مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثامن والخمسون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثامن والخمسون
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثامن والخمسون
بدت في تلك اللحظة المميزة وكأنها ثمرة ناضجة، تشتهيها الأعين، يطيب أُكلها، وها قد حان وقت قطفها. شعرت "فيروزة" أمام تلك النظرات المتيمة التي يرمقها بها، كأنما حلقت فوق السحاب، تلقائيًا استحضر عقلها مشاهد سريعة مبهمة لمراسم عقد قرانها الأول، كانت بغير فرحة، تؤدي دورها كأي عروسٍ، دون الشعور بشيء سوى الرهبة والقلق مما هو قادم، أما اليوم فمع نادئه العذب بحروف اسمها، تخللتها مشاعر غريبة، استثارت حواسها، وداعبت أعماق أعماقها.
نفضت عن رأسها الذكريات المزعجة، وجعلت كامل تركيزها منصبًا على ما تعايشه الآن، رجفة طفيفة عصفت بها مجددًا، لا رهبة من المجهول، وإنما توقًا للتقرب أكثر منه، أيمكن للحب أن يسمو بالمشاعره بهذه الطريقة؟ جاءها الرد في بواطن عقلها بالإيجاب.
أشــار لها "تميم" لتتعلق في ذراعه وهو يخاطبها بتنهيدة حارة مفعمة بالمزيد من الأشواق، ليستحثها على التحرك:
-مش يالا بينا.
برجفة خفيفة مدت ذراعها نحو خاصته، تأبطته في ترددٍ خجل، وشعورٌ مغري بالاحتواء قد بدأ في التسلل أسفل جلدها، ربما روى القليل من ظمأ القلوب العطشى. بمجرد أن لامسته أحست بثقل أنفاسه، وبتصلبٍ طفيف يسيطر عليه. سحبت –هي الأخرى- شهيقًا عميقًا حاولت به ضبط الانفعالات المضطربة التي اجتاحتها حاليًا مع اقترابه الموتر لها. نظرة جانبية خاطفة منحته لها، فرأته ينظر إليها ملء عينيه بمحبةٍ تفوق الوصف؛ كأنما لا يبصر سواها، ومن ينظر لغير القمر وهو يمتلكه بين راحتيه؟ توهجت بشرتها، وشاعت فيها حمرة متدرجة، اختفت جزئيًا أسفل مساحيق التجميل؛ لكن أثرها الدافئ شعرت به كليًا.
سارت على مهلٍ لئلا تتعثر في أطراف ثوبها الطويل، ومن خلفها لحقت بها توأمتها، تنحني كل بضعة خطواتٍ لتفرد لها ما يلتف من القماش أو يتعقد. صدحت الزغاريد المبتهجة حين خرجت إلى العلن، كانت الفرحة غير مزيفة، صادقة، نابعة من قلوبٍ صافية، طافت بنظراتٍ سريعة على الوجوه المحدقة بها، فوجدتهم قد اتفقوا جميعًا على إظهار مشاعر الود والسعادة لكليهما.
تقدمت "ونيسة" أولاً لاستقبالها، وراحت تهنئها بعد زغرودة عالية:
-مبروك يا بنتي، ربنا يتمم بخير، ويرزقك سعادة الدنيا والآخرة.
تشكلت بسمة ناعمة على ثغرها، وردت بصوتٍ شبه مهتز من الخجل الممزوج بالحياء:
-الله يبارك فيكي يا طنط.
حملقت فيها "فيروزة" وهي تخاطب ابنها، بما يشبه الوصية:
-عروستك بين إيدك أهي، تحافظ عليها، مش هوصيك.
عفويًا أرادت النظر إليه وهو يعلق على والدته، فوجدته يحدق فيها بنظراته العميقة، التي تنطق بشغفٍ نفذ إلى وجدانها على الفور من مدى صدقه، ارتفع دبيب قلبها، وصار كالمجنون وهو يؤكد عليها:
-يامه اطمني، دي محطوطة جوا قلبي.
قطع تواصلهما البصري مجيء "آمنة" التي وقفت أمام ابنتها تبارك لها:
-ماشاءالله يا بنتي، ربنا يفرح قلبك ويسعدك.
ابتسمت وهي تعقب عليها:
-الله يبارك فيكي يا ماما.
أوصتها هي الأخرى على زوجها:
-خلي بالك منه، ده سيد الرجالة، وحطيه جوا عنيكي.
طأطأت رأسها في استحياء، وهمست بصوتٍ متلجلج من ربكتها:
-حاضر.
أن تكون محط الأنظار في ليلة كتلك احتاج لبذل جهد جهيد للبقاء في سكينة، وإن كان القلب في أوج حماسه وانفعاله السار.
.............................................................
أصر "بدير" على عقد مراسم القران أولاً، قبل الشروع في إقامة أي مظهر من مظاهر الفرح، ليكون ابنه على حريته مع زوجته، بعد أن طال انتظاره وترقبه لهذا اليوم المنشود. تحولت مقدمة القاعة بعد عشر دقائق، إلى مجلسٍ يضم المأذون الشرعي، وكيل العروس، وعدد لا بأس به من الشهود، في حين جلست "فيروزة" على مقعدها بالكوشة، وحولها النساء المبتهجات من العائلتين. تساءل المأذون بصوته الهادئ وهو يدور بنظره على من حوله:
-مين وكيل العروسة؟
تكلم "خليل" قائلاً وهو يتحفز في جلسته:
-أنا إن شاءالله.
هز رأسه في استحسانٍ، وتساءل مجددًا:
-على بركة الله .. والشهود جاهزين؟
أجاب عليه "تميم" وهو يشير بنظراته إليهما:
-جدي إن شاءالله، وصاحبي "منذر".
حرك المأذون رأسه بإيماءة بسيطة، قبل أن يقول:
-تمام، إيدك يا عريس.
تعانقت الأيادي معًا، وحُبست الأنفاس لوهلةٍ، ليردد بعدها المأذون في صوتٍ هادئ جهوري مستخدمًا الميكروفون ليصل الصوت لجميع من في القاعة:
-بسم الله نبدأ.
..................................................
غاصت في أمانيها وأحلام يقظتها خلال عقد القران، تنظر من عليائها إلى كل من جاء للحفل لمشاركتها فرحتها، لم تصدق أنه في بضعة أشهر تبدل بها الحال، وصارت واحدة أخرى غير تلك المضطهدة المغلوب على أمرها بعد معاناة امتدت لفترات طويلة، كانت اليوم أكثر قوة، إرادة، ورغبة في التنعم بمباهج الحياة، والعيش في صنوف الحب الجميل. رغمًا عنها، انعقدت المقارنات في رأسها، ويا ليت عقلها يكف عن ذلك الأمر! فشتان الفارق بين الليلتين، واحدة أجبرت فيها على ابتلاع مرارة الظلم، والارتضاء بمن أمطرها بمعسول الكلام، فقط للهروب من افتراءات الألسن، فعاشت أسوأ كوابيسها، وآخر بذل الغالي والنفيس لحمايتها من شرور البشر، دون أن يكترث لأمر سلامته شخصيًا، المهم أن تشعر في الأخير بالأمان، والسكينة، إلى أن استشعر قلبها حبه الصادق النابع من بواطنه.
تدثرت بالعواطف الذكية التي راحت تنشط في ذاكرتها، مع كل موقف أثبت لها فيه أنه جديرٌ بها، وقتئذ أدركت أنه منحها أسمى معاني الحب العذري، ذلك الحب الخالي من الأطماع، والأهواء، خرجت من شرودها عندما تنبهت لصوت "تميم" وهو يردد في نشوة عارمة عمًّت أرجاء القاعة:
-وأنا قبلت الزواج منك.
اتجهت عيناها إليه وسط الزحام المحاوط به، لم تستطع تبين وجهه المختفي خلف من هم فوق رأسه، فحادت بنظراتها نحو شاشة العرض التي ركزت فيها على ملامحه، رأته في كامل بهجته، لم يكن مدعيًا، ولم يزف مشاعره، بل بدا متفاخرًا أنه حظى بها كزوجةٍ في النهاية بعد مشقة واجتهاد، حينئذ زاد شعورها بالاعتزاز والشوق، فرجلٌ مثله استحق امرأة مثلها!
دقائق أخرى مضت عليها وهي تتلقى المباركات والتهنئات ممن حولها، إلى أن خف التزاحم، وظهر "تميم" من بين هؤلاء، عندئذ شعرت بخفقات متلاحقة تعصف بقلبها، دبت في شغافه ارتجافات الفرحة، وتفشت في أوصالها ارتباكة عظيمة، لم تهدأ باقترابه، ولن تهنأ إلا في أحضانه!
وقف قبالتها يرمقها بنظرة مطولة، احتوت على الكثير مما أراد البوح به والتعبير عنه؛ لكنه امتنع مرغمًا عن ذلك، تقديسًا لما بينهما من مشاعر سامية، وعواطف غالية، لا يجوز الإفصاح عنها إلا في طقوس خاصة تليق بها. كانت كالحلم الذي اقترب كثيرًا من تحقيقه، وأوشك على الغوص في كافة تفاصيله، ومعايشتها بروحه ووجدانه، تقوست شفتاه عن بسمةٍ نقية، أضاءت وجهه أكثر وهو يستطرد مهنئًا بقليلٍ من الغزل:
-مبروك يا جميل.
رمشت بعينها في توترٍ، وقالت بصوتٍ خجول:
-الله يبارك فيك.
خفضت من رأسها لتجده يمد يده ناحيتها، فرفعت ناظريها إليه تسأله بنظرة متسائلة حائرة، فأجاب مفسرًا في تهذيب:
-الزفة مستنيانا.
اعترضت في ترددٍ واضح:
-مكانش ليه لازمة وآ...
قاطعها قبل أن تنهي جملتها بعشمٍ وصدق:
-أنا بعيش معاكي كل حاجة كأنها أول مرة ..
رمقته بنظرة مليئة بالاهتمام، لمعت بشدة، وظهر التأثر عليها عندما تابع:
-لأني عايشها بقلبي.
منحته يدها في استسلام، وهي تطالعه بنظرة حانية، تحوي قدرًا من المشاعر الشغوفة، فاشتهى ضمها بشدة، ورغم ذلك قاومت رغبته الملحة، وأرجأها لوقت لاحق، حين ينفرد بها، عندئذ ستختبر معه كافة درجات الهيام، وهو يجيد التعبير باحترافيةٍ عن هذا!
................................................
ثبتت في مكانها تصفق بيديها في وقارٍ، وهو أمامها يرقص مع رفاقه في بهجةٍ عارمة، كانت عيناها لا تفارقان وجهه، تتبعه في لهفةٍ أينما اتجه، كأنها تخشى أن تضيعه في لحظة تلتهي فيها عند متابعة غيره، ومن وقت لآخر التفت ناحيتها يمنحها ابتسامات ناعمة ونظرات شغوفة مليئة بالرغبة، قابلتها دومًا بنظرة متدللة مرحبة كأنما تحوي في باطنها على دعوة خفية لتذوق فاكهة الجنة الشهية.
وقعت عينا "فيروزة" مصادفة على الصغير المشاكس، ذاك الذي راح يُراقص "رقية" في مرحٍ متحمس، تصنعت العبوس، وأرسلت إشارة صارمة إلى "تميم" بمجرد أن نظر ناحيتها، تطلع الأخير إلى حيث أشارت، فهز كتفيه مرددًا بضحكة حيرى:
-طب أعمله إيه؟
حدجته بتلك النظرة القوية، فرضخ أمام تحذيرها المبطن، وتحرك تجاه "يحيى" يطلب منه مبتسمًا:
-تعالى ارقص معايا.
رفض الصغير بعنادٍ طفولي وهو يتمايل بجسده:
-لأ، أنا عاوز أرقص مع الأمورة دي.
ردت عليه "رقية" بصوت مرتفع تصحح له:
-اسمي "كوكي".
بادلها الصغير الابتسام، وعَرَّف بنفسه وهو يمد يده لمصافحتها:
-وأنا "يحيى".
صافحته، فوجدته يجذبها إليه، ويضمها إلى صدره، فحانت من "تميم" نظرة جانبية نحو "فيروزة" فوجدها تحدجه غير راضية عن الانسجام الحادث بين الصغيرين، فتنحنح مناديًا على رفيقه:
-يا "ديــــاب"! حل الإشكالية دي بسرعة بدل ما يتنكد عليا.
جاء إليه متسائلاً في دهشة:
-إشكالية إيه؟
عاتبه "تميم" بوجهٍ شبه جاد:
-ماينفعش اللي بيحصل ده، مرة بوس، ومرة حضن!
رد عليه "دياب" بمزاحٍ وهو يمرر يده بين شعره:
-لأ معاك حق، طب أداري عليهم بضهري ولا إيه؟
رمقه بنظرة حادة قبل أن ينذره بغيظٍ:
-بقولك لِم ابنك، تقولي أداري؟
حافظ على ابتسامته المرحة وهو يخبره:
-خلاص يا سيدي اعتبرني خطبتها لابني، ومؤجلين الخطوبة لكام سنة قدام عقبال ما ياخدوا الابتدائية.
نظر له "تميم" في استخفافٍ قبل أن يعقب:
-إنت الكلام معاك ماينفعش، كل حاجة واخدها هزار ...
ثم التف نحو "رقية" يأمرها بلهجةٍ جادة وهو يتصنع الابتسام:
-تعالي يا "كوكي".
اعترضت عليه، وقالت وهي تتمايل في مرحٍ:
-عاوزة أرقص مع "يحيى" شوية يا عمو.
هنا رد عليه "دياب" مبتسمًا على الأخير:
-سمعت بنفسك.
تركزت كافة الأنظار مع الصغيرين، خاصة "يحيى" الذي تكلم في هدوءٍ وهو يخرج من جيب سترته قطعة مغلفة من الحلوى:
-أنا جبتلك شيكولاته من جوا، خدي.
تناولتها "رقية" من يده وهي تبادله ابتسامة لطيفة، قبل أن تقول:
-شكرًا.
انتفض كلاً من "تميم" و"دياب" في صدمةٍ حينما أتت "فيروزة" بغتةً، وصاحت في استنكارٍ، كأنما أمسكت الجميع بالجرم المشهود، لا بتبادل قطعة من الحلوى اللذيذة:
-ده اسمه إيه ده؟
أجاب "دياب" بتعابيرٍ شبه جادة، تشوبها بسمة مهذبة:
-بيصالحها، مش كان مزعلها المرة اللي فاتت؟
حولت أنظارها نحو "تميم"، وسألته في تحفز:
-وإنت موافق على كده؟
تنحنح في خفوتٍ قبل أن يقول محايدًا:
-الصلح خير.
أوشكت على الاعتراض، لكنه سحبها من ذراعها، وحاوطها من خصرها بذراعه الآخر، ليلصقها بصدره، جذبها بعيدًا عنهم، وطوقه ما زال مُحكمًا حولها. مال على أذنها يهمس لها في عبثيةٍ:
-بصي، احنا نسيبنا من العيال دلوقتي، وتعالي أقولك كلمتين كده حلوين تستاهليهم.
حركته المفاجئة أربكتها بشكلٍ كلي، أحست بفيضٍ من المشاعر الغريبة المصحوبة برعشات متقطعة تجتاحها في غزوٍ كامل مباغت يضرب كل جزء حسي بها، تلعثمت وهي تحتج عليه:
-بس آ...
قاطعها مجددًا بصوته الهامس، المذبذب لكيانها، دون أن تخف قبضته عنها:
-يالا بينا بس، ده أنا مصدقت إنك بقيتي ليا، وكلها شوية وأخدك في حضني.
ارتج داخلها، وتزعزعت أعمدة الصلابة مع لهيب أنفاسه اللافحة لبشرتها. ادعت تماسكها، وبحثت بنظرها عن توأمتها، وجدتها على مقربةٍ منها، فطلبت منها:
-"همسة"، عينك على "كوكي".
هزت الأخيرة رأسها موافقة، في حين استمر "تميم" في الابتعاد بطاووسه الصارم عن الصخب المحيط بهما، ليواصل كلامه إليها بلطافةٍ:
-ده إنتي شكلك هاتبقي حماة صعبة.
عند هذا القرب المغري أخبرته بابتسامة واثقة، ونظراتها اللامعة تكاد تنفذ إلى عمق عينيه:
-طبعًا، مش هاسكت عن الغلط.
وجدته يخفض عينيه ليتطلع إلى شفتيها باشتهاء واضح، جعلها تهتز، خاصة حين غازلها بتنهيدة حارقة:
-قمر، أوي.
حاولت الانسلال من ذراعه المطبق عليها، والتحرر من هذا التهديد المحفز لرغباتٍ تتولد بداخلها؛ لكنها فشلت في الإفلات من حصاره المطوق لها، بلعت ريقها، وحذرته بصوتٍ متلجلج خجل:
-مايصحش.
استمر على قربه الخطير، وشدد من ضمه غير الكامل لها، وهو يخبرها بنبرة ذات مغزى بعد أن أصبحا شبه معزولين عن الزحام الموجود بالقاعة:
-ده احنا لسه هنقول اللي يصح، واللي مايصحش لما نبقى لواحدنا.
تلبكت، وسرت فيها رعدة لذيذة، قاومتها بعزمٍ متأرجح بين الثبات والاستسلام أمام تلك المغريات المتصاعدة. استجمعت شتاتها لتقول بغموضٍ حرج، معكوس في نظراتها التي بدأت في تحاشيه:
-أنا كنت عاوزة أقولك على حاجة كده.
دار في خلده أنها تعاني من آثار زائرتها الشهرية، فهتف في توجسٍ مفزوع:
-أوعي تقولي ظروف، كده أبقى أنا نحس بجد!
كتمت ضحكة خجلة على إثر ردة فعله الطريفة، وقالت وهي ما تزال على ترددها:
-لأ، حاجة تانية مهمة.
منحها نظرة مترقبة، غير متعجلة، كأنما يحبذ أن تطيل في سكوتها، ليزيد من تودده إليها بالتصاقه المتعمد بها، زاد التردد على محياها أمام شغفه الصريح، أرادت البوح بسرها؛ لكن تاهت منها الكلمات، كأنما لم تعرف كيف تبدأ في مفاتحته، وكيف تستطيع ذلك دون تمهيد مسبق عن هذه المسألة الحرجة؟ أتراه سيفرح حين يعلم؟ أم سيكون الأمر سيان لديه؟ لم تكتمل فرصتها بسبب مجيء "ماهر" وشقيقته، والطبيبة "ريم". تطلعت إلى ثلاثتهم في سرورٍ، وبدأت ذراع "تميم" ترتخي قليلاً عن خصرها، ركزت بصرها على الأول وهو يخاطبها مبتسمًا في وقارٍ:
-مبروك يا "فيروزة".
ردت مبتسمة ابتسامة رقيقة:
-"ماهر" بيه، الله يبارك فيك.
آه لو استطاعت أن ترى نيران الغيرة المشتعلة في حدقتي "تميم"، وغيره يناديها باسمها متجردًا من أي ألقاب! انتفض جسدها فجأة وقد شعرت بذراعه القوي تحاوط خصرها من جديد وتشدد عليه، ألصقها به، كأنما يعلن صراحة أنها صارت ملكيته، غير مستباح لغيره بالتجاوز معها، وقتئذ استدارت برأسها نصف استدارة لتنظر إلى وجهه من هذا القرب الشديد، رأت تعابيره مشدودة، ملامحه متجهمة، نظراته تكاد تلفظ حنقًا. ازدردت ريقها، ونظرت بتوترٍ مرة ثانية إلى "ماهر" وهو يخاطب زوجها:
-مبروك يا عريس.
مد يده لمصافحته، فوجدت "تميم" يبادله المصافحة بقوةٍ وهو يقول، دون أن تخف وطأة ذراعه على خصرها:
-الله يبارك فيك.
سحب "ماهر" يده، وخاطبه بلهجةٍ محذرة:
-خد بالك منها، ولو زعلتها في يوم هتلاقيني فوق دماغك.
للعجب صارت ضمة "تميم" لها أكثر تملكًا، ضاعف من إلصاقها بجانبه، حتى شعرت أنها ستذوب بداخله، حتى أن صوته صار أكثر تحكمًا وهو يعقب عليه:
-اطمن يا باشا، هي في أمان معايا.
حاولت "فيروزة" أن تخفف من التوتر الذي استشعرته بالترحيب بطبيبتها:
-دكتورة "ريم"، كنت هزعل لو ماجتيش.
بالكاد نجحت في التخلص من حصار "تميم" لتتمكن من احتضان الأخيرة وهي تخبرها في محبةٍ:
-مقدرش محضرش فرحك، ربنا يتمم بخير ويسعدكم.
تراجعت قليلاً عنها، وردت في ابتسامة صغيرة:
-يا رب.
ثم تركزت عيناها على رفيقتها، وسألتها في نبرة مهتمة:
-فينك يا "علا"؟ اتأخرتي ليه؟
قبل أن تبدأ في الكلام، أجاب عنها "ماهر" ساخرًا:
-عقبال ما لبست، واتزوقت، مفكرة نفسها العروسة.
هتفت شقيقته تحتج في حنقٍ:
-دي كلها حاجة بسيطة، ونتجوز.
رد عليها بنفس الطريقة المستخفة:
-ده بعد ما تطلعي اللي فاضل من عين "وجدي".
استغلت "ريم" فرصة انشغال "فيروزة" بالحديث، لتدنو من "تميم"، وتستأذنه في جديةٍ:
-ممكن كلمة يا أستاذ "تميم" على جمب.
تحرك مبتعدًا معها لعدة خطوات وهو يقول:
-اتفضلي يا دكتورة.
توقفا عند مسافة معقولة، لا تثير الاسترابة عند النظر إليهما، واستطردت تُحادثه على عجالة، لا تخلو من جدية:
-أنا عاوزاك النهاردة يكون بالك طويل مع "فيروزة"، مافيش داعي للاستعجال في أي حاجة، سيبها تاخد عليك الأول، ده هيكون أحسن ليك وليها.
قال بوجهٍ متبرم قليلاً:
-ربنا يسهل.
واصلت التأكيد عليه بنفس النبرة المحذرة:
-"فيروزة" مرت بتجربة صعبة، ومحتاجة مننا كل الدعم عشان تستعيد ثقتها في نفسها، وخصوصًا إنها بتعيد تجربة الزواج معاك.
لم يستسغ تلميحها المتواري بانسياقه وراء شهواته –كحيوانٍ جائع يستعد لالتهام فريسته- بدلاً من احتوائها بالعطف والحنان، جَمُدت تعابيره، ورد في جديةٍ تامة:
-يا دكتورة محدش هيخاف عليها زيي.
ابتسمت في لباقةٍ وهي تواصل الكلام:
-أكيد، وده مخليني مطمنة، بس برضوه ماتستعجلش.
بزفيرٍ سريع قال وهو يدير رأسه نحو "فيروزة":
-إن شاءالله.
رأت الأخيرة ملامحه المزعوجة، فتحركت في تؤدة نحوهما وهي تتساءل بنظرةٍ حيرى، مستشعرة وجود خطب ما:
-في حاجة يا دكتورة؟
ردت نافية بنفس الوجه الهادئ:
-لأ، ده أنا بوصيه عليكي.
ساروتها الشكوك قليلاً مع محاولتها المكشوفة للهروب من نظراتها المتفرسة، انتبهت مرة أخرى لـ "تميم" وهو يدعو ضيوفهما للمكوث:
-اتفضلوا يا جماعة، شرفونا جوا.
استعدت للذهاب خلفهم؛ لكنه استوقفها بإعادة إحكام الطوق القوي حول خصرها، تسمرت في مكانها، واستدارت ناظرة إليه باستغرابٍ حائر، فرمقها بنظرة تحوي حنان الدنيا ودفئها المغري، التفت ذراعه الأخرى حول ظهرها، وقربها برفقٍ إليه، لتستند بكفيها تلقائيًا على صدره، كأنما تمنع نفسها من الالتصاق به، أسبل عينيه نحوها ثم رجاها بخفوتٍ:
-خليكي جمبي.
سألته في تشككٍ بدأ يجوس بداخلها:
-في حاجة حصلت وإنت مش عاوز تقولي؟ طب دكتورة "ريم" قالتلك على حاجة؟
رد نافيًا في استرابة:
-لا أبدًا، دي بتوصيني عليكي.
ابتسمت قليلاً، وهزت رأسها في تفهمٍ قبل أن تحاول المناص منه، لم يفلتها، وأصر على بقائهما هكذا، فتحرجت كثيرًا من وقفتهما الرومانسية، وهمست في ارتباكٍ:
-ماينفعش كده.
غازلها بنظراته الجريئة، وهتف في حرارةٍ وهو يزيد من ضمه:
-هو إيه اللي ماينفعش؟ إنتي مراتي دلوقتي.
تلوت بجسدها محاولة الفكاك منه، ووجهها ينطق بحمرة قوية، تلعثمت وهي تردد:
-الناس بتبص علينا.
لم يكترث لكائنٍ من كان، وراح يقول في تحدٍ مستمتع:
-مالناش دعوة بيهم ...
من موضع يديها استشعرت تسارع نبضاته، كأنها تعترف لها بما يعجز اللسان عن قوله، انتفض ما بين ضلوعها، وذاب كليًا وهو مستمرٌ في مداعبة أذنها بحلو كلامه:
-وبعدين هو حد يبقى في حضنه القمر، ويسيبه؟ ده يبقى أهبل!!
تراجع كلاهما عن بعضهما البعض في حرجٍ شديد، وقد صدح من خلفهما صوتًا معنفًا:
-خلي جو الغراميات ده بعدين يا سي "روميو".
أطرق "تميم" رأسه في تحرجٍ، وقال بصوتٍ شبه متقطع مبررًا وقفته العبثية مع زوجته:
-يابا ده أنا آ...
قاطعه في تشددٍ:
-يالا قدامي، ليكم بيت ترغوا فيه براحتكم.
هز رأسه في إذعانٍ كامل، وأشار لزوجته بيده لتتأبط ذراعه، ثم مشى معها متصنعًا الجدية، قبل أن يميل برأسه عليها ليخبرها بصوتٍ خافت منزعج، وهو يراها تحاول بجهدٍ إخفاء ضحكاتها المرحة:
-مش بقولك أنا محظوظ .. أوي ................................................. !!
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا