مرحباً بكم أصدقائي وأحبابي عاشقي القراءة وأجمل الروايات الممتعة والروايات الرومانسية مع رواية رومانسية جديدة للكاتبة المتألقة منال محمد سالم والتي سبق أن قدمنا لها العديد من الروايات والقصص الرائعة من قبل علي موقعنا قصص 26 وموعدنا اليوم مع الفصل السادس والخمسون من رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال محمد سالم .
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل السادس والخمسون
إقرأ أيضا: حدوتة رومانسية
رواية الطاووس الأبيض ج4 بقلم منال سالم - الفصل السادس والخمسون
جاء إليه ملكومًا، مكدومًا، متكدرًا، تصرخ عظامه من الأوجاع الشديدة، ويصيح جلده من الجروح الغائرة التي لن تلتئم إلا بعد بضعة أيامٍ من العلاج الكثيف. جلس الرجل الغريب ببطءٍ على المصطبة، كأنما يخشى أن يتصدع ما تبقى متماسكًا منه، التفت ناظرًا إلى "فضل" بنظراتٍ حانقة، قبل أن يستطرد في الكلام بحرقةٍ:
-احنا ماتفقناش على كده.
وضع الأخير مَبْسِم النارجيلة بين شفتيه، وسحب نفسًا طويلاً، أجج به صدره المشتعل، قبل أن يطلق سحابة من الدخان، ليقول بعدها ببرودٍ، غير مكترث للحالة الشنيعة التي أصبح عليها:
-خلاص هزودك قرشين.
أغاظه فتوره في التعامل مع وضعه الحرج، وصاح مستنكرًا بغلٍ يصدح في نظراته أيضًا:
-ده أنا كنت هروح فيها، جسمي كله اتخرشم ومابقاش فيا حتة سليمة.
نقل "فضل" مبسم النارجيلة من يده لليد الأخرى، حتى يتمكن من دسها في فتحة صدر جلبابه، أخرج ورقة مطوية من النقود، أعطاها إلى هذا الغريب قائلاً بتعابيرٍ شبه ممتعضة:
-يا عم خلاص ماتنوحش، خد دول ...
تناول منه الورقة، وتفحصها بعينين تشعان غضبًا، في حين تساءل "فضل" بسماجةٍ؛ كأنما فعل معه معروفًا كبيرًا يستحق الشكر عليه:
-مرضي كده؟
رفع الرجل الغريب الورقة نصب عينيه، وصاح في حدةٍ متعصبة:
-إيه ده يا "فضل"؟ لأ ماينفعوش؟
ألصق مجددًا المبسم بشفته السفلي، وتكلم بترفعٍ وهو يمن عليه بنظرة من طرف عينه:
-أنا كلامي معاك كان إمسح بكرامتها الشارع، مكانش في اتفاق على ضرب وسحل، إنت اللي خالفت الاتفاق.
هدر الرجل في غيظٍ أكبر:
-لا يا شيخ؟!
نفخ "فضل" الدخان بسماجةٍ باردة، فانتفض الرجل واقفًا، ونوبة من الألم الشديد ضربت في أوصاله، تحامل على نفسه، وهتف يلومه بحنقٍ متزايد:
-ما إنت لو مرسيني على الفولة من أولها كنت عملت حسابي.
علق عليه في سخافةٍ استفزته:
-حد قالك ماتبقاش غشيم وتطول وقفتك معاها، هما كانوا كلمتين تهزيق على الطاير، وتخلع.
تصاعدت الدماء في رأسه المكدوم، وارتفع صوته المحتج:
-وأهوو حصل اللي معملتش حسابه، وروحي كانت هتطلع في إيد الجدع اللي جه يحمئلها.
تصنع الابتسام السمج، وقال وسحب الدخان تنطلق من جوفه:
-مردودلك في مصلحة تانية.
زأر الرجل معترضًا بتهكمٍ ضاربًا كفيه معًا كعلامة على فض التعامل بينهما:
-مصلحة تانية؟ دي جبرت على كده، خلصت يا عمنا.
ثم انحنى ملتقطًا طبق الفاكهة الموضوع أمامه ليأخذه وهو يضيف في عبوسٍ شديد:
-وهات دول.
رمقه بنظرة مزدرية موبخًا إياه بتأفف:
-طفس!
في تلك الأثناء، اشرأبت "سعاد" بعنقها لأكثر من مرة لتتمكن من النظر من عند زاويتها لصاحب هذا الوجه المألوف، اعتصرت ذهنها عصرًا لتتذكر أين رأته من قبل. في البداية خانتها ذاكرتها، وتعذر عليه معرفته؛ لكن مع سماعها لصوته الأجش، وتفرسها في تعابيره المليئة بعلامات الإجرام، استطاعت أن تتعرف عليه. أصابها الكدر لتواصله مع ابنها، وتساءلت بين جنبات نفسها عن الرابط الخفي الذي يجمعهما معًا، أنبأها حدسها أنه يدبر لكارثة ما سيئة معه، وإلا لما حرص على مقابلته هنا بالمنزل، بعيدًا عن أعين العامة من أهل البلد.
انتظرت على أحرِ من الجمر مغادرته، لتخرج من مكمنها، وتذهب إلى ابنها، وقفت قبالته ترمقه بنظراتها الساخصة، قبل أن تبادر بسؤاله دون تمهيدٍ، وبنوعٍ من التحفز:
-هو الواد الشُضلي ده بيعمل إيه هنا؟
نظر إليها "فضل" من طرف عينه، وأجابها بغموضٍ لم تسترح له:
-عاوزه في مصلحة.
قطبت جبينها متسائلة في استهجانٍ:
-مصلحة إيه اللي معاه؟ ده واد سوابق، وبتاع مشاكل.
علق في جمودٍ، وتلك النظرة القاسية تنفر من عينيه إليها:
-مايخصكيش يامه.
كظمت غيظها منه، وانتقلت لسؤالها الآخر في تحفزٍ أكبر:
-طيب روحت المحكمة عملت إعلام الوراثة؟
نفخ دخان النارجيلة عاليًا، ثم قال نافيًا بنفس الطريقة المتعجرفة:
-لأ.
اشتاطت نظراتها من تقاعسه المستفز، وسألته في حدة:
-ليه يا ابني؟
لوح بالمبسم في وجهها مبررًا بسخافة:
-مافضتش.
وضعت "سعاد" يدها أعلى منتصف خصرها، وسألته في تجهمٍ محفورٍ على ملامحها:
-وهتروح امتى؟
نفخ في صبرٍ نافذ قبل أن يجاوبها:
-معرفش.
استمرت في الضغط عليه بإلحاحها الزائد:
-طب إخواتك البنات عاوزين حقهم في ورث أبوهم، ماينفعش العطلة دي.
نظرة جافة، قاسية سددها إليها وهو يقول بنبرة حقودة:
-بعدين، مستعجلين على إيه؟!!
هدرت به بانفعالٍ مستنكرة تعليقه:
-ده حقهم، ولا ناوي تاكله عليهم؟
ألقى بمبسم النارجيلة جانبًا بعصبيةٍ، وصاح في صوتٍ خشن مرتفع:
-حقهم خدوه من زمان.
تفاجأت والدته من رده، واتسعت عيناها صدمة لوهلة، سرعان ما تحولت إلى إنكارٍ شديد، فدنت منه ملوحة بيدها وصارخة في وجهه:
-إنت بتقول إيه؟
نهض بتشنجٍ من جلسته المسترخية، وانتفض يزمجر في احتجاج مغلول:
-سنين بنبعتلهم كل شهر فلوس، إيه مابيشبعوش؟!
هتفت تعارضه في استهجانٍ:
-إنت هتحاسبهم على اللي كان أبوك بيعمله معاهم بطيب خاطر؟!!
اندفع في خطوات متعصبة ليتجاوزها متجهًا نحو باب البيت وهو يخبرها:
-محدش ليه حاجة عندي.
لحقته مرددة في استياءٍ كبير:
-حرام عليك، هتاكل مال الورث بالباطل؟
التفت يرمقها بنظرة نارية، انبعثت فيها شرور النفس البشرية، قبل أن يهدر في نقمٍ متزايد:
-ده مالي وحالي، مش هفرط فيه لمين ما كان!
لطمت "سعاد" على صدرها، وراحت تنوح في مرارةٍ:
-هاقول إيه بس غير ربنا يخلص منك، إنت ظلمت أبوك وهو عايش، وبتظلم إخواتك وهو ميت، فكرك هتعدي كده من غير حساب؟
نظر لها بغير مبالاة ليعقب في نوعٍ من الاستخفاف:
-هابقى استغفر ربنا .. ما هو غفور رحيم.
ثارت على ردوده المتلاعبة بالدين، واندفعت ناحيته تضربه في صدره بقبضتيها وهي تعنفه:
-ياخي إنت جنس ملتك إيه؟ اتقي الله، ده الظلم ظلمات يوم القيامة.
أبعد يديها عنه بقوةٍ، ورد في خشونةٍ، وعيناها تطقان بالشرر:
-ده مالي وحالي، مش هفرط فيه، سامعة يامه...
حملقت فيه مذهولة؛ كأنها ترى شيطانًا خبيثًا غير فلذة كبدها، تركها ترمقه بتلك النظرات المصدومة ليقول في حزمٍ:
-قفلي على السيرة دي نهائي، كفاية ورمتي دماغي بالهري ده.
فتح الباب، وخرج مدمدمًا في حدةٍ:
-الواحد مش عارف يلاقي الراحة في بيته.
ثم صفق الباب في عنفٍ خلفه، لتنتفض "سعاد" في مكانها وهي ما تزال على حالتها تلك. لم تصدق ما تبصره عيناها، وما تسمعه أذناها من فجور وجحود لا قِبل لها به. أهذا هو وليد رحمها؟ أهذا من أرضعته لأشهر من لبنها؟ بالطبع لا، فمن تراه الآن هو مسخٌ مشوه لبقايا إنسانٍ عمَّ الظلام روحه. رفعت سبابتيها للسماء تدعو عليه بحرقةٍ، وقلبٍ مفطور:
-حسبي الله ونعم الوكيل، إنت مش هاتشوف طيب أبدًا يا "فضل"، مش هاتشوف نهائي بسبب جحودك ده!!!
....................................................
لو كانت السماء تُمطر ذهبًا، لما ابتهج وهاجت مشاعره بتلك الطريقة السارة. هرول "تميم" عائدًا إلى منزله، ومظاهر الفرحة تقفز من عينيه. وجد والده جالسًا إلى مائدة الطعام، أسرع ناحيته، وانحنى يقبل أعلى كتفه، ثم سحب المقعد وجلس على يساره متسائلاً بصوتٍ شبه لاهث من فرط انفعاله:
-مجتش الدكان ليه يابا؟ ده أنا قاعد مستنيك على نار.
أخبره أباه في هدوءٍ:
-يدوب خلصت أعدتي مع تجار سوق الجملة، وعمك "عوف" صمم يوصلني، وبالمرة طلع سلم على جدك.
قال مبتسمًا بسعادة غير قابلة للإنكار:
-فيه الخير.
تساءل "بدير" في اهتمامٍ:
-إنت كنت عاوزني في إيه؟
جاوبه بفرحةٍ عارمة، تكاد تنطلق من عينيه قبل نبرته:
-وافقت يابا خلاص.
تعمد التلاعب معه قليلاً، فتساءل بشيءٍ من المراوغة مدعيًا عدم فهمه:
-مين دي اللي وافقت؟
غمز له قائلاً بابتسامةٍ نضرة:
-اللي عليها العين يا حاج.
بادله والده الابتسام، وقال في تغزلٍ:
-صاحبة التفاح الصابح.
أومأ برأسه إيجابًا وهو يرد بنفس التعابير المبتسمة:
-أيوه يابا، خلاص هنتجوز على آخر الشهر.
خاطبه "بدير" في لهجةٍ مالت للجدية:
-ده يدوب مش فاضل غير حاجة بسيطة.
هز رأسه مرة أخرى هاتفًا:
-أيوه.
تسأل "بدير" مستفهمًا، وقد انعكس على ملامحه طابع جدي:
-طب وظروف وفاة عمها وآ... ؟!
قاطعه مؤكدًا:
-ماظنش في مانع عندهم، وإلا مكانتش أكدت عليا.
ربت "بدير" على جانب ذراعه متمنيًا:
-ربنا يقدملك اللي فيه الخير.
كانت "ونيسة" تمشي الهوينا وهي تحمل وعاء الشوربة الساخن، لئلا تُقذف محتوياته خارجه مع أي اهتزازة مفاجئة. وضعتها في منتصف المائدة، ورفعت ناظريها إلى ابنها قائلة بتلقائية:
-شوية شوربة إنما إيه تُرم العضم.
رد "تميم" بحماسٍ كبير يفوق المعتاد منه:
-تسلم الأيادي يا ست الكل، يا مدلعانا.
ابتسمت لثنائه، وقالت في ودٍ:
-يسلملي حسك يا غالي.
همَّت بالتحرك، والعودة إلى المطبخ لإحضار باقي الطعام؛ لكنه استوقفها بقوله الفرح:
-خلاص يامه هتجوز على آخر الشهر.
حملقت فيه مدهوشة للحظةٍ قبل أن تعم الفرحة سائر ملامحها، لتردد في سعادة عارمة:
-بجد، الله أكبر، مبرووك يا ضنايا.
راحت تُطلق الزغاريد ابتهاجًا بالخبر السعيد، فقهقه "تميم" ضاحكًا في نشوةٍ لمظاهر تعبيرها العفوية عن نبأ زواجه، وردد في امتنانٍ:
-دي ببركة دعاكي ليا يامه.
لم تكف عن إطلاق الزغاريد إلى أن تقطعت أنفاسها، فتوقفت للحظاتٍ حتى تلتقط أنفاسها من جديد، عندئذ طلب منها "تميم" بتهذيب:
-عاوزك تكوني مع الجماعة تشوفي إيه ناقصهم، عشان احنا مزنوقين في الوقت.
أشارت بسبابتها نحو عينيها قائلة:
-عينيا يا حبيبي، ده يوم المُنى.
نهض "تميم" بهدوءٍ من مكانه، وقال وهو يشير بيده نحو الردهة:
-أما أخش أفرح جدي، وأناديله عشان يتغدى.
استحسن "بدير" ذهابه، وخاطبه داعيًا في حنوٍ:
-وماله .. ربنا يزيدك من الفرحة والهنا.
تحرك في خفةٍ تجاه الممر المستطيل الممتد بين غرف المنزل، وصوت الزغاريد يلاحقه، شاعرًا بدبيب السعادة ينتفض في كل ذرة من خلاياه الحسية.
..........................................................
طرقاته على باب حجرته بدت أشبه بالقرع المبهج على الطبول، كأنما يعزف مقطوعة موسيقية ذات ترانيم خاصة، استأذن "تميم" بالدخول قبل أن يلج للداخل، أَلِف جده جالسًا –كعادته- على مقعده، وممسكًا بمصحفه الشريف بين يديه يقرأ فيه بعض آيات الذكر الحكيم. دنا منه قائلاً دون تمهيدٍ، وابتسامة عريضة تنير صفحة وجهه:
-حصل المراد يا جدي.
رفع "سلطان" ناظريه نحوه وهو يختتم بترتيلٍ عذب ومسموع لما يقرأه حاليًا:
-إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ..
كأنما جاءه الرد السماوي على لسان جده، فتمتم في خشوعٍ:
-صدق الله العظيم.
انحنى جاثيًا على ركبتيه أمامه، ثم أضاف في عينين تدمعان فرحة:
-فعلاً يا جدي، دي مكافأة ربنا لصبري.
وضع "سلطان" كفه على كتف حفيده، وربت عليه بضعة مرات قائلاً في صوتٍ رخيم:
-ربنا يراضيك من وسع، وكل ما ترضى باللي كاتبهولك، هيدهشك بعطائه.
لم يخجل من الدموع التي انسابت تأثرًا على صدغيه، وردد في رضا كبير:
-ونعم بالله.
امتدت يداه لتحتضن كف جده، دلكهما برفقٍ، وركز بصره عليه متابعًا:
-أنا فرحان أوي يا جدي، النهاردة بس حسيت إن الحياة دبت في روحي.
ابتسم الجد في سرورٍ لرؤيته مبتهجًا، وقال في نبرة ذات مغزى:
-ولسه لما تتدلع مع مراتك، وتاخدوا على بعض ...
اتسعت بسمة "تميم" أكثر، وتحولت إلى الضحك والجد يكمل جملته بمزاحٍ:
-بس ماترجعش تشتكي لما النكد يبدأ!
بادله الضحك المرح، وقال دون أن تخبت بسمته الصافية:
-هو أنا ليا لي مين غيرك ينصحني؟
ثم قرب كفه من فمه ليقبله في توقيرٍ، ودعا له بحبٍ لا شك في قوته:
-ربنا يديمك فوق راسي.
استل "سلطان" يده برفقٍ من بين راحتيه، ومسح بها على خده الندي قائلاً في عطفٍ:
-ويباركلي فيك يا حبيب جدك.
.......................................................
كما للموت سكرات، فإن للحب دلالات! أحست "فيروزة" بالضجيج يعم في كيانها، وتحديدًا تلك العضلة النابضة بين ضلوعها، لم تسكن، ولم تهدأ، ولن تستكين إلا بإتمام العهود. بدت متقبلة لهذا التغيير الشامل دون الشعور بالتردد أو الخوف، يمكنها الآن الإعلان صراحة عن رفع رايات استسلامها لسلطان العشق. صعدت درجات السلم المؤدية إلى طابق منزلها في نشاطٍ غير مسبوق، وصوتٌ يصرخ في رأسها بإلحاحٍ:
-أيوه أنا بحبه ..
خجلت وتوردت بشرتها لهذه المصارحة الجريئة غير المنطوقة؛ وراحت تؤكد لنفسها:
-ومسيري هاقولهاله، وهيحس بيا أكتر ساعتها.
أخرجت مفتاح البيت من حقيبتها، دسته في قفله، وانزلق يُفتح في يسرٍ، وطأت الصالة ملقية التحية، وهي محملة بالآمال والتطلعات لحياة مشرقة تمحو بها مساوئ الماضي. وجدت والدتها جالسة على واحدة من الأرائك، تضع "رقية" بين ساقيها لتتمكن من تمشيط شعرها، أقبلت عليها قائلة بعد نفسٍ عميق:
-ماما، أنا عندي ليكي خبر مهم.
نظرت إليها في اهتمامٍ، وسألتها:
-خير يا بنتي.
-إن شاءالله كتب الكتاب والدخلة آخر الشهر.
على ما يبدو صُدمت بالخبر، وانعكست علامات صدمتها على محياها، لتهتف بعدها في غير تصديق:
-آخر الشهر ده؟
هزت رأسها إيجابًا وهي ترد:
-أيوه يا ماما.
ظهر القليل من التردد على قسماتها وهي تبرر لها:
-بس يا بنتي، الظروف اللي احنا فيها، وعمك الله يرحمه مفاتش على وفاته أد كده، والناس هتتكلم وتقول وتعيد.
اختلج وجه "فيروزة" الضيق سريعًا، واشتاطت قائلة في تزمتٍ:
-مالناش دعوة بحد، إنتي ليالك أنا وبس، ولا مش من حقي أفرح؟
أجابتها بحذرٍ:
-لأ من حقك، ده اليوم اللي بستناه ...
ابتلعت "آمنة" ريقها وهي تراقب انفعالات ابنتها المتزايدة، ثم أضافت على استحياءٍ يشوبه القلق:
-بس مرات عمك هتزعل، وهاتقول مرعناش الأصول.
على خلاف المعهود في مثل تلك الظروف الحزينة، كان من المفترض أن يتم إرجاء أي مناسباتٍ سارة، لحين مرور بعض الوقت على التعافي من المشاعر المؤلمة الخاصة بفقدان أحدهم؛ لكن لأنها لم تعد تكن مثل هذه المشاعر التقديرية لأمثال هؤلاء، ممن تناسوا صلة الرحم، فقد أصبح الوضع سيان بالنسبة لها، تجاوزت عن همومها، وتعاملت مع المسألة بشكلٍ شبه عادي، لن توقف حياتها على أحدهم، وتحديدًا من استباحوا ما لا يخصهم لأجل أهواءٍ مريضة وشكوكٍ لا صحة لها، لمجرد الخوض في عرضها، والنيل من سمعتها.
هنا ارتفع الغليل في صوتها وهي تخبرها بألمٍ ما زال ينبض كلما تذكرت أحداث الماضي:
-ومين امتى حد منهم كان راعى الأصول معايا؟ كفاية اللي عملوه فيا، سيبني أعيش حياتي، وأرمي اللي حصل ورا ضهري.
لم تحاول إفساد فرحتها، يكفيها ما ذاقته من آلام وأوجاع بقيت آثارها لوقتٍ قريب، هزت رأسها بالقبول وهي تكلمها:
-إنتي معاكي حق، اعملي اللي يريحك، وربنا يقدم اللي فيه الخير.
رغم الغضب الثائر في صدرها، إلا أنها لم تدعه يتملكها، ويطغى على فرحتها المنتظرة، حولت "فيروزة" نظراتها عن والدتها لتحملق في ابنة خالها التي استطردت قائلة ببراءة:
-هلبس الفستان الأبيض يا "فيرو"؟
مالت ناحيتها، وطبعت قبلة حانية على وجنتها وهي تؤكد لها:
-طبعًا يا عيوني، أحلى فستان لأحلى "كوكي" في الدنيا.
احتضنتها "رقية" في عفويةٍ، فضمتها ابنة عمتها إلى صدرها، أطبقت على جفنيها للحظاتٍ تستعيد في ذهنها لقائها الأخير مع "تميم"، عادت إلى تحليقها الوردي في أفق الأحلام، فأشرقت ملامحها مرة ثانية كوردةٍ بتول تفتحت، وأينعت، وصارت أشهى وأجمل مع أول ضوءٍ للنهار لامس براعمها النقية.
...................................................
أرادت التهيؤ نفسيًا لما هي مقبلة عليه، خاصة مع تكرار التجربة، ومعايشة تفاصيلها الموترة للأعصاب بشكلٍ أو بآخر. قامت "ريم" بدورها مع مريضتها على أكمل وجه، منحتها بعض النصائح الهامة للتعامل مع الموقف، ولم تدخر وسعها في مساعدتها على إزاحة رواسب الماضي الموجع، وإحلال الذكريات الطيبة محمودة الأثر كبديلٍ عنها، لتتخذ موضعها في بواطن نفسها. امتدت يد "فيروزة" لمصافحتها بحرارةٍ في ذلك اللقاء الأخير الذي يجمعها بها، واستطردت تشكرها في امتنانٍ:
-حقيقي يا دكتورة "ريم" إنتي كنتي زي مراية لنفسي، وقفتي جمبي في أصعب المواقف، وعمرك ما يأستي مني أبدًا، رغم إن اللي مريت بيه كان يهد جبال.
ردت عليها طبيبتها تدعمها في ثقة:
-مكونتش هنجح لوحدي يا "فيروزة"، لو مكانش عندك الرغبة والإرادة إنك تتخطي المحن دي، صدقيني ولا كنت هاقدر أعمل حاجة.
ابتسمت "فيروزة" لمؤازرتها الكبيرة، بينما تابعت الأخيرة على نفس المنوال الهادئ:
-كتير غيرك فِضل حابس نفسه جوا دوامة الماضي، مرضاش يتحرك، قفل على نفسه، بس لأنك إنسانة قوية وعندها عزيمة عملتي المستحيل، ورجعتي وقفتي على رجليكي بشجاعة وصمود.
غمرها إحساسًا عظيمًا يدعو للاعتزاز والفخر بما أنجزته، سحبت يدها من راحتها، وكررت على مسامعها:
-شكرًا يا دكتورة "ريم"، حضرتك دلوقتي بقيتي أكتر من أخت ليا، بعتز بصداقتك ومعرفتك.
أخبرتها "ريم" في ودٍ وهي تشبك كفيها معًا:
-ده أنا أتشرف بده، ولو احتاجتي مشورتي أو مساعدتي في أي حاجة، وفي أي وقت، فأنا موجودة.
-أكيد.
قالتها "فيروزة" وهي تستعد للانصراف بصدرٍ منشرح، وتعابيرٍ بشوشة، فاليوم فعليًا قد أسدلت الستار على ماضٍ ولى بكل ما فيه من مآسٍ، وبدأت في الولوج لمرحلة أخرى أكثر نضجًا من حياتها.
...................................................
خلال الأيام التالية، جرى العمل على قدمٍ وساق، فتحول منزلها إلى ما يشبه خلية النحل، الكل يتسابق لتجهيز ما ينقص، واستكمال ما يحتاج لإعادة توضيب، قبل مجيء اليوم الموعود. لم تصدق "فيروزة" عينيها حين رأت (عش الزوجية) وقد صار مُعدًا لاستقبالها كعروسٍ جديدة، شتان الفارق بين ما كان عليه بيتها المتواضع مع شبيه الرجال "آسر"، وبين رمز الرجولة "تميم"، فالأخير أثبت لها -عن جدارةٍ واستحقاق- أنه قادرٌ على الإيفاء بوعده مهما واجه من عراقيل.
لحُسن حظها أنها لم تطل في مدة الانتظار، وإلا لقضت المزيد من ساعات الليل ساهدة، حالمة، وطوال النهار تغرق في أحلام يقظتها الوالهة. تركت العنان لقلبها ليختبر هذه المشاعر الجميلة بكامل طاقاته، منحت نفسها الحرية الكاملة، وتحررت من القيود التي وضعتها لتمنع نفسها من الوقوع في الحب، والتلفح بنيران العشق. لأول مرة تشعر أنها طليقة، غير نادمة على اختيار هذا الدرب لتسلكه، بل بدت مؤخرًا تلوم نفسها على تأجيل تلك الخطوة لشكوك واهية.
تبقى لها فقط حسم أمر الذهاب إلى مركز التجميل بدلاً من التزين في منزلها، عارضت رغبة "تميم" في التواجد بواحدٍ من المراكز الشهيرة التابعة للفندق المقام به مراسم عقد القران؛ لكنها رضخت أمام عناده وإصرار من حولها، لتعم في النهاية البهجة على الجميع بقبولها.
وفي اليوم المنشود، كان الجميع على أهبة الاستعداد لوضع اللمسات الأخيرة، لإسدال الستار على قصة غرام لطالما ظن "تميم" أنها لن تكتمل، ولن يجتمع بها إلا بمشيئة المولى وإرادته جلَّ وعَلا! بالطبع بذل جهده لرؤية العروس خلسة؛ لكن مُنع كليًا من الظفر بلمحة منها، وقفت له "هاجر" بالمرصاد، وأغاظته بتشددها الزائد، فوقف عند باب غرفتها بالفندق كالذليل يرجوها:
-يرضيكي تعملي في أخوكي حبيبك كده؟
ردت بتسلية، كأنما تعانده عن قصدٍ، وهي تسد بجسدها الفرجة المواربة التي تمنعه من رؤية من بالداخل:
-أه يرضيني، لسه الوقت مجاش عشان تشوفها.
ألح عليها بنظرةٍ تدعو للتعاطف معه:
-ده أنا هشوف إن كان ناقصها حاجة كده ولا كده.
لم تشفق على حاله المتلهف، وقابلت إلحاحه ببرود مستفز:
-إنت مش المفروض تروح للحلاق تتوضب، وتلبس؟
اغتاظ من تشددها المُبالغ فيه، ورد في تجهمٍ:
-أنا أخرى رباعية وأكون جاهز، إنما إنتو يومكم بسنة.
-بالظبط كده، يومنا بالسنة، نشوفك السنة الجاية.
مد قدمه ليمنعها من غلق الباب، وحاول دفعه برفقٍ وهو يتذلل إليها بمحبةٍ أخوية:
-ماتبقيش بايخة، ده أنا وقفت جمبك، وعملتلك الحلو كله.
شهقت قائلة في فزعٍ، وبلامح مرتاعة بشدة:
-إيه ده أبويا ده ولا مين اللي جاي هناك؟
مع نظراتها المتسعة التفت برأسه للخلف ساحبًا قدمه، وتساءل في توترٍ:
-فين؟
أشارت بعينيها لنقطة وهمية وهي تؤكد له:
-هناك.
أدار رأسه الناحية الأخرى لينظر إلى حيث أشارت؛ لكنه تفاجأ بها تغلق الباب بحدةٍ لينتفض مصدومًا على حيلتها الساذجة التي انطلت عليه، سمع صوتها وهي تناكفه من الداخل بضحكاتٍ مستمتعة:
-لا مؤاخذة يا "تميم"، بس دي العوايد.
كور قبضته بقوةٍ، وضرب على الباب الموصود في غيظٍ وهو يتوعدها بمزاحٍ:
-طيب يا "هاجر"، ليا لي كلام مع جوزك.
انصــرف بعدها مجرجرًا أذيال الخيبة ورائه؛ لكن ما لبث أن راح يُمني نفسه بالأمنيات، والآمال، فقال في زفيرٍ مزعوج:
-معلش، اصبر، فات الكتير.
............................................................
ساعدها الإرهاق اليومي قبيل هذه الليلة على النوم بعمقٍ، وإن كان لساعات قليلة؛ لكنها ألهت عقلها عن التفكير فيما هي مقبلة عليه من مصيرٍ رجت أن يكون أفضل مما مضى، خاصة أن الوقت قد أزف لكشف المستور عن سرها الخطير، ذاك الذي لم تطلع عليه أحد سوى طبيبتها. كانت "فيروزة" تخشى من ردة فعل "تميم" إن عَلِم بعذريتها، وأدرك أنها لم تخض تجربة الزواج الكامل من قبل، كيف تبوح له بأنها لم تحظَ بليلةٍ دافئة تتخلى فيها الفتاة عن تاج العفة، لتغدو امرأة مفعمة بالأنوثة الشهية؟
وتَّرها التفكير في الأمر، وأرعبها إلى حدٍ ما، لولا النصائح الذهبية التي ظلت تمليها "ريم" على مسامعها، طوال جلساتها العلاجية، لتتعامل مع هذه المسألة برويةٍ وهدوء، علَّها تمضي بها على خيرٍ إن وصلت إلى ليلة الزفاف.
مكثت بغرفتها المحجوزة مسبقًا بالفندق، واستقرت على المقعد بعد أن ارتدت ثوب عرسها، بمساعدة شقيقتها ووالدتها فقط. تأكدت من تغطيته لكافة جسدها، حتى عنقها، كانت ياقته مستطالة بالقدر الذي لم يظهر من رقبتها شيئًا، كأنما تخشى أن ينظر أحدهم إلى ندوبها، ويعايرها بها بنظرة أو كلمة مبهمة. عادت إلى المقعد، وجلست عليه، لتقوم إحدى فتيات مركز التجميل بلف ساترًا ذي وجهين من القماش والبلاستيك حول الثوب للحفاظ على عدم تلطيخه خلال تزيينها.
أحنت "فيروزة" رأسها للأمام، تاركة لمصففة الشعر تصفيف خصلاتها قبل أن تجمعه في عقدة، لتضع فوقه حجابها الأبيض، لمحت والدتها وهي تضع الطعام في صحنٍ صغير لتطعمها، فتذمرت في إرهاقٍ:
-ماليش نفس يا ماما.
ردت عليها "آمنة" وهي تملأ الملعقة بالأرز المختلط بالبطاطس الموضوعة بالفرن:
-ده لسه اليوم طويل، قوتي قلبك بلقمتين.
انتفضت معدتها وزمجرت لرؤية الطعام، ففتحت فمها، ولاكت ما قدمته لها. نظرت "آمنة" إلى "همسة" المشغولة بوضع مساحيق التجميل على وجهها هي الأخرى، وحادثتها في صوتٍ شبه ممتعض:
-مش كنا طلعنا من البيت أحسن؟ لازمتها إيه التكاليف دي كلها؟
علقت "همسة" بضحكة مرحة:
-خطيبها مصمم يعملك أحلى حاجة، حد يقول للدلع لأ؟
ابتسمت "فيروزة" على استحياءٍ، وتساءلت لتغير من مجرى الحوار الذي حين يتطرق إلى سيرته يصيبها تلقائيًا بالخجل الممزوج بالتوتر:
-أومال مين كان على الباب؟
أجابت "هاجر" تلك المرة وهي تنضم لباقي النساء:
-العاشق الوالهان خطيبك.
دق قلب "فيروزة" في ربكة، وتلبكت بشكلٍ شبه فاضح وهي تتوسلها:
-ماتخلهوش يدخل يا "هاجر" بالله عليكي، أنا لسه مجهزتش، ومش مستعدية وآ...
ضحكت في استمتاعٍ قبل أن تقاطعها قائلة بطرافةٍ:
-اطمني، في أسد قصر النيل واقف على الباب.
تنفست في ارتياحٍ، وبدأت في استعادة هدوئها بعد عاصفة اللهفة التي اجتاحتها، وكادت تطيح بثباتها الزائف لمجرد توقع قدومه إلى هنا. عدَّلت من وضعية رأسها، ونظرت إلى المصففة تطلب منها بلباقةٍ:
-من فضلك ماتحطيش ميك آب كتير، مش بحب الأفورة.
امتدحت الشابة حُسنها، فقالت في إعجابٍ ظاهر في عينيها قبل نبرتها:
-ما شاءالله عليكي، إنتي مش محتاجة أصلاً.
................................................
بقلبٍ لم يعد يحمل بين ثناياه سوى المحبة، الشوق، والاشتياق، وقف "تميم" بشموخٍ أمام باب القاعة المخصصة لإقامة الأفراح يستقبل مدعويه، تعجب المعظم لتواجده بدلاً من الاختفاء والاستعداد كالبقية؛ لكنه خالف المعتاد، وانتظر بنفسه وصول المعظم. كان من أوائل الحاضرين للتهنئة رفيقاه العزيزان "منذر" و"دياب"، واصطحبا معهما والدهما، وزوجة الأول، والابن الأكبر للأخير. بعد أن اتجه "طه" للجلوس مع رفيقه "بدير"، بقي الأصدقاء معًا يتسامرون في مرحٍ، استطرد "منذر" قائلاً فيما يشبه المداعبة:
-أخيرًا عملتها.
ردد "تميم" ضاحكًا في سرورٍ:
-الحمدلله، أنتم السابقون، ونحن اللاحقون.
علق عليها في رجاءٍ:
-ربنا يتمم على خير، ويجعلها نعمة الزوجة.
قال رافعًا كفيه للمساء مُؤَّمنًا عليه:
-اللهم أمين.
أومأت "أسيف" برأسها تهنئه في لباقةٍ واضحة، وهي تهدهد رضيعها:
-ألف مبروك.
نظر ناحيتها بنظرة سريعة، ارتكزت معظمها على الصغير، وقال في تهذيبٍ:
-الله يبارك فيكي، عقبال فرحتكم بـ "زين".
هتفتٍ في لطفٍ:
-شكرًا على ذوقك.
أشــار "تميم" بيده نحو القاعة مرددًا:
-إنتو أصحاب فرح، مش محتاجين عزومة.
قهقه "منذر" في مرحٍ، وقال وهو يتناول رضيعه من زوجته ليحمله عنها:
-أكيد.
تحركت أنظاره نحو "دياب" الذي هتف في حماسٍ وهو يلقي بكفه في باطن راحة رفيقه لمصافحته بحرارة:
-أبو الصحاب.
جذبه "تميم" إلى صدره ليحتضنه مرددًا:
-حبيبي.
تراجع عنه الأول، وراح يزيد من تهنئته الحارة بنفس الأسلوب المداعب:
-مبروووك يا غالي، وربنا يجعلها جوازة السعادة والهنا.
ابتسم لابتهاجه، وقال بملامح بشوشة:
-الله يبارك فيك يا "دياب".
مال رفيقه عليه برأسه، وغمز له بطرف عينه هامسًا بما يشبه النصيحة المازحة:
-ما تخلع يا ابني، بدل ما تلبس مؤبد.
أشار له بكفه معترضًا:
-لأ أنا راضي ومبسوط.
لم يكبت ضحكته المتسلية وهو يعقب:
-يعني أقصدك أطلع منها؟ هنياله يا سيدي.
ربت على صدره بضربات خفيفة قائلاً:
-متشكر.
حمحم "دياب" مُضيفًا:
-جماعتنا معرفتش تيجي، خلاص بقى على وش ولادة.
رد عليه "تميم" في اهتمامٍ:
-ربنا يقومها بالسلامة، وتعيش وتخاوي.
هنا ارتفعت يداه للأعلى في احتجاج ساخر:
-كفاية علينا كرم ربنا، أكتر من كده هقلبها مدرسة.
كركر "تميم" ضاحكًا في استمتاعٍ على طرافته التي لا تنتهي، تبع بنظراته الصغير "يحيى" الذي تقدم منه بعد أن دفعه والده إليه وهو يأمره:
-تعالى جمبي يا "يحيى"، بارك لعمك "تميم".
بوجهٍ يدور في كافة الاتجاهات، ونظراتٍ شبه زائغة تساءل الصغير في جديةٍ:
-مبروك، أومال فين "كوكي" الحلوة؟ عاوز ألعب معاها وأنا لابس البدلة الجديدة دي.
حاوط "دياب" كتفي طفله قائلاً بنحنحةٍ خفيفة:
-اللي مصيتني في كل حتة أهوو.
حذره "تميم" بنظرةٍ شبه صارمة:
-لِم ابنك يا "دياب"، ها .. سامعني؟ بناتنا مش زي أي حد.
اتسعت بسمته اللاهية وهو يرد بعد نحنحة مقتضبة:
-احم، ده حبيب أبوه، وبيراعي الأصول.
عقب "تميم" بغير ابتسامٍ:
-أه طبعًا، وأبوه معروف، بيراعيها على الآخر.
مسح "دياب" في افتخارٍ على صدره هاتفًا بابتسامة يختلجها الضحك:
-أومـــال!
.......................................................
لاحقًا، تنقل "تميم" من طاولة لأخرى لتحية ضيوفه مرة ثانية، وهو ينظر في كثيرٍ من الأحيان إلى ساعة يده، شعر بالوقت يمرُ بطيئًا، أضناه الانتظار، وأحرقه الشوق. تقدم ناحية الطاولة الجالس بها جده، مال عليه، يقبله من أعلى كتفه، ثم سأله في نبرة مهتمة:
-ناقصك حاجة يا جدي؟
أجاب "سلطان" نافيًا:
-لا يا ابني، الحمدلله في نعمة ...
ثم زوى ما بين حاجبيه متسائلاً في هدوءٍ جاد:
-المهم فين عروستك؟
أشار حفيده إلى نقطة ما بالفراغ وهو يجيبه:
-قربت تنزل من فوق.
سأله الجد ببوادر ابتسامةٍ صغيرة؛ كأنما يؤكد له على أهمية التحلي بفضيلة الصبر:
-شوفت آخرت الصبر الجميل إيه؟
أومأ برأسه مؤكدًا:
-فعلاً يا جدي، رضا ربنا مالوش حدود.
دعا له جده في سرورٍ:
-ربنا يرزقك السعادة والخير، ويديم نعمه في حياتك.
-اللهم أمين.
قال جملته المقتضبة تلك، وهو ينحني مجددًا على رأس جده ليقبله في احترامٍ، قبل أن يستقيم واقفًا لينظر إلى أبيه الذي انضم إليهما، هنأه الأخير في حنوٍ واضح:
-مبروك يا ابني.
أقبل عليه يحتضنه في سعادةٍ وهو يقول:
-الله يبارك فيك يابا.
وَجَّه "بدير" إليه سبابته مشددًا عليه:
-مش هوصيك بقى، راعي ربنا في مراتك، وصونها، عشان تحفظك وتصونك في غيبتك.
هز رأسه في طاعة وهو يردد:
-حاضر يا حاج.
شعر "تميم" بيدٍ قوية تربت على ذراعه، فالتفت تلقائيًا نحو الجانب ليجد "سراج" واقفًا إلى جواره يخبره في حماسٍ:
-المأذون وصل يا عريس.
ابتهجت أساريره هاتفًا بقلبٍ يرقص طربًا:
-زي الفل.
أشــار له "بدير" بيده قائلاً:
-طيب، يالا عشان تشوف عروسك.
استأذن بالذهاب من جده، وأسرع في خطاه نحو الخارج، ولسانه يردد في تضرعٍ:
-اكرمنا يا رب، وكملها على خير.
................................................................
استقبلته والدته ببهو الفندق المتسع بعد أن اجتمعت مع بعض نساء العائلة للترحيب بالضيوف، وكذلك للتواجد مع العروس، حين تهبط من غرفتها استعدادًا لبدء مراسم عقد القران، ومن ثم إقامة حفل الزفاف. احتضن "تميم" والدته في محبة أمومية شديدة، تراجع عنها لترفع كفيها إلى وجهه تمسح عليه بودٍ، دمعت عيناها وهي تخبره في صوتٍ دافئ:
-زي القمر يا ضنايا.
قبَّل أعلى رأسها متكلمًا في امتنانٍ:
-الله يباركلي فيكي يامه.
دعت له "ونيسة" من جديد وهي تضبط رابطة عنقه لتضعها في منتصف ياقة قميصه الأبيض:
-ربنا يفرح قلبك زي ما بتراضينا دايمًا.
اتسعت ابتسامته السعيدة وهو يخاطبها متضرعًا:
-يا رب أمين.
في دلالٍ وعبثية، دنت "هاجر" من شقيقها تمازحه:
-عروستك حكاية يا "تميم"، قمر ماشاء الله.
رمقها بنظرة مغتاظة من فعلتها السابقة، وتصنع العبوس معاتبًا:
-دلوقتي رضيتي عني؟
وضعت يدها أمام فمها وهي تضحك، لتضيف بعدها:
-أه خلاص، الحظر اتفك، مش هنوصيك عليها بقى، دي الفاكهة بتاعتنا.
ظل على عبوسه الزائف وهو يعقب عليها:
-الناس كلها بتوصيني عليها، طب مافيش توصية ليا أنا؟ وربنا ده أنا غلبان، وطلع عيني الأيام اللي فاتت.
تدللت في حديثها معه، فقالت:
-معلش بقى، هي تستاهل الحلو كله.
هز رأسه هاتفًا في إذاعٍ:
-وماله، لأجل الورد يتسقي العليق.
....................................................
راودته كل الأماني، وعبثت بمخيلته كل الأحلام الرومانسية، الهادئة منها والجامحة، حين اقترب منها، وهي توليه ظهرها بثوب عرسها البهي، تنتظر قدومه إليها، ليصطحبها إلى البهو الفسيح، حيث ينتظرهم الجميع. بدا وكأن العالم خلا إلا منهما، اضطربت دقات قلبه، وأخذت تتسارع في عدوٍ محبب إليه، تنفس بعمقٍ ليهدئ من هذا الهائج الثائر بصدره، تقدم أكثر إليها، ليلتف حولها، حتى أبصرتها عيناه، ويا ليته ما نظر إلى حُسنها الآخاذ، وفتنها المُذهبة للعقول!
سلبت لبه، وسرقت قلبه، تدلى فكه في دهشةٍ وهو يجوب بعينين فاحصتين لكل تفصيلة فيها من رأسها لأخمص قدميها؛ كأنما يريد لكل هذا البهاء والسحر أن ينطبعا في ذاكرته للأبد. كان ثوبها كقطعة فريدة، غير متكررة، صممت خصيصًا لأجلها، مرصعًا بقطعٍ لامعة صغيرة الحجم تغطي منطقة الصدر، وتمتد حتى الخصر الذي يضيق قليلاً، ثم يبدأ في الاتساع بطبقات قماش التل المتراصة فوق بعضها البعض إلى أن تصل لنهايته. لم تكن بحاجة لوضع كمياتٍ مهولة من مساحيق التجميل، بل القليل كفاها، وجعلها في أبهى صورها.
انفرجت شفتاه تقول في استحسانٍ عظيم:
-اللهم صلي على النبي، ماشاءالله على الجمال، هو في كده.
بصوتٍ شبه مهتز من فرط التوتر الخجل، حذرته "فيروزة" وهي ترفرف بجفنيها:
-ما تبالغش!
دار حولها دورة كاملة، ليملي عينيه من سحرها الآخاذ، ثم بَسط كفيه مرددًا في عبثيةٍ لذيذة، وهذه النظرة الشقية تطل من عينيه:
-هو أنا قولت حاجة لسه؟
تشعبت حمرة دافئة في بشرتها النضرة، وتحاشت النظر إليه وهي تستشعر ارتفاع خفقاتها المرتبكة. أنقذها من مداعباته المتغزلة بها مجيء توأمتها، فقالت وهي تنحني لتضبط طرحة الثوب الممتدة على الأرضية اللامعة:
-خلوا الرغي بعدين، المأذون جه تحت، عاوز يكتب الكتاب، عشان نبدأ بعد كده الزفة والفرح.
تفاجأت "فيروزة" بإحضار "تميم" لهذه الفرقة الشعبية، المتخصصة في إحياء الأفراح بقرعهم المميز على الطبول والمزامير. حقًا لم يرتضِ أبدًا إلا بإقامة كل ما له علاقة بحفلات الزفاف، دون أن يتغاضى عن أي تفصيلة واحدة، وإن كانت غير هامة بالنسبة لها، كأنما يعوضها عما فات ولم تستطع معايشته. انعقد حاجباها إلى حدٍ ما، ورمقته بتلك النظرة المندهشة وهي تسأله:
-برضوه صممت تعمل زفة؟
بهدوءٍ مناقض لتلك المشاعر المهتاجة في كيانه، تطلع "تميم" بنظراتٍ هائمة، والهة، تشع فيضًا من المحبة الخالصة، إلى حبيبته التي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الاقتران باسمه، تأنق بابتسامة في غاية العذوبة، وحادثها بتنهيدة عاشقة، بل تكاد تنطق بكل ما تغنى به شعراء الغرام:
-الغالي للغالي يا أبلة .. "فـيروزة" ................................................... !!!
إرسال تعليق
يسعدنا تلقي اقتراحاتك أو تعليقك هنا