مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثانى والأربعون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثانى والأربعون
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثانى والأربعون
صناعة الذكريات الرائعة لا تحتاج سوى لأناسٍ يجيدون إدخال السعادة على النفس، بطرقٍ بسيطة غير مصطنعة أو متكلفة. وجدت "فيروزة" نفسها تتأمل المشهد من حولها، بعد أن صعد الجميع واحدًا تلو الآخر إلى السطح لينضموا للبقية، مررت نظراتها على "هاجر" وهي تشاكس رضيعها، ومن خلفها زوجها الذي يستحثه على مواصلة السير بمفرده، ثم انتقلت ببصرها نحو "ونيسة" ووالدتها، حيث جلست الاثنتان قريبتان من بعضهما البعض تثرثران في حماسٍ وألفة.
حركت عينيها نحو خالها، فرأته يلوح بيده خلال حديثه مع "بدير"، والجد "سلطان"، لم تُبقِ نظرها عليهم كثيرًا، فتابعت التحرك بحدقتيها نحو توأمتها الجالسة في ركنٍ منزوٍ مع زوجها بالقرب من حافة السور. تنهيدة سريعة حررتها من صدرها لتعاود التطلع إلى "تميم" وهو يلاعب الصغيرة "رقية"، أمعنت النظر إليه أثناء لهوه العفوي معها، أطالت في تأملها كأنما تمنح خيالها الفرصة لحفر ملامحه في أعماقها، أمسك بها وهي تنظر إليه بهذه الطريقة، فراحت تظهر ابتسامة لطيفة على وجهه وهو يسألها:
-في حاجة؟
تداركت نفسها، وأبعدت نظراتها الحرجة عنه، لتحدق في الأفق الممتد أمامها وهي تدعي بلجلجة طفيفة:
-لأ، ده أنا بشوف بتعملوا إيه مع الطيارة.
لف الخيط حول معصمه ليجذب الطائرة الورقية قليلاً، وأجابها وهو ما زال محافظًا على ابتسامته العذبة:
-الخيط جامد، مش هيتفك بالساهل.
هزت رأسها وهي تعقب بإيجازٍ:
-كويس.
استراحت "فيروزة" بساعديها على حافة السور، وتابعت حوارها الهادئ معه:
-تعرف دي أول مرة الكل يتجمع هنا على السطح.
نظر إليها "تميم" مدهوشًا، وتساءل بنبرة مهتمة:
-بجد؟ إنتو مابتطلعوش تقعدوا هنا؟
هزت رأسها نافية بعد زفيرٍ سريع:
-لأ، قليل أوي ..
ظهرت لمعة حزينة في مقلتيها وهي تكمل مسترسلة:
-كان زمان أيام بابا الله يرحمه، بس بعد كده بطلنا، ويدوب لو في غسيل كتير عاوز يتنشر، أو سجاد يتحط عشان ينشف.
أشار بيده الطليقة معلقًا:
-ده المنظر من هنا تحفة، حرام ماتستغلوش المكان.
بقيت أنظارها مسلطة على أمواج البحر المتلاطمة وهي ترد:
-فعلاً.
خفق قلبها بتوترٍ عندما سمعته يضيف عن قصدٍ:
-إن شاء الله نبقى نوضبه سوا.
التفتت ناظرة إليه في عينين ضيقتين، فصحح مبتسمًا:
-كلنا يعني.
بادلته الابتسام برقةٍ وهي تقول:
-إن شاءالله.
.....................................................
نغزات متفرقة انتشرت في أسفل ظهرها، وأنحاءٍ متفرقة من جسدها، حاولت التغاضي عن مقدار الألم الذي تشعر به يأتيها من وقتٍ لآخر، ولم تبدِ أي شكوى لأحدهم، خاصة حينما سكنت أوجاعها إلى حد ما. عند ذلك الجانب الهادئ، فضَّلت "همسة" المكوث مع زوجها المنزعج، بعيدًا عن البقية، لئلا يلاحظ أحدهم مدى الضيق الظاهر على محياه، رغم عدم تصريحه العلني بهذا. نظرت إليه في مودةٍ، واستطردت تسأله:
-أجيبلك حاجة تشربها؟
زجرها محتجًا في حدةٍ رغم خفوت صوته:
-هو إنتي عاوزة تفضلي كده نازلة طالعة؟ ارحمي نفسك شوية، وارتاحي.
حاولت الابتسام وإخفاء الألم عن وجهها، وقالت في لطفٍ:
-يا حبيبي أنا عاوزاك تكون مبسوط.
رد عليها بنفس التعابير المتجهمة:
-هابقى مبسوط لما أمك تخف عنك شوية، حرام اللي بتعمله فيكي ده، ما تراعي حالتك شوية.
وجدت صعوبة في التنفس بانتظام، وبدأ الشحوب في الزحف على وجهها، مع ظهور ذلك العرق البارد، وتجمعه عند جبينها. سحبت شهيقًا طويلاً، لفظته على مهلٍ، وراحت تكلم زوجها بتريثٍ:
-معلش يا "هيثم"، ما إنت عارف الظروف، ولازم أكون معاها، وإيدي بإيدهم.
دمدم بغضبٍ من بين أسنانه:
-الكلام ده لما تكون بطنك فاضية، مش قربتي خلاص تولدي.
كانت منهكة الملامح وهي ترد:
-هانت.
علق في تبرمٍ، وقد تحولت نظراته نحو الطريق:
-والله شكل موال أختك ده مش هيخلص.
حاولت مجاراته في الحديث بنفس النبرة الهادئة؛ لكن النغزات عادت لمهاجمتها، قاومت شعور الألم، ورجته في مودةٍ:
-"هيثم"، قولنا إيه؟ بلاش تخليني أزعل.
أطبق بيده على فمه بعد أن غمغم سريعًا:
-أديني قاعد ساكت أهوو.
تقوست شفتاها عن بسمة راضية حين عقبت عليه:
-تعيش يا حبيبي.
أخذت "همسة" تسحب أنفاسًا عميقة، تحبسها للحظةٍ قبل أن تطلقها من صدرها، لعلها بهذا تثبط من الوخزات الحادة التي عادت للنيل منها، حمدت الله أن زوجها نهض من جوارها ليجري مكالمة هاتفية، وإلا لرأى ما أصابها، ونالت القليل من تقريعه المستاء، وإن كان محقًا في معاتبتها. انتبهت لصوت "رقية" القادم من جانبها وهي تناديها:
-"هموسة".
استدارت ناحيتها، وتساءلت في حنوٍ:
-أيوه يا "كوكي"، عايزة حاجة؟
أجابتها وهي تشير بيدها نحو الأسفل:
-عاوزة الكورة.
أفسحت لها المجال لتمر، فانحنت "رقية" لتلتقط الكرة الصغيرة الخاصة بالرضيع "سلطان"، والتي انحشرت إلى جوار المقعد، لاحظت الماء المنسكب من بين قدمي ابنة عمتها، فاعتدلت واقفة، وتساءلت في فضولٍ حائر:
-إيه المياه دي؟
ضاقت عينا "همسة" بشكٍ، وردت على سؤالها بتساؤلٍ متحير:
-مياه إيه يا حبيبتي؟
أخبرتها الصغيرة بعفويةٍ:
-تحتك.
على الفور تحولت أنظار "همسة" إلى الأسفل، واعتلت الدهشة تعابيرها، لتتساءل بعدها في استغرابٍ:
-إيه ده صحيح؟
للحظة نظرت إلى كوب مشروبها المسنود على الحافة، وقالت في نفس اللهجة الحائرة:
-أنا مكبتش حاجة.
عندئذ ضربتها وخزة عنيفة جعلت أنة متأوهة تنفلت من بين شفتيها:
-آه ..
وقفت "رقية" تتطلع إليها في توجسٍ، وسألتها بعفويةٍ:
-إنتي كويسة.
كتمت "همسة" تأويهة متألمة أخرى، ودارت بيدها على بطنها المنتفخ تتحسسه في رفقٍ. عاد إليها "هيثم"، وشملها بنظرة فاحصة قبل أن يسألها في خيفةٍ معكوسة على وجهه:
-مالك يا "هموس"؟ حاسة بإيه؟
أطبقت على جفنيها، وأجابته بصعوبةٍ:
-مش عارفة، بس في مغص جامد أوي، وحاسة بوجع رهيب في ضهري.
ظن أنها تعاني من آثار إرهاق اليوم، لهذا عنفها في ضيقٍ:
-أنا قولت من الأول إنك في الآخر هتتعبي.
انسابت دفعة من المياه بغتةً من بين ساقيها؛ كما لو أن أحدهم سكب شيئًا بقوة، مما جعل كلاً من "هيثم" و"رقية" يتراجعان للخلف كردة فعلٍ تلقائية، ليتساءل بعدها الأول في قلقٍ أكبر:
-يا ساتر، إيه ده كمان؟
صرخة مليئة بالألم انفلتت من جوفها، يتبعها استغاثة صريحة:
-إلحقني يا "هيثم"، أنا شكلي بولد، آآآآه.
بصوتها المرتفع لفتت "همسة" الأنظار إليها، وأكد على وجود خطب ما صياح "هيثم" المستنجد:
-الحقونا يا جماعة.
هرولت "فيروزة" ركضًا نحو توأمتها تناديها في هلعٍ:
-"همسة"!
بينما نهضت "آمنة" واقفة لتردد بجزعٍ:
-بنتي.
في أقل من دقيقة حاوط الجميع "همسة" التي كانت تتلوى وتصرخ بألمٍ واضح، أسندتها "فيروزة" من جانبٍ، وتولى "هيثم" الجانب الآخر لحثها على السير، في حين تحركت "آمنة" من خلفهما تدعو في رجاءٍ شديد:
-جيب العواقب سليمة يا رب، دي كانت كويسة وبخير.
قالت "ونيسة" مفسرة ما يحدث معها:
-شكلها ولادة يا "آمنة".
صرخت "همسة" مجددًا، وتوقفت عن السير، وقد انحنت بجسدها للأمام، واضعة يدها أسفل بطنها، كأنها تخشى سقوطه، لم يستطع "هيثم" تحمل رؤيتها تتألم بهذا الشكل، فلف ذراعه حول خصرها، وانحنى ممررًا ذراعه الآخر من أسفل ركبتيها ليحملها، وهو يردد على مسامعها:
-متخافيش يا "همسة"، إن شاء الله تعدي على خير.
هتف "بدير" يأمر ابنه في جديةٍ:
-جهز العربية يا "تميم" بسرعة تحت البيت عشان ننقلها على المستشفى.
هز ابنه رأسه في طاعة، بينما اقترح "سراج" في تهذيبٍ:
-وأنا هاخد الحاج "بدير"، والحاج "سلطان" معايا في العربية.
استوقفت "آمنة" ابنتها الأخرى، وأملت عليها أوامرها في لهفةٍ:
-"فيروزة"، انزلي بسرعة تحت هاتي شنطة الولادة بتاعة أختك، هتلاقيني حطاها جمب الدولاب بتاعي، جبيها وحصلينا على المستشفى، وخدي "رقية" معاكي.
أومأت برأسها قائلة وهي تسرع في خطاها:
-على طول.
لم يتوقف لسان "آمنة" عن الدعاء وهي تهبط الدرج:
-عديها على خير يا رب.
ارتفع الصراخ طوال مسافة النزول للأسفل، تشنج جسد "همسة"، وتعلقت بذراعها حول عنق زوجها تشكو له:
-آآآه، مش قادرة.
لم يعرف بماذا يجيبها، بذل قصارى جهده لنقلها إلى السيارة، وضعها بالمقعد الخلفي، واستقرت "آمنة" إلى جوارها، وهي تخبرها:
-امسكي نفسك يا حبيبتي، كلها شوية ويشرف ابنك بالسلامة.
تحرك "هيثم" ليجلس سريعًا إلى جوار ابن خالته، فضغط الأخير على دواسة البنزين لينطلق بالسيارة نحو المشفى، وقلبه قبل عقله متروكٌ لدى وليفه الذي لم يأتِ معه.
.................................................
مر الوقت بطيئًا للغاية عليه، كأن الثواني ترفض أن تمضي، ذرع "هيثم" الردهة الممتدة أمام غرفة العمليات جيئة وذهابًا في توترٍ مختلط بالخوف، تعلق قلبه بزوجته المحتجزة بالداخل، وأحس بالمزيد من الخوف يتسلل إليه مع شعوره ببطء مضي الزمن، حاول الجلوس إلى جوار الجد "سلطان"، فلم يمكث سوى لدقيقة أو أكثر بقليل، لينتفض واقفًا بعدها وهو يتساءل في قلقٍ:
-هما اتأخروا جوا كده ليه؟
رفع الجد رأسه لينظر إليه، وأخبره بيقينٍ واضح في صوته:
-إن شاءالله خير، اطمن يا ابني، احنا كلنا هنا وبندعيلها.
تضرع "هيثم" مناجيًا المولى، والخوف يعتصر فؤاده:
-يا رب كملها على خير، يا رب تقوم بالسلامة.
في الركن المقابل، وعلى المقاعد المعدنية، أخذت "آمنة" تقول بما يشبه النواح:
-مكانش لا على البال ولا على الخاطر إنها تولد النهاردة، ده احنا كان لسه ميعادنا مع الدكتور الأسبوع الجاي، عديها على خير يا كريم.
طمأنتها "ونيسة" الجالسة إلى جوارها بقولها الهادئ:
-ربنا لما يأذن، إن شاءالله تطلع من جوا، ونطمن عليها.
ركزت "آمنة" نظرها للأعلى، وراحت تزيد من دعائها:
-يا رب اجعلها ساعة سهلة من عندك.
رغم أن الرواق عج بأفراد العائلتين، إلا أنه لم يبصرها بين المتواجدين، بدت وكأنها قد اختفت عن المشهد بعد أن أحضرت الحقيبة للمشفى، توتر "تميم" من اختفائها، وشعر بالسخافة إن تطرق لسؤال أحدهم عنها، سحب هاتفه من جيبه، وتردد في الاتصـال بها، بيد أن القلب حسم الأمر بإجراء المكالمة؛ لكن قوة إرسال الشبكة لم يسعفه، فقد تعذر عليه إتمام الاتصال. زفر في سأمٍ، وأدار رأسه نحو الطبيب الذي ظهر لتوه في منتصف الممر، ليستمع إليه وهو يتساءل عاليًا:
-لو سمحتوا فين زوج المريضة؟
هرول "هيثم" ناحيته مرددًا بصوتٍ مليء باللهفة والخوف:
-أيوه أنا.
أخبره الطبيب ببرودٍ:
-عاوزينك تحت في الحسابات شوية.
حدجه "هيثم" بنظرة نارية، فقد توقع أن يطمئنه عن وضع زوجته، لا أن يطلب منه الذهاب وهو في تلك الحالة المنزعجة، تدخل "تميم" عارضًا خدماته:
-خليك إنت هنا يا "هيثم" جمب مراتك، وأنا نازل تحت.
لم يكن في حالٍ جيد يسمح له بالاعتراض أو الرفض، بل إنه تقبل عرضه بترحابٍ واضحٍ:
-طيب .. يبقى كتر خيرك يا "تميم".
ربت ابن خالته على كتفه قائلاً في ودٍ:
-على إيه يا ابني، ده احنا إخوات.
ربما في انصرافه فرصةً للتواصل معها، لهذا لم يتلكأ في سيره، وابتعد عن الردهة، متجهًا نحو طريق المصعد، ويده تعبث بشاشة الهاتف.
............................................
حملته قدماه نحو المصعد؛ لكن لصدمته وجدها جالسة عند المقاعد المعدنية المرصوصة في البهو الخاص بهذا الطابق. قفز قلبه فرحًا، وحاول تهدئة انفعالاته السارة برؤيتها ليبدو هادئ الملامح. دنا منها "تميم"، كانت مغمضة العينين، ومنكسة الرأس، تدفن وجهها بين كفيها، استقر في هدوءٍ حذر في المقعد الشاغر بجوارها، سمعها تردد في خفوتٍ:
-يا رب احفظها، يا رب ما تضرنا فيها.
أمن عليها في صوتٍ خفيض:
-أمين يا رب العالمين.
انتبهت "فيروزة" لوجوده، واعتدلت في جلستها لتنظر إليه بوجهٍ مطبوع عليه باللون الأحمر آثار أناملها الضاغطة عليه، بادر بسؤالها في استغرابٍ مهتم:
-إنتي هنا؟ ليه مش موجودة مع الجماعة هناك؟
لم تجبه، وسألته في قلقٍ لا يمكن إنكاره:
-في جديد؟ عرفتوا حاجة؟
هز رأسه نافيًا وهو يخبرها:
-لأ لسه، بس إن شاءالله خير.
أراحت "فيروزة" ظهرها للخلف، وضمت يديها معًا لتسندهما في حجرها أعلى حقيبة يدها، صمتت لهنيهةٍ قبل أن تستطرد قائلة؛ كأنما ترغب في مشاركته مخاوفها الدائرة في عقلها:
-أنا خايفة أوي على "همسة"، قلبي مش مطمن، شكلها كان تعبان أوي، واحنا مخدناش بالنا منها.
ودَّ لو استطاع محاوطتها من كتفها، وأخذها إلى صدره ليضمها، علَّها تشعر خلال ضمته القوية بالأمان والاحتواء، تنهد سريعًا، وقال بعد لحظة من التفكير:
-أول ولادة بتبقى صعبة.
لم تتوقع رده، فضحكت في عفويةٍ، وسرعان ما دخلت في نوبة ضحك غريبة، جعلت عيناها تدمعان بشكلٍ غريب، ومع هذا لم يقاطعها "تميم"، بل إنه استمتع برؤيتها هكذا، وظل يراقبها في سرورٍ، حاولت "فيروزة" التوقف عن إطلاق الضحكات؛ لكنها استصعبت إيقافها، وقالت بقهقهة مصاحبة لكلامها:
-إنت بتكلم زي ماما على فكرة.
رفع ذراعه ليمرره أعلى رأسه، وقال بابتسامةٍ صافية:
-ما أنا مش عارف أقول إيه، وبعدين كنت بسمع أمي تقول كده.
نظر "تميم" إليها ملء عينيه، وأضاف في حبٍ لا يتمكن من إخفاء علاماته:
-المهم عندي إنك إنتي بخير.
نجحت في السيطرة على نوبة ضحكها، وبادلته النظر بامتنانٍ، رغم ذلك الشعور المريب بعدم استطاعتها الرد على عذب عباراته، بدت وكأنها تريد منه الاستمرار في الكلام، وهي فقط تصغي إليه، تقلصت عضلات وجهها عندما رأته ينهض، ضاقت عيناها بشكلٍ غريب، وسألته في تلهفٍ استنكرته لاحقًا:
-إنت رايح فين؟
شعوره الجميل -في هذه اللحظة تحديدًا- باهتمامها العفوي به كان ممتعًا للغاية؛ لكنه كان مضطرًا للالتزام بالضوابط المفروضة بينهما مؤقتًا، إلى أن يجتمع الوليفان معًا، تحت سقفٍ واحد. دس هاتفه المحمول في جيبه، وأجابها:
-نازل الحسابات.
رأها تنهض من مكانها، وتطرح حقيبتها على كتفها وهي تخاطبه بنبرة عازمة:
-طيب أنا جاية معاك، مش عاوزة أفضل لوحدي.
أبقى عينيه عليها قائلاً بصوتٍ نبع من أعماق قلبه الغارق في العشق:
-وأنا جمبك.
........................................................
لم تتجاوز عقارب الساعة الخمس وأربعين دقيقة، ليخرج بعدها الطبيب المسئول عن إجراء عملية الولادة القيصرية لمريضته التي فاجأتها آلام المخاض وأوجاعه غير المحتملة، ليطمئن ذويها عن وضعها الصحي، خاصة أنها لم تخضع لولادة طبيعية كما كان يتمنى. رسم ابتسامة منمقة على محياه، واستهل حديثه مخاطبًا من التفوا حوله في شكل نصف دائرة:
-ألف مبروك يا جماعة، المدام ولدت، وبخير، والبيبي كمان بخير، يتربى في عزكم.
هلل "هيثم" في بهجةٍ عظيمة:
-اللهم لك الحمد والشكر.
بينما رددت "فيروزة" في سرورٍ كبير، وهي تضم قبضتيها إلى صدرها:
-الحمدلله يا رب.
في حين صاحت "آمنة" في رضا وهي تمسح بكفيها على كامل وجهها:
-ياما إنت كريم يا رب.
تساءل "هيثم" في لوعةٍ وهو يقبض على ذراع الطبيب ليوقفه:
-طب هنشوفها إمتى؟
بهدوءٍ حذر استل الطبيب ذراعه من أسفل يده، وأجابه بنفس الابتسامة اللبقة:
-هي في الإفاقة، وشوية وهننقلها على أوضتها.
عادت قبضته لتمسك به متابعًا سؤاله التالي، وبؤبؤاه يتحركان في توترٍ:
-طب والنونو؟
ربت الطبيب على جانب ذراعه، ثم أخبره موضحًا ما يتم إجرائه من خطواتٍ معروفة عند كل حالة وضعٍ:
-مع الممرضة، بتنضفه، وهتلبسه هدومه، وشوية وهيكون في الأوضة مع مامته، أنا بس حبيبت أطمنكم.
تنفس "هيثم" الصعداء، وراح يشكره في سعادة ظهرت علاماتها على تعابيره المشدودة:
-كتر خيرك يا دكتور.
منحه الطبيب ربتة سريعة على كتفه، قبل أن يجول بنظراته على الحضور وهو يقول:
-مبروك مرة تانية، وحمدلله على سلامة الأم وابنها.
استأذن بالذهاب، وغادر المكان، ليكرر "هيثم" من جديد في تضرعٍ شاكر:
-الحمدلله يا رب.
أقبل الجد "سلطان" عليه يهنئه:
-مبروك يا "هيثم"، يتربى في عزك.
احتضنه الأول في عفويةٍ شديدة، وأدمعت عيناه تأثرًا عندما نطق:
-الله يبارك فيك يا جدي.
اقتربت منه "آمنة"، وقامت بتهنئته هي الأخرى بابتسامةٍ عريضة:
-مبروك ما جالك يا جوز بنتي.
رد بفتورٍ محاولاً مقاومة شعوره بالانزعاج منها:
-الله يبارك فيكي.
لاحقته بسؤالها التالي، وهذه اللمعة الغبطة تتراقص في حدقتيها:
-ها ناوي تسمي حفيدي إيه؟
أخبرها في نوعٍ من السماجة؛ كأنما يوبخها بشكلٍ مستتر:
-أطمن على مراتي الأول، وبعد كده نشوف حكاية الاسم.
هزت رأسها توافقه الرأي، وقالت وهي تستدير عائدة إلى مقعدها لتجلس في استرخاء عليه، بعد أن تجاوزت قلقها الغريزي:
-معاك حق، ده المهم دلوقتي، نطمن على "همسة".
................................................
استقرت الأوضاع أخيرًا، ومكثت "همسة" في غرفتها بالمشفى، بعد أن انضم إليها وليدها في سريرٍ صغير منفصل، كانت تئن بخفوت وهي تحاول تحريك جسدها، وسحبه للأعلى حتى تتمكن من الاعتدال في رقدتها. وضعت "فيروزة" الوسادة خلف ظهرها لتدعم من استقامتها، ثم سألتها في اهتمامٍ كبير:
-حاسة بإيه يا "هموسة"؟
نظرت إليها قائلة بوهنٍ:
-مش قادرة، تعبانة.
مسحت بمنديلٍ ورقي ما تجمع عند جبينها من عرقٍ، وابتسمت قائلة في لطافةٍ:
-معلش يا حبيبتي، دي ضريبة الأمومة، إن شاءالله هاتبقي بخير.
حركت "همسة" رأسها للجانبين، وتساءلت في نفس الصوت المليء بالضعف:
-فين ابني؟
أشارت بيدها نحو الركن وهي تجيبها:
-هناك أهوو، نايم زي الملايكة في سريره.
صمتت للحظاتٍ مستسلمة للخدر الذي ما زال متفشيًا في عروقها، قبل أن تتساءل مجددًا
-و"هيثم" فين؟
تلك المرة أجاب "هيثم" عن توأمتها وهو يتقدم نحو فراشها:
-أنا هنا يا "همسة".
عندئذ تحركت "فيروزة" مبتعدة، لتترك له المجال للبقاء بالقرب منها، وانضمت إلى النساء الجالسات على المقاعد بالجانب. امتدت يده لتمسك بكفها، مسح عليه بإبهامه، ومال عليها ليخبرها بصوتٍ خافت:
-كلنا حواليكي يا "هموس".
رغم الإعياء البادي عليها إلا أنها ابتسمت لقربه، تابع كلامه معها قائلاً بحماسٍ:
-ماشاء الله ابننا زي القمر، طالع لأمه أكيد.
هنا تساءلت "آمنة" من جديد:
-فكرتوا في اسم ليه؟
سلط "هيثم" أنظاره عليها، وقال في ثقةٍ:
-أيوه، أنا و"همسة" اتفقنا عليه من فترة.
سألته بفضولٍ أكبر:
-إيه هو؟
عاود النظر إلى زوجته، ثم قال وهو يبتسم:
-"خالد".
حلت الدهشة على قسمات النساء، وتفاوتت في درجاتها، فالاسم كان شبيهًا للغاية من اسم عمة الرضيع الراحلة "خلود". غمغمت "آمنة" في تبرمٍ، دون أن ترفع من نبرتها:
-"خالد"! ده عشان أخته ولا إيه؟!!!
بادرت "ونيسة" بتهنئته على حُسن اختياره للاسم:
-عاشت الأسامي، ربنا يباركلكم فيه، ويجعله السند ليكم.
قال ممتنًا وهو ينظر ناحيتها:
-يا رب يا خالتي.
استطردت "هاجر" مهنأة هي الأخرى:
-مبروك يا "هيثم" يتربى في عزك.
هز رأسه معقبًا عليها:
-الله يبارك فيكي، تسلمي.
بالرغم من انزعاجها من اختيار هذا الاسم تحديدًا، نظرًا لإيحائه الدائم لذكرى "خلود" بمحاسنها ومساوئها، إلا أنها لم تمنع نفسها من المشاركة في التهنئة، فقالت بلهجةٍ مالت للجدية:
-مبروك ما جالك يا "هيثم"، ربنا يحفظه ليكم.
أدار زوج شقيقتها رأسه ناحيتها، وقرأ في وجهها أمارات الضيق، وكان ذلك منطقيًا، فلكلٍ منهما أسبابه في الفرح أو الانزعاج؛ لكنه صاحب الاختيار. اكتفى برسم ابتسامة متكلفة على ثغره، ورد عليها في إيجازٍ:
-يا رب.
..............................................
لاحقًا، خرجت "فيروزة" من الغرفة، لتطمئن الرجال الجالسين بالخارج على حال شقيقتها، تحركت صوب البهو المجتمعين فيه بالطابق، كانت عيناها تبحثان عن "تميم" أولاً، وحين وجدته تلألأت بشكلٍ فاضح، لذا شتت نظراتها المضيئة عنه، لتتطلع إلى "بدير" الذي همَّ بالنهوض من مكانه لمخاطبتها في صيغة متسائلة:
-أخبارها إيه دلوقتي؟
ابتسمت وهي تجاوبه:
-الحمدلله أحسن، اتفقوا يسموا البيبي "خالد".
لحظة من السكوت حلت على الجميع، بدوا مصدومين كذلك من الاختيار؛ لكنهم كانوا الأسرع في التغاضي عن الأسباب المعلومة أو حتى غير المعلومة، ليقوموا بالتهنئة واحدًا تلو الآخر. أردف الجد مباركًا في النهاية:
-على بركة الله، ربنا يطرح فيه الخير والبركة، ويكون نعم الذرية الصالحة.
ردت وهي تنظر ناحيته:
-يا رب أمين.
بإشارةٍ من عكازه نطق "بدير" في لهجةٍ جمعت بين الأمر والهدوء:
-مش بينا احنا بقى، بيتهيألي أعدتنا مالهاش لازمة.
لا إراديًا اتجهت نظراتها نحو "تميم"، وبدت مصدومة نوعًا ما لذهابه المتوقع، بالكاد نجحت في ضبط وتحجيم انفعالها الغريب، واعترضت عليه بعبوسٍ:
-ده إنتو الخير والبركة، خليكوا معانا شوية.
برر لها "بدير" بمنطقيةٍ:
-عشان تاخدوا راحتكم، وأختك كمان ترتاح من الدوشة، وعشان تقدر تفوق لابنها.
ظهر الحزن في عينيها، ورأه "تميم" صريحًا، خاصة أنها كانت لا تزال تنظر إليه بهذه الطريقة، فأصاب ملامحه التجهم، وباعد نظره عنها بصعوبةٍ وهو ينفخ مطولاً. انتبه لصوت أبيه القائل:
-نادي بس يا بنتي على "هاجر"، والحاجة "ونيسة" من جوا.
ردت في اقتضابٍ:
-حاضر.
استدارت عائدة من حيث أتت لتنفذ طلبه، فقام "تميم" بتشيعها بنظراتٍ مودعة لها، تحوي في طياتها وعدًا بلقاءٍ قريب، وإن لم تر هذا مُطلقًا! رحلت كالنسمة العابرة؛ ولكن ظلت صورة وجهها الحزين تطارده ما بقي من يومه.
........................................................
-متشكر ياسطا.
ردد ذلك الغريب تلك العبارة لسائق سيارة الأجرة، بعد أن ترجل منها وتلقى من نافذة بابها الملاصق له بقية نقوده. استقام واقفًا، وطوى المال في راحته، ثم وضعه في الجيب الأمامي لبنطاله الجينز مراقبًا ابتعاد السيارة واختفائها عن مرمى بصره. التفت بعدها نحو الرصيف، وصعد عليه ليسير بتؤدةٍ، ثم توقف للحظاتٍ في مكانه، وبدأ يدور بعينيه على معالمه ليتأكد من وجهته الصحيحة. أخرج ورقة شبه ممزقة من جيبه الخلفي، وقرأ ما فيها قبل أن يكرمشها ويعيد دسها في مكانها مرددًا لنفسها:
-هو ده البيت؟ العنوان مكتوب فيه كده.
جال بنظراتٍ أكثر دقة على المكان، ثم تقدم نحو المدخل مكملاً حديث نفسه
-أما اطلع أشوفهم.
استمر في صعود درجات السلم إلى أن وصل للطابق الثاني، لم يتعذر عليه البحث عن ضالته، فكل طابق يحوي بابًا واحدًا، لهذا دنا من الكتلة الخشبية، وأخذ يدق عليها بقبضته المضمومة تارة، ويقرع الجرس تارة أخرى. تراجع خطوة للخلف متوقعًا أن يقوم أحدهم بفتح الباب؛ لكن لا استجابة على الإطلاق، لذا تحرك مجددًا ناحيته، وألصق أذنه بالباب ليرهف السمع.
كان الصمت سيد الموقف، فارتد خطوتين للخلف متسائلاً في تحيرٍ:
-مافيش حس ولا خبر، هو محدش موجود ولا إيه؟
فرك مقدمة رأسه في حيرةٍ أكبر، ثم حسم أمره قائلاً:
-أجرب أشوف الجيران اللي تحت.
هبط الدرجات للأسفل، وراح يكرر ما فعله من طرق مزعج على الباب، ومع ذلك لم يجد أي استجابة، فهسهس في امتعاضٍ:
-برضوه، إيه الحكاية؟
تحرك ليقف عند الدرابزين، وأطل برأسه من الفرجة الخاصة به متسائلاً في وجومٍ غير فرح:
-فين الناس اللي هنا ............................................. ؟!!
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا