مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثامن والأربعون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثامن والأربعون
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثامن والأربعون
مسح بنظراتٍ ثاقبة المكان من حوله وهو يطل برأسه من سيارة الأجرة التي استقلها، ثم أشــار إلى السائق بالتوقف عند إحدى الزوايا، فامتثل الأخير لطلبه، وأبطأ من السرعة .. ما إن ترجل منها "حُسني" حتى أعطاه أجرته، دون أن يترك له الفائض. مشى قليلاً إلى أن وصل عند ناصية الشارع الرئيسي، سحب نفسًا أخيرًا من سيجارته التي أوشكت على الانتهاء، ثم ألقى بعقبها أسفل قدميه ليدعسه.
خطا للأمام بحذرٍ، وعيناه ترقبان المنطقة بتركيز، ساعده هدوء الأجواء على التجول بحريةٍ، ظل يسير بحيطةٍ حتى بلغ بناية "خليل"، شمل محيطه بنظراتٍ فاحصة سريعة، فلم يجد أحدهم في الجوار، رفع رأسه للأعلى ليلقي نظرة على الواجهة، كانت إلى حدٍ ما معتمة، مما منحه الشعور بالأمان للإقدام على خطته، تسلل إلى الداخل، عابرًا المدخل بسهولةٍ، بعد أن وجد البوابةِ غير موصدة، كان السكون تامًا حوله، ومع هذا تنامى شعوره بالحقد وهو يصعد الدرجات للطابق العلوي؛ حيث شقة "خليل"، فهناك موطن الخبيئة المنتظرة، أو كما يتوهم. كز على أسنانه يتوعده وهو يدس المفتاح المنسوخ في القفل:
-هاخد اللي ليا منك، حتى لو فيها موتي، ما أنا كده كده ميت!
لم يجد صعوبة في فتح الباب الخشبي، وطأ على مهلٍ وهو ينير كشاف هاتفه المحمول ليستكشف خطواته، أوصد الباب خلفه، وبدأ في مسعاه الذي جاء من أجله .. السرقة!
..........................................................
الأجواء المشحونة ببوادر التوتر تبددت بالتدريج، إلى أن تحولت إلى أخرى لطيفة مرحة، يطغى عليها المزاح والتعارف الودي، كأن شيئًا لم يكن، وهذا ما أراد "تميم" الوصول إليه. نظرت "فيروزة" بتركيز لا يخلو من تحفز إلى وجهه المبتسم وهو يتساءل في حذرٍ:
-ها نقول صافي يا لبن؟
أضاف عليه "دياب" مشيرًا بيده إلى صدره:
-الغلط عندنا، واحنا طالبين السماح، ده حتى العفو عند المقدرة.
سكتت لحظيًا كأنما تمنح نفسها الفرصة قبل أن تبدي قبولها بهذا التصالح النادم؛ لكن الصغير "يحيى" قال فجأة، وهو يتطلع في ابتسامة عابثة إلى وجه "رقية"، وأيضًا مستخدمًا سبابته في الإشارة ناحيتها للتأكيد أنه يقصدها:
-لو لسه زعلانة، أبوسها تاني يا بابا؟
خرجت شهقة مصدومة من بين شفتي "فيروزة"، أتبعها نظرة صارمة من عينيها إليه، ليقوم بعدها "دياب" بإخراس طفله بوضع كامل راحته على فمه هاتفًا في لهجةٍ مزجت بين الجد والهزل:
-اتلم ياض، كده هنلبس في الحيطة!
توجس "تميم" خيفةً من تجدد التوتر ثانيةً، فأدار ظهره نحو رفيقه وابنه، ليحجب الرؤية عن "فيروزة"، واستطرد يقول في نبرة شبه راجية:
-خلاص حصل خير، مش كده؟
ضاقت نظراتها ناحيته، فاتسعت ابتسامته المهذبة والمستجدية، لم تكن لترد طلبه، فأومأت برأسها وقد لانت تعبيراتها المشدودة، تنفس الصعداء، واستدار يواجه رفيقه معقبًا:
-يبقى حليب يا إشطا.
أردفت "فيروزة" تحذر الصغير وهي تلوح بإصبعها:
-يا ريت ده ما يتكررش تاني، ماشي؟
تساءل "دياب" مستفهمًا:
-إيه اللي مايتكررش؟
أجابته بشفاه مقلوبة، وهي ترمقه بتلك النظرة غير الراضية:
-الحركات اللي بتعلمها لابنك، يبوس البنات، عيب كده.
حمحم معلقًا بوجهٍ مال للجدية:
-في دي معاكي حق ...
لكن سرعان ما غطته بسمة ساخرة وهو يختتم جملته؛ كأنما يريد إغاظتها كردٍ مناسب لأسلوبها السمج في إدارة الحوار:
-بلاش بوس، نخليها أحضان.
جحظت عيناها مذهولة من تعليقه، والتفتت ناظرة إلى "تميم" تلومه:
-سامع صاحبك؟
هتف على الفور مصححًا، والقلق يملأ وجهه:
-بيهزر، وربنا بيهزر، ده إنتي مش عارفة "دياب"، غاوي يقلب الجد هزار.
حاوط "دياب" كتف طفله، ورسم ابتسامة مصطنعة على وجهه وهو يخاطبها:
-عمومًا احنا اتشرفنا يا .. أبلة.
تعمد الضغط على الكلمة الأخيرة كأنما يغيظها باللقب لا يوقرها، وقبل أن تفكر في الهجوم اللفظي عليه، استدار ساحبًا ابنه معه وهو يمتدحه بنبرة شبه هازئة:
-تعالى يا رافع راس أبوك، يا اللي جالبله وجايبله الكلام.
رغم سيره مع أبيه، إلا أن "يحيى" أدار رأسه نصف استدارة لينظر إلى "رقية"، لوح لها بيده مودعًا إياها:
-باي يا حلوة.
بادلته "رقية" التلويح، فوكزتها "فيروزة" في جانب ذراعها وهي تنهرها:
-بس يا "كوكي"، كده عيب.
نكست الصغيرة رأسها في خجلٍ، في حين تكلم "تميم" قائلاً بلطافةٍ وهو يشير بعينيه نحو رفيقه وابنه اللذين ابتعدا عنهما:
-لذيذ أوي "يحيى"، صح؟
نظرت له في غير اقتناعٍ، قبل أن تنطق بتجهمٍ ساخر:
-أه فعلاً.
وجه "تميم" سؤاله للصغيرة، وهو ينحني للأمام ليبدو قريبًا من مستوى نظرها:
-لسه زعلانة يا "كوكي"؟
قالت نافية وهي ترمش بجفنيها:
-لأ.
استقام واقفًا، ثم أسبل عينيه نحو طاووسه المزعوج متسائلاً في صوتٍ تعمد جعله خفيضًا:
-وإنتي يا أبلة؟
منحته نظرة غامضة لا يتبعها أي تعليق، فاستطرد يهمس لها بنبرة ذات مغزى:
-على فكرة، لو لسه مضايقة أنا ممكن أصالحك زي "يحيى"!
مجرد تخيل الفكرة في رأسها، ومحاولته تقبيلها في وجنتها، جعل قلبها يخفق، وعيناها تتسعان، بل إنه حفز خلاياه، وجعل رعشة قوية تصيب جسدها، تراجعت خطوة للخلف في تلقائية، ورفعت سبابتها تحذره بتشددٍ غير ممازح على الإطلاق:
-إياك، أنا مش بحب كده!
أصابه الندم لرعونته، واعتذر في لباقةٍ:
-حقك عليا، ده أنا بهزر وربنا ...
أبقى عينيه عليها وهو يتابع الكلام بحزنٍ زائف:
-وبعدين أنا عارف نفسي، من يومي بائس، ومغضوب عليا.
اهتزت شفتا "فيروزة" عن بسمة خائنة، وأدتها في مهدها لتبدو جادة؛ لكنه التقطها، فقال مبتسمًا:
-بس مسير المايلة تتعدل، والدنيا تحلو معايا.
داعبت كلماته فؤادها، وقاومت تأثيره اللذيذ عليها، ولئلا يبدو عليها تجاوبه مع السلس اللين من عذب عباراته، أشاحت بوجهها بعيدًا، وقالت بلهجةٍ جادة وهي تشبك يدها في كف ابنة خالها:
-يالا يا "كوكي" عشان نتفرج على الزفة.
شيعهما بناظريه إلى أن انغمسا وسط الحضور، فراح يردد مع نفسه في تهكمٍ، ودون أن تفتر ابتسامته:
-عقبال زفتنا .. اللي شكلها هتكون واحنا بنتخرج من الدنيا!
رفع أنظاره للسماء، وأخذ يدعو المولى بصدقٍ:
-يا رب يسرلي الحال، هون باللي فاضل، يا كريم!
................................................
استعان بماسكةٍ معدنية ليتمكن من تحريك حجر الفحم على أرجيلته، فتزداد القطع توهجًا، وينبعث الدخان من خرطومها أكثر كثافة وقوة. حملقت "سعاد" في وجه ابنها الذي بدا مغايرًا عما اعتادت أن تراه، واصلت التحديق به بنظراتٍ مطولة مليئة بالحسرة والشعور بالخذلان .. ظنت أنها تُطالع وجهًا شريرًا غير وليد رحمها، شخصًا آخرًا بدلته الأيام، وحولته لمسخٍ لا يعرف سوى القسوة والنكران. دنت منه وشملته بنظرة أخرى يكسوها الحزن والقهر، ولدهشتها بادلها النظرات المستخفة، لم يطرف له جفن، ولم يكترث لأمرها، بل إنه جلس في سموٍ على المصطبة الخشبية، كأنه يجلس على عرش "سبأ". لفظت كتلة مشحونة من الهواء من صدرها الملتاع، وسألته بصوتٍ متلجلج:
-عملت كده ليه يا "فضل" في أبوك؟
أدار وجهه نحوها، ونظر إليها في صمتٍ، فتابعت بنفس النبرة المتألمة:
-هو يستاهل منك كده؟ بقى بعد العمر ده كله تبهدله في آخر أيامه؟
ظهر الاختناق على صوتها وهي تواصل لومها:
-هي دي وصية ربنا ليك؟ تحجر على أبوك؟!!
وكأنه لم يقترف جرمًا يلومه عليه أهل الأرض جمعاء، نظر لها شزرًا، ثم طرد دخان الهواء الحارق من رئتيه قبل أن يرد موجزًا بتعالٍ:
-حقي!
سألته في انفعالٍ بدأ في التزايد جراء طريقته المستفزة:
-حق إيه؟ ده تعب أبوك وشقاه؟ عايز تاخده منه عافية؟ هو ده اللي اتربيت عليه.
بجحودٍ مُطعم بصنوف القسوة المؤذية للروح أخبرها:
-أه هاخده عافية وبالقوة، طالما قِبل إنه يبهدلني ويطردني من داري ...
احتدت نظرات "سعاد" نحوه، وحدجته بنظرة غاضبة اشتاطت مع قوله الفج:
-البيت ده معمول بفلوسي اللي كنت ببعتهالكم كل سنة، الطفح اللي كان بيتجاب من فوايد فلوسي اللي شايلها في البنك، إخواتي اللي اتجوزوا واتبغددوا كان من شقايا ...
تدلى فكها السفلي في صدمةٍ، بينما أكملت "فضل" في عدائيةٍ:
-ده أنا صرفت وأنا في الغربة أد ما صرف هو مليون مرة، فيها إيه لما أحافظ على الفلوس اللي فاضلة بدل ما تضيع.
تحولت ملامحه للشراسة؛ لكن نبرته انخفضت إلى حدٍ كبير، مستحضرًا في ذهنه مشاهد إذلاله في حضرة الغرباء لأكثر من مرة، فبدا وكأنه يُحادث نفسه بصوتٍ لم يتردد سوى داخله:
-ما كفاية الذل اللي شفته، واللي راح مني عشان أفدي رقبتي.
حسنًا لن تنكر "سعاد" أن مساهماته المادية قديمًا في تيسير شئون المنزل المالية، فاقت بكثير ما كان ينفقه زوجها، خاصة في أوقات تزويج إخوته، ومع ذلك عنفته في نبرةٍ مالت للحدية:
-أنت ومالك لأبيك .. هتستخسر كام قرش ادفعوا؟ ما هو كله في الآخر ليك إنت وإخواتك بعد عمر طويل!
هدر بها في حقدٍ، وقد اصطبغت حدقتاه بحمرة الحنق:
-كام قرش!! دي ألوف ...
كانت على وشك الرد عليه والاعتراض مرة أخرى؛ لكنه أسكت لسانها بتهكمه الصارخ:
-بقولك إيه اللي متفهميش فيه، ماتكلميش فيه!
أطل الكدر من عينيها حسرة على ما أنجبت، وعاتبته في استياءٍ مضاعف:
-بتهين أمك يا "فضل"؟ دي أخرتها؟
رمقها بنظرة احتقارٍ قبل أن يدس خرطوم الأرجيلة في فمه، فاستمرت "سعاد" في زجره:
-طب اعمل حساب الناس، هايقولوا عليك إيه دلوقتي؟
لوى ثغره هاتفًا في ازدراءٍ، بنبرة جعلها جافة صلبة كأنها زئير غاضب:
-هو حد كان بيطلع من جيبه ويديني؟!!!
ردت محتجة مجددًا على سلوكه المشين، والمرفوض بكل أشكاله:
-بس إنت كده صغرت آ...
قاطعها في خشونة غليظة وهو يرفع كفه أمام وجهه كإشارة لإسكاتها:
-ملكيش دعوة، أنا حر في مالي وما أملك!
ضربت كفها مرددة في تحسرٍ مقهور، وعيناها ترمقاه بنظرة العاجز، غير القادر على التصرف في شيء:
-يا حزني على ما جابت بطنك يا "سعاد"!
نهرها على بدء وصلة النواح السخيفة تلك بصياحه الجهوري:
-ما كفاية ندب وتقطيم، دماغي ورمت.
أخذت العبرات تتجمع في طرفيها أسفًا على ما أفنت عمرها في تربيته، غادرت المكان وهي تغمغم في يأس مقهور؛ لكن ذلك لم يهز شعرة من رأس ابنها الجاحد، بل زاده عنادًا وإصرارًا على المضي قدمًا في شروره:
-من هنا ورايح أنا صاحب الكلمة ...
أظلمت نظراته، وغامت تعابير وجهه وهو يردد لنفسه بصوتٍ مسموع:
-أنا الآمر الناهي في البيت ده!
...............................................................
بعد أن انتهى العرس، وغادر أفراد عائلتها باحة البيت الأمامي، توارت "هاجر" بداخل حجرة نومها بمنزلها الذي أشرفت على إعداده بالكامل وفق رغباتها، اتجهت في خطواتٍ متهادية نحو مقعد تسريحة المرآة، وهي تحمل بيديها جزءًا من ثوب عرسها، لئلا تتعثر فيه، شعرت بالتوتر يجتاحها، بنفس شعور الرهبة يتفشى فيها، ربما امتلكت من الخبرة الزوجية ما يؤهلها لتيسير أمورها في تلك الليلة الخاصة بحنكة وحكمة، ومع هذا بدت خجولة عن المعتاد. احتفظت بأفكارها المتخبطة لنفسها، وغرقت في الصمت، فلم تشعر بوجود "سراج" حولها، تطلع إليها الأخير مبهورًا بجمالها، الحلم غدا حقيقة واقعة، ويا له من شعور أن تذوب في أحضان معشوقك!
لم يتعجل في الظفر بما تخيله مؤخرًا، ولجأ للحوار العادي لإذابة الجليد بينهما، فقال في جديةٍ وهو ينزع رابطة عنقه المزعجة:
-مش كنا جيبنا "سلطان" معانا؟
نظرت "هاجر" إلى انعكاسه في المرآة من زاويتها، وخاطبته في نبرة أظهرت حرجها قليلاً:
-والله كان نفسي، بس أمي صممت يبات النهاردة بالذات معاها.
أخبرها بإصرارٍ وهو يخلع عنه سترته:
-إن شاءالله من بكرة هاجيبه، ابني مايبتش برا حضننا.
أثلجت عباراته العازمة صدرها، وبددت أي مخاوفٍ كانت تراودها بشأن علاقته المستقبلية برضيعها إن اكتملت الزيجة على خير، حينئذ التفتت إليه ناظرة في عينيه مباشرة، وسألته بتلهفٍ وهي تنهض من مقعدها:
-بجد يا "سراج"؟ إنت معتبره ابنك، ولا ده كلام بتراضيني بيه عشان تجبر بخاطري؟
دنا منها قائلاً بتأكيد، وعيناه لا تنظران إلا لوجهها الناعم:
-وربي المعبود أنا مابعتبروش إلا ابني من صلبي، والأيام هتثبتلك ده.
أسبلت عينيها إليه، وقالت في ابتسامة رقيقة:
-مصدقاك يا "سراج".
امتدت يده لتمسك بكفها، شعر بملمس بشرتها على جلده، وراحت يده الأخرى ترتفع للأعلى لتتلمس وجنتها الساخنة، أحس بفيضٍ من المشاعر المتأججة تغمره، تنهد بعمقٍ وهو ما زال يتأملها في انتشاء، ليقول بعدها في صوتٍ هامس، له تأثير عجيب في آسر حواسها:
-بس إيه الحلاوة دي، قمر 14.
خفضت من رأسها خجلاً من نظراته الساهمة، وتكلمت بتلعثمٍ طفيف وهي تنسحب بلطفٍ من أمامه:
-بلاش تكسفني بكلامك الحلو.
تبعها بنظراته المتحرقة شوقًا لارتشاف رحيقها المغري وهو يُحادثها:
-هو أنا لسه قولت ولا عملت حاجة؟
سارت نحو الدولاب، وادعت انشغالها بالتطلع إلى ما داخل ضلفتها، قبل أن تقول بلهجةٍ شبه جادة:
-لا أنا تعبانة، ويدوب هاكل لقمتين وأنام.
عاتبها في نبرة لينة:
-كده على طول، مش هنتسامر سوا؟ وناخد وندي؟ ده أنا مشاعري قايدة نار
استدارت لتواجهه، وألصقت ظهرها بالضلفة الخشبية، ثم علقت في نعومة، كأنما تدلل عليه:
-بكرة، ولا بعده.
رفع رأسه مستغربًا جملتها قبل أن يهتف في حسمٍ:
-بكرة ولا بعده! وربنا ما يحصل.
-عيب يا "سراج"!
قالتها بدلالٍ مثير، كأنما رددت كلامها بحروفٍ غير الحروف العادية، تلك الحروف التي تطلق إشارات الرغبة والنشوة في خلايا الجسد الساكن، تبعها زوجها في لهفة، والشوق يهتاج في وجدانه، أغلق الباب ورائه إيذانًا ببدء ليلة دافئة ستعصف بكيانها مشاعره الجارفة، وتنقلها إلى عوالمٍ حميمة تذوب فيها مرارًا وتكرارًا، متنعمة فيها بسحر الحب وإغوائه.
................................................................
على فراشه العتيق، وبين وسائده القديمة، استلقى "إسماعيل" بجسده الذابل وهو في حالة وهن شديدة، كأنما بلغ من العمر أرذله في بضعة ساعاتٍ، لم يأتِ بخاطره أبدًا أن يُقدم من جاء من صلبه على ارتكاب هذا الفعل المشين، وعلى حين غرة ليقسم ظهره، ويفتت ما بناه لسنواتٍ. الجحود وقسوة القلب سمتان في غاية البشاعة، إن اجتمعتا في نفس أحدهم، خاصة المظلمة، فلن ترى منه إلا السواد الأعظم، والبغض الذي لا يضاهيه شيء!
وها هو قد اختبر بنفسه ظلام ابنه وإجحافه غير المنصف معه، كأنه عدو مقيت له لا والده الذي نشأ في كنفه. تساءل "إسماعيل" بغير صوتٍ، وهو يتطلع بعينين فارغتين لنقطة وهمية أمامه:
-طب ليه يا "فضل"؟ أنا قصرت معاك في إيه؟
الخذلان المصحوب بكسرة النفس جعل قلبه يعتصر ألمًا على ما أفنى في ولدٍ لم يكن إلا طالحًا، ناكرًا لكل شيء، حتى الإحسان! في النهاية كان كمن أنفق ماله على حديقة ظن أنها –في نهاية المطاف- ستصبح غناء، مليئة بما لذ وطاب؛ لكنها باتت خاوية على عروشها، فضاع ماله وجهده سدى!
تزايد شعوره بالوهن يغزو جسده الضعيف، تخشبت أطرافه، وصار عاجزًا عن تحريكها قيد أنملة، بل إنه فقد الرغبة في هذا، كان على مشارف الموت بنظراته الخالية من الحياة، ووجهه الشاحب. فاضت من عينيه التعيستين عبرات احتوت على القهر، والحسرة، والألم، والانكسار. أحنى "إسماعيل" رأسه على صدره في خوارٍ مليء بالذل، وهذا الصوت ما زال يرن في عقله بحزنٍ عميق:
-قلبي وربي غضبانين عليك .. أنا مش مسامحك.
ارتجفت شفتاه وهو يهسهس بصوتٍ متذبذب:
-منك لله يا "فضل"، عمرك ما هتشوف طيب ...
اختنق الصوت المتقطع في جوفه وهو ما زال يردد:
-روح الله لا يسامحك ولا يعفو عنك.
كانت هذه كلماته الأخيرة، قبل أن يصير صوته حبيس جوفه، تقلصت عضلات وجه "إسماعيل" بشدة، جراء الألم الشرس الذي باغت عضلة قلبه المفطور، مزقته الوخزات الحادة، وانتشر تأثيرها في صدره، شهقات مكتومة بدأت تصدر منه قبل أن تتحول لخرخرات متقطعة. أرجع رأسه للخلف محاولاً التقاط أنفاسه؛ لكن لا جدوى، انهارت أجهزته الحيوية، وراح الجسد المعذب في صمت يستسلم لسكرات الموت، وما هي إلا بضعة ثوانٍ وارتخت كافة الأطراف، وثقل الرأس وتمايل للجانب معلنًا عن مفارقة الروح للجسد الفاني، ليتبع ذلك دمعة أخيرة نفرت من عين انطفأ نورها نهائيًا ...................................................................... !!!
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا