مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثانى والخمسون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثانى والخمسون
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثانى والخمسون
في نفس البلدة، ومع نفس الشخصية الحقيرة، وأمام ذلك الحشد المتجمهر، انطلق من بين شفتيها، اعترافًا خطيرًا، جعل قلبه يرفرف في الأفق البعيد، ومشاعره تهتاج في عاصفة عشقٍ لا حدود لها. جمعهما مكانٍ بعينه، واجتمعا في توقيتٍ معين، لتفيض بنفس الكلمات التي قيلت من قبل، آنذاك وأدت حبه في مهده؛ لكن اليوم غدت سبب ابتهاجه وسعده.
بثباتٍ عجيب، وعينان لا ترمشان، أضافت "فيروزة" على مسامع الحاضرين:
-ولولا ظروف وفاة عمي كنا بلغناه بالخبر عشان يحضر ويكون شاهد على العقد.
كأنما اشعلت فتيل غضبه، انفجر فيها "فضل" ينعتها بوقاحةٍ منقطعة النظير، غير عابئ بتبعات لسانه الأرعن:
-يا بجاحتك، عاوزة تتجوزي وعمك لسه مادفنش؟
ضاقت عيناها في غيظٍ من فظاظته؛ لكن سرعان ما تحولت تعابيرها إلى ذهولٍ مصدوم، حيث تأهب "تميم" للانقضاض على خصمه اللدود، فلم يمهد له وهو يكور قبضته، ليسدد أول لكمة في فكه، جعلته يرتد، ويترنح بشدة، من أثر المفاجأة المؤلمة، قبل أن يتوعده علنًا:
-إنت ناوي على موتك النهاردة.
بالكاد منعه الرجال المتواجدين من المساس به، وإلا لدك عظامه، وطحنها. تدخل "فتحي" قائلاً في رجاءٍ ليحتوي الموقف المتأزم:
-صلوا على النبي يا رجالة، بس ده لا وقته، ولا مكانه، الميت ليه حُرمة.
رد عليه "تميم" في حمئةٍ:
-كان رعاها البغل اللي واقف.
احتمى "فضل" بأجساد الرجال، ليصيح بعدها مدعيًا البراءة، وحفظًا لماء الوجه:
-شايفين الغلط؟ يرضيكوا البهدلة دي؟
علق عليه "فتحي" بنظراتٍ غير راضية عن تصرفاته الوقحة:
-ما إنت بردك يا "فضل" مش عامل اعتبار لا لكبير ولا صغير.
نظر إليه شزرًا قبل أن يدمدم في حرقة:
-دلوقتي بقيت أنا اللي غلطان؟
حدجه "فتحي" بنظرة صارمة وهو يخاطبه:
-ماهي دي مش أصول، وأنا غلبت أفهمك.
هز رأسه معقبًا في ازدراءٍ ناقم:
-ماشي يا حاج "فتحي"، أني الغلط راكبني، وأستاهل ضرب البُلغ ...
لم يكد ينهي جملته الساخطة تلك إلا وأشار بإصبع الاتهام نحو "فيروزة"، فقال علنًا:
-بس الرك على اللي مارعتش الأصول، وجاية فرحانة بمرقعتها.
فارت دماء "تميم"، وكاد يطيح به مجددًا، لولا أن تدخل "خليل" ليعنفه بخشونةٍ رغم اللعثمة الظاهرة في نبرته:
-بتسمــ..ي الجواز على سُنة الله ورسـ..وله مرقعة؟ إخص على كده.
ثم بصق عليه في نفور صريح.
ربت أحد الشيوخ الأجلاء على كتفه، ممن مشهود عنهم بسيرتهم الطيبة، وحنكتهم الخبيرة في حل المعضلات، ورجاه في ودٍ:
-اهدى يا عم "خليل".
استمر "فضل" في تجاوزاته المسيئة، فتابع بافتراءٍ:
-ما هو مش منطقي إنها تتسربع على الجواز كده إلا إن آ...
لم يدعه الشيخ يكمل أكاذيبه، لهذا قاطعه محذرًا بغلظةٍ:
-عيب يا "فضل" الكلام ده، إياك وقذف المحصنات!
كز على أسنانه مغتاظًا، والشيخ ما زال يخاطبه في تشددٍ:
-أنا بحذرك، كلمة زيادة وأهل البلد هيسيبوك ويمشوا.
اعترض عليه في غير رضا:
-يا شيخنا آ...
مرة أخرى قاطعه آمرًا الجميع:
-بينا على صلاة الجنازة.
لم يرُّده أحد، استجابوا له في طاعةٍ، وتركوا "فضل" في موضعه، يعض على شفته السفلى غيظًا، وكمدًا، لينصرفوا في اتجاه مسجد البلدة، بعد أن تولى حفنة منهم حمل النعش للصلاة عليه.
....................................................
في تلك الأثناء، نأى "تميم" بـ "فيروزته" بعيدًا عن تلك الأجواء المحملة بالغضب، والكراهية، والعداوة الصريحة، أشــار لها لتتبعه سائرة بخطواتٍ شبه متعصبة نحو السيارة، خاطبها في لينٍ محاولاً امتصاص الحنق المكبوت بداخلها جراء هذا الوضيع:
-مالوش لازمة تعكري دمك مع الأشكال دي، هو عامل الشويتين دول عشان يلم الناس حواليه.
نظرت إليه صامتة، فأكمل في هدوءٍ:
-واللي زي ده لما تعبريه وتديله قيمة أكبر من حجمه بيسوق فيها.
تنهدت مليًا قبل أن تتكلم بقليلٍ من الأسى المعكوس على ملامحها:
-معاك حق.
لم يستطع كبح نفسه وهو يعترف لها:
-زعلك عندي بالدنيا.
مرة أخرى نظرت في عينيه لتجده مشاعر الحب تنتفض فيهما، قوست شفتيها قليلاً لتظهر ابتسامة باهتة عليهما قبل أن تهمس:
-ما هو واضح.
ودَّ لو استمر في تجاذب أطراف الحديث معها إلى ما لا نهاية؛ لكن ليس كل ما يتمناه المرء يُدركه، ظهر "هيثم" على الساحة بعد اختفاءٍ مريب لبعض الوقت، علم منه أن زوجته كانت مشغولة بإرضاع طفلهما، فتفهم حاجتها للبقاء في مكانٍ شبه معزول لتتمكن من إطعامه، تساءل الأول بفضولٍ وهو ينظر للوجوه المتحفزة:
-في إيه يا ابن خالتي؟
جاوبه في غموضٍ:
-نمرة فكسانة كانت بتتعمل واتفضت.
جاءه تعقيبه في صيغة تساؤلية:
-من البغل طبعًا؟
قال وهو يومئ برأسه، وبتعابيرٍ شبه متجهمة:
-هايكون مين غيره.
أضاف "هيثم" باستهجانٍ:
-عمل حركاته الناقصة زي تملي.
دون أن تتبدل تعابيره المزعوجة أكد صحة تخمينه:
-بالظبط.
انسحبت "فيروزة" في هدوءٍ لتنضم إلى توأمتها، وراحت تثرثر معها عما حدث قبل برهةٍ بعباراتٍ موجزة، ليظهر الاستياء على وجه الأخيرة مستنكرة سلوكياته المشينة. زمت "همسة" شفتيها، واستطردت معلقة وهي تهز ذراعيها في حركة متكررة ومتناغمة ليخفو رضيعها:
-بصراحة واحد زيه المفروض يحس بالقهرة وكسرة القلب بعد وفاة أبوه، بس هو بني آدم فظيع، معندوش إحساس ولا دم.
بتأفف متزايد أخبرتها "فيروزة" وهي تدير رأسها في اتجاه "تميم" لتطمئن عليه من مكانها:
-ربنا يخلصنا منه.
عادت لتنظر إلى وجه شقيقتها عندما سألتها:
-إنتي هتعملي إيه؟
مسدت بيدها على حجابها لتتأكد من انضباطه على رأسها، ثم أجابتها مع زفيرٍ سريع:
-هشوف هيتفقوا على إيه.
لوت "همسة" ثغرها معقبة بجديةٍ:
-أنا رأيي نخلينا بعيد عن المشاكل، احنا مش ناقصين.
بعد دقيقة تقريبًا، جاء "تميم" ومن خلفه "هيثم" ليقول الأول في لهجة آمرة، لا تخلو من بعض الصرامة، وعيناه تتطلعان إلى "فيروزة":
-إنتو هتفضلوا هنا.
أضــاف عليه ابن خالته في صوتٍ يماثله في الجدية:
-بس مش هتستنوا في المكان ده، هنسيبكم عند حتة أمان عن هنا.
وافقته "همسة" الرأي، وأبدت استحسانها قائلة:
-كده أحسن.
في حين تساءلت "فيروزة" في اهتمامٍ جاد:
-فين يعني؟
تبادل "تميم" مع ابن خالته نظرة سريعة قبل أن يأتيها رده:
-بيت العمدة.
سكتت لتفكر في اقتراحه المناسب للوضع الراهن، ثم التفتت ناظرة إلى "همسة" التي أيدت رأيه بقولها:
-وأنا لسه كنت بقول لـ "فيروزة" الكلام ده، مافيش داعي نكون سبب في أي مشاكل.
لم تطل الكلام أكثر من هذا، فقد سرت همهمات شبه مرتفعة جعلت الأنظار تتجه نحو باحة البيت؛ حيث بدأ الحضور في التجمهر إيذانًا بخروج جثمان الفقيد، أشــار "هيثم" بيده لزوجته، وللبقية قائلاً:
-طب بينا، النعش اتحرك.
تحركوًا تباعًا؛ لكن "تميم" تعمد التباطؤ في خطواته ليغدو سائرًا بجوار "فيروزة"، لم يستطع منع نفسه من سؤالها:
-أنا عارف إنه مش وقته، بس ممكن أعرف حاجة؟
احتفظت بملامح وديعة رقيقة وهي ترد:
-اتفضل.
تنحنح في خفوت ليجلي أحبال صوته، قبل أن يتشجع قائلاً بترددٍ طفيف:
-اللي قولتيه قصاد الناس من شوية، كان بجد، ولا ده آ...
فهمت ما يرمي إليه، كان يظنها تمزح، مجرد بضعة جمل تُخرس بها الألسن قبل أن تنهش في سيرتها، لهذا قاطعته قائلة بثقةٍ، وتلك اللمعة تضيء في عينيها:
-أنا مابقولش حاجة وأرجع فيها يا معلم.
حملق فيها مدهوشًا، فأسرعت الخُطى لتهرب من هذه النظرات الوالهة، الناطقة بأسمى معاني الحب، رغمًا عنه تشكلت ابتسامة ضاحكة مستبشرة على وجهه، وهو يردد لنفسه في سرورٍ سرعان ما أخفى أماراته من على تقاسيمه:
-ربنا يرحمك يا حاج "إسماعيل"، موتك جه بفايدة.
............................................................
على الدرجة الرخامية الأولى للسلم الداخلي للبناية، جلس كلاهما معًا استعدادًا لتناول الوجبة الشعبية (الكُشري) بشراهةٍ، بعد أن تم تكليفهما بحراسة المكان ومراقبته طوال فترة غياب قاطنيه. نزع "حمص" الورق المفضض المغلف لعلبته، لضمان حفظ الحرارة به، ثم أفرغ كيسًا صغيرًا كان قد جاء مع الطعام بعد أن أزاح الغطاء البلاستيكي. تساءل "شيكاغو" وهو يفعل مثله:
-حط دقة زيادة ولا لأ؟
أجابه وهو يقلب محتويات علبته معًا:
-أه، أنا قولتله.
عقب "شيكاغو" بوجهٍ شبه منقلب وهو يدس ملعقته في الخليط الساخن:
-المرة اللي فاتت الصلصة كانت صايصة.
تقوست زاوية فم "حمص" الممتلئ بابتسامةٍ ماكرة وهو يرد:
-هو احنا سكتناله يعني؟ ما خدنا حقنا وزيادة.
هز رفيقه رأسه بإيماءة راضية بعد أن تذوق أول ملعقة، لم يكترث بتناثر بقايا الطعام من جوفه وهو يخاطبه في لهجةٍ جادة:
-بقولك صحيح، الواد "الأص" اتمسك بتُربة حشيش.
اكتست تعابير "حمص" بالضيق، وتساءل مصدومًا:
-إنت عرفت منين؟
بلع "شيكاغو" قدرًا من طعامه، وتابع الكلام وهو يمسح السائل المنساب من على طرف فمه بظهر كفه:
-حد من المقاطيع اللي معاه حب يعلم عليه، وحبايبي بلغوني.
غرَّز "حمص" ملعقته من جديد في علبته، ليضمن امتزاج المكونات معًا بعد إضافة الصلصة الحريفة إليها، ثم قال:
-ده لبسه في الحيط.
وضع "شيكاغو" بين أسنانه زجاجة المشروب الغازي، لينتزع غطاها ويفتحها، تجرع ثلثها في رشفة واحدة، ليطفئ اللهيب المندلع في جوفه، ثم تجشأ قائلاً:
-الكلام الداير إنها تصفية حسابات قديمة.
غامت ملامح وجه "حمص" وهو يكلمه:
-عاوزين نشوفلنا حد تاني نستقضى منه حاجتنا.
اقترح عليه بهدوءٍ:
-في "العُوكشة"، إيه رأيك؟
التوت تعابيره اشمئزازًا وهو يردد في غير رضا:
-ده واد فقري، وجِلدة.
......................................................
(اطرق على الحديد وهو ساخن) عَمِل بتلك المقولة الشهيرة، فقضى ما تبقى من ليله يفكر، ويدبر، ويرتب أفكاره الشيطانية، ليبدو أكثر تسلطًا، وتطلّبًا وهو يفرض شروطه عليهم، ليخرج رابحًا من هذه القضية الخاسرة. قطع "حُسني" الطريق أشواطًا، استنشق آخر دفعة دخان من سيجارته، قبل أن ينهيها بإلقائها عند قدميه ليدعسها وهو يقترب من مدخل البناية. بدا في وضعية تحفز، وعيناه تبرقان بوميضٍ غاضب؛ لكن ما لبث أن تبدلت قسماته المشدودة إلى لمحات من الذهول والاستغراب عندما رأى الاثنين المرابطين عند السلم، خاصة مع الندوب وعلامات الشجار العنيفة المحفورة على وجهيهما.
تردد لحظيًا، واستجمع نفسه قبل أن يظهر عليه ارتباكه من المفاجأة؛ حيث أنه لم يتوقع وجود أحدهم في هذا المكان، وتحديدًا هذه الأوجه الإجرامية. قرر تجاهلهما، والمرور بجوارهما في هدوءٍ لتجاوزهما؛ لكن "شيكاغو" استوقفه متسائلاً في صلابة:
-رايح فين يا أخ؟
حدجه "حُسني" بنظرة باردة، قبل أن يأتيه رده مثل نظرته:
-وإنت مالك؟
نهض من جلسته منتفضًا، وصاح بغضبٍ متصاعد في صدره، ونظرة حانقة تطل كذلك من عينيه:
-لأ مالي ونص وتلاتربع.
انضم إليه "حمص" وترك ما في يده، ليقوم واقفًا، ويسأله بلهجةٍ محققة:
-جاي لمين؟
التفت ناحيته، ورد عليه بنفس الأسلوب الفظ:
-يخصك في إيه منك ليه؟
أجاب عليه "شيكاغو" بغلظةٍ:
-كل اللي في الناحية دي يخصوني ...
سدد إليه "حُسني" نظرة نارية، أتبعها ببسمة هازئة مرسومة على ثغره، فما كان من "شيكاغو" إلا أن تابع بهديرٍ مهدد:
-هاتنطق ولا أعمل معاك السليمة؟
ضحك "حُسني" ساخرًا منه، قبل أن يتكلم بصعوبة وسط ضحكاته المصطنعة ليزيد من استفزازه:
-الله! هو إنت منهم؟
ارتفعت نبرة "حمص"، ولكزه في صدره متسائلاً:
-ماتلوكش في الكلام، جاي لمين؟
لم يجبه، ونظر إليه بتعالٍ، كأنما يتحداه أن يتجرأ عليه، في حين استطرد "شيكاغو" صائحًا:
-إنت لسه هتسأله، قلبه وشوف بطاقته.
لم يأخذهما على محمل الجد، ووكز أحدهما في ذراعه وهو يحتقرهما بكلماته المزدرية:
-إيدك إنت وهو ياض، معدتش إلا إنتو يا كُناسة الشوارع، ده أنا أسويكم بالأرض.
تحرك "شيكاغو" ليقف قبالته متحديًا إياه بجراءةٍ لا تخلو من نزعة التهديد:
-كان غيرك أشطر ...
نظرة غامضة منحها لرفيقه، فهمها الأخير، وأومأ برأسه بخفة، قبل أن يأمره صراحةً:
-رقده
تحولت أنظار "حُسني" على "حمص"؛ لكن في لمح البصر كان كلاهما قد تكالبا عليه، وأسقطاه أرضًا، رغم المفاجأة المباغتة إلا أنه قاوم محاولتهما لتقييده، وظل ينازعهما إلى أن خارت قواه أمام عنفهما المتزايد، لهث وتقطعت أنفاسه وهو يسألهما في عصبيةٍ:
-إنتو مين؟
لم يبخلا عليه بقدرٍ من اللكمات، وبعض الوكزات واللكزات المؤلمة في صدره، وعنقه، ووجهه، حتى أجهزا تقريبًا على طاقته المشحوذة ضدهما، تمكن بعدها "حمص" من انتشـال محفظته، ليخرج منها بطاقة هويته الشخصية، ولكونهما على علمٍ مسبق باسم الشخص المُراد الحيطة منه، كان من اليسير عليهما التعرف عليه، لوح بها إلى "شيكاغو" وهو يخبره بابتسامةٍ لم يفهم مغزاها سواه:
-هو اللي عليه العين.
خلت تعابير وجه "شيكاغو" من أدنى أمارات التعاطف وهو يهتف متوعدًا إياه:
-نهارك ماطلعلوش شمس.
أدرك "حُسني" أنه وقع في قبضة شرذمة من معتادي الإجرام، الندوب أصبحت أكثر وضوحًا، الشراسة باتت غير قابلة للإنكار، ازدرد ريقه غير الموجود في جوفه، وتساءل بصوتٍ جاهد لجعله غير مهتزٍ:
-إنتو مين؟
انطلقت شرارات عدوانية ممتزجة بانتشاء غريب من عيني "شيكاغو" وهو يخبره:
-احنا اللي هنسويك على الجانبين، لحد ما يبانلك صاحبك .. بس قَبلَة نشحنك على الشونة!
ارتجف قلبه رهبةٍ، وقاوم هذا الشعور بالخوف ليقول في عداءٍ، وهو يتلوى بجسده ليتحرر من قيدهما المحكم كرمقٍ أخير للنجاة ببدنه:
-حاسب يا (...) إنت وهو.
تبادل "حمص" نظرة سريعة مع رفيقه قبل أن ينطق بلهجة لم تحمل سوى نية صريحة بإيذاء موجع .. موجع للغاية:
-ده بيغلط، نهارك كوبيا!
..........................................................
الحنين إلى الماضي بكافة ما يحتويه من ذكريات، أمنيات، آمال، وقدر من الأحلام كان مطلوبًا في تلك الزيارة الاستثنائية، لتجاوز مرحلة الضغوطات المؤذية للنفس والمتلفة للأعصاب. أحست "فيروزة" بالدفء يتسلل إلى روحها بعد أن وطأت بيتها في البلدة، المكوث فيه لبعض الوقت كان مفيدًا إلى حدٍ ما، انتبهت إلى توأمتها القائلة بسعادةٍ ظاهرة عليها تناقض الظروف الحادثة:
-زي ما نكون سيبنا البيت إمبارح، كل حاجة في مكانها، وزي ما هي.
لاذت بالصمت وهي تصغي إليها عندما أكملت بحماسٍ:
-شوية تنضيف ويبقى زي الفل.
اكتفت بهز رأسها، واتجهت سائرة نحو الباب لتساعد خالها على الولوج، ثم أزاحت الغطاء الأبيض عن إحدى الأرائك وهي تدعوه للجلوس:
-تعالى يا خالي ارتاح هنا شوية.
أطلق زفرة متعبة وهو يلقي بثقل جسده على الأريكة، أراح رأسه للخلف، وأغمض عينيه في إرهاقٍ واضحٍ عليه، ابتعدت عنه، وتحركت في اتجاه "رقية" التي أخذت تتجول في المنزل وهي تتساءل في فضول طفولي:
-ده بيتنا يا "فيرو"؟
أجابتها بابتسامةٍ صغيرة لطيفة:
-أيوه يا "كوكي".
زمت الصغيرة شفتيها، ووضعت يدها على بطنها لتقول ببراءةٍ:
-أنا جعانة.
فتحت "فيروزة" سحاب حقيبتها لتخرج من داخلها ورقة مغلفة، قدمتها إلى ابنة خالها قائلة:
-معايا سندوتش جبنة، تاكليه؟
هزت رأسها موافقة:
-طيب
ناولته إياه بعد أن فضت الورقة عنه، ومسحت على جانب وجهها بحنوٍ قبل أن تمرق في الردهة المؤدية إلى غرفتهما القديمة، حيث استقرت شقيقتها مع رضيعها. وقفت "فيروزة" عند عتبة باب الحجرة تسألها:
-أومال فين جوزك؟
جاوبتها بإشارة من رأسها:
-واقف مع "تميم" برا، هيشوفوا هنعمل إيه بعد كده.
تلقائيًا استدارت رأسها نحو الشباك الموصود الذي يفصل غرفتهما عن الخارج، كأنها تطمح أن تنفذ نظراتها عبرته لتصل إليه، فتشعر بقربه، ويشعر بوجودها حوله، توقفت عن التماوج في فضاءات خيالها الحالم مؤقتًا لتردد في تبرمٍ:
-وطبعًا ماما مش هترجع دلوقتي من بيت عمي.
اتخذت "همسة" حذرها وهي توضح لها على مهلٍ:
-ما إنتي عارفة إن دي الأصول والعوايد، والمفروض على الأقل نكون كلنا هناك التلات أيام، بس عشان آ...
لمحة من التردد انعكست في نبرتها قبل أن تستأنف كلامها بمزيد من الحيطة:
-المشاكل وكده، فاحنا هنفضل هنا.
كانت في غنى عن الغوص في المزيد من التعقيدات، والاستفزازات المستهلكة لطاقة الفرد على التحمل .. تنهدت بعمقٍ قبل أن تعقب عليها في ملامح واجمة:
-أيوه .. عارفة، وربنا يهون.
...................................................
لو لم يكن قد تلقى ذلك الاتصال الذي أثلج صدره، وشَرَحه قليلاً، لربما بقي على حالته المستثارة، وذهب مرة أخرى إلى هذا الوغد الحقير لإشباعه بالضرب المبرح جراء زلات لسانه الوقحة، تلك التي لم يتوقف عنها حتى بعد دفن أبيه. لاحظ "هيثم" تبدل تعابير ابن خالته، فنظر إليه مستفهمًا، فأخبره في صوتٍ جاد:
-الواد اتجاب.
تساءل في تحيرٍ:
-واد مين؟
استخدم يده في الشَرحِ وهو يجيبه:
-اللي اسمه "حُسني"، قريب مراتك.
هز رأسه كمن تذكر الأمر، وعلق متسائلاً:
-أه، افتكرته، طب كويس، وإنت ناوي معاه على إيه؟
فرك "تميم" طرف ذقنه بيده؛ كأنما استغرق للحظةٍ في أفكاره الخاصة، لينطق بعدها بغموضٍ:
-نخلص من الحوار اللي هنا، وأفوقله.
.....................................................
-شكر الله سعيك.
ردد تلك الكلمات وهو يمد يده لمصافحة أحد الأشخاص ممن جاءوا لتعزيته في وفاة والده، ثم عاد للجلوس مجددًا على مقعده الخشبي الموجود في المقدمة، ليدير رأسه إلى الحاج "فتحى" الذي استمر في توبيخه بصوتٍ خفيض:
-يا غبي! أنا قولتلك تعمل كده؟ عاوز تلفت العين عليك؟
صر على أسنانه مدمدمًا بنبرة خافتة، ووجهه مغطى بأمارات الضيق والغيظ:
-يعني أسكت لما أشوف الطِحش ده قصادي؟ وأعمل فيها خروف؟!!
نظر له "فتحي" شزرًا، فاستمر يقول بنبرة مالت للارتفاع:
-ده كان حقي أكله بسناني.
حذره بإشارة صارمة من عينيه ليلتزم الصمت، ثم خاطبه في هسيسٍ كالأفعى:
-أخد الحق صنعة، مش جهجهوني كده.
رد بتبرمٍ وهو ينهض لمصافحة آخر:
-أهوو اللي حصل بقى.
عاود الجلوس، وحدق في وجه "فتحي" حين أكد عليه بخبثٍ:
-لو سمعت كلامي هتكسب.
ظل على تعابيره المكفهرة وهو يُحادثه بغير نفسٍ:
-ما أنا سمعته سابق، وشوف جرى إيه لأبويا.
كأن ما حدث لرفيق العمر لم يهز شعرة من رأسه، بل اعتبر أنه نال جزاء ما يستحق لفعلته السابقة مع "أسيف"، حين اتخذ صفها، وعارضه بشكلٍ جعله رغبته الانتقامية تتأجج فيه. استعاد إدراكه لما حوله، وقال بصوتٍ جاف تعمد تطعيمه ببعض الوعظ الديني، للتغطية على ذنبه:
-لكل أجلٍ كتاب، عمره كان لحد كده، هنعترض على قضاء ربنا.
رمقه "فضل" بنظرة حادة، في عمقها يظهر الاحتجاج؛ لكن سرعان ما قضى عليه "فتحي" في مهده بتبرير أسبابه:
-ولا كان عاجبك تبقى مرمي في الشارع رمية الكلاب، وخير أبوك يروح لغيرك؟
أطال النظر إليه متذكرًا حياة التشرد التي عاشها لأيامٍ بعد أن قام والده الراحل بطرده من المنزل، حيث ذاق فيها القسوة، والمُر، والإهانة، والمعاملة الدُونية، ربما استمر هذا الوضع البائس لفترة أطول لولا أن انتشله "فتحي" من القاع باقتراحه اللئيم، وقتئذ حثته دوافع الكراهية، ونوازع الانتقام، للفُجر في الخصومة، والاقتصاص منه بدهاءٍ، فكان بإقامة دعوة قضائية تمنعه من التصرف في أمواله قانونيًا، وحدث ما صبا إليه، ونال القهر من "إسماعيل"، ومات كمدًا وألمًا.
كالشيطان الذي يوسوس لضعاف النفوس، فيغريهم ويغويهم، إلى أن يسقطوا في الهاوية، سرى صوت "فتحي" على مسامع الجالس إلى جواره بقوله المليء بوعودٍ طامعة:
-اصبر .. ده أنا غرضي مصلحتك، ومعايا كل اللي نفسك فيه هيتعمل.
نظر في عينه، وقال بإذعانٍ واضح:
-ماشي يا عم "فتحي"، أديني وراك لحد ما أشوف أخرتها إيه.
في نفسه الخبيثة لم يكن يريد طاعته إلا ليصل إلى غاياته في الظفر بكل شيءٍ كان على وشك الحرمان منه قسرًا: المال، الجاه، الحَسب، السُلطة، القُدرة، وقبل هذا .. هي، لا لمحبةٍ خالصة فيها، وإنما لنزعة مريضة فيه ....................................... !!
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا