صوت بوق السيارة ليعلن عن وصوله.
كان "سراج" في طريقه أيضًا لحضور الافتتاح، بعد أن أبلغته "هاجر" بمكانها، أراد إشباع عينيه من رؤيتها، والاطمئنان على صغيرها. استقبلته الأخيرة ببسمة مشرقة، وخفضت من رأسها في خجلٍ، خاصة حينما غازلها بالقرب من أذنها:
-وحشاني يا حتة من قلبي.
تصنعت الضيق، وقالت في عتابٍ، وهي تنظر إليه من الجانب:
-حتة بس؟
وضع يده على رضيعها يمسح على وجهه بحنوٍ ورفق وهو يخبرها:
-ما الباقي للصغنن اللي إيديكي الحلوة شايلاه.
توردت خجلاً من معسول كلماته الذي قلما سمعته، وحذرته بتوترٍ انعكس عليها:
-طب بس بقى لرجالة العيلة يعلقوك.
سرعان ما تطلع أمامه ليلقي نظرة خاطفة عليهم، ولحسن حظه كانوا منهمكين في تفقد البهائم، استقام واقفًا، وخاطبها بتلك النظرات العبثية المترقبة:
-هانت، كلها كام يوم ويتقفل علينا باب، وأقولك أحلى كلام.
ابتعدت عنه "هاجر" لتأنى بنفسها من هذا الحرج الذي يزيدها تلبكًا ويرضي مشاعرها كأنثى.
......................................................
أثناء لهوها الطفولي، لم تصغِ "رقية" للتعليمات على أكمل وجه، لعبت الغميضة مع بقية الفتيات والأولاد، وهبطت عن الرصيف لتختبئ خلف واحدٍ من الأكشاك المغلقة، كررت الأمر لبضعة مرات بعد أن اعتادت على الذهاب والمجيء بمفردها وبغير خوفٍ مثلهم؛ لكنها توقفت مع البقية عن ممارسة ألعابهم الطفولية لينظروا إلى ما يوجد أعلى عربة النقل. تركزت أنظارها مع "تميم" الذي أقبل على أحد الأشخاص يأمره:
-بالراحة وإنت بتنزل العجل، وخليه واحد ورا التاني.
جاءه رد الرجل بنبرته الجافة:
-ماشي يا ريسنا.
حانت منها التفافة جانبية تلقائية نحو صراخ أحد الأطفال المرتفع، لتعاود التحديق بعدها في عربة الربع نقل وما فيها وهي ما زالت واقفة في مكانها، تراقب ما يحدث في اهتمامٍ وفضولٍ غريزي.
أثناء محاولة إنزال مساعدي الجزار للثور الضخم، كان الواقف خلفه يدفعه بخشونة وهو يلوي ذيله على كف يده ليؤذيه بلا رحمة فيحثه على التجاوب معه، والهبوط عن العربة؛ لكن الألم الصارخ في مؤخرة جسد الثور جعله يتخذ موقفًا دفاعيًا، فركل مُعذبه في صدره بقدميه في عنفٍ واضح، ليندفع هابطًا عن العربة بما يشبه الهجوم مما جعل الحاضرين يصرخون متفرقين في فزعٍ.
جحظت عينا "رقية" في ارتعابٍ شديد، وقد رأت هذا الثور الحانق ينحرف عن مساره ليتجه إليها، تجمدت كالصنم في مكانها، غير قادرة على الحركة، لتطبق بعدها على جفنيها بقوةٍ متوقعة أن يصدمها في أي لحظة.
..............................................
مثلها مثل غيرها، تحركت نحو المدخل الخاص بدكانها، لترى ما الذي يتسبب في تهليل الناس وصياحهم .. تمكنت "فيروزة" من اختراق الصفوف المتزاحمة، والوقوف عند المقدمة، لتتابع إنزال رأسي الماشية من العربة، استرعى انتباهها سؤال والدتها التلقائي:
-البت "كوكي" فين؟
حينها توقفت عن المتابعة وأخذت تفتش عنها بعينين متوجستين وسط الواقفين. البقاء ساكنة والنظر فقط لن يكون كافيًا، تحركت "فيروزة" بغزيرتها المنطلقة بداخلها للبحث عنها، وجدتها تقف عند بقعةٍ شبه خاوية لترى كالآخرين هذا الحدث المشوق. تنفست الصعداء، والتفتت تخبر والدتها:
-لاقيتها يا ماما.
وضعت "آمنة" يدها على صدرها ولسانها يلهج بالشكر:
-الحمدلله يا رب، خوفت تكون تاهت ولا حاجة.
أسرعت "فيروزة" في خطواتها متجهة إليها، شعرت بالرضا عن حالها، لكونها قد انتقت في تلك المناسبة كنزة بيضاء فضفاضة، لترتديها على بنطالٍ أسود من القماش، حتى يمنحها حرية وخفة في الحركة؛ لكنها خلال سيرها المتعجل التفتت تنظر بنظراتٍ ضيقة مليئة بالترقب والخوف إلى الثور الغاضب الذي ثار على محتجزيه بثورة عارمة.
قصف قلبها في رهبةٍ من المشهد الخاطف للأنظار، وركضت نحو ابنة خالها ترفعها من خصرها بعيدًا عن مرمى هذا الحيوان الثائر، لتختبئ بها عند هذا الكشك الجانبي. تفرق الحشد الفرح في كل اتجاه، وتحول المتجمهرون إلى أفراد يركضون في عشوائية، ومرتاعين من اهتياج الثور. في تلك اللحظة، بدا وكأن الثور قد اشتم رائحة خوفهما ليتجه إلى حيث تقفان، فارتفع صراخهما المذعور.
وسط حالة الهرج والمرج، اندفع رجال عائلة "سلطان" نحوهما، الأسبق في الوصول كان "تميم"، حيث توقف أمامهما، يزود بجسده عنهما، ثم فرد ذراعيه صائحًا بما يشبه الزئير، لطمه في جانبه بصفعة قاسية، مما أجبر الثور على تغيير اتجاهه، وهنا حاوطه كلاً من "هيثم"، و"سراج"، من الناحية الأخرى ليتمكن الجزار المخضرم من التقاط الحبل الذي يطوق عنقه، ويشده منه، ليتجمع حوله مساعديه وينجحوا في طرحه أرضًا، وتكبيل قدميه الخلفيتين لئلا يتمكن من النهوض وتكرار هذا الهجوم الغاشم.
صاح الجزار بعد أن تم استعادة السيطرة على الموقف، وضبط مجريات الأمور:
-عاش يا رجالة.
نهره "هيثم" في غلظة وتشنج:
-كنت هترتاح لما تقلب بكارثة؟
أجابه بسماجةٍ وهو يربت على ظهر الثور بقوةٍ:
-ده دايمًا بيحصل معانا في المدبح.
وبخه "تميم" من مكانه بصوتٍ غاضبٍ للغاية:
-ده عندك في المدبح مش في قلب الشارع!
من زاويتها الضيقة، ورغم الذعر الذي ما زال منتشرًا بأوصالها، إلا أن "فيروزة" لم تمنع نفسها من النظر إلى "تميم" بهيئته الشامخة، وإبداء إعجابها بشجاعته المغلفة برجولة تدعو للفخر، أحست في تلك اللحظات المفعمة بالأدرينالين أنها كانت تُعايش موقفًا خطرًا، ربما قد تراه معروضًا على شاشة التلفاز، أو مكتوبًا في إحدى الروايات؛ لكنها استبعدت أن تكون بطلته، على ما يبدو منحها القدر ذكرى جديدة تثبت لها أنه جديرٌ بها!
تأملت عن هذا القرب ما ارتداه من تيشرت يميل للون الأزرق الفاتح، سرعان ما التصق بعضلات جسده ليبرزها أكثر، جراء المجهود العنيف الذي بذله في أقل من دقائق، كان اختياره متماشيًا مع بنطالٍ جديد من الجينز، لوهلةٍ اكتشفت أنه بسماته تلك يبدو وسيمًا بشكلٍ خطير، له طريقته الغامضة في جذبها إليه. رمشت بعينيها في تلبكٍ عندما استدار ناحيتهما ليتساءل في لهفةٍ وخوف، ويداه موضوعتان أعلى منتصف خصره:
-إنتو كويسين؟
أومأت برأسها قبل أن تجيبه:
-أيوه.
انسلت "رقية" من حضنها، لتركض ناحيتها وهي تخبره بعفوية من بكائها الطفولي:
-كان هيموتنا.
رفعها بذراعه إليه، وأعطاها قبلة صغيرة على وجنتها وهو يمسد بيده الأخرى على شعرها المتناثر، ليؤكد بعدها كنوعٍ من بث الطمأنينة في نفسها الجزعة:
-متخافيش طول ما أنا موجود.
مع نهاية جملته، كانت كامل عينيه مرتكزة على وجه "فيروزة"، منحها ابتسامة عذبة وهو يرى تلك النظرة المليئة بالانبهار تتلألأ في قطعتي الفيروز، لعقت الأخيرة شفتيها متسائلة في لعثمةٍ خفيفة:
-مش كان ممكن يهجم عليك ويموتك؟
تأكد من إبقاء نظراته الثابتة على وجهها، وهو يخبرها بلا ترددٍ، وعن صدق مستبد التشكيك فيه:
-وارد، بس مايهمش طالما إنتي هاتكوني في أمان وبخير.
نفذت كلماته المحملة بأعمق مشاعره إلى داخل قلبها، وانتشرت فيه كما ينتشر اللون الزيتي في إناء من الماء ليحتله، هكذا اقتحم كيانها، وأوجد لنفسه مكانًا في روحها، بأفعاله قبل أقواله! لم تشعر "فيروزة" بشفتيها وهما تلتويان لتشكلا ابتسامة امتلأت ببهجة مُغرية بعثت النشوة في جوارحه، وأكدت له أن اجتماعهما تحت سقف واحد بات وشيكًا .. للغاية .............................................. !!
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا