مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل الثالث والخمسون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثالث والخمسون
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل الثالث والخمسون
نهنهات البكاء وآناته، كانت سائدة في كل بقعة محيطة بالمنزل، ليس للتضامن مع الوغد الجالس بالخارج على رأس المعزيين، وإنما تقديرًا للفقيد الذي كان لا يدخر وسعه لمساعدة الكثيرين في البلدة. كفكفت "آمنة" دموعها المنسابة، بعد أن عصفت بها ذكريات الماضي الموجعة لرحيل شريك العمر، حاولت مواساة "سعاد" في مُصابها؛ لكنها تفاجأت بها تخاطبها في لهجة آمرة، وجامدة تدعو للاسترابة:
-خدي بناتك، وإمشي.
توقفت عن البكاء لتنظر إليها مدهوشة، رأت في وجهها جمودًا أعجب، صمتت لوهلةٍ كأنما تستوعب الأمر، ثم هتفت مستنكرة:
-إيه اللي بتقوليه ده يا "سعاد"؟
بنفس الطريقة الجافة أحرجتها أمام النساء المجتمعات في بهو المنزل:
-زي ما سمعتي، إمشي...
تدرج وجه "آمنة" بحمرة خجلة للغاية، ونظرت إليها متحيرة؛ لكنها استمرت في لهجتها الآمرة:
-خدي بعضك وامشي مع بناتك قبل ما الليل يجي، إنتي عملتي الواجب، وسعيكم مشكور.
تحولت ملامحها للتجهم الشديد، وقامت من مكانها معلقة باستهجانٍ:
-إنتي كده بتطرديني؟
لم تحد "سعاد" بنظراتها المتجهمة عنها، وأخبرتها في صوتٍ لم يصدر منها مُطلقًا:
-بعد كده هتشكريني.
أمام سكوتها القاسي، ونظرات الدهشة الممتلئة بها الأوجه، انسحبت "آمنة" من عزاء السيدات، وهي تحني رأسها في أسفٍ، ليتبع ذلك ترديدها الحزين عند عتبة باب المنزل:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، بقى دي أخرتها؟!
كادت تصطدم خلال سيرها المتعجل بـ "فضل" الذي اعترض طريقها، تماسكت، وحافظت على اتزانها، لتنظر إليه في حسرةٍ، بادلها نظرات تحمل الإنكار لذهابها مبكرًا، وصاح متسائلاً:
-رايحة فين يا مرات عمي؟
رمقته بنظرة حادة، وتحركت إلى الجانب لتتجاوزه وهي ترد في نبرة شبه غاضبة:
-اسأل أمك.
تدلى فكه السفلي مندهشًا للحظةٍ، وتبعها بنظراته الفضولية متسائلاً في استغرابٍ حائر:
-اسأل أمي على إيه؟!!
......................................................
فرك بيده –في حركة سريعة متكررة- شعره عدة مرات وهو يتحدث هاتفيًا إلى أبيه ليطلعه على آخر المستجدات الخاصة بالعزاء، لم يكن ليخطو خطوة دون الرجوع إليه، خاصة هذا الأمر تحديدًا، اتقاءً لشرور النفوس الخبيثة. أطلق "تميم" زفرة طويلة، أضاف بعدها في جديةٍ:
-تمام، هشوف الوضع إيه يا حاج، وأعرفك.
بدت ملامحه إلى حدٍ كبير عابسة، وانعكس الضيق على نبرته أيضًا عندما تكلم إليه:
-أكيد طبعًا، أنا عامل حسابي.
استدار محدقًا في وجه ابن خالته، وقال موجزًا:
-مسافة الطريق.
ودعه دون أن تسترخي قسماته المشدودة:
-حاضر يابا، في رعاية الله.
بمجرد أن ضغط على زر إنهاء المكالمة، عاجله "هيثم" بسؤاله المتطفل:
-هتمشي؟
طرد الهواء من صدره في دفعة واحدة قبل أن يجاوبه:
-لو كان ينفع كنت فضلت معاك، بس عشان الأصول وكلام الناس.
أيده في رأيه متمتمًا وهو يُريح ذراعه على سقف السيارة:
-معاك حق، الحكاية مش ناقصة عك، وهنا ما بيصدقوا.
عقب عليه "تميم" في امتعاضٍ مستنكر:
-الناس في أي حتة ما بتصدق تعمل من الحبة قبة، واحنا عندنا واحد عامل زي نافخ الكير.
ابتسم في سخرية وهو يرد مخفضًا رأسه:
-على رأيك ...
سكت لهنيهة، ثم رفع رأسه استعدادًا لإكمال جملته؛ لكنه لمح أحدهم يقترب منهما في خطى شبه مهرولة، وسط الفراغ الممتد من حولهما، استرعى الأمر كامل انتباهه، وقال بتلقائية:
-بص هناك كده، في حد جاي علينا.
تحولت عينا "تميم" إلى حيث ينظر ابن خالته وهو يسأله في اهتمامٍ:
-فين؟
صحح له مسار نظره قائلاً:
-يمينك ..
أمعنا النظر في الكتلة البشرية المقتربة منهما، تلك التي بدأت تتضح معالمها، فنطق "هيثم" من جديد عاليًا:
-مش دي حماتي اللي جاية من بعيد؟
تفرس في هيئتها، وقال موافقًا:
-أه هي ...
لكن ما لبث أن تساءل مُتعجبًا:
-هي راجعة قبل ميعادها ولا إيه؟
زم "هيثم" شفتيه للحظةٍ قبل أن يُحادثه وقد استدار بجسده كليًا ليغدو في مواجهتها:
-باين كده.
أطال "تميم" التحديق بها وهو يضيف:
-دي كانت قايلة هتفضل لحد بعد العشاء هناك في بيت الحاج "إسماعيل".
اتفق معه في كلامه، فردد بتحيرٍ:
-أيوه، أومال حصل إيه؟
نظرة جانبية سريعة منحها له قبل أن يعاود النظر إليها قائلاً:
-دلوقتي نسألها ونعرف.
غمغم "هيثم" في توجسٍ:
-ربنا يستر ومايكونش قل بأصله.
أومأ بحاجبه هاتفًا:
-هيبان.
انتظرا قدومها إليهما، وبادر "هيثم" بسؤالها أولاً في نبرة مهتمة:
-السلام عليكم، إيه الأخبار يا حماتي؟
لم تتطلع إليه وهي ترد في وجومٍ مريب:
-جهز العربية يا ابني، احنا ماشيين.
لاحقها "تميم" بأسئلته متوقعًا حدوث الأسوأ معها:
-ماشيين ليه؟ حصل إيه؟ حد اتعرضلك ولا ضايقك؟
توقفت عن المشي لتستدير ناحيته، ثم أخبرته بما أصابه بالمزيد من الحيرة:
-لأ، بس قُعدنا مالوش لازمة ...
أبعدت نظراتها عنه، وأكملت كلامها في جديةٍ منزعجة:
-أنا هاخش أنادي على أخويا والبنات خلينا نلحق نمسك الطريق قبل ما الدنيا تضلم علينا.
لم يعقب أحدهما عليها، ظلا صامتين إلى أن غادرت، فاستطرد "تميم" مخاطبًا ابن خالته:
-شكل الموضوع كبير.
ربت "هيثم" على كتفه قائلاً بهزة واضحة من رأسه:
-الظاهر كده.
..............................................................
الكدمات والتورمات التي افترشت أنحاء جسده، جعلته عاجزًا عن إيقاف شعوره بالألم، خاصة مع حركته العنيفة والمقاومة للقيد الإجباري المفروض عليه، حاول "حُسني" تحرير معصميه؛ لكنهما كانا مثبتان بحبلٍ غليظ في مسندي الكرسي الخشبي المربوط فيه، انتفض بصدره في قوةٍ، علَّ بمحاولته اليائسة يزحزح الأربطة عنه، ورغم ذلك المجهود الكبير إلا أنه فشل أيضًا. جال بنظراتٍ جمعت بين الخوف والترقب المكان من حوله، فلم يتبين سوى تفاصيلٍ قليلة منه، حيث كانت الإضاءة باهتة، الجدران مطلية بلونٍ داكن، لم يستطع تحديد ماهيته، القش، الأقفاص، الألواح الخشبية، وبعض الكراكيب القديمة متناثرة هنا وهناك. تخشب في جلسته غير المريحة على الإطلاق وقد سمع صوت همهمات خارجية، أدار رأسه في اتجاه مصدر الصوت، وتجمدت عيناه على بابٍ معدنيٍ يُسحب للأعلى، برزت حدقتاه على اتساعهما عندما رأى الاثنين اللذين تصارعا معه عند منزل "خليل"، رغم انحباس نبرته في البداية وتحشرجها إلا أنه صرخ فيهما بتشنجٍ:
-أنا فين؟ وإنتو مين؟
ضحك "حمص" هازئًا منه، فواصل صياحه الهادر:
-خاطفيني ليه؟ بيني وبينكم إيه؟
تبادل "شيكاغو" الضحك مع رفيقه مما استفز مشاعره، وأغاظه، لهذا هدر مهددًا:
-ده أنا هوديكم في داهية!
مسح "حمص" على صدره في حركة دائرية، وأخبره بانتشاء مستمتع بإذاقته صنوف العذاب:
-احنا الداهية يا (...).
تحقيره، والتقليل من شأنه استثار أعصابه بسهولة، لذا رد عليه بنبرة هجومية:
-فكني وأنا هوريك مقامك يا (...).
دنا منه "شيكاغو"، وربت على صدغه بما بدا أشبه بالصفعات القاسية وهو يحذره:
-ما تخدش الموضوع على صدرك أوي بدل ما تندم.
التهبت بشرته، وظهرت أثار أصابعه على خده، فصرخ فيه بغلٍ:
-إبعد إيدك، ده أنا هقتلك.
كركر ضاحكًا قبل أن يبتر الضحكات المصطنعة ليقول بنوعٍ من الاحتقار:
-مش هتعرف.
استمر "حُسني" على صياحه الحانق لاعنًا الاثنين بكلمات نابية:
-فكوني يا شوية (...)، ده أنا هطلع (....).
كتف "حمص" ساعديه أمام صدره، ورفع كفه ليمسح به على طرف ذقنه سائلاً رفيقه بنظرة ميتة:
-هنسيبه يغلط فينا كده؟
توحشت عينا "شيكاغو" بشكلٍ مرعب حين تكلم بابتسامةٍ أبرزت نزعته المبيتة للإيذاء:
-لأ طبعًا، المعلم قال إيه، اللي يغلط يتأدب، وبالأصول.
علق عليه "حمص" بتأيدٍ مبطن:
-يبقى واجب نعرفه أصول منطقتنا.
النظرات الوحشية التي قرأها في وجهيهما أوحت بشرٍ مستطر، هوى قلبه بين قدميه، وهلل متسائلاً بفزعٍ:
-هتعملوا إيه؟!
زادت بسمة "شيكاغو" اتساعًا قبل أن يميل ناحيته، ليدنو من أذنه، ثم هسهس له بفحيح كالأفعى:
-إنت ضيفنا، وإكرام الضيف ....
برودة قارصة حلت ببدن "حُسني"، خاصة حين أتم جملته بنفس الصوت الخافت المفعم بالشراسة:
-واجب علينا.
............................................................
استطالت فترة الصمت، وما تردد من بضعة عبارات طوال مسافة الطريق كان موجزًا، مُحايدًا، لا يشير إلى موضوعٍ بعينه، حتى نظراته إليها كانت إلى حدٍ ما متباعدة؛ وكأن هناك ما يسعى لإخفائه عنها بتجنبها. تنامى هذا الشعور بداخلها وهو يميل على خالها عند مفترق كل إشارة ليكلمه بصوتٍ خفيض، عجزت عن تفسير ما يتردد خلاله.
أما عن والدتها فكانت أبعد ما يكون عنها، نظراتها تائهة، ملامحها واجمة، بالكاد تمنع نفسها من البكاء العميق، فقط تخونها الدموع بين الفنية والأخرى، فتمسحها بمنديلها الورقي المهترئ دون أن تنبس بكلمة. لم تستطع مقاومة الفضول المستعر بداخلها، فتساءلت عاليًا، لتبوح بما يعتمر رأسها من أسئلة متصارعة، لا تجد لها أي أجوبة:
-في إيه يا جماعة؟ هو حصل حاجة؟
التفت "خليل" برأسه ناحيتها لينظر إليها، وقال نافيًا بلا ابتسامٍ:
-لأ .. كله تمـ..ام.
دققت النظر في وجهه، فرأت التردد ظاهرًا عليه، بل إنه تحاشى إطالة النظر، وهرب بعينيه منها، فتساءلت بغير اقتناعٍ:
-متأكدين؟ أصل حاسة إن في حاجة غلط، أو إنتو مخبيين عنا حاجة؟
الكذب عليها لم يكن متاحًا لديه، لهذا كان الحل الأسلم له التزام السكوت، وادعاء انشغاله بالقيادة، وذلك ما لم ينطلِ عليها! أولت وجهها نحو والدتها تسألها في إلحاحٍ:
-وبعدين يا ماما إنتي مشيتي بدري ليه؟
جمدت "آمنة" نظراتها على الطريق، ولم تعقب، فاستمرت ابنتها تسألها:
-مش المفروض بنقعد الـ 3 أيام؟
محاصرتها بالأسئلة لن يأتي بفائدة، هربت من هذه الضغوطات بصياحها المزعوج:
-خلاص بقى يا "فيروزة" هو تحقيق؟ أنا دماغي مش فايقة!
تعجبت من ردة فعلها المبالغ فيها، المناقضة لما كانت عليه باكر، خاصة أنها من كانت توصيها طوال طريق الذهاب بالصبر، وعدم افتعال المشاكل، إن مكثوا لمدة أطول في البلدة. هزت رأسها دون أن تشبع فضولها، ورددت:
-طيب يا ماما.
ألصقت "فيروزة" حقيبتها بصدرها، وراحت تتأمل الطريق من جانبها، وهي تخبر نفسها في نبرة عازمة:
-عمومًا .. لو في حاجة، فأنا مسيري أعرفها.
..................................................
تهادت سرعة السيارة، وتباطأت حين انعطفت من الشارع الرئيسي، لتتجه إلى الطريق الجانبي المؤدي إلى البناية. أوقفها "تميم" بمحاذاة الرصيف، ثم ترجل أولاً، دون أن يُبطل محركها، ومسح المكان بنظراتٍ فاحصة، متأملة قبل أن ينطق في صوتٍ هادئ:
-حمدلله على السلامة، اتفضلوا.
عندئذ ترجلت والدتها دون أن تنطق بشيء كعادتها الغريبة في الساعات الأخيرة، ولحقت بها الصغيرة "رقية"، في حين استعدت "فيروزة" للنزول بعدهما؛ لكنها لمحت بطرف عينها يد "تميم" وهي تمتد لتضغط على جانب ذراع خالها، كأنها إشارة خفية لأمر ما، فمكث الأخير في مكانه دون حراكٍ، ضاقت عيناها باسترابة، ولم تمرر ذلك على خير، تعمدت التلكؤ وهي تترجل من جانبها، وحانت منها التفاتة جادة ناحيته؛ لكنه لم يكن ناظرًا في اتجاهها، وهذا شيء غريب، غير مستساغٍ عليها! انتبهت إلى صوته يقول بعد نحنحة سريعة:
-أنا عاوزك في مشوار كده يا عم "خليل".
تركز بصرها على خالها، ورأته وهو يومئ برأسه قائلاً دون جدالٍ:
-طيب.
استُثير شعورها بالريبة، وتضاعفت أماراته بداخلها، مررت نظراتها المتفرسة على وجهي كليهما، وباتت شبه متأكدة أنهما يخفيان عنها أمر ما. لفت حول مقدمة السيارة، ومنعت "تميم" من ركوبها، بوضع يدها على بابها المجاور له، حملق فيها مندهشًا، وحاول الفرار من نظراتها المتشككة عندما سألته مباشرة:
-إنت واخده ورايح على فين؟
حك طرف ذقنه قائلاً بصوتٍ هادئ، وعيناه تحاولان ألا تنظر إليها:
-مشوار على السريع.
انعقد حاجباها بشكلٍ واضح، مما زادها بأسًا على بأس، خاصة وهي تلاحقه بسؤالها التالي:
-أيوه فين يعني؟
أعطاها ردًا شبه مراوغ وهو يشير بيده:
-حتة مش بعيدة، جمبنا هنا.
ضاقت عينها بمزيدٍ من الشك، وسألته:
-ليه؟
قبل أن يفكر في منحها الجواب المناسب، حذرته مشيرة بسبابته:
-ويا ريت تكون واضح معايا.
التحايل عليها، وحياكة الأكاذيب لم يكن خيارًا مطروحًا، لهذا لم يجد بدًا من الاعتراف لها على مضضٍ:
-هنقابل قريبه.
كل لبيب بالإشارة يفهم، خمنت دون الحاجة للتفكير هوية الشخص المقصود، وأفصحت عنه علنًا في صيغة متسائلة:
-خال "رقية"؟
قال متجهمًا:
-أيوه.
منحته نظرة غامضة، تحوي غضبًا واضحًا، قد أخذ في التجمع في حدقتيها اللامعتين، قبل أن تتراجع من مكانها، لتعود إلى مقعدها بالسيارة وهي تردد في حسمٍ حازم:
-أنا جاية معاكو.
احتج على قرارها غير الصائب هاتفًا في صدمةٍ:
-استني بس، مافيش داعي لوجودك، ده الموضوع هننهيه في السريع.
أغلقت الباب من خلفها بقوةٍ، ونظرت إليه من نافذتها صائحة بعنادٍ أحمق:
-حتى لو هتخلصه في دقيقة، برضوه هاروح معاكو، فمتحاولش تمنعني.
استند بقبضتيه على إطار نافذتها، ورمقها بنظرة معترضة معلقًا في انزعاجٍ:
-إنتي عنادية أوي، وده ماينفعش، احنا مش رايحين نهزر.
بادلته نظرة أكثر عِندًا وهي ترد:
-ومين قالك إني رايحة ألعب؟ أنا رجلي على رجلكم.
أطبق على شفتيه مانعًا نفسه من الكلام المنفعل لحظتها، فنظرت إليه في تحدٍ وهي تأمره:
-ويالا عشان مانتأخرش.
تحلى مضطرًا بفضيلة الصبر، وسحب قبضتيه من على الإطار، ليردد في جديةٍ اكتسبتها نبرته وملامحها:
-ماشي يا أبلة.
كانت تعلم في قرارة نفسها أنه لم يكن راضيًا عن تصرفها المعاند له، وذلك لحرصه الواضح على عدم تعرضها للأذى، ومع هذا أصرت على الحضور، لتكون على رؤوس الأشهاد فيما سيحدث لاحقًا.
.......................................................
ما قيل عنه بأنه مكان قريب بداية الكذب، والخداع، وربما كشف خطورة الأمر المخبئ عنها. غامت تعابير وجه "فيروزة" وهي ترى السيارة تبتعد عن العمران، لتخرج نحو الطرق السريعة، قبل أن تنحرف في طريق جانبي، بالكاد لمحته، لتنطلق لما يقرب من عشرة دقائق وسط ما يعرف باسم طريق الملاحات. تباطأت السرعة بالتدريج حينما اقتربت من مكانٍ شبه مهجور، في قلب الأحواض المائية، دارت بعينيها في المحيط الغريب الذي كانت تراه للمرة الأولى في حياتها، شعرت بالخوف يتسرب إليها، برعدةٍ خفيفة تضرب بدنها، قاومت هذا الشعور، ونظرت إلى "تميم" الذي استطرد مخاطبًا الاثنين:
-احنا وصلنا.
ترجل أولاً ليلف حول مقدمة السيارة، حتى يساعد خالها على النزول، بينما تمهلت "فيروزة" في حركتها خشية ألا تزل قدماها على تلك الأرضية الطينية، وتتعرقل في سيرها. تساءلت في فضولٍ يشوبه التوجس:
-هو احنا جايين هنا ليه؟
ساد في نظرته إليها الأسف والضيق معًا، الأسف لكونها سترى جانبًا شبه إجرامي فيه لا يجيد السيطرة عليه حين تمس المخاطر أحبائه، والضيق لأنها ستعرف ما حرص على إخفائه عنها، لتحسين صورة خالها. تنفس "تميم" بعمقٍ، وأنذرها –كنوعٍ من التمهيد- قبل أن يتقدم في خطواته نحو الباب المعدني الموصود:
-بصي يا أبلة، الشخصية اللي هتشوفيها مش ملاك، ولا حد يستاهل المعروف، فخدي بالك.
توقعت حدوث الأسوأ، وقالت بعفويةٍ:
-شكل في مصيبة حاصلة جوا.
لم يعطها الرد الشافي، وترك لها حرية تحديد مدى السوء بناءً على ما ستراه. كور قبضته، ودق على الباب المعدني بقوةٍ رن صداها في الفراغ الممتد وهو يهدر بصوتٍ أجش:
-افتحوا يا رجالة.
ما هي إلا لحظاتٍ، وسمع ثلاثتهم صوت الأقفال وهي تفتح من الداخل، ليظهر بعدها "ناجي" مرحبًا:
-منور يا سيد المعلمين.
تفاجأ بوجود "فيروزة" معه، ونظر إلى رفيقه نظرة متعجبة مستنكرة الإتيان بها إلى هنا، فما كان منه إلا أن قَلِب ملامح وجهه وهو يغمغم بصوتٍ شبه خافت:
-متسألش.
رائحة عطنة، مع روائح أخرى غير مستحبة عبقت الهواء فجأة، وتفشت فيه، لذا وضعت "فيروزة" يدها على أنفها لتسده، وتمنع تلك الرائحة المنفرة من النفاذ إلى رئتيها، والتأثير على معدتها التي تقلصت، وانقلبت. واصلت السير خلف الرجال، وهي تجاهد لمنع شعورها بالغثيان، تغلبت مرة واحدة على هذه الأحاسيس المنفرة عندما رأت –من على بعدٍ- وجه "حُسني" مكدومًا، وغارقًا في دمائه، اتسعت عيناها ذهولاً، وتسمرت في مكانها لهنيهة حتى تستوعب ما يدور، ثم صاحت بعدها في استهجانٍ شديد:
-إيه اللي بيحصل هنا؟
انخفضت عيناها لتتأمله وهو مقيدٌ كالبهائم في مقعده، تراجع "تميم" في خطواته، بعد أن رأى ما اعتلى قسماتها من غضبٍ صريح، واتجه إليها، ليكون في مواجهتها، وقبل أن يفكر في تفسير أي شيء، تابعت استنكارها الصارخ موجهة أصابع الاتهام إليه تحديدًا:
-عشان كده مكونتش عاوزني أجي؟ ده اللي هتحل بيه الموضوع بشكل ودي؟
قبل أن يبرر أي شيء استأنفت هجومها المنفعل:
-لأ طبعًا، ده بالبلطجة، وشغل الفتونة، ولوي الدراع!!
رغم اختناق الجو بهذه الرائحة المقرفة، إلا أنه تنفس بعمقٍ ليثبط أي انفعالات تستثار حاليًا بداخله، خاصة أنها تعنفه أمام رجاله، وقال بهدوءٍ ممتزج بقدرٍ من التشنج:
-في أشكال ماينفعش معاها إلا العين الحمرة.
هاجمته بنفس الأسلوب المتعصب:
-أه وبعدين، هتنتهي على إيه؟
نظر لها بعينين محتدتان، فواصلت لومه وتقريعه بغلظةٍ:
-ترجع السجن تاني، وتكمل اللي باقي من عمرك محبوس، وتبقى الحكاية خلصت على كده.
حذرها بصوتٍ هادئ لكنه حازم:
-خلي الخناق بعدين، مش وقته.
رفعت إصبعها أمام وجهه تنذره في تشددٍ، وملامحه قد اشتعلت على الأخير من طريقتها:
-إنت لو هتستمر على الأسلوب ده في أي مشكلة تقابلك، يبقى أنا محتاجة أعيد تفكير في حاجات كتير.
سحب نفسًا آخرًا عميقًا، قبل أن يلفظه دفعة واحدة، ليقول برجاءٍ مهذبٍ:
-يا أبلة متكبريش الموضوع.
صاحت في سخطٍ ساخر:
-أكبره؟ ده على أساس إن خطف الناس حاجة عادية؟
بالكاد ضبط أعصابه لئلا تنفلت، ورد مبررًا الإمساك به:
-هو اللي جه لحد عندي برجليه، أنا مقربتش منه.
أمرته في غير مزاحٍ، وبنظرة صارمة تملأ وجهها:
-خلي رجالتك تفكه.
حدجها بنظرة غريبة، توقعت فيها أن يرفض ما قالته؛ لكنه خالف توقعاتها، ونطق في عبوسٍ بائن:
-ماشي كلامك.
اندهشت من تصرفه رغم حالة الاستياء المسيطرة عليها، وتتبعته بنظراتٍ محتقنة، وهو يأمر رجاله بتحرير "حُسني"، انتفض الأخير ناهضًا من على المقعد وهو يشعر بخوار ساقيه، بالكاد وقف على قدميه، وانطلق مهددًا في عدائية صريحة:
-ده أنا هوديكم في داهية، هسجنكم كلكم ....
تجمدت نظراته على خالها، وهو يكمل تهديده بإهانةٍ قاسية:
-وأولكم "خليل" الكلب.
شهقت "فيروزة" في استنكارٍ، بينما هاجت الدماء في عروق "تميم" وهو يحذره بغلظةٍ:
-ماتغلطش فيه بدل ما أقص لسانك.
تصنع "حُسني" الضحك، وهدر هازئًا منه:
-الفتوة الدكر ظهر يا جدعان ....
اشتاطت نظرات "تميم"، واكتست بحمرة أكثر غضبًا وحقدًا عندما تطاول متجرئًا على امرأته:
-لأ وجايب السنيورة تتفرج عليا، نِمرة حلوة تكسب بيها بونط .. حلو أوي، عشان تتحطوا في الكلبش لوكشة واحدة.
ردّه عن الانقضاض عليه كان صعبًا، خاصة مع تحفزه الواضح للفتك به، اندفعت "فيروزة" للأمام، وتجاوزت الرجال لتخاطبه في صوتٍ مرتفع، حتى ينتبه لها:
-اتكلم معايا أنا.
تحولت نظرات "حُسني" ناحيتها، وأخذ يُطالعها بغموضٍ، أحست بنظراته غير المريحة عليها، والأصعب من ذلك إحساسها بالغليان المندلع حاليًا في "تميم" جراء ما تفعله، تغاضت عن هذا التفكير الموتر لتسأله بثباتٍ:
-عاوز إيه؟
أخذها على محمل الجد، وجاوبها بنظرات قوية مسلطة عليها كالصقر:
-حقي كله.
حاولت تهديده لردعه، فقالت متحدية، كمن تناظره في القوة:
-إنت لو مفكر إنك بكده هتاخد "رقية" مننا تبقى غلطان، أولاً لأن القانون آ....
قاطعها بتلميحٍ شبه فج جعل وجهها يحمر حرجًا من جراءته:
-القانون ده لا مؤاخذة تبليه، وآ....
قبل أن يتم جملته الوقحة نسبيًا، هدر "تميم" مانعًا إياه من التفوه بأي إساءات نابية وهو يندفع قبالته:
-لسانك لو طول معاها هاقطعه.
تنفست "فيروزة" الصعداء لوجوده بقربها، فكيف سيكون التصرف إن وجه إليها ما لا يُسر من القول؟ سعت إلى لملمة الأمور قبل أن تتفاقم، وأعادت لغة الحوار إلى مسارها بنقاشه:
-إيه طلباتك؟
اتجهت عينا "حُسني" إلى "خليل"، وجاوبها مباشرة:
-وصولات الأمانة اللي مع خالك ...
صمت للحظة قبل أن يكمل في ابتسامةٍ لئيمة:
-بفوايدها.
هنا صاح "خليل" محتجًا في حقدٍ:
-إيـه الكـ..لام ده، أنا سـ..ددت نص القيمة.
اخشوشنت نبرة "حُسني" وهو يهب معترضًا على احتجاجه:
-وحق غربتي؟ والنصباية اللي اتعملت عليا منك؟
اِربد وجه "خليل" بالغيظ، وشعر بالضآلة وسره يُكشف على العلن، لم ترغب "فيروزة" في رؤية خالها في موقف العاجز الذليل، وتكلمت مرة أخرى تسأله:
-كام يعني؟
كأن الحظ ابتسم له بعد فترةٍ من الفقر المدقع، كانت تلك فرصته الذهبية للظفر بما يؤمن به مستقبله لسنواتٍ قادمة، فلا يمد يده، أو يُصاب بالعوز، عاد شعوره بالزهو يغمر جسده المتألم، حتى أنه تناسى أوجاعه مع الأحلام الطامعة التي اجتاحت عقله، أدار رأسه ناحيتها، كما التمع في عينيه الحقودتين وهجًا خبيثًا وهو يقوس ثغره قائلاً بجديةٍ:
-نص مليون جنية يا قُطة ......................................... !!
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا