مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثالث والثلاثون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثالث والثلاثون
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثالث والثلاثون
الظروف الاقتصادية، والتغيرات الطارئة قد تبدل من طريقة تفكير الفرد، خاصة إن كان اتكاليًا، غير معتادٍ على ممارسة أي دور فعال، لذا يبحث عن الوسائل المضمونة والأكثر سهولة لتوفيق أوضاعه، وربما لجني المال دون خسارة فعلية لما بحوزته، معتمدًا في هذا على خبراته، سواء كانت تلك الخبرات محدودة أو على نطاق أوسع.
بالنسبة لها شراء المصوغات المصنوعة من الذهب –تحديدًا- يعني ارتفاعًا مؤكدًا في قيمته بمرور الزمن، فإن احتفظت ببعض القطع لعدة سنوات، حتمًا ستجني ربحًا معقولاً في حال فكرت في بيعها في يومٍ ما، أو عند الحاجة، لذا لم تكترث "آمنة" إن انزعجت ابنتها من طريقة تفكيرها المُعدلة، فهي الآن المنوطة بالتصرف في كل شيء، كما أن ما ورثه "فيروزة" عن زوجها الراحل قد ترفض المساس به لسببٍ تجهله، كأن بهذا الميراث لعنة غريبة، ولن تقبل بالتصرف فيه بسهولة إن اضطرت لهذا.
في تلك اللحظات تحديدًا جال بخاطرها تصرفات "حمدية" في هذا الشأن، وما كانت تفعله لاكتناز المال وجمعه بكل السبل، لوهلةٍ تمنت أن تكون في مثل دهائها؛ لكنها كانت محدودة الفكر، فقيرة الخبرات.
رسمت "آمنة" ابتسامة ودودة على ثغرها، والتفتت تخاطب "ونيسة" في تهذيبٍ، بعد أن نفضت عن عقلها كل هذا التفكير المرهق:
-والله يا حاجة الناس كلها تشهد بأخلاق "تميم"، يا زين ما ربيتي.
لم تكن مُضيفتها متصنعة وهي تخبرها بصدقٍ:
-تسلمي يا حبيبتي، إنتو برضوه ولاد أصول، وحتى لما حصل سوء تفاهم بسيط بين الولاد، إنتي مخلصكيش.
على إثر جملتها الأخيرة، استحضرت "آمنة" على الفور في ذهنها ما حدث بينهما قبل أشهر من تبادل اتهامات في قسم الشرطة عقب حريق عربة الطعام المملوكة لـ "فيروزة"، تلبكت، وارتفع الأدرينالين المتحفز في دمائها، وأخذت تبرر بلعثمةٍ بائنة نسبيًا:
-آ.. أكيد يا حاجة، ده زي ما إنتي قولتي .. كان سوء تفاهم، والحمدلله راح لحاله، ودلوقتي بقينا أكتر من الأهل.
مدت "ونيسة" يدها وربتت على كفها المسنود في حجرها لتقول في لطفٍ دون أن تفتر بسمتها:
-ربنا يديم المعروف بينا.
رددت في عجالة:
-يا رب، ويحفظهم ويبعد عنهم عين الحسود ...
توقفت لهنيهة عن الكلام لتستأنف بعدها مغيرة من الموضوع:
-بس فكرة كويسة إن أهل الحتة يشوفوهم سوا.
أيدتها "ونيسة" في الرأي، وعقبت:
-أيوه، بكده يعرفوا إنهم اتخطبوا، وقريب هيتجوزوا.
دعت في رجاءٍ شديد، ويداها قبل عينيها مرفوعتان للسماء:
-ربنا يجمعهم على خير.
..............................................
التخبط الدائر في رأسها بين ما تريده، وما ترفضه كان على أشده، فانعكست آثاره على تعبيرات وجهها، حين خرجت "فيروزة" متلكأة من مدخل بيتها، خفق قلبها في توترٍ عندما رأت "تميم" واقفًا عند جانب السيارة؛ لكن ما لبث أن استعادت جأشها والسيطرة على انفعالاتها لتبدو كلوحٍ من الجليد. مشيت ناحيته، وبادرت بإلقاء التحية دون لهفةٍ حقيقية:
-سلام عليكم.
بالكاد نظر إليها قبل أن يتحرك من مكانه بعد أن جذب مقبض باب السيارة وهو يرد:
-وعليكم السلام.
لم تخرج "همسة" في التو، تعمدت التأخر ريثما ينصرفوا بالسيارة، فلا تضطر للمجيء معهم، وتفسد باقي خطة والدتها في التقريب بين عروسي المستقبل. حل العبوس على وجه "فيروزة" وقد رأت تعامله الجاف معها، حقًا كان اللقاء بينهما خاليًا من الدفء، بدا أقرب للجفاء، الفتور، والتقليدية البحتة.
استنكرت ترتيب جلسة السيارة، لتستقر في المقعد الوحيد الشاغر إلى جواره، غمغمت مع نفسها في تبرمٍ:
-أل يعني طايق يقعد جمبي!
ولتغيظه عن عمدٍ، قبل أن تستقل السيارة، أطلت برأسها من النافذة المجاورة لأمها، لتلقي التحية على والدته بألفةٍ غير زائفة:
-إزي حضرتك يا طنط؟ ما تتفضلي قدام، مايصحش تقعدي هنا.
ردت عليها "ونيسة" بضحكة بشوشة:
-أنا الحمدلله في نعمة، ومبسوطة وأنا قاعدة هنا، خليكي إنتي جمب عريسك.
تلك الكلمات العفوية أطلقت إشارة احمرار بشرتها، كأنها تتحين الفرصة لتتلون بتلك الصبغة التي لطالما كانت تجهلها إلا حينما تغدو معه. أجلت "فيروزة" أحبال صوتها، وردت بابتسامةٍ خفيفة:
-عادي يا طنط، المقامات محفوظة، وحضرتك لو آ...
قاطعتها تلك المرة "آمنة" قائلة بنظرة ذات مغزى:
-يالا بنتي اركبي، مش عايزين نأخر الجماعة.
مع معرفتها بنواياها الخفية، خبا اللون تدريجيًا من بشرتها، لتغدو أقل توردًا وهي تعلق موجزة في طاعة غريبة:
-حاضر يا ماما.
واصلت كلاً من "ونيسة" و"آمنة" الحديث بعفوية واسترســال ضاحك طوال الطريق، كأنما يستعيدان ذكريات الماضي بحواراتهما المقتضبة والمختلفة، بينما ســاد الصمت بين "تميم" و"فيروزة"، كأنهما قد أصبحا من الغرباء فجأة، تباعدت عنهما المشاعر، وحلت محلها الروتينية والفتور. استاءت "فيروزة" من هذا اللقاء المتجافي الخالي من أي ودية، حميمية، أو حتى تعابير اللهفة، كذلك يئست من محاولته استدراجها للكلام، خاصة عندما اختلست النظرات ناحيته من طرف عينها، ووجدته يصب كامل تركيزه على الطريق، حركت شفتيها دون صوتٍ:
-ماله ده كمان؟
التوت زاوية فمها ببسمة تهكمية وهي تواصل حديث نفسها، خلال مطالعتها للطريق من جانبها:
-ما هو مش معقول غاصبين عليه يتجوز؟!
تحفزت في جلستها، وتصلبت عندما امتدت يده فجأة للأعلى لتخفض المرآة العلوية وهو يخبرها في هدوءٍ:
-عشان الشمس متضايقش عينيكي.
كالبلهاء تطلعت إليه للحظاتٍ، في نظرات متسعة، مصدومة من اهتمامه الغريب بتفصيلة صغيرة كتلك، هي نفسها لم تكترث بها! بدا صوتها متحشرجًا بشكلٍ ما وهي ترد في اقتضابٍ:
-شكرًا.
حاولت ألا تعطي الأمر أكبر من حجمه، وأدارت رأسها للخلف متسائلة:
-أومال فين "هاجر" يا طنط؟ مش كان المفروض تيجي معانا.
ردت "ونيسة" وبين شفتيها ابتسامةٍ صغيرة:
-عقبالك كده يا حبيبتي مع "سراج" بيشوفوا الستاير، وبيشتروا النجف.
عقبت "آمنة" في حبورٍ:
-ما شاءالله، ربنا يهنيهم سوا.
تحرجت "فيروزة" من عفويتها، وحافظت على ثبات بسمتها وهي ترد:
-ربنا يسعدهم.
التفتت مرة واحدة عندما سألها "تميم" بغتةً:
-في محل دهب معين عايزة تروحيه؟
عندئذ تذكرت حديث والدتها المقيت، عن شراء الأكثر وزنًا من الحُلي الذهبية، وإن كان الاتفاق بين العائلتين نص على شراء ما يُعادل في قيمته مائة ألف جنية، إلا أنها لم تحبذ هذا الشعور المنفر بأنه يتم شرائها بالمال لا بالمشاعر. رمقته بتلك النظرة المزعوجة قبل أن تخبره بوجومٍ:
-لأ، عادي أي مكان.
اقترحت "ونيسة" من خلفها:
-ودينا عند الصايغ معرفتنا، أكيد هيعمل معانا الواجب.
سألتها "آمنة" بنظرة مستفهمة:
-مضمون ده يا حاجة؟ أصل ساعات بنسمع عن اللي بيغشوا الدهب ويبيعوا الصيني على إنه دهب أصلي.
أكدت عليها في جديةٍ:
-ده مضمون، وبنتعامل معاه من زمان.
استحسنت اختيارها، وردت في إيجازٍ:
-خير ..
لم تنتبه "آمنة" لنظرات ابنتها الحانقة المرتكزة عليها، وتمتمت في خفوتٍ:
-مش فارقة صيني من غيره!
..........................................
مقاومة النظر إليها، والادعاء بأنها غير موجودة، تطلب منه استخدام أقصى درجات ضبط النفس، ليبدو في حالةٍ من الثبات العجيب في حضرة بهائها الساحر. بين الفنية والأخرى، كان يسرق نظرة إليها، يحاول قراءة ما تنم عنه تعابير وجهها الواجمة، من المحتمل أن يكون قد طرأ أمر ما عليها، تنفس "تميم" بعمقٍ، وسأل نفسه:
-يا ترى إيه اللي ضايقها تاني؟
تحير في معرفة الجواب المناسب، وحاول الالتهاء عن سؤالها بالتطلع إلى الطريق، ومراقبة حركة المرور بتعاسة عجيبة حطت عليه، إلى أن بادرت بالحديث مع والدته، فأحس برنة صوتها تخترق فؤاده وتُحدث ضجيجًا به، هنالك شعر بحتمية كسر حاجز الجمود بينهما، وشارك في الحوار بحذرٍ، لئلا يفلت لجام سيطرته على مشاعره؛ لكن ردودها كانت مقتضبة، بالكاد تجاوبت في حديثها، كأنما تستصعب الكلام معه.
لم ينكر أن هذا أصابه بالإحباط والضيق، وغالب بجهدٍ هذا الشعور، باحثًا عن بارقة أمل قريبة تبدد ما فات من مشاعر سلبية مزعجة زحفت إليه. وجد لسانه يردد في عفويةٍ بصوتٍ شبه مسموع:
-خير إن شاءالله.
تفاجأت به "فيروزة" ينطق بذلك بعد صمتٍ طويل، فسألته مستفهمة:
-نعم؟
لم ينظر ناحيتها وهو يرد:
-مافيش.
سألته ساخرة بشفاه ملتوية:
-هو إنت بتكلم نفسك؟
تصنع الابتسام وهو يرد:
-حاجة زي كده.
تطلعت أمامها وهي تكلمه:
-أوكي.
اختطف نظرة سريعة ناحيتها فوجدها لا تنظر إليه، لفظ الهواء ثقيلاً من رئتيه، وردد في خفوتٍ:
-يا رب يسر ولا تعسر.
.....................................................
حركت قدمًا أمام الأخرى بتباطؤٍ وهي تتجه نحو باب المنزل لتفتحه، برزت حدقتاها في غير تصديقٍ حين رأت ابنها واقفًا عند عتبته، بغريزتها التلقائية اندفعت "سعاد" ناحيته لتحتضنه في لهفةٍ وشوق، قبلت كتفه ورددت في صوتٍ خافت؛ كأنما تخشى سماع أحدهم لها:
-وحشتني يا ضنايا.
قال "فضل" وهو يقبل أعلى رأسها:
-وإنتي أكتر يامه ...
دققت النظر فيمن جاء خلفه، وتراجعت عن ابنها لترحب به:
-إزيك يا حاج "فتحي"؟
رد عليها الأخير وهو يومئ برأسه:
-بخير يا "أم فضل"، "إسماعيل" عندك؟
هزت رأسها بالإيجاب، فتابع بصيغةٍ شبهه آمرة:
-طب قوليله إني عاوز أشوفه.
قالت بإيماءات صغيرة من رأسها:
-حاضر.. اتفضل.
استضافته في منزلها، وذراعها يحاوط ابنها، سرعان ما انتشرت فيها رجفة متوترة عندما سمعت زوجها يتساءل من الداخل:
-مين يا "سعاد"؟
بلعت ريقها، وأجابت بوجهٍ تحول للشحوب:
-ده الحاج "فتحي".
رد عليها بنفس النبرة العالية:
-خليه يتفضل ..
وقبل أن تتكلم كان "فتحي" الأسبق في قوله:
-أنا مش لوحدي يا "إسماعيل".
جاءه ترحيبه الكريم:
-أهلاً بيك وبضيوفك.
تقدم "إسماعيل" نحو البهو الفسيح للترحيب بزائريه؛ لكن حلت الصدمة على قسماته بمجرد أن أبصر ابنه يقف إلى جواره، قست نظراته ناحيته، وأظلمت تعابيره بشكلٍ واضح. استند "فتحي" بكفيه على رأس عكازه، وقال في هدوءٍ:
-ده مش ضيف، ده ابنك "فضل".
أشاح "إسماعيل" بوجهه بعيدًا عنه، وهسهس في حنقٍ:
-استغفر الله العظيم، جايبه ليه معاك يا "فتحي"؟
وضعت "سعاد" يدها على صدرها متوقعة حدوث الأسوأ، في حين استمر "فتحي" على هدوئه وهو يقول:
-عشان يصلح اللي عمله!
ثم استدار يأمر "فضل" وهو يشير إليه بعينيه:
-حِب على راس أبوك، واستسمحه.
دون نقاشٍ تحرك "فضل" مندفعًا نحو أبيه، أمسك بكفه عنوةٍ بين راحتيه ليجذبه إليه، وانهال يقبله معتذرًا:
-حقك عليا يابا، سامحني يا حاج، ده أنا من غيرك ولا حاجة.
سحب "إسماعيل" يده في عصبيةٍ، رافضًا هذا الأسلوب السخيف للضغط عليه، وأصر على موقفه هاتفًا:
-وأنا مش عايزك في داري، غور من هنا.
ظل "فضل" محنيًا على ذراع والده يتوسله:
-سامحني يابا.
نبذه بقبضته بعيدًا عنه -بعصبيةٍ واضحة- وهو يرد:
-ماتقربش مني!
اعتدل "فضل" في وقفته، ونظر إلى "فتحي" بنظراتٍ حائرة، فتدخل الأخير قائلاً:
-يا "إسماعيل" ماتحبكش الحكاية، هو غلطان من ساسه لراسه، بس عمر الضفر ما يطلع من اللحم.
جاءه رده قاسيًا وهو يلوح بذراعه:
-لأ بيطلع لو كان فاسد.
كرر "فضل" اعتذاره النادم له، وهو ينكس رأسه في خزيٍ:
-أني محقوقلك يابا، اعمل فيا ما بدالك، بس ارضى عني.
لم تتجرأ "سعاد" على النطق بشيء؛ لكن نظرات الاستجداء الظاهرة في عينيها أكدت رغبتها الشديدة في نجاح تلك الوساطة، وإنهاء الخصام، ليعود ابنها إلى المنزل، تركزت أنظارها مع "فتحي" الذي استمر قائلاً:
-هو طالب السماح منك.
بوجهٍ ذي تعبيرات مكفهرة أخبره "إسماعيل":
-ربنا وحده اللي بيسامح.
وافقه الرأي، فقال في تريثٍ:
-مظبوط، ربنا غفور رحيم، بس العفو عند المقدرة ...
ثم تقدم خطوتين نحوه، وتابع باقي كلامه بكلماتٍ موحية:
-مش ده كلامك يا "إسماعيل" لينا على طول؟ هتبخل بيه على أهل بيتك؟
احتج عليه في تبرمٍ:
-يا "فتحي" آ...
قاطعه في نبرة لينة:
-أني المرادي بتوسطله عندك، إيه هتكسفني؟
ظهر الحرج على قسماته التي خبت قسوتها نسبيًا، واستطرد يخبره:
-إنت مقامك محفوظ عندي، بس هو مايستهلش.
علق عليه بهدوءٍ:
-وخلاص خد جزاته، وعِرف غلطه، وبقى عِبرة وسط أهل البلد، خلينا نوجهه يعمل الصح.
هتف معقبًا في تهكمٍ:
-بعد ما شاب ودوه الكتاب؟ أني جبت أخري منه، هستنى إيه تاني؟
أكد عليه "فتحي" بإصرارٍ:
-المرادي برقبتي، وأني مردتش ليك كلمة قبل كده!
لم تستطع "سعاد" كبح نفسها تلك المرة، فهتفت تتوسله بعينين تترقرق فيهما الدموع:
-وافق يا حاج، خصيمك النبي لتوافق، هو خلاص تاب وأناب.
ألح عليه "فضل" هو الآخر متسولاً مشاعره:
-بالله عليك يابا، حقك عليا، أنا هبقى تحت رجليك، مطرح ما تحطني ما هنطق.
سئم من كل هذه المحاولات للضغط عليه، وردد بتنهيدة طويلة:
-لا حول ولا قوة إلا بالله.
تفرس "فتحي" في ملامح وجه رفيقه، وحين لم يجد منه رفضًا واضحًا، هتف آمرًا:
-خش يا "فضل".
استوقفه "إسماعيل" قبل أن يتحرك برفع عكازه في الهواء وهو يتساءل:
-ولو غلط؟
لاحت ابتسامة واثقة على محياه وهو يرد:
-أني بنفسي هكرشه برا البيت.
لم يعلق عليه "إسماعيل"، واكتفى بالنفخ في سقمٍ، لم يبالِ "فضل" بتأففه، وتشجع للدخول، لتلحق به والدته والفرحة تقفز من عينيها، في حين استأذن بعدها "فتحي" بالذهاب، واصطحبه رفيقه للخارج ليدمدم بعدها بغير رضا:
-ديل الكلب عمره ما يتعدل لو حطوا فيه قالب!
...................................................
تباطأت سرعة السيارة تدريجيًا، عند انحرافها لناصية الشارع الخاص بأشهر محال تجار الصاغة. بحث "تميم" بعينيه عن بقعة خاوية؛ لكنه لم يجد واحدة متاحة، لهذا التفت برأسه مخاطبًا والدته:
-انزلوا إنتو هنا يا ست الكل، وأنا هشوف حتة فاضية أركن فيها، وأحصلكم.
ردت عليه "ونيسة" وهي تستعد للترجل عنها:
-ماشي يا ابني، ربنا يسلم طريقك.
تساءلت "آمنة" في فضولٍ:
-هو المحل قريب من هنا؟
أجابتها في تلقائية وهي تشير بيدها:
-أيوه، عند العمارة اللي هناك دي.
هبطت "فيروزة" عن السيارة، وملامحها خالية من الابتسام، ضغطت على شفتيها في ضيقٍ ملحوظ، وتحركت بخطواتٍ غير متحمسة خلف والدتها و"ونيسة"، إلى أن توقفت الأخيرة بالقرب من أحد المحال، رفعت ذراعها لتشير إليه قائلة:
-المحل أهوو.
تأملت "آمنة" واجهته بنظراتٍ مبهورة، وانعكس بريق الذهب المغري في حدقتيها، تدلى فكها للأسفل للحظاتٍ قبل أن تلعق شفتيها وتقول مادحة:
-ماشاءالله، باين عليه شغله العالي.
ردت عليها "ونيسة" في ودٍ:
-إن شاءالله تلاقي العروسة اللي يعجبها فيه.
هتفت في حبورٍ شديد يشوبه الانبهار:
-بإذن الله، ده مافيش أحلى ولا أفخم من كده ...
ثم أدارت رأسها للخلف، وصاحت في ابنتها المتأخرة بضعة خطواتٍ عنهما:
-تعالي يا "فيروزة".
غمغمت في صوتٍ متذمرٍ بالكاد خرج من جوفها:
-هو أنا هروح فين.
رعشة خفيفة أصابتها حين سمعت صوته يأتي من ورائها متسائلاً:
-اتأخرت عليكم؟
وجدت نفسها ترد من تلقاء نفسها:
-لأ.
لامت نفسها لتسرعها، ولم تظهر ذلك على وجهها، وسارت بنفس الخطوات البطيئة، إلى أن لاحظت من طرف عينها أنه يسير تقريبًا إلى جوارها، لم تتعجل السير، وتبادر إلى ذهنها فكرة ما، تعمدت التلكؤ أكثر بعد أن لمحت والدتها تختفي خلف والدته عندما وصلتا إلى باب المحل الزجاجي، استدارت كليًا فجأة لتستوقفه قائلة بجديةٍ تامة:
-عايزاك في كلمتين يا معلم.
توجس "تميم" خيفة من ملامحها الغامضة، لم تكن تعبيراتها تنم عن دلال أنثوي، أو حتى رقة لطيفة، بل كانت أقرب للجفاء، تقطب جبينه، وسألها وهو ينظر إليها في حذرٍ:
-أؤمري يا أبلة.
لم يظهر عليها بادرة تردد وهي تخبره:
-أنا مش عايزة شبكة!
حملق فيها مدهوشًا، وصاح مستنكرًا دون أن ترتفع نبرة صوته:
-إيه الكلام ده؟
خاطبته في تزمتٍ:
-اللي سمعته، هي الحكاية مش شاروة ومين هيدفع أكتر، أنا كل اللي محتاجاه حاجة بسيطة، يدوب دبلة وخاتم وخلاص.
رمقها بنظرة مستاءة من سوء تفسيرها للأمور، فحبه لها أسمى من أن يقدر بحفنة من الأوراق النقدية؛ وإن كان يملك من الثروة ما يخوله لشراء ما يريد وقتما يريد. حافظ على جمود تعابيره، وعلق معترضًا في خشونةٍ طفيفة:
-بس ده مكانش الاتفاق.
أتاه تبريرها صريحًا:
-صح، وأنا مش هاخد حاجة زيادة لمجرد الاستعراض وعمل شو قصاد الناس.
مجددًا أساءت الظن فيه، لذا عاتبها في ضيقٍ لم يخفه:
-وهو أنا مستني أعمل كده؟
صمت للحظةٍ قبل أن تعلل أسبابها التي بدت منطقية من وجهة نظرها:
-معرفش، بس أكيد الرقم الضخم اللي محطوط عشان الشبكة تتجاب بيه هيعمل اللازم، مش شرط منك، بس الناس بتتكلم!
عقب عليها بتعقلٍ وهو يحاول مُهَاودتها:
-وبرضوه الناس مش لازم تعرف بكل تفصيلة عننا، مايخصهمش.
ضغطت على شفتيها قليلاً كأنما تفكر لهنيهة في كلامه قبل أن تصر على رأيها:
-معاك في ده، بس هيشوفوا الحاجة، وأنا عن نفسي محبش أجيب حاجة مش هلبسها.
بعد زفيرٍ بطيء ألح في عنادٍ:
-بس دي هديتي ليكي.
تمسكت برفضها قائلة:
-وأنا مقدرش أقبل حاجة معرفش أردها.
لمحة من التبرمٍ سادت صوته عندما هتف محتجًا على عِنادها الغريب:
-وأنا مش عايزك ترديها.
لم تلين رأسها أو نبرتها وهي تقول بغير تساهلٍ:
-وأنا مش هقبلها.
وجد "تميم" أن جداله معها لن يصل به سوى إلى طريقٍ مسدود، لهذا حاول حل تلك المعضلة بدبلوماسية:
-طيب .. هنشوف الموضوع ده لما ندخل جوا.
همَّ بالتحرك؛ لكنه استوقفته مجددًا بقولها الغامض والمستريب:
-حاجة تانية.
رغم الضجر المستبد به حاليًا، إلا أنه حافظ على ثبات نبرته وهو يتكلم:
-اتفضلي.
لاح التردد في صوتها حين استطردت تخاطبه:
-أنا .. كنت عاوزة آ...
سألها في حذرٍ، وقد توقع أن يكون القادم غير مُرضٍ له:
-إيه؟
رمشت "فيروزة" بعينيها قبل أن تلفظ الكلام دفعة واحدة:
-عاوزة نأجل كتب الكتاب شوية.
هنا ارتفعت نبرته المستهجنة وهو يردد في صدمةٍ حطت على رأسه فأصابته بالعصبية:
-نعم؟ إيه الكلام ده؟!!
علت نبرتها هي الأخرى وهي تحاوره:
-أيوه، أنا مش مستعدية نفسيًا، وحابة أخد وقتي في التفكير، من غير ما حد يضغط عليا، إيه الغلط في كده.
سحب "تميم" نفسًا عميقًا، حبسه للحظات في صدره، ليثبط به ما تصاعد بداخله من دماء ثائرة، ثم طرده على مهلٍ ليسألها بوجهٍ شديد الوجوم:
-والتأجيل ده أد إيه كده؟
هزت كتفيها قائلة بعدم مبالاة استفزته نسبيًا:
-معرفش لسه، بس أهم حاجة ميكونش في استعجال.
سدد لها نظرة مغتاظة، لم يخبئها حتى، وانعكس الكدر على ملامحه أكثر. رفعت "فيروزة" حاجبها للأعلى، وسألته في جديةٍ:
-ها قولت إيه؟
لم يحد بنظراته القوية عنها، ولاذ بالصمتِ لبضعة ثوانٍ قبل أن يخبرها في غموضٍ:
-ماشي كلامك .. بس بشرط.
عقدت حاجبيها مغمغمة في دهشة:
-شرط!
اخشوشنت نبرته قليلاً وهو يقول:
-أيوه .. اشمعنى أنا مقولش رأيي؟ المفروض احنا بنتشاور سوا، ولا أنا غلطان؟
أطلقت زفرة سريعة، وشبكت ساعديها أمام صدرها، ثم سألته بنبرة بدت شبه مستخفة بشرطه:
-اتفضل .. إيه هو شرطك؟
كان حازمًا في صوته قبل ملامحه عندما أوضح لها:
-طالما هتأجلي كتب الكتاب لحين ما يأذن ربنا يبقى نكمل نص دينا على بعضه.
وكأن كلماتها لم تكن بالوضوح الكافي لتستوعب تفسيره شبه المتواري، لذا لوت فمها تسأله:
-مش فاهمة، إيه قصدك؟
نظر في عينيها بعمقٍ وثبات، كما لو كان يفرض سطوته عليها بتلك النظرات المفعمة بالذكاء، ليلقي على مسامعها بعدها موضحًا بابتسامة صغيرة:
-يعني هيبقى كتب كتاب ودخلة مع بعض، ماشي يا أبلة ....................................... ؟!!
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا